عربي
Wednesday 27th of November 2024
0
نفر 0

تعبئة الالاف لقتل الحسين عليه السلام

تعبئة الالاف لقتل الحسين عليه السلام

إنّ ممّا يُبالغ في التأكيد عليه الخطباء الحسينيّون ، لأجل الزيادة في المصيبة وحشد العواطف هو : التأكيد على تألّب الناس ضدّ الحسين ( عليه السلام ) ، حتّى أنّ أفراد القبائل ـ وهي مئات الألوف ـ قد خَرجت كلّها لحرب الحسين ( عليه السلام ) ، ولبعض الخطباء سياق كلامي خاصّ يُعدِّد فيه رايات القبائل التي أقبلَت للحرب ، فيعدِّد أسماء خمسة عشر قبيلة أو أكثر من الساكنين في الكوفة وجنوب العراق : كتميم ، وفزارة ، وبجيلة ، ومذحج ، وربيعة ، وطي ، وأسد ، وبني فلان ، وبني فلان ..... كما يذکر في التاريخ أنّ سوق الحدّادين في الكوفة بقيَ مشتغلاً ليلاً ونهاراً أيّاماً متطاولة قد تبلغ شهراً أو أكثر ، لإصلاح السيوف والرماح والسهام والنبال ، مُقدّمة للخروج لحرب الحسين ( عليه السلام ) (1) .
كما ورَد : أنّ الناس الخارجين في هذا السبيل ، كانوا من الكثرة بحيث لم يستطيعوا أن يجدوا وسائط النقل من الجمال والأفراس والحمير حتّى رَكبوا البقر والثيران (2) ، ثمّ يستشهد الخطباء بقول الشاعر :
بجحافلٍ في الطف أوّلها وأخيرها بالشام متّصل (للشيخ الحاج حمّادي الكوّاز (1245 ـ 1283هـ ) ، توفي في مرض السِل وعمره فيما يُعتقد لم يتجاوز 38 سنة ، وهذا البيت من قصيدة طويلة والتي مطلعها : أدهاك ما بي عندما رَحلوا فأزالَ رَسمك أيّها الطَلَلُ)(3)
وهذا المفهوم الشعري يناسب أن تكون آلاف الكيلومترات بين كربلاء والشام ( وهي منطقة دمشق الآن ) (4) ، وهي ليست في الحدود الشرقيّة لسوريا بل على الحدود الغربية لها ، وهي سواحل البحر الابيض المتوسط .
والمسافة بينهما تُقدّر بحوالي ألفي كيلومتر ، فإذا كانت كلّها مملوءة بالجيش المعادي كخطّ طويل مُحتشد في هذا البر المتطاوِل ، فكم سوف يكون عدد أفراده ؟
إنّ الكيلو متر الواحد الممتدّ لن يكفي في امتلائه بالناس ألف إنسان بطبيعة الحال ، بل لن يكفي ضِعف هذا العدد ، ولكنّنا لو اقتصرنا على ألف لكان المجموع مليونين من الناس على أقلّ تقدير ، وقد يصل الرقم إلى أربعة ملايين ، مع أنّ أعلى رقم مُحتمل للجيش المعادي للحسين ( عليه السلام ) هو مئة وعشرون ألفاً (اختلفَ المؤرّخون كثيراً في عدد الجيش الذي قاتلَ الحسين ( عليه السلام ) ، بل بعضهم قد بالغَ في كثرة الجيش إلى حدٍّ قال فيه العلماء : إنّه شاذ ، كالذي ذكرهُ ابن العصفور البحراني حيث قال : إنّ عدد الجيش الخارج على الحسين قد بلغَ خمسمئة ألف ، والأغرب من هذا أنّه يقول : إنّ الحسين ( عليه السلام ) قد قتلَ منهم (400 ألف) ، وينقل لنا ذلك الفاضل الدربندي في أسرار الشهادة فيعلِّق على هذا القول بقوله :
( نعم ، إنّ هذا يجوز ويصحّ بالقوّة اللاهوتيّة لا البشريّة ، بل الاستغراب والاستبعاد من جهةٍ أخرى وهي : إنّ المحاربة والقتل كانت بالسيف والرمح يومئذٍ ، وقد وقَعت شهادة الإمام ( عليه السلام ) قريب من الغروب أو العصر من ذلك اليوم ، فهذا الوقت القليل لا يسع لتلك المقاتلات والمحاربات الكثيرة منه ( عليه السلام ) ، فهذا أمرٌ ظاهر عند الكل ولاسيّما إذا لوحِظَ في العين محاربات الأصحاب وفتية بني هاشم ) (5)
أمّا الأرقام التي وردت في عدد الجيش والتي يمكن احتمال صحّتها فهي كما يلي :
1ـ 80 ألف ، بُغية النُبلاء : ج2 ، الدمعة الساكبة : ص322 نقلاً عن أبي مخنف وتحفة الأزهار لابن شدقم .
2ـ 70 ألف ، أسرار الشهادة للدربندي : ص237 ، سفينةُ النجاة للعيّاشي .
3ـ 50 ألف ، شرح شافية أبي فراس : ج1 ، ص93 .
4ـ 35 ألف ، مناقب ابن شهرآشوب : ج4 ، ص98 ، ط قم .
5ـ30 ألف ، مطالب السؤول ، عُمدة الطالب : ص181 ، الدمعة الساكبة : ص322 ، أسرار الشهادة للدربندي : ص237.
6ـ 22 ألف ، مرآة الجنان : ج1 ، ص132 ، شَذرات الذهب : ج1 ، ص67 .
7ـ20 ألف ، الصواعق المُحرقة : ص117 ، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ : ص178 ، اللهوف لابن طاووس ، مُثير الأحزان لابن نما الحلّي .
8ـ 16 ألف ، الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة : ص168 .
9ـ 8 آلاف ، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان : ص92 .
10ـ 6 آلاف ، الصراط السوي في مناقب آل النبي : ص87 .
11- 4 آلاف ، البداية والنهاية لابن كثير : ج8 ، ص169 .
والراجح بين هذه الأقوال : هو أنّ عدد الجيش ( 30 ألفاً ) ؛ وذلك لأنّ الروايات التي تنصّ على هذا العدد أكثر من غيرها ، ولوجود الرواية التي يذكرها الصدوق في أماليه بإسناده عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) حيث قال : ( إنّ الحسين دَخلَ على أخيه الحسن ( عليه السلام ) في مرضه الذي استُشهد فيه ، فلمّا رأى ما بهِ بكى ، فقال له الحسن ( عليه السلام ) : ما يُبكيك يا أبا عبد الله ؟ قال : أبكي لِمَا صُنعَ بك ، فقال الحسن ( عليه السلام ) : إنّ الذي أوتيَ إليّ سمٌ أُقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وقد ازدلفَ إليك ثلاثون ألفاً .. الخ ) (6)
صحيحٌ أنّ هذا الرقم بالنسبة إلى جيوش الدول في العالَم المعاصر بسيط جدّاً ، وقد استطاعت الدول أن تبلغ الملايين في تعداد أفراد جيوشها ، لكنّ هذا لا ينطبق على إمكانيّات الدول السابقة ، ولا على أسلحتها ، ولا على وسائط نقلها ، وخاصّةً بعد أن كان النظام القديم هو الخروج الاختياري للفرد أوّلاً ، وتَحمّل مسؤوليّته الاقتصاديّة والعناية بأموره وأسلحته بنفسه ثانياً ، ولا دخلَ للقيادة في ذلك حتّى التدريب على الأسلحة لم يكن ، فكيف يمكن أن تحصل الأعداد الضخمة من الجيوش ؟
فإذا أخذنا بنظر الاعتبار طريقة القتال القديمة ، وقد كانت كلّها بالسلاح الأبيض ـ كما هو المصطلح اليوم ـ هذه طريقة تُعتبر لحدّ الآن مؤلمة ألماً شديداً ، وليس في النفوس الهمّة الكافية لتحمّلها ، ولا شكّ أنّ الناس يُفضلّون الراحة على التورّط في الحروب مهما كانت ، فضلاً عن قتال شخصٍ مُحقّ جليل القدر كالإمام الحسين ( عليه السلام ) ، على أنّه توجد فيما يخصّ الحسين ( عليه السلام ) عدّة نقاط تصلح كقرائن واضحة على عدم تألّب الناس عليه إلى الحدّ الذي يتصوّره الآخرون :
النقطة الأولى : كون الحسين ( عليه السلام ) معروف بالنسبة إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، كما هو معروف بالعلم والصلاح ، سواء من قِبل مَن يؤمن بإمامته أو مَن لا يؤمن .
النقطة الثانية : إنّه اجتمعَ إليه في جيشه أُناس معروفون بالصلاح والأهميّة : كحبيب بن مظاهر الأسدي ، ومسلم بن عوسجة (هو مُسلم بن عَوسجة بن سعد بن ثعلبة ... الأسدي السعدي ، ذَكرتهُ عامّة المصادر التاريخيّة بأنّه أوّل قتيل من أنصار الحسين ( عليه السلام ) بعد الحَملة الأولى .
كان شريفاً في قومه صحابيّاً جليلاً ممّن رأى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وروى عنه ، وكان ممّن كاتبَ الحسين ( عليه السلام ) من أهل الكوفة ووفى له بذلك ، فقد كان يأخذ البيعة له على يد مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) ، وعَقدَ لهُ مسلم على ربع مذحج وأسَد لمحاربة ابن زياد ، وبعد فَشل الثورة وقَتل مسلم وهاني اختفى مدّة بين قومه ثمّ خرجَ بأهله مُتخفيّاً إلى الحسين ( عليه السلام ) ، فأدركهُ وهو في كربلاء فاستشهدَ بين يديه ، ويبدو من خلال المصادر الباحثة عنه ، أنّه كان شيخاً كبير السنّ ومن الشخصيّات الأسديّة البارزة في الكوفة.(7) ، وبُرير بن خضير ، وغيرهم كثير ، فمَن كان غافلاً عن أهميّة الحسين ( عليه السلام ) ـ باعتباره عاشَ أغلب حياته في الحجاز بعيداً عن الكوفة ـ فلا أقلّ من أن يتعرّف على أمثال هؤلاء من أصحابه رضوان الله عليهم .
النقطة الثالثة : الخُطَب والمواعظ التي صدرت من الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه وأهل بيته إلى الجيش المعادي قبل التحام الحرب ؛ فإنّها وإن لم تؤثّر في توبة هذا الجيش أو تفرّقهم أو التحاقهم بمعسكر الحسين ( عليه السلام ) ، ولكنّها لا شكّ أثّرت على أقلّ تقدير في تحريك بعض عواطفهم إليه : كالشَفَقة دنيويّاً ، والتعرّف على مستواه دينيّاً ، وهذا أمر يقتضي فتور الهمّة في ممارسة حربه وضربه محالة .
النقطة الرابعة : قولهم للحسين ( عليه السلام ) : ( قلوبُنا معك وسيوفنا عليك ) ، وهذا معناه : أنّ السيوف وإن كانت عليه ظاهراً ، إلاّ أنّ القلوب معهُ واقعاً فمن غير المُحتمل أن توجد لهم همّة حقيقيّة لحربه .
النقطة الخامسة : ما وردَ في التاريخ عنه شخصيّاً : أنّ أفراد الجيش المعادي كانوا يتحامون عن قتله (8) ، و لا يريد كلّ منهم أن يكون هو البادئ بالضرب ضدّه ، ومن دلائل ذلك : أنّه وردَ عن أصحابه أنّهم التحموا في مبارزات مفردة مع الأعداء ، مع أنّه لم يرِد ضدّ الحسين ( عليه السلام ) ذلك أصلاً ، بل كان يكتفي بالهجوم على الجيش ككلّ ، وهم يفرّون من بين يديه فرار المِعزى إذا شدّ فيها الذئب ، كما وردَ مثاله في التاريخ (9) .
النقطة السادسة : ما وردَ من بعض أفراد الجيش المعادي ، بل ربّما عددٍ منهم ، كانوا يُشفقون على الحسين وأصحابه ، حتّى أنّ عمر بن سعد ـ وهو قائد الجيش كلّه ـ شوهِدَ والدموع تنزل من عينيه أكثر من مرّة (10) .
وممّا يَدعم ذلك : ما وردَ من أنّ الحسين ( عليه السلام ) حين أخذَ ولدهُ الرضيع ليطلب لهُ الماء ، اختلفَ العسكر في شأنه فقال بعضهم : إن كان ذنبٌ للكبار فما ذنبُ الصغار ، وقال البعض : لا تُبقوا لأهل هذا البيت باقية (11) .
إذاً ، فليسوا كلّهم على رأيٍ واحد ، وكان يوجد فيهم مَن هو مستعدّ للمناقشة ، وإن لم يكن يظنّ أنّ الأمر سوف يؤول بالحسين وأصحابه إلى هذه الدرجة من البلاء .
النقطة السابعة : إنّ أهل الكوفة وضواحيها يومئذٍ ، ممّا لا دليل تاريخيّاً على كثرتهم بهذا المقدار الوفير ، ولعلّ مجموع أفرادهم من رجال ونساء وأطفال لم يكن يتجاوز المئة ألف أو المئة والعشرين ، فكيف يخرج من المئة وعشرين مئة وعشرون ؟ وهل يخرجون كلّهم من نساء وأطفال وشيوخ وعَجَزة ، مع العلم أنّهم يقولون : إنّهم مئة وعشرون ألف مُحارب ، وليسوا من هذا القبيل ، وهل يمكن أن نقول : إنّ الكوفة خَلَت تماماً من الرجال في ذلك الحين ، ولم يبقَ مَن يحرس البيوت ويقوم بشؤونها ؟
فإذا ضَممنا إلى هذا الاستبعاد أمراً آخر : وهو أنّ كثيراً من أهل الكوفة ، كان يمكنهم عدم تسليم أنفسهم للحرب ضدّ الحسين ( عليه السلام ) : إمّا بالجلوس في داره عدّة أيّام ، أو بالسفر خارج الكوفة عدّة أيّام ، أو بالتعلّل بالمرض ، أو بحاجة العائلة إليه ، أو بوجود مريض لديه ، أو غير ذلك كثير ، وعَلمنا مع ذلك : أنّهم كانوا يتحامون عن حربه وضربه ، إذاً فكم من النسبة بقيت ممّن يمكن أن يخرج من أهل الكوفة فعلاً لحرب الحسين ( عليه السلام ) ؟
النقطة الثامنة : إنّ من جملة ما أوجبَ تجمّع الجيش : هو أنّ أمير الكوفة يومئذٍ عبيد الله بن زياد ، وعدَ بمضاعفة العطاء للأفراد الخارجين في هذا الجيش ، أو أنّه وعدَ بزيادة كلّ فردٍ منهم عشرة دنانير (12) ذهبيّة في ذلك الحين ، على اختلاف النقل التاريخي .
ونحن إذا أخذنا بأضعف الاحتمالات وأقلّها : وهو أن يكون الجيش ثلاثين ألف وأنّ العطاء عشرة لكلّ فردٍ ، فستكون الدنانير الموزّعة ثلاثمائة ألف دينار ذهبي ، فهل كان عبيد الله بن زياد يملك هذا المقدار من الدنانير ؟
مضافاً إلى ما يحتاجهُ هو وتحتاجه قيادة الجيش المعادي الذاهب إلى كربلاء منها ، مع العلم أنّ النقد بالأساس في تلك العهود كان قليلاً والمسكوك منه يكاد يكون نادراً ، فمن أين حصلت هذه الألوف من الدنانير الذهبيّة ؟
وهنا يخطر في البال : أنّ الناس اكتفوا بمجرّد الوعد وإن لم يقبضوا المال ، وكان هذا كافياً لحثّهم على الخروج إلى الحرب .
وجوابُ ذلك من وجوه أهمّها :
إنّ الفرد المُحارب يحتاج إلى المال لخروجه ، ويحتاج إلى المال لعائلته الباقية في المدينة ، ويحتاج المال لسلاحه ، وحاله الاقتصادي الخاص به لا يساعد في الأعمّ الأغلب من التخلّي عن ذلك .
إذاً ، فاكتفاؤهم بالوعد أمر مستبعد ، فإذا ضَممنا إلى ذلك عِلمهم بقلّة النقد أساساً ، وصعوبة توزيعه من قِبل عُبيد الله بن زياد ـ كما أشرنا ـ لم يبقَ لهم أيّ دافعٍ حقيقي للتصديق بهذا الوعد الزائف .
النقطة التاسعة : ولعلّها الأهمّ وإن جعلناها في المؤخّرة من هذه النقاط : هي أنّ الكوفة بلد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، والد الحسين ( عليه السلام ) قبل سنوات قليلة من ذلك الحين ، وأغلبهم جدّاً قد شاهدَ ذلك الإمام وسمعَ خُطبه ومواعظه سلام الله عليه ، وشاهدَ وَلده الإمام الحسن ( عليه السلام ) وسمعَ منه ، بل وشاهدَ الإمام الحسين ( عليه السلام ) نفسه في مُقتبل عمره ، ولم يعرفوا منهم إلاّ الخير والصلاح ، بل ما هو أفضل كما هو معلوم ، فمن أين يأتي هذا الحقد المتزايد والتألّب المكثّف على الإمام الحسين ( عليه السلام ) فجأة وبدون سابق إنذار كما يعبّرون ، لمجرّد أنّ عُبيد الله بن زياد أمرَ بالزيادة الماليّة القليلة ؟
صحيح أنّ الكوفة أو أنّ سكّانها لم يكونوا مُجمعين على الولاء لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، بل كان فيها اتّجاهات مختلفة حتّى من الدهريّة والخوارج وغيرهم ، إلاّ أنّ الذي يُفيدنا في المقام أمور :
أوّلاً : إنّ الأغلب من سكّانها كان وما زال موالياً لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
ثانياً : إنّ الاتّجاهات الأخرى في الكوفة تُمثّل جاليّات قليلة جدّاً .
ثالثاً : إنّ هناك عدد من نفوس الأفراد تُشكّك ـ على الأقل ـ في جواز حرب الحسين أمام الله سبحانه ، وإن لم تجزم بحرمته وهذا يكفي .
وصحيحٌ أنّ الكوفة غَدرت بأبيه وأخيه ، كما قالوا للحسين ( عليه السلام ) حين أرادوا إرجاع نظره عن السفر إليها ، إلاّ أنّ هذا هو الظاهر الذي فعلهُ الأشرار وهم القلّة منهم ، وهذا لا ينافي وجود مَن يواليه فعلاً أو يتورّع أمام الله سبحانه وتعالى عن حربه .
وصحيحٌ أنّ الحسين ( عليه السلام ) لو وصلَ إلى الكوفة فعلاً ـ وهي تحت حُكم عبيد الله بن زياد ـ لم يستطع أن يجد أحداً يبايعه ، إلاّ أنّ هذا لا يُنتج معنى الإخلاص لابن زياد من قِبل الجميع ، بل ينتج أنّ الناس كانوا يومئذٍ في خوف ورعب من إظهار الولاء للحسين ( عليه السلام ) ، وهذا لا يعني بكلّ وضوح استعداهم لحمل السيف ضدّه ، أو قل : لحمله بهذه السعة وبهذه المرارة والقسوة .
النقطة العاشرة : جهود رسول الحسين ( عليه السلام ) إلى الكوفة ، مسلم بن عقيل رضوان الله عليه ، فإنّه أخذَ البيعة على نطاق واسع وألّب العواطف باتّجاه الحسين ( عليه السلام ) ، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً وسمعَ الناس مواعظه وخطبه ، وقرأوا الكتاب الذي كان معه من الحسين ( عليه السلام ) (13) ، حتّى أثمرَت جهوده بإرسال الكتب إليه ( عليه السلام ) للوفود إليهم والورود عليهم ، وقالوا في كتابهم الأخير : ( فأقبِل يا بن رسول الله ، إنّما تَقبِل على جُندٍ لك مجنّدة والسلام ) (14) .
وبحسب ما هو المعروف من نظام النفوس أو القلوب ـ لو صحّ التعبير ـ أنّها لا يمكن أن تنقلب من هذه الصداقة الحميمة إلى العداوة القاسية بين عشيّة وضُحاها ، بدون أن ترى الحسين ( عليه السلام ) ، أو أن تسمع منه شرّاً أو ترى منه ضرراً وحاشاه .
وقد يخطر في الذهن : إذاً فكيف قُتل الحسين ( عليه السلام ) ؟ إذ لو تمّ ما قلناه ، إذاً لم يخرج إلى قتاله أحد إلاّ شرذِمة قليلة قابلة للسيطرة عليهم أو صدّهم بكلّ سهولة ، ولم يحتج الأمر إلى تلك المظالم والآثام .
وجواب ذلك : أنّ الجيش المعادي للحسين ( عليه السلام ) ، في حدود ما نحتاج إليه من فكرة الآن ، يمكن تقسيمه إلى قسمين :
القسمُ الأوّل : وهو الأغلب أو الأغلب جدّاً ، وهم الواردون مع الأعداء خوفاً أو طمَعاً أو إحراجاً ، أو نحو ذلك من المصاعب الدنيويّة ، مع كونهم يتورّعون بقليلٍ أو بكثير عن ضرب معسكر الحسين ( عليه السلام ) ، إلاّ تحت ضغطٍ مماثل من قِبل قادتهم ، وربّما كان بعضهم إذا تلقّى الأمر بالهجوم مع جماعة يجول بفرسه هنا وهناك ، باعتبار أنّه متصدي للهجوم ولكنّه لا يَضرب ، أو يَضرب بالأقلّ المجزي ، أو لا يَضرب إلاّ تحت الإحراج الشديد (15) .
ولا ينبغي أن يخطر في البال : أنّ هؤلاء وأمثالهم ناجون من العقوبة الأخرويّة ، وأنّهم أخيار أو إبرار ، كلاّ ثمّ كلاّ ، يكفي أنّهم يقفون موقفاً مُعادياً للحسين ( عليه السلام ) ويشاركون في ترويع أصحابه وأهل بيته ، وينصرون أعداءه ويكونون مشمولين لقوله ( عليه السلام) : ( مَن سمعَ واعيتنا ولم ينصُرنا ، أكبّهُ الله على منخرَيه في النار ) (16) ، وهم وإن لم يحاربوا الحسين ( عليه السلام ) حقيقة ، إلاّ أنّهم لم ينصروه بكلّ تأكيد .
والمهمّ الآن : أنّ هذا القسم من الناس هو الذي كان يُشكّل الجمهور الغفير من الجيش المعادي ، وأنّ هذا المستوى من التفكير لديهم هو الذي أدّى إلى احتشاد الجمهور ضدّ الحسين ( عليه السلام ) .
القسم الثاني : وهم المُعاندون ضدّ الحسين ( عليه السلام ) والحاقدون عليه ، وهم قلّة موجودة في الكوفة فعلاً ، ولا شكّ أنّهم استغلّوا الموقف للخروج ، كما لا شكّ أنّ ابن زياد استغلّهم للقتال ، كما أنّهم بلا شكّ يُشكّلون جماعة مهمّة وقابلة للتأثير الكبير في المجتمع الكوفي وما حوله ، سواء حال جَمع الجيش أو حال القتال ، ممّا يشكّل في كربلاء عدداً معتدّاً به من المحاربين ، وهو الذي أوجبَ الانتصار العسكري بالمعنى المباشر للجيش المعادي للإمام الحسين ( عليه السلام ) .
المصادر :
1- أسرار الشهادة للدربندي : ص445 بتصرّف .
2- مع الحسين في نهضته لأسد حيدر : ص173 .
3- أدب الطف : ج7 ، ص161 ـ 172 .
4- معجم البلدان للحَمَوي : ج2 ، ص463 .
5- أسرار الشهادة : ص414 .
6- نقلهُ المجلسي في البحار : ج25 ، ص154 ، ابن شهرآشوب في المناقب : ج3 ، ص238 ، ط نجف ، ابن نما الحلّي في مُثير الأحزان .
7- واقعة الطف لبحر العلوم : ص526
8- الخوارزمي : ج2 ، ص35 .
9- البحار للمجلسي : ج45 ، ص50 ، اللهوف لابن طاووس : ص51 .
10- الكامل لابن الأثير : ج4 ، ص32 ، تاريخ الطبري : ج6 ، ص259 .
11- مقتل الخوارزمي : ج2 ، ص38 .
12- تاريخ الفتوح لابن أعثم : ج5 ، ص157 ، ط 9 ، أسرار الشهادة للدربندي : ص256 ، الأخبار الطوال للدينوري : ص273 .
13- أسرار الشهادة : ص200 ، تاريخ الفتوح لابن أعثم : ج5 ، ص56 .
14- مقتل الخوارزمي : ج1 ، ص195 ، تاريخ الطبري : ج6 ، ص197 .
15- الإيقاد للعظيمي : ص129 .
16- مقتل الخوارزمي : ج1 ، ص227 ، البحار للمجلسي : ج44 ، ص315 .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أهل البيت^ الحبل المتصل بين الخالق والمخلوق
مقام علي الأكبر (ع) في كلمات الأئمة (عليهم السلام)
وقفوهم إنهم مسئولون
مكانة السيدة المعصومة (عليها السلام):
يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا
ملامح شخصية الإمام جعفر الصادق عليه السلام
أحاديث في الخشية من الله (عزّ وجلّ)
أقوال علماء أهل السنة في اختصاص آية التطهير ...
فاطمة هي فاطمة.. وما أدراك ما فاطمة
معرفة فاطمة عليها السلام

 
user comment