الحوار والمناظرة من الفنون العريقة وذات الجذور المتأصّلة في التاريخ ، وقد يصعب على الباحث ـ بحسب ما بحوزته من التراث ـ أن يعطي صورة واضحة عن انطلاقة هذا الفن وبداياته .
ولكن القرآن الكريم أطلعنا على حوار جرى بين الله تعالى وبين ملائكته ، حينما أراد أن يخلق الإنسان ويجعله خليفة في الأرض ، وذلك في قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )، (البقرة : 30) ، فالله تعالى قد فسح المجال أمام الملائكة للإدلاء برأيهم في خلافة الإنسان ، وقد افترضوا أنّ خليفة الله عزّ وجلّ لا يمكن أن يكون مفسداً ولا سفّاكاً للدماء ، فأقرّهم الله تعالى على ذلك ولم يبطل حجّتهم ، إلاّ أنّه أجابهم من جهة أخرى ، وهي أنّهم لم يطّلعوا على الحقيقة كاملة ، وأنّ هناك أهدافاً وغايات سامية تترتب على خلافة الإنسان في الأرض قد خفيت عليهم ، ولا يحقّ لهم أن يدخلوا الحوار والمناظرة إلاّ عن علم واطلاع ، وقد أذعنوا بذلك عندما قالوا : ( سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلّمْتَنَا إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )، (البقرة : 31) .
ونفهم من ذلك أنّ الحوار من الأبواب التي فتحها الله تعالى أمام كل مفكّر عاقل قادر على إدراك الحقائق والاطلاع على مجريات الأحداث ؛ ومن هذا المنطلق أيضاً نجد أنّ الله تعالى قد أعطى إبليس حرية الرأي وإبداء الملاحظات في المسألة ذاتها ، مع سابق علمه تعالى ببطلان حجته ، وقد حكى لنا القرآن الكريم حواراً ومناظرة استدلالية قد دارت ـ في ذلك الحين ـ بين الله تعالى وبين إبليس عندما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام) : ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَالَكَ أَلاّ تَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنّكَ رَجِيمٌ )، (الحجر : 30 ـ 34) .
هذه الحرية في الحوار وإبداء الرأي تعطينا صورة واضحة عن أهمية هذا المبدأ الذي تقوم عليه ركائز العلاقة بين الله تعالى وبين مخلوقاته .
ثم إنّنا عندما نتابع سيرة الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى لهداية الخلق ، نجدها قائمة على التمسّك بمبدأ الحوار والحرص على إيصال الرأي الآخر إلى الطرف المخالف ، من قبيل ما جرى بين إبراهيم (عليه السلام) وبين النمرود ، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِى يُحْيِيْ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللهَ يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ )، (البقرة : 258) .
وهذا ما أمر الله تعالى به نبيّه الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله) ، كما في قوله تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ،(النحل : 125) .
إذن فالنتيجة التي نخلص إليها : أنّ الحوار ومبدأ المناظرة مقدّس ديني وإلهي قبل أن يكون من مقدّسات البشر .