تعريف القياس لغة واصطلاحا في اللغة : التقدير (1)، ومنه : قست الثوب بالذراع إذا قدرته به ، قال الشاعر يصف جراحة أو شجة : إذا قاسها الآسي النطاسي أدبرت * غنيتها أو زاد وهيا هزومها (2)
وقد عرف في اصطلاحهم بالاجتهاد تارة ، كما ورد ذلك عن الشافعي ، وببذل الجهد لاستخراج الحق أخرى . ويرد على هذين التعريفين أنهما غير جامعين ولا مانعين . أما كونهما غير جامعين فلخروج القياس الجلي عنهما ، إذ لا جهد ولا اجتهاد فيه في استخراج الحكم ، وأما كونهما غير مانعين فلدخول النظر في بقية الأدلة كالكتاب والسنة . أما التعريف الذي ذكره القاضي أبو بكر الباقلاني من أنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة (3) .
فقد سجلت على هذا التعريف عدة مفارقات ، ومما أورده الآمدي عليه لزوم الدور لأن الحكم في الفرع نفيا وإثباتا متفرع على القياس إجماعا ، وليس هو ركن في القياس ، لأن نتيجة الدليل لا تكون في الدليل لما فيه من الدور الممتنع . وعدل الآمدي بعد ذلك عن هذا التعريف إلى تعاريف أبعد عن المؤاخذات ، فقد عرفه الآمدي بأنه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل . أما تعريف ابن الهمام له : هو مساواة محل لآخر في علة حكم له شرعي لا تدرك بمجرد فهم اللغة .
وقال السيد محمد تقي الحكيم : والذي يبدو لنا أن أسلم التعاريف من الإشكالات ما ورد من أنه مساواة فرع لأصله في علة حكمه الشرعي ، لسلامته من المؤاخذات .
وهناك اصطلاح آخر للقياس شاع استعماله على ألسنة أهل الرأي قديما ، وفحواه : التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل وجعلها مقياسا لصحة النصوص التشريعية ، فما وافقها فهو حكم الله الذي يؤخذ به ، وما خالفها كان موضعا للرفض أو التشكيك ، وعلى هذا النوع من الاصطلاح تنزل التعبيرات الشائعة : إن هذا الحكم موافق للقياس ، وذلك الحكم مخالف له . (4)
وقد كان القياس بهذا المعنى مثار معركة فكرية واسعة النطاق على عهد الإمام الصادق (عليه السلام) وأبي حنيفة . وللقياس بمعناه الأول أركان أربعة :
1 - الأصل أو المقيس عليه : وهو المحل الذي ثبت حكمه في الشريعة ، ونص على علته ، أو استنبطت بإحدى المسالك .
2 - الفرع أو المقيس : وهو الموضوع الذي يراد معرفة حكمه من طريق مشاركته للأصل في علة الحكم .
3 - الحكم : ويراد به الاعتبار الشرعي الذي جعله الشارع على الأصل .
4 - العلة . ولقد أنكر كل من الأستاذ سخاو ، والدكتور جولد تسيهر أن يكون القياس بمفهومه المحدد لدى المتأخرين مستعملا لدى الصحابة .
ورد عليهما الدكتور محمد يوسف بقوله : حقا إن الرأي في هذه الفترة من فترات تأريخ الفقه الإسلامي ليس هو القياس الذي عرف فيما بعد في عصر الفقهاء وأصحاب المذاهب الأربعة المشهورة ، ولكن الرأي الذي استعمله بعض الصحابة لا يبعد كثيرا عن هذا القياس . (5)
والذي يبدو من أسانيد بعض الروايات المتعرضة للرأي والقياس على اختلافها في النفي والإثبات ، شيوع الضعف والوهن فيها ، مما يدل على أن الكثير منها كان وليد الصراع الفكري بين مثبتي القياس ونفاته من المتأخرين ، وما كانت للقدامى من أبناء صدر الإسلام وبخاصة كبار الصحابة فيها يد تذكر . (6)
ويقول ابن جميع : دخلت على جعفر بن محمد أنا وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ، فقال لابن أبي ليلى : من هذا معك ؟ قال : هذا رجل له بصر ونفاذ في أمر الدين . (7)
قال : لعله يقيس أمر الدين برأيه ، قال : ما اسمك ؟ قال : نعمان : قال : يا نعمان ، حدثني أبي عن جدي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أول من قاس أمر الدين برأيه : إبليس ، قال الله تعالى له : اسجد لآدم ، فقال : أنا خير منه ، خلقته من طين . فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس ، لأنه اتبعه بالقياس .
ثم قال له جعفر - كما في رواية ابن شبرمة - : أيها أعظم ، قتل النفس أو الزنا ؟ قال : قتل النفس . قال : فإن الله عز وجل قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة . ثم قال : أيها أعظم ، الصلاة أم الصوم ؟ فقال : الصلاة . قال : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فكيف ويحك يقوم لك قياسك ؟ إتق الله ولا تقس الدين برأيك .
وهذا النوع هو الذي يشكل الخطر على الدين لفسحه المجال للتلاعب بالشريعة ، ومن الطبيعي أن يقف منه أهل البيت (عليهم السلام) وبخاصة الإمام الصادق (عليه السلام) الذي انتشر هذا النوع من القياس على عهده ، والحق كما يقول الإمام : إن السنة إذا قيست محق الدين .
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : لو كان الدين بالرأي ، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه . وفي رواية أخرى : لو كان الدين بالقياس ، لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره . (8)
ويقول ابن مسعود : إذا قلتم في دينكم بالقياس ، أحللتم كثيرا مما حرم الله ، وحرمتم كثيرا مما حلل الله . (9)
يقول ابن عباس : إياكم والمقاييس ، فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس . (10)
وسكوت الصحابة بنفس تقريرهم السابق يكون إجماعا على إبطاله . خلاصة البحث : إن جميع ما ذكره مثبتوا القياس من الأدلة لا تنهض بإثبات الحجية له ، فنبقى نحن والشك في حجيته ، والشك في الحجية كاف للقطع بعدمها . ب - الاستحسان : تحديد الاستحسان : الاستحسان في اللغة هو : عد الشيء حسنا سواء كان الشيء من الأمور الحسية أو المعنوية (11) .
لكن تحديده لدى الأصوليين مختلف فيه جدا ، وأكثر تعاريفهم التي ذكروها أبعد ما تكون عن فن التعريف ، وهي أقرب إلى تسجيعات الأدباء التي كان يراعى فيها إخضاع المعنى للمحسنات البديعية ، منها إلى تحديدات المنطقيين . وإليكم نماذج مما ذكره السرخسي في مبسوطه من التعاريف ، يقول :
1 - الاستحسان : ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس .
2- الاستحسان :طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلي به الخاص والعام .
3 - الاستحسان : الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة .
4 - الاستحسان : الأخذ بالسماحة وانتقاء ما فيه الراحة .
وقريب منها في البعد عن الفن ما نسب إلى المالكية من أنه : الالتفات إلى المصلحة والعدل .
وهذه تعاريف أخرى تكاد تكون ذات مفاهيم محددة ، وهي ما ذكره كل من :
1 - البزدوي من الأحناف ، من أنه : العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه ، أو هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه . (12)
2 - الشاطبي من المالكية ، من أنه : العمل بأقوى الدليلين . (13)
3 - الطوخي (14) من الحنابلة في مختصره ، من أنه : العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص .
وقد ذكر له ابن قدامة معاني ثلاثة :
أحدها : العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة .
ثانيها : ما يستحسنه المجتهد بعقله .
ثالثها: دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه . وقال الشافعي : من استحسن فقد شرع . (15)
وقال مالك : الاستحسان تسعة أعشار العلم . الاستحسان - عرضة لتحكم الأهواء : وينتظم فيه من تعاريف الاستحسان أمثال قولهم : دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه . ومثل هذا النوع من الاستحسان لا يمكن عده من مصادر التشريع ، لكونه عرضة لتحكم الأهواء فيه بسبب من عدم ذكر الضوابط له ، حتى في نفس المستحسنين . دليل الاستحسان : وقد استدلوا على حجية الاستحسان بعدة أدلة ، بعضها من الكتاب ، وبعضها الآخر من السنة ، والثالث الإجماع . أما أدلتهم من الكتاب ، فأهمها :
1 - قوله تعالى : *(الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)* .
2 - قوله تعالى : *(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم)* . وأما أدلتهم من السنة : فقد استدلوا منها بما ورد عن عبد الله بن مسعود من أنه قال : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن . والإجماع : وذلك بدعوى إجماع الأمة باستحسانهم دخول الحمام وشرب الماء من أيدي السقائين ، من غير تقدير لزمان المكث وتقدير الماء والأجرة . ولكن هذا الإجماع - لو صح وجود مثله - فهو قائم على هذه الأحكام بالخصوص لا على استحسانها .
والخلاصة : إن كان المراد بالاستحسان هو خصوص الأخذ بأقوى الدليلين فهو حسن ولا مانع من الأخذ به ، إلا أن عده أصلا في مقابل الكتاب والسنة ودليل العقل لا وجه له ، وإن كان كما يقول ابن القفال : ما يقع في الوهم من استقباح الشيء واستحسانه من غير حجة دلت عليه من أصل ونظير ، فهو محظور والقول به غير سائغ (16) .
مدرسة الرأي : أصحاب الرأي : سموا أصحاب الرأي لأن أكثر عنايتهم بتحصيل وجه القياس ، والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها ، وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار . (17)
وقد قال أبو حنيفة : علمنا هذا رأي ، وهو أحسن ما قسنا عليه ، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ولنا ما رأينا . وأصحاب الرأي ، هم : أهل العراق ، وهم أصحاب أبي حنيفة النعمان ابن ثابت . ومن أصحابه : محمد بن الحسن ، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن محمد القاضي ، وزفر بن الهذيل ، والحسن بن زياد اللؤلؤي ، وابن سماعة ، وعافية القاضي ، وأبو مطيع البلخي ، وبشر المريسي .
وهؤلاء ربما يزيدون على اجتهاده اجتهادا ويخالفونه في الحكم الاجتهادي .
وأضاف ابن قتيبة في المعارف عددا آخر من أصحاب الرأي ، وهم : ابن أبي ليلى : وهو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وكان اسم أبي ليلى يسارا ، وكان فقيها مفتيا بالرأي ، ومات سنة ثمان وأربعين ومائة (148 ه) . (18)
ربيعة صاحب الرأي: هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، واسم أبي عبد الرحمن فروخ ، توفي سنة ست وثلاثين ومائة (136 ه) بالأنبار . (19)
زفر صاحب الرأي : هو زفر بن الهذيل بن قيس ، يكنى أبا الهذيل ، وكان قد سمع الحديث وغلب عليه الرأي ، ومات بالبصرة . الأوزاعي : اسمه عبد الرحمن بن عمرو ، مات ببيروت سنة سبع وخمسين ومائة (157 ه) ، وقبره لا يزال شاخصا جنوب بيروت على البحر . سفيان الثوري : وهو سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبد الله ، مات بالبصرة متواريا من السلطان سنة إحدى وستين ومائة (161 ه) . مالك بن أنس : توفي سنة تسع وسبعين ومائة (179 ه) .
أبو يوسف القاضي : هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب ، كان صاحب حديث حافظا ، ثم لزم أبا حنيفة فغلب عليه الرأي ، ومات سنة اثنتين وثمانين ومائة (182 ه) في خلافة هارون . محمد بن الحسن الفقيه : يكنى أبا عبد الله ، وهو مولى لشيبان ، جالس أبا حنيفة وسمع منه ونظر في الرأي فغلب عليه وعرف به ، مات بالري سنة تسع وثمانين ومائة (189 ه) .
المصادر :
1- الأصول العامة للفقه المقارن : 303 .
2- الأحكام ، للآمدي 3 : 3 .
3- إرشاد الفحول : 198 .
4- الفقه المقارن : 305 .
5- تأريخ الفقه الإسلامي : 29 .
6- الفقه المقارن : 351 .
7- الفقه المقارن : 329 ، وحلية الأولياء 3 : 197 .
8- الآمدي في الأحكام 3 : 83 .
9- الآمدي في الأحكام 3 : 83 .
10- الآمدي في الأحكام 3 : 85 .
11- سلم الوصول : 296 .
12- مصادر التشريع : 58 .
13- مصادر التشريع : 58 .
14- مصادر التشريع : 58 .
15- مصادر التشريع : 58 .
16- إرشاد الفحول : 241 .
17- الملل والنحل 1 : 188 .
18- المعارف لابن قتيبة : 277 - 280 .
19- رجال الكشي : 153 ، الرقم 249 .
وقد عرف في اصطلاحهم بالاجتهاد تارة ، كما ورد ذلك عن الشافعي ، وببذل الجهد لاستخراج الحق أخرى . ويرد على هذين التعريفين أنهما غير جامعين ولا مانعين . أما كونهما غير جامعين فلخروج القياس الجلي عنهما ، إذ لا جهد ولا اجتهاد فيه في استخراج الحكم ، وأما كونهما غير مانعين فلدخول النظر في بقية الأدلة كالكتاب والسنة . أما التعريف الذي ذكره القاضي أبو بكر الباقلاني من أنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة (3) .
فقد سجلت على هذا التعريف عدة مفارقات ، ومما أورده الآمدي عليه لزوم الدور لأن الحكم في الفرع نفيا وإثباتا متفرع على القياس إجماعا ، وليس هو ركن في القياس ، لأن نتيجة الدليل لا تكون في الدليل لما فيه من الدور الممتنع . وعدل الآمدي بعد ذلك عن هذا التعريف إلى تعاريف أبعد عن المؤاخذات ، فقد عرفه الآمدي بأنه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل . أما تعريف ابن الهمام له : هو مساواة محل لآخر في علة حكم له شرعي لا تدرك بمجرد فهم اللغة .
وقال السيد محمد تقي الحكيم : والذي يبدو لنا أن أسلم التعاريف من الإشكالات ما ورد من أنه مساواة فرع لأصله في علة حكمه الشرعي ، لسلامته من المؤاخذات .
وهناك اصطلاح آخر للقياس شاع استعماله على ألسنة أهل الرأي قديما ، وفحواه : التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل وجعلها مقياسا لصحة النصوص التشريعية ، فما وافقها فهو حكم الله الذي يؤخذ به ، وما خالفها كان موضعا للرفض أو التشكيك ، وعلى هذا النوع من الاصطلاح تنزل التعبيرات الشائعة : إن هذا الحكم موافق للقياس ، وذلك الحكم مخالف له . (4)
وقد كان القياس بهذا المعنى مثار معركة فكرية واسعة النطاق على عهد الإمام الصادق (عليه السلام) وأبي حنيفة . وللقياس بمعناه الأول أركان أربعة :
1 - الأصل أو المقيس عليه : وهو المحل الذي ثبت حكمه في الشريعة ، ونص على علته ، أو استنبطت بإحدى المسالك .
2 - الفرع أو المقيس : وهو الموضوع الذي يراد معرفة حكمه من طريق مشاركته للأصل في علة الحكم .
3 - الحكم : ويراد به الاعتبار الشرعي الذي جعله الشارع على الأصل .
4 - العلة . ولقد أنكر كل من الأستاذ سخاو ، والدكتور جولد تسيهر أن يكون القياس بمفهومه المحدد لدى المتأخرين مستعملا لدى الصحابة .
ورد عليهما الدكتور محمد يوسف بقوله : حقا إن الرأي في هذه الفترة من فترات تأريخ الفقه الإسلامي ليس هو القياس الذي عرف فيما بعد في عصر الفقهاء وأصحاب المذاهب الأربعة المشهورة ، ولكن الرأي الذي استعمله بعض الصحابة لا يبعد كثيرا عن هذا القياس . (5)
والذي يبدو من أسانيد بعض الروايات المتعرضة للرأي والقياس على اختلافها في النفي والإثبات ، شيوع الضعف والوهن فيها ، مما يدل على أن الكثير منها كان وليد الصراع الفكري بين مثبتي القياس ونفاته من المتأخرين ، وما كانت للقدامى من أبناء صدر الإسلام وبخاصة كبار الصحابة فيها يد تذكر . (6)
ويقول ابن جميع : دخلت على جعفر بن محمد أنا وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ، فقال لابن أبي ليلى : من هذا معك ؟ قال : هذا رجل له بصر ونفاذ في أمر الدين . (7)
قال : لعله يقيس أمر الدين برأيه ، قال : ما اسمك ؟ قال : نعمان : قال : يا نعمان ، حدثني أبي عن جدي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أول من قاس أمر الدين برأيه : إبليس ، قال الله تعالى له : اسجد لآدم ، فقال : أنا خير منه ، خلقته من طين . فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس ، لأنه اتبعه بالقياس .
ثم قال له جعفر - كما في رواية ابن شبرمة - : أيها أعظم ، قتل النفس أو الزنا ؟ قال : قتل النفس . قال : فإن الله عز وجل قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة . ثم قال : أيها أعظم ، الصلاة أم الصوم ؟ فقال : الصلاة . قال : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فكيف ويحك يقوم لك قياسك ؟ إتق الله ولا تقس الدين برأيك .
وهذا النوع هو الذي يشكل الخطر على الدين لفسحه المجال للتلاعب بالشريعة ، ومن الطبيعي أن يقف منه أهل البيت (عليهم السلام) وبخاصة الإمام الصادق (عليه السلام) الذي انتشر هذا النوع من القياس على عهده ، والحق كما يقول الإمام : إن السنة إذا قيست محق الدين .
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : لو كان الدين بالرأي ، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه . وفي رواية أخرى : لو كان الدين بالقياس ، لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره . (8)
ويقول ابن مسعود : إذا قلتم في دينكم بالقياس ، أحللتم كثيرا مما حرم الله ، وحرمتم كثيرا مما حلل الله . (9)
يقول ابن عباس : إياكم والمقاييس ، فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس . (10)
وسكوت الصحابة بنفس تقريرهم السابق يكون إجماعا على إبطاله . خلاصة البحث : إن جميع ما ذكره مثبتوا القياس من الأدلة لا تنهض بإثبات الحجية له ، فنبقى نحن والشك في حجيته ، والشك في الحجية كاف للقطع بعدمها . ب - الاستحسان : تحديد الاستحسان : الاستحسان في اللغة هو : عد الشيء حسنا سواء كان الشيء من الأمور الحسية أو المعنوية (11) .
لكن تحديده لدى الأصوليين مختلف فيه جدا ، وأكثر تعاريفهم التي ذكروها أبعد ما تكون عن فن التعريف ، وهي أقرب إلى تسجيعات الأدباء التي كان يراعى فيها إخضاع المعنى للمحسنات البديعية ، منها إلى تحديدات المنطقيين . وإليكم نماذج مما ذكره السرخسي في مبسوطه من التعاريف ، يقول :
1 - الاستحسان : ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس .
2- الاستحسان :طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلي به الخاص والعام .
3 - الاستحسان : الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة .
4 - الاستحسان : الأخذ بالسماحة وانتقاء ما فيه الراحة .
وقريب منها في البعد عن الفن ما نسب إلى المالكية من أنه : الالتفات إلى المصلحة والعدل .
وهذه تعاريف أخرى تكاد تكون ذات مفاهيم محددة ، وهي ما ذكره كل من :
1 - البزدوي من الأحناف ، من أنه : العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه ، أو هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه . (12)
2 - الشاطبي من المالكية ، من أنه : العمل بأقوى الدليلين . (13)
3 - الطوخي (14) من الحنابلة في مختصره ، من أنه : العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص .
وقد ذكر له ابن قدامة معاني ثلاثة :
أحدها : العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة .
ثانيها : ما يستحسنه المجتهد بعقله .
ثالثها: دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه . وقال الشافعي : من استحسن فقد شرع . (15)
وقال مالك : الاستحسان تسعة أعشار العلم . الاستحسان - عرضة لتحكم الأهواء : وينتظم فيه من تعاريف الاستحسان أمثال قولهم : دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه . ومثل هذا النوع من الاستحسان لا يمكن عده من مصادر التشريع ، لكونه عرضة لتحكم الأهواء فيه بسبب من عدم ذكر الضوابط له ، حتى في نفس المستحسنين . دليل الاستحسان : وقد استدلوا على حجية الاستحسان بعدة أدلة ، بعضها من الكتاب ، وبعضها الآخر من السنة ، والثالث الإجماع . أما أدلتهم من الكتاب ، فأهمها :
1 - قوله تعالى : *(الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)* .
2 - قوله تعالى : *(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم)* . وأما أدلتهم من السنة : فقد استدلوا منها بما ورد عن عبد الله بن مسعود من أنه قال : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن . والإجماع : وذلك بدعوى إجماع الأمة باستحسانهم دخول الحمام وشرب الماء من أيدي السقائين ، من غير تقدير لزمان المكث وتقدير الماء والأجرة . ولكن هذا الإجماع - لو صح وجود مثله - فهو قائم على هذه الأحكام بالخصوص لا على استحسانها .
والخلاصة : إن كان المراد بالاستحسان هو خصوص الأخذ بأقوى الدليلين فهو حسن ولا مانع من الأخذ به ، إلا أن عده أصلا في مقابل الكتاب والسنة ودليل العقل لا وجه له ، وإن كان كما يقول ابن القفال : ما يقع في الوهم من استقباح الشيء واستحسانه من غير حجة دلت عليه من أصل ونظير ، فهو محظور والقول به غير سائغ (16) .
مدرسة الرأي : أصحاب الرأي : سموا أصحاب الرأي لأن أكثر عنايتهم بتحصيل وجه القياس ، والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها ، وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار . (17)
وقد قال أبو حنيفة : علمنا هذا رأي ، وهو أحسن ما قسنا عليه ، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ولنا ما رأينا . وأصحاب الرأي ، هم : أهل العراق ، وهم أصحاب أبي حنيفة النعمان ابن ثابت . ومن أصحابه : محمد بن الحسن ، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن محمد القاضي ، وزفر بن الهذيل ، والحسن بن زياد اللؤلؤي ، وابن سماعة ، وعافية القاضي ، وأبو مطيع البلخي ، وبشر المريسي .
وهؤلاء ربما يزيدون على اجتهاده اجتهادا ويخالفونه في الحكم الاجتهادي .
وأضاف ابن قتيبة في المعارف عددا آخر من أصحاب الرأي ، وهم : ابن أبي ليلى : وهو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وكان اسم أبي ليلى يسارا ، وكان فقيها مفتيا بالرأي ، ومات سنة ثمان وأربعين ومائة (148 ه) . (18)
ربيعة صاحب الرأي: هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، واسم أبي عبد الرحمن فروخ ، توفي سنة ست وثلاثين ومائة (136 ه) بالأنبار . (19)
زفر صاحب الرأي : هو زفر بن الهذيل بن قيس ، يكنى أبا الهذيل ، وكان قد سمع الحديث وغلب عليه الرأي ، ومات بالبصرة . الأوزاعي : اسمه عبد الرحمن بن عمرو ، مات ببيروت سنة سبع وخمسين ومائة (157 ه) ، وقبره لا يزال شاخصا جنوب بيروت على البحر . سفيان الثوري : وهو سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبد الله ، مات بالبصرة متواريا من السلطان سنة إحدى وستين ومائة (161 ه) . مالك بن أنس : توفي سنة تسع وسبعين ومائة (179 ه) .
أبو يوسف القاضي : هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب ، كان صاحب حديث حافظا ، ثم لزم أبا حنيفة فغلب عليه الرأي ، ومات سنة اثنتين وثمانين ومائة (182 ه) في خلافة هارون . محمد بن الحسن الفقيه : يكنى أبا عبد الله ، وهو مولى لشيبان ، جالس أبا حنيفة وسمع منه ونظر في الرأي فغلب عليه وعرف به ، مات بالري سنة تسع وثمانين ومائة (189 ه) .
المصادر :
1- الأصول العامة للفقه المقارن : 303 .
2- الأحكام ، للآمدي 3 : 3 .
3- إرشاد الفحول : 198 .
4- الفقه المقارن : 305 .
5- تأريخ الفقه الإسلامي : 29 .
6- الفقه المقارن : 351 .
7- الفقه المقارن : 329 ، وحلية الأولياء 3 : 197 .
8- الآمدي في الأحكام 3 : 83 .
9- الآمدي في الأحكام 3 : 83 .
10- الآمدي في الأحكام 3 : 85 .
11- سلم الوصول : 296 .
12- مصادر التشريع : 58 .
13- مصادر التشريع : 58 .
14- مصادر التشريع : 58 .
15- مصادر التشريع : 58 .
16- إرشاد الفحول : 241 .
17- الملل والنحل 1 : 188 .
18- المعارف لابن قتيبة : 277 - 280 .
19- رجال الكشي : 153 ، الرقم 249 .
source : راسخون