إنّ ممّا يُبالغ في التأكيد عليه الخطباء الحسينيّون ، لأجل الزيادة في المصيبة وحشد العواطف هو : التأكيد على تألّب الناس ضدّ الحسين ( عليه السلام ) ، حتّى أنّ أفراد القبائل ـ وهي مئات الألوف ـ قد خَرجت كلّها لحرب الحسين ( عليه السلام ) ، ولبعض الخطباء سياق كلامي خاصّ يُعدِّد فيه رايات القبائل التي أقبلَت للحرب ، فيعدِّد أسماء خمسة عشر قبيلة أو أكثر من الساكنين في الكوفة وجنوب العراق : كتميم ، وفزارة ، وبجيلة ، ومذحج ، وربيعة ، وطي ، وأسد ، وبني فلان ، وبني فلان ..... كما يذکر في التاريخ أنّ سوق الحدّادين في الكوفة بقيَ مشتغلاً ليلاً ونهاراً أيّاماً متطاولة قد تبلغ شهراً أو أكثر ، لإصلاح السيوف والرماح والسهام والنبال ، مُقدّمة للخروج لحرب الحسين ( عليه السلام ) (1) .
كما ورَد : أنّ الناس الخارجين في هذا السبيل ، كانوا من الكثرة بحيث لم يستطيعوا أن يجدوا وسائط النقل من الجمال والأفراس والحمير حتّى رَكبوا البقر والثيران (2) ، ثمّ يستشهد الخطباء بقول الشاعر :
بجحافلٍ في الطف أوّلها وأخيرها بالشام متّصل (للشيخ الحاج حمّادي الكوّاز (1245 ـ 1283هـ ) ، توفي في مرض السِل وعمره فيما يُعتقد لم يتجاوز 38 سنة ، وهذا البيت من قصيدة طويلة والتي مطلعها : أدهاك ما بي عندما رَحلوا فأزالَ رَسمك أيّها الطَلَلُ)(3)
وهذا المفهوم الشعري يناسب أن تكون آلاف الكيلومترات بين كربلاء والشام ( وهي منطقة دمشق الآن ) (4) ، وهي ليست في الحدود الشرقيّة لسوريا بل على الحدود الغربية لها ، وهي سواحل البحر الابيض المتوسط .
والمسافة بينهما تُقدّر بحوالي ألفي كيلومتر ، فإذا كانت كلّها مملوءة بالجيش المعادي كخطّ طويل مُحتشد في هذا البر المتطاوِل ، فكم سوف يكون عدد أفراده ؟
إنّ الكيلو متر الواحد الممتدّ لن يكفي في امتلائه بالناس ألف إنسان بطبيعة الحال ، بل لن يكفي ضِعف هذا العدد ، ولكنّنا لو اقتصرنا على ألف لكان المجموع مليونين من الناس على أقلّ تقدير ، وقد يصل الرقم إلى أربعة ملايين ، مع أنّ أعلى رقم مُحتمل للجيش المعادي للحسين ( عليه السلام ) هو مئة وعشرون ألفاً (اختلفَ المؤرّخون كثيراً في عدد الجيش الذي قاتلَ الحسين ( عليه السلام ) ، بل بعضهم قد بالغَ في كثرة الجيش إلى حدٍّ قال فيه العلماء : إنّه شاذ ، كالذي ذكرهُ ابن العصفور البحراني حيث قال : إنّ عدد الجيش الخارج على الحسين قد بلغَ خمسمئة ألف ، والأغرب من هذا أنّه يقول : إنّ الحسين ( عليه السلام ) قد قتلَ منهم (400 ألف) ، وينقل لنا ذلك الفاضل الدربندي في أسرار الشهادة فيعلِّق على هذا القول بقوله :
( نعم ، إنّ هذا يجوز ويصحّ بالقوّة اللاهوتيّة لا البشريّة ، بل الاستغراب والاستبعاد من جهةٍ أخرى وهي : إنّ المحاربة والقتل كانت بالسيف والرمح يومئذٍ ، وقد وقَعت شهادة الإمام ( عليه السلام ) قريب من الغروب أو العصر من ذلك اليوم ، فهذا الوقت القليل لا يسع لتلك المقاتلات والمحاربات الكثيرة منه ( عليه السلام ) ، فهذا أمرٌ ظاهر عند الكل ولاسيّما إذا لوحِظَ في العين محاربات الأصحاب وفتية بني هاشم ) (5)
أمّا الأرقام التي وردت في عدد الجيش والتي يمكن احتمال صحّتها فهي كما يلي :
1ـ 80 ألف ، بُغية النُبلاء : ج2 ، الدمعة الساكبة : ص322 نقلاً عن أبي مخنف وتحفة الأزهار لابن شدقم .
2ـ 70 ألف ، أسرار الشهادة للدربندي : ص237 ، سفينةُ النجاة للعيّاشي .
3ـ 50 ألف ، شرح شافية أبي فراس : ج1 ، ص93 .
4ـ 35 ألف ، مناقب ابن شهرآشوب : ج4 ، ص98 ، ط قم .
5ـ30 ألف ، مطالب السؤول ، عُمدة الطالب : ص181 ، الدمعة الساكبة : ص322 ، أسرار الشهادة للدربندي : ص237.
6ـ 22 ألف ، مرآة الجنان : ج1 ، ص132 ، شَذرات الذهب : ج1 ، ص67 .
7ـ20 ألف ، الصواعق المُحرقة : ص117 ، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ : ص178 ، اللهوف لابن طاووس ، مُثير الأحزان لابن نما الحلّي .
8ـ 16 ألف ، الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة : ص168 .
9ـ 8 آلاف ، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان : ص92 .
10ـ 6 آلاف ، الصراط السوي في مناقب آل النبي : ص87 .
11- 4 آلاف ، البداية والنهاية لابن كثير : ج8 ، ص169 .
والراجح بين هذه الأقوال : هو أنّ عدد الجيش ( 30 ألفاً ) ؛ وذلك لأنّ الروايات التي تنصّ على هذا العدد أكثر من غيرها ، ولوجود الرواية التي يذكرها الصدوق في أماليه بإسناده عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) حيث قال : ( إنّ الحسين دَخلَ على أخيه الحسن ( عليه السلام ) في مرضه الذي استُشهد فيه ، فلمّا رأى ما بهِ بكى ، فقال له الحسن ( عليه السلام ) : ما يُبكيك يا أبا عبد الله ؟ قال : أبكي لِمَا صُنعَ بك ، فقال الحسن ( عليه السلام ) : إنّ الذي أوتيَ إليّ سمٌ أُقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وقد ازدلفَ إليك ثلاثون ألفاً .. الخ ) (6)
صحيحٌ أنّ هذا الرقم بالنسبة إلى جيوش الدول في العالَم المعاصر بسيط جدّاً ، وقد استطاعت الدول أن تبلغ الملايين في تعداد أفراد جيوشها ، لكنّ هذا لا ينطبق على إمكانيّات الدول السابقة ، ولا على أسلحتها ، ولا على وسائط نقلها ، وخاصّةً بعد أن كان النظام القديم هو الخروج الاختياري للفرد أوّلاً ، وتَحمّل مسؤوليّته الاقتصاديّة والعناية بأموره وأسلحته بنفسه ثانياً ، ولا دخلَ للقيادة في ذلك حتّى التدريب على الأسلحة لم يكن ، فكيف يمكن أن تحصل الأعداد الضخمة من الجيوش ؟
فإذا أخذنا بنظر الاعتبار طريقة القتال القديمة ، وقد كانت كلّها بالسلاح الأبيض ـ كما هو المصطلح اليوم ـ هذه طريقة تُعتبر لحدّ الآن مؤلمة ألماً شديداً ، وليس في النفوس الهمّة الكافية لتحمّلها ، ولا شكّ أنّ الناس يُفضلّون الراحة على التورّط في الحروب مهما كانت ، فضلاً عن قتال شخصٍ مُحقّ جليل القدر كالإمام الحسين ( عليه السلام ) ، على أنّه توجد فيما يخصّ الحسين ( عليه السلام ) عدّة نقاط تصلح كقرائن واضحة على عدم تألّب الناس عليه إلى الحدّ الذي يتصوّره الآخرون :
النقطة الأولى : كون الحسين ( عليه السلام ) معروف بالنسبة إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، كما هو معروف بالعلم والصلاح ، سواء من قِبل مَن يؤمن بإمامته أو مَن لا يؤمن .
النقطة الثانية : إنّه اجتمعَ إليه في جيشه أُناس معروفون بالصلاح والأهميّة : كحبيب بن مظاهر الأسدي ، ومسلم بن عوسجة (هو مُسلم بن عَوسجة بن سعد بن ثعلبة ... الأسدي السعدي ، ذَكرتهُ عامّة المصادر التاريخيّة بأنّه أوّل قتيل من أنصار الحسين ( عليه السلام ) بعد الحَملة الأولى .
كان شريفاً في قومه صحابيّاً جليلاً ممّن رأى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وروى عنه ، وكان ممّن كاتبَ الحسين ( عليه السلام ) من أهل الكوفة ووفى له بذلك ، فقد كان يأخذ البيعة له على يد مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) ، وعَقدَ لهُ مسلم على ربع مذحج وأسَد لمحاربة ابن زياد ، وبعد فَشل الثورة وقَتل مسلم وهاني اختفى مدّة بين قومه ثمّ خرجَ بأهله مُتخفيّاً إلى الحسين ( عليه السلام ) ، فأدركهُ وهو في كربلاء فاستشهدَ بين يديه ، ويبدو من خلال المصادر الباحثة عنه ، أنّه كان شيخاً كبير السنّ ومن الشخصيّات الأسديّة البارزة في الكوفة.(7) ، وبُرير بن خضير ، وغيرهم كثير ، فمَن كان غافلاً عن أهميّة الحسين ( عليه السلام ) ـ باعتباره عاشَ أغلب حياته في الحجاز بعيداً عن الكوفة ـ فلا أقلّ من أن يتعرّف على أمثال هؤلاء من أصحابه رضوان الله عليهم .
النقطة الثالثة : الخُطَب والمواعظ التي صدرت من الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه وأهل بيته إلى الجيش المعادي قبل التحام الحرب ؛ فإنّها وإن لم تؤثّر في توبة هذا الجيش أو تفرّقهم أو التحاقهم بمعسكر الحسين ( عليه السلام ) ، ولكنّها لا شكّ أثّرت على أقلّ تقدير في تحريك بعض عواطفهم إليه : كالشَفَقة دنيويّاً ، والتعرّف على مستواه دينيّاً ، وهذا أمر يقتضي فتور الهمّة في ممارسة حربه وضربه محالة .
النقطة الرابعة : قولهم للحسين ( عليه السلام ) : ( قلوبُنا معك وسيوفنا عليك ) ، وهذا معناه : أنّ السيوف وإن كانت عليه ظاهراً ، إلاّ أنّ القلوب معهُ واقعاً فمن غير المُحتمل أن توجد لهم همّة حقيقيّة لحربه .
النقطة الخامسة : ما وردَ في التاريخ عنه شخصيّاً : أنّ أفراد الجيش المعادي كانوا يتحامون عن قتله (8) ، و لا يريد كلّ منهم أن يكون هو البادئ بالضرب ضدّه ، ومن دلائل ذلك : أنّه وردَ عن أصحابه أنّهم التحموا في مبارزات مفردة مع الأعداء ، مع أنّه لم يرِد ضدّ الحسين ( عليه السلام ) ذلك أصلاً ، بل كان يكتفي بالهجوم على الجيش ككلّ ، وهم يفرّون من بين يديه فرار المِعزى إذا شدّ فيها الذئب ، كما وردَ مثاله في التاريخ (9) .
النقطة السادسة : ما وردَ من بعض أفراد الجيش المعادي ، بل ربّما عددٍ منهم ، كانوا يُشفقون على الحسين وأصحابه ، حتّى أنّ عمر بن سعد ـ وهو قائد الجيش كلّه ـ شوهِدَ والدموع تنزل من عينيه أكثر من مرّة (10) .
وممّا يَدعم ذلك : ما وردَ من أنّ الحسين ( عليه السلام ) حين أخذَ ولدهُ الرضيع ليطلب لهُ الماء ، اختلفَ العسكر في شأنه فقال بعضهم : إن كان ذنبٌ للكبار فما ذنبُ الصغار ، وقال البعض : لا تُبقوا لأهل هذا البيت باقية (11) .
إذاً ، فليسوا كلّهم على رأيٍ واحد ، وكان يوجد فيهم مَن هو مستعدّ للمناقشة ، وإن لم يكن يظنّ أنّ الأمر سوف يؤول بالحسين وأصحابه إلى هذه الدرجة من البلاء .
النقطة السابعة : إنّ أهل الكوفة وضواحيها يومئذٍ ، ممّا لا دليل تاريخيّاً على كثرتهم بهذا المقدار الوفير ، ولعلّ مجموع أفرادهم من رجال ونساء وأطفال لم يكن يتجاوز المئة ألف أو المئة والعشرين ، فكيف يخرج من المئة وعشرين مئة وعشرون ؟ وهل يخرجون كلّهم من نساء وأطفال وشيوخ وعَجَزة ، مع العلم أنّهم يقولون : إنّهم مئة وعشرون ألف مُحارب ، وليسوا من هذا القبيل ، وهل يمكن أن نقول : إنّ الكوفة خَلَت تماماً من الرجال في ذلك الحين ، ولم يبقَ مَن يحرس البيوت ويقوم بشؤونها ؟
فإذا ضَممنا إلى هذا الاستبعاد أمراً آخر : وهو أنّ كثيراً من أهل الكوفة ، كان يمكنهم عدم تسليم أنفسهم للحرب ضدّ الحسين ( عليه السلام ) : إمّا بالجلوس في داره عدّة أيّام ، أو بالسفر خارج الكوفة عدّة أيّام ، أو بالتعلّل بالمرض ، أو بحاجة العائلة إليه ، أو بوجود مريض لديه ، أو غير ذلك كثير ، وعَلمنا مع ذلك : أنّهم كانوا يتحامون عن حربه وضربه ، إذاً فكم من النسبة بقيت ممّن يمكن أن يخرج من أهل الكوفة فعلاً لحرب الحسين ( عليه السلام ) ؟
النقطة الثامنة : إنّ من جملة ما أوجبَ تجمّع الجيش : هو أنّ أمير الكوفة يومئذٍ عبيد الله بن زياد ، وعدَ بمضاعفة العطاء للأفراد الخارجين في هذا الجيش ، أو أنّه وعدَ بزيادة كلّ فردٍ منهم عشرة دنانير (12) ذهبيّة في ذلك الحين ، على اختلاف النقل التاريخي .
ونحن إذا أخذنا بأضعف الاحتمالات وأقلّها : وهو أن يكون الجيش ثلاثين ألف وأنّ العطاء عشرة لكلّ فردٍ ، فستكون الدنانير الموزّعة ثلاثمائة ألف دينار ذهبي ، فهل كان عبيد الله بن زياد يملك هذا المقدار من الدنانير ؟
مضافاً إلى ما يحتاجهُ هو وتحتاجه قيادة الجيش المعادي الذاهب إلى كربلاء منها ، مع العلم أنّ النقد بالأساس في تلك العهود كان قليلاً والمسكوك منه يكاد يكون نادراً ، فمن أين حصلت هذه الألوف من الدنانير الذهبيّة ؟
وهنا يخطر في البال : أنّ الناس اكتفوا بمجرّد الوعد وإن لم يقبضوا المال ، وكان هذا كافياً لحثّهم على الخروج إلى الحرب .
وجوابُ ذلك من وجوه أهمّها :
إنّ الفرد المُحارب يحتاج إلى المال لخروجه ، ويحتاج إلى المال لعائلته الباقية في المدينة ، ويحتاج المال لسلاحه ، وحاله الاقتصادي الخاص به لا يساعد في الأعمّ الأغلب من التخلّي عن ذلك .
إذاً ، فاكتفاؤهم بالوعد أمر مستبعد ، فإذا ضَممنا إلى ذلك عِلمهم بقلّة النقد أساساً ، وصعوبة توزيعه من قِبل عُبيد الله بن زياد ـ كما أشرنا ـ لم يبقَ لهم أيّ دافعٍ حقيقي للتصديق بهذا الوعد الزائف .
النقطة التاسعة : ولعلّها الأهمّ وإن جعلناها في المؤخّرة من هذه النقاط : هي أنّ الكوفة بلد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، والد الحسين ( عليه السلام ) قبل سنوات قليلة من ذلك الحين ، وأغلبهم جدّاً قد شاهدَ ذلك الإمام وسمعَ خُطبه ومواعظه سلام الله عليه ، وشاهدَ وَلده الإمام الحسن ( عليه السلام ) وسمعَ منه ، بل وشاهدَ الإمام الحسين ( عليه السلام ) نفسه في مُقتبل عمره ، ولم يعرفوا منهم إلاّ الخير والصلاح ، بل ما هو أفضل كما هو معلوم ، فمن أين يأتي هذا الحقد المتزايد والتألّب المكثّف على الإمام الحسين ( عليه السلام ) فجأة وبدون سابق إنذار كما يعبّرون ، لمجرّد أنّ عُبيد الله بن زياد أمرَ بالزيادة الماليّة القليلة ؟
صحيح أنّ الكوفة أو أنّ سكّانها لم يكونوا مُجمعين على الولاء لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، بل كان فيها اتّجاهات مختلفة حتّى من الدهريّة والخوارج وغيرهم ، إلاّ أنّ الذي يُفيدنا في المقام أمور :
أوّلاً : إنّ الأغلب من سكّانها كان وما زال موالياً لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
ثانياً : إنّ الاتّجاهات الأخرى في الكوفة تُمثّل جاليّات قليلة جدّاً .
ثالثاً : إنّ هناك عدد من نفوس الأفراد تُشكّك ـ على الأقل ـ في جواز حرب الحسين أمام الله سبحانه ، وإن لم تجزم بحرمته وهذا يكفي .
وصحيحٌ أنّ الكوفة غَدرت بأبيه وأخيه ، كما قالوا للحسين ( عليه السلام ) حين أرادوا إرجاع نظره عن السفر إليها ، إلاّ أنّ هذا هو الظاهر الذي فعلهُ الأشرار وهم القلّة منهم ، وهذا لا ينافي وجود مَن يواليه فعلاً أو يتورّع أمام الله سبحانه وتعالى عن حربه .
وصحيحٌ أنّ الحسين ( عليه السلام ) لو وصلَ إلى الكوفة فعلاً ـ وهي تحت حُكم عبيد الله بن زياد ـ لم يستطع أن يجد أحداً يبايعه ، إلاّ أنّ هذا لا يُنتج معنى الإخلاص لابن زياد من قِبل الجميع ، بل ينتج أنّ الناس كانوا يومئذٍ في خوف ورعب من إظهار الولاء للحسين ( عليه السلام ) ، وهذا لا يعني بكلّ وضوح استعداهم لحمل السيف ضدّه ، أو قل : لحمله بهذه السعة وبهذه المرارة والقسوة .
النقطة العاشرة : جهود رسول الحسين ( عليه السلام ) إلى الكوفة ، مسلم بن عقيل رضوان الله عليه ، فإنّه أخذَ البيعة على نطاق واسع وألّب العواطف باتّجاه الحسين ( عليه السلام ) ، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً وسمعَ الناس مواعظه وخطبه ، وقرأوا الكتاب الذي كان معه من الحسين ( عليه السلام ) (13) ، حتّى أثمرَت جهوده بإرسال الكتب إليه ( عليه السلام ) للوفود إليهم والورود عليهم ، وقالوا في كتابهم الأخير : ( فأقبِل يا بن رسول الله ، إنّما تَقبِل على جُندٍ لك مجنّدة والسلام ) (14) .
وبحسب ما هو المعروف من نظام النفوس أو القلوب ـ لو صحّ التعبير ـ أنّها لا يمكن أن تنقلب من هذه الصداقة الحميمة إلى العداوة القاسية بين عشيّة وضُحاها ، بدون أن ترى الحسين ( عليه السلام ) ، أو أن تسمع منه شرّاً أو ترى منه ضرراً وحاشاه .
وقد يخطر في الذهن : إذاً فكيف قُتل الحسين ( عليه السلام ) ؟ إذ لو تمّ ما قلناه ، إذاً لم يخرج إلى قتاله أحد إلاّ شرذِمة قليلة قابلة للسيطرة عليهم أو صدّهم بكلّ سهولة ، ولم يحتج الأمر إلى تلك المظالم والآثام .
وجواب ذلك : أنّ الجيش المعادي للحسين ( عليه السلام ) ، في حدود ما نحتاج إليه من فكرة الآن ، يمكن تقسيمه إلى قسمين :
القسمُ الأوّل : وهو الأغلب أو الأغلب جدّاً ، وهم الواردون مع الأعداء خوفاً أو طمَعاً أو إحراجاً ، أو نحو ذلك من المصاعب الدنيويّة ، مع كونهم يتورّعون بقليلٍ أو بكثير عن ضرب معسكر الحسين ( عليه السلام ) ، إلاّ تحت ضغطٍ مماثل من قِبل قادتهم ، وربّما كان بعضهم إذا تلقّى الأمر بالهجوم مع جماعة يجول بفرسه هنا وهناك ، باعتبار أنّه متصدي للهجوم ولكنّه لا يَضرب ، أو يَضرب بالأقلّ المجزي ، أو لا يَضرب إلاّ تحت الإحراج الشديد (15) .
ولا ينبغي أن يخطر في البال : أنّ هؤلاء وأمثالهم ناجون من العقوبة الأخرويّة ، وأنّهم أخيار أو إبرار ، كلاّ ثمّ كلاّ ، يكفي أنّهم يقفون موقفاً مُعادياً للحسين ( عليه السلام ) ويشاركون في ترويع أصحابه وأهل بيته ، وينصرون أعداءه ويكونون مشمولين لقوله ( عليه السلام) : ( مَن سمعَ واعيتنا ولم ينصُرنا ، أكبّهُ الله على منخرَيه في النار ) (16) ، وهم وإن لم يحاربوا الحسين ( عليه السلام ) حقيقة ، إلاّ أنّهم لم ينصروه بكلّ تأكيد .
والمهمّ الآن : أنّ هذا القسم من الناس هو الذي كان يُشكّل الجمهور الغفير من الجيش المعادي ، وأنّ هذا المستوى من التفكير لديهم هو الذي أدّى إلى احتشاد الجمهور ضدّ الحسين ( عليه السلام ) .
القسم الثاني : وهم المُعاندون ضدّ الحسين ( عليه السلام ) والحاقدون عليه ، وهم قلّة موجودة في الكوفة فعلاً ، ولا شكّ أنّهم استغلّوا الموقف للخروج ، كما لا شكّ أنّ ابن زياد استغلّهم للقتال ، كما أنّهم بلا شكّ يُشكّلون جماعة مهمّة وقابلة للتأثير الكبير في المجتمع الكوفي وما حوله ، سواء حال جَمع الجيش أو حال القتال ، ممّا يشكّل في كربلاء عدداً معتدّاً به من المحاربين ، وهو الذي أوجبَ الانتصار العسكري بالمعنى المباشر للجيش المعادي للإمام الحسين ( عليه السلام ) .
المصادر :
1- أسرار الشهادة للدربندي : ص445 بتصرّف .
2- مع الحسين في نهضته لأسد حيدر : ص173 .
3- أدب الطف : ج7 ، ص161 ـ 172 .
4- معجم البلدان للحَمَوي : ج2 ، ص463 .
5- أسرار الشهادة : ص414 .
6- نقلهُ المجلسي في البحار : ج25 ، ص154 ، ابن شهرآشوب في المناقب : ج3 ، ص238 ، ط نجف ، ابن نما الحلّي في مُثير الأحزان .
7- واقعة الطف لبحر العلوم : ص526
8- الخوارزمي : ج2 ، ص35 .
9- البحار للمجلسي : ج45 ، ص50 ، اللهوف لابن طاووس : ص51 .
10- الكامل لابن الأثير : ج4 ، ص32 ، تاريخ الطبري : ج6 ، ص259 .
11- مقتل الخوارزمي : ج2 ، ص38 .
12- تاريخ الفتوح لابن أعثم : ج5 ، ص157 ، ط 9 ، أسرار الشهادة للدربندي : ص256 ، الأخبار الطوال للدينوري : ص273 .
13- أسرار الشهادة : ص200 ، تاريخ الفتوح لابن أعثم : ج5 ، ص56 .
14- مقتل الخوارزمي : ج1 ، ص195 ، تاريخ الطبري : ج6 ، ص197 .
15- الإيقاد للعظيمي : ص129 .
16- مقتل الخوارزمي : ج1 ، ص227 ، البحار للمجلسي : ج44 ، ص315 .