أن اعتقادنا في التوحيد : أن الله تعالى واحد أحد ليس كمثله شيء ، قديم لم يزل ولا يزال ، سميعاً بصيراً عليماً حكمياً حياً قيوماً عزيزاً قدوساً عالماً قادراً غنياً ، لا يوصف بجوهر ولا جسم ولا صورة ولا عرض ولا خط ولا سطح ولا ثقل ولا خفة ولا سكون ولا حركة ولا مكان ولا زمان ، وأنه تعالى متعال من جميع صفات خلقه ، خارج عن الحدين حد الاِبطال وحد التشبيه . وأنه تعالى شيء لا كالاَشياء ، صمد ، لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك ولم يكن له كفواً أحد ، ولا نِدَّ له ولا ضد ولا شبه ، ولا صاحبة ولا مثل ولا نظير ولا شريك له ، لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ولا الاَوهام وهو يدركها ، لا تأخذه سنة ولا نوم وهو اللطيف الخبير ، خالق كل شيء ، لا إلَه إلا هو ، له الخلق والاَمر ، تبارك الله رب العالمين .
ومن قال بالتشبيه فهو مشرك ، ومن نسب إلى الاِمامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب ، وكل خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو باطل ، وإن وجد في كتب علمائنا فهو مدلس .
والاَخبار التي يتوهمها الجهال تشبيهاً لله تعالى بخلقه فمعانيها محمولة على ما في القرآن من نظائرها ، لاَن ما في القرآن : كل شيء هالك إلا وجهه ، ومعنى الوجه الدين ، والوجه الذي يؤتى الله منه ويتوجه به إليه .
وفي القرآن : يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود وهم سالمون ، والساق وجه الاَمر وشدته .
وفي القرآن : أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، والجنب الطاعة .
وفي القرآن : ونفخت فيه من روحي ، وهو روح مخلوقة جعل الله منها في آدم وعيسى ، وإنما قال روحي كما قال : نبيي وعبدي وجنتي أي : مخلوقي ، وناري وسمائي وأرضي . وفي القرآن : بل يداه مبسوطتان ، يعني نعمة الدنيا ونعمة الآخرة .
وفي القرآن : والسماء بنيناها بأيد ، والاَيد القوة ، ومنه قوله تعالى : واذكر عبدنا داوود ذا الاَيد ، يعني ذا القوة .
وفي القرآن : يا إبليس ما منعك أن تسجد لماخلقت بيدي ، يعني بقدرتي وقوتي.
وفي القرآن : والاَرض جميعاً قبضته يوم القيامة ، يعني ملكه ولايملكها معه أحد.
وفي القرآن : والسماوات مطويات بيمينه ، يعني بقدرته .
وفي القرآن : وجاء ربك والملك صفاً صفاً ، يعني وجاء أمر ربك .
وفي القرآن : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ، يعني عن ثواب ربهم .
وفي القرآن : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، أي عذاب الله .
وفي القرآن : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، يعني مشرقة تنظر ثواب ربها .
وفي القرآن : ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ، وغضب الله عقابه ، ورضاه ثوابه.
وفي القرآن : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، أي تعلم غيبي ولا أعلم غيبك .
وفي القرآن ، ويحذركم الله نفساً ، يعني إنتقامه .
وفي القرآن : إن الله وملائكته يصلون على النبي .
وفيه : هو الذي يصلي عليكم وملائكته ، والصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار وتذكية ومن الناس دعاء .
وفي القرآن : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين .
وفي القرآن : يخادعون الله وهو خادعهم .
وفيه : الله يستهزيَ بهم .
وفي القرآن : سخر الله منهم .
وفيه : نسوا الله فنسيهم .
ومعنى ذلك كله أنه عز وجل يجازيهم جزاء المكر وجزاء المخادعة وجزاء الاِستهزاء وجزاء النسيان وهو أن ينسيهم أنفسهم كما قال عز وجل : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، لاَنه عز وجل في الحقيقة لا يمكر ولا يخادع ولا يستهزيَ ولا يسخر ولا ينسى ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
وليس يرد في الاَخبار التي يشنع بها أهل الخلاف والاِلحاد إلا بمثل هذه الاَلفاظ ومعانيها معاني ألفاظ القرآن .(1)
. . . وثبوت كونه تعالى قديماً مقتض لكونه سبحانه غنياً تستحيل عليه الحاجة ، ( لاَن ) الحاجة لا تكون إلا لاجتلاب نفع أو دفع ضرر ، من حيث علمنا استحالة الحاجة على من يستحيل عليه الضرر والنفع كالموات والجماد . والنفع والضرر لا يجوزان إلا على من يلذ ويألم ، لاَن الحي إنما ينتفع بما يلذ به أو يسر له ، ويستضر بما يألم به أو يغتم لاَجله ، واللذة والاَلم لا يجوزان إلا على ذي شهوة ونفور ، إذ معنى ملتذ أنه أدرك ما يشتهيه ، ومعنى متألم أنه أدرك ما ينفر عنه ، ومعنى مسرور أنه اعتقد أو ظن وصول نفع إليه أو إلى من يجري مجراه واندفاع ضرر ، ومعنى مغتم أنه اعتقد أو ظن وصول ضرر اليه أو إلى من يجري مجراه أو فوت نفع ، فعاد معنى السرور والغم إلى النفع والضرر .
إذا تقرر هذا وكانت الشهوة والنفار معاني تفتقر إلى محل استحال تخصيصها . وكونه تعالى لا يشبه شيئاً يحيل إدراكه سبحانه بشيء من الحواس ، لاختصاص الاِدراك المعقول بالجواهر وأجناس من الاَعراض ، وليس هو من الجنسين ، فاستحال إدراكه تعالى .
ولاَنه لو كان مما يصح أن يدرك بشيء من الحواس لوجب أن ندركه الآن ، لاَنا على الصفة التي معها يجب أن يدرك كلما يصح إدراكه بشرط ارتفاع الموانع ، وهو سبحانه موجود والموانع مستحيلة عليه ، لاَنها اللطافة والرقة وتفاوت البعد والقرب والحجاب والكون في غير جهة المقابلة ، وذلك أجمع من صفات المتحيزات ، وقد دللنا على كونه سبحانه بخلافها ، فلو كان مما يصح أن يدرك لاَدركناه الآن ، ولو أدركناه لعلمناه ضرورة ، من حيث كان العلم بالمدرك من كمال العقل ، وفي عدم العلم به سبحانه ضرورة دليل على عدم إدراكه ....
وثبوت كونه تعالى لا يشبه شيئاً يحيل عليه التنقل والاِختصاص بالحياة والمجاورة ، لاَن ذلك من أحكام المتحيزات وليس بمتحيز . ويحيل عليه سبحانه الحلول وإيجاب الاَحوال والاَحكام ، لاَن ذلك من خواص الاَعراض ، فتسقط لذلك مذاهب الثنوية والمجوس والصابئين وعباد الاَصنام والمنجمين والنصارى والغلاة ، لاِثبات هؤلاء أجمع إلَهية الاَجسام ، أو كونها مؤثرة ما يستحيل من الجسم تأثيره ، على ما سلف بيانه .(2)
ـ كشف المراد للعلامة الحلي المتوفى سنة 726
المسألة العشرون : في أنه تعالى ليس بمرئي .
أقول : وجوب الوجود يقتضي نفي الرؤية أيضاً . واعلم أن أكثر العقلاء ذهبوا إلى امتناع رؤيته تعالى ، والمجسمة جوزوا رؤيته لاعتقادهم أنه تعالى جسم ولو اعتقدوا تجرده لم يجوزوا رؤيته عندهم . والاَشاعرة خالفوا العقلاء كافة هنا وزعموا أنه تعالى مع تجرده يصح رؤيته .
والدليل على امتناع الرؤية أن وجوب الوجود يقتضي تجرده ونفي الجهة والحيز عنه ، فتنتفي الرؤية عنه بالضرورة ، لاَن كل مرئي فهو في جهة يشار إليه بأنه هناك أو هنا ، ويكون مقابلاً أو في حكم المقابل ، ولما انتفى هذا المعنى عنه تعالى انتفت الرؤية . . . . أقول : لما استدل على نفي الرؤية شرع في الجواب عن الاِحتجاج ، والاَشاعرة قد احتجوا بوجوه أجاب المصنف رحمهالله عنها .
الاَول ، إن موسى عليه السلام سئل الرؤية ولو كانت ممتنعة لم يصح عنه السؤال .
والجواب : أن السؤال كان من موسى عليه السلام لقومه ليبين لهم امتناع الرؤية لقوله تعالى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ، وقوله : أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا . . . .
الوجه الثاني لهم ، أنه تعالى حكى عن أهل الجنة النظر اليه فقال : إلى ربها ناظرة ، والنظر المقرون بحرف إلى يفيد الرؤية ، لاَنه حقيقة في تقليب الحدقة نحو المطلوب التماساً للرؤية ، وهذا متعذر في حقه تعالى لانتفاء الجهة ، عنه فيتعين أن يكون المراد منه المجاز ، وهي الرؤية التي هي معلولة النظر الحقيقي ، واستعمال لفظ السبب في المسبب من أحسن وجوه المجاز .
والجواب : المنع من إرادة هذا المجاز ، فإن النظر وإن اقترن به حرف إلى لا يفيد الرؤية ، ولهذا يقال نظرت إلى الهلال فلم أره ، وإذا لم يتعين هذا المعنى للاِرادة أمكن حمل الآية على غيره ، وهو أن يقال إن إلى واحد إلاء ويكون معنى ناظرة أي منتظرة، أو نقول إن المضاف هنا محذوف وتقديره إلى ثواب ربها ناظرة .
لا يقال : الاِنتظار سبب الغم والآية سيقت لبيان النعم .
لاَنا نقول : سياق الآية يدل على تقدم حال أهل الثواب والعقاب على استقرارهم في الجنة والنار بقوله : وجوه يومئذ ناظرة ، بدليل قوله تعالى : ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة ، فإن في حال استقرار أهل النار في النار قد فعل بها فاقرة فلا يبقى للظن معنى . وإذا كان كذلك فانتظار النعمة بعد البشارة بها لا يكون سبباً للغم بل سبباً للفرح والسرور ونضارة الوجه كمن يعلم وصول نفع إليه يقيناً في وقت ، فإنه يسر بذلك وإن لم يحضر الوقت ، كما أن انتظار العقاب بعد الاَنذار بوروده يوجب الغم ويقتضي بسارة الوجه .
قال : وتعليق الرؤية باستقرار المتحرك لا يدل على الاِمكان .
أقول : هذا جواب عن الوجه الثالث للاَشعرية وتقرير احتجاجهم أن الله سبحانه وتعالى علق الرؤية في سؤال موسى عليه السلام على استقرار الجبل ، والاِستقرار ممكن لاَن كل جسم فسكونه ممكن ، والمعلق على الممكن ممكن .
والجواب : أنه تعالى علق الرؤية على الاِستقرار لا مطلقاً بل على استقرار الجبل حال حركته ، واستقرار الجبل حال الحركة محال ، فلا يدل على إمكان المعلق .
قال : واشتراك المعلولات لا يدل على اشتراك العلل مع منع التعليل والحصر .
أقول : هذا جواب عن شبهة الاَشاعرة من طريق العقل استدلوا بها على جواز رؤيته تعالى ، وتقريرها أن الجسم والعرض قد اشتركا في صحة الرؤية ، وهذا حكم مشترك يستدعي علة مشتركة ، ولا مشترك بينهما إلا الحدوث أو الوجود ، والحدوث لا يصلح للعلية لاَنه مركب من قيد عدمي فيكون عدمياً ، فلم يبق إلا الوجود فكل موجود يصح رؤيته وأنه تعالى موجود .
وهذا الدليل ضعيف جداً لوجوه :
الاَول : المنع من رؤية الجسم ، بل المرئي هو اللون أو الضوء لا غير .
الثاني ، لا نسلم اشتراكهما في صحة الرؤية ، فإن رؤية الجوهر مخالفة لرؤية العرض .
الثالث ، لا نسلم أن الصحة ثبوتية بل هي أمر عدمي ، لاَن جنس صحة الرؤية وهو الاِمكان عدمي ، فلا يفتقر إلى العلة .
الرابع ، لا نسلم أن المعلول المشترك يستدعي علة مشتركة ، فإنه يجوز اشتراك العلل المختلفة في المعلولات المتساوية .
الخامس ، لا نسلم الحصر في الحدوث والوجود ، وعدم العلم لا يدل على العدم، مع أنا نتبرع قسماً آخر وهو الاِمكان ، وجاز التعليل به وإن كان عدمياً ، لاَن صحة الرؤية عدمية .
السادس ، لا نسلم أن الحدوث لا يصلح للعلية ، وقد بينا أن صحة الرؤية عدمية ، على أنا نمنع من كون الحدوث عدمياً ، لاَنه عبارة عن الوجود المسبوق بالغير لا المسبوق بالعدم .
السابع ، لم لا يجوز أن تكون العلة هي الوجود بشرط الاِمكان أو بشرط الحدوث ، والشروط يجوز أن تكون عدمية .
الثامن ، المنع من كون الوجود مشتركاً ، لاَن وجود كل شيء نفس حقيقته ، ولو سلم كون الوجود الممكن مشتركاً ، لكن وجود الله تعالى مخالف لغيره من الوجودات ، لاَنه نفس حقيقته ، ولا يلزم من كون وجود بعض الماهيات علة لشيء كون ما يخالفه علة لذلك الشيء .
التاسع ، المنع من وجود الحكم عند وجود المقتضي ، فإنه جاز وجود مانع في حقه تعالى ، أما ذاته أو صفة من صفاته ، أو نقول الحكم يتوقف على شرط كالمقابلة هنا وهي تمتنع في حقه تعالى ، فلا يلزم وجود الحكم فيه .(3)
ـ الرسالة السعدية للعلامة الحلي
والدليل على المذهب الاَول : العقل ، والنقل .
أما العقل ، فإن الضرورة قاضية : بأن كل مرئي ، فإنه لابد وأن يكون مقابلاً للرائي ، أو في حكم المقابل كالمرئي في المرايا . وكل مقابل أو في حكمه فهو في جهة ، والله تعالى ليس في جهة فلا يكون مرئياً .
ولاَنه لو كان مرئياً لرأيناه الآن ، لوجود العلة المقتضية للرؤية وهي حصول الشرايط وانتفاء الموانع وسلامة الحاسة .
وأما النقل ، فقوله تعالى : لن تراني ، ولو كانت صحيحة ويراه بعض المؤمنين ، لكان موسى عليه السلام أولى بالرؤية .
وقوله تعالى : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ، تمدح بنفي الرؤية فيكون ثبوتها نقصاً ، والنقص على الله تعالى محال .
ولاَن الخصم يسلم أن معرفة الله تعالى ليست حاصلة إلا بصفاته وآثاره دون حقيقته ، فكيف تصح رؤيته والاِحاطة بكنه حقيقته ، تعالى الله عن ذلك .(4)
المصادر :
1- الاِعتقادات ص 3 9 للصدوق المتوفى سنة 381
2- الكافي ص 38 ، لاَبي الصلاح الحلبي المتوفى سنة 447
3- كشف المراد للعلامة الحلي ص320 : المتوفى سنة 726
4- الرسالة السعدية للعلامة الحلي ص 39
source : راسخون