لابدّ من الالتفات إلى نقطة وهي أنّ الإمام (عليه الصلاة والسلام) كان حريصاً على أن تدرك الاُمّة كاُمّة أنّ واقع المعركة بينه وبين خصومه، بينه وبين شام معاوية ليست معركةً ما بين شخصين، بين قائدين، بين قبيلتين، وإنّما هي معركة بين الإسلام والجاهليّة. كان حريصاً على أن يفهم الناس أنّ واقع المعركة هو واقع المعركة بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والجاهليّة التي حاربته في بدرٍ واُحُد وغيرهما من الغزوات.
وكان هذا الحرص سوف يُمنى بنكسةٍ كبيرةٍ لو أنّه (عليه الصلاة والسلام) أقرّ معاوية، وأقرّ مخلّفات عثمان السياسيّة والماليّة. لو أنّه أقرَّ هذه المخلَّفات -ولو إلى برهة من الزمن- إذاً لترسّخ في ذهن الناس -وفي ذهن المسلمين بشكل عام- أنّ القصّة ليست قصّةَ معركةٍ رساليّة، وإنّما قصّة أهداف حكم: إذا انسجمت هذه الأهداف مع واقع هذه المخلّفات، إذاً ستُمضى هذه المخلّفات.
ووجدنا أنّه نما عند الاُمّة في أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) بالرغم من أنّه لم يكن يوجد له أيُّ مبرّرٍ موضوعي، وإنّما كانت له مبرّراته الذاتيّةالتي قرأناها في ما سبق.. بالرغم من أنّه لم يكن يوجد أيّ مبرّرٍ موضوعيٍّ للشكّ، وبالرغم من أنّ المبرّر الوحيد للشكّ كان مبرِّراً ذاتيّاً كما عرفنا في ما سبق، بالرغم من هذا: استفحل هذا الشكّ، وطغى هذا الشكّ، وامتُحن هذا الإمام العظيم بهذا الشكّ، ومات واستشهد والاُمّة شاكّة.
ثمّ استسلمت الاُمّة بعد هذا، وتحوّلت إلى كتلةٍ هامدةٍ بين يَدَي الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام).
هذا كلّه بالرغم من أنّ الشكَّ لم يكن له أيُّ مبرِّر موضوعي، فكيف إذا افترضنا أنّ الشكّ وُجدت له مبرّرات موضوعيّة بحسب الصورة الشكليّة للموقف؟!
كيف لو أنّ المسلمين رأوا أنّ عليَّ بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) -الذي هو رمز الاُطروحة ورمز أهداف معيَّنة- يأتي ليساوم، وليعامل، وليبيع الاُمّة -ولو مؤقّتاً- مع خيار الفسخ؟! كيف للاُمّة أن تدرك الفرق بين بيع بلا خيار الفسخ وبين بيع يكون فيه خيار الفسخ؟!
إنّ البيع على أيّ حال طبيعته [هي] البيع، وأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كانت مهمّته الكبرى هي أن يحافظ على وجود الاُمّة، على أن لا تتنازل الاُمّة عن وجودها، الاُمّة التي قالت لعمر بن الخطّاب، لأكبر خليفةٍ تولّى الحكم المنحرف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قالت لهذا الخليفة: «إذا انحرفتَ عمّا نعرف من أحكام كتاب الله وسنّة رسوله (صلّى الله عليه وآله) نقوّمك بسيوفنا».
هذه الاُمّة التي قالت هذه الكلمة بكلّ شجاعة لأكبر خليفةٍ منحرف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، هذه الاُمّة كانت قد بدأت تتنازل عن وجودها، أو بتعبيرٍ آخر: كانت هناك مؤامرات عليها لكي تتنازل عن وجودها، وكان على عليّبنأبيطالب (عليه الصلاة والسلام) أن يحافظ على هذه الاُمّة، ويحصّنها ضدّ أن تتنازل عن وجودها.
عمليّة التنازل عن الوجود كان يمثّلها معاوية بن أبي سفيان وجذور معاوية بن أبي سفيان في تاريخ الإسلام، هذا الذي عبّر عنه وقتئذٍ بأنّ الإسلام أصبح هرقليّة وكسرويّة(1).
الهرقليّة والكسرويّة كان يُكنّى [بهما] عن تنازل الاُمّة عن وجودها. يعني: تحوّلت التجربة الإسلاميّة من اُمّةٍ تحمل رسالة إلى مَلِكٍ وسلطان يحمل هذه الرسالة بمستوى وعيه لهذه الرسالة، أو إخلاصه لهذه الرسالة، سلباً وإيجاباً.
هذه المؤامرة الكبيرة التي نجحت بعد هذا، والتي تُوّجت بكلّ المآسي والمحن والكوارث التي كانت ولا تزال إلى يومنا هذا، كلّ هذه المحن والكوارث هي نتيجةُ تنازل الاُمّة عن وجودها، نتيجةُ خداع الاُمّة وتضليلها أو الضغط عليها، حتّى تنازلت عن وجودها في عقدٍ لا يقبل الفسخ.
أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أدرك الاُمّة في اللحظات الأخيرة من وجودها المستقلّ، كان يريد أن يمدّد هذا الوجود المستقلّ، أن يُشعر الاُمّة بأنّها ليست سلعةً تباع وتشترى، أنّها ليست شيئاً يساوَم عليه.
إذاً، كيف يُشعرها بأنّها ليست سلعةً تباع وتشترى إذا كان هو يبيعها ويشتريها ولو في عقود قابلة للفسخ؟!
كيف يستطيع أن يشعر الاُمّة بأنّها هي لا تُباع ولا تُشترى، ليست وفق رغبات السلاطين، ليست وفق أهواء الحكّام، وإنّما هذه الاُمّة تمثّل خلافة الله في الأرض، لأجل أن تحقّق أهداف هذه الخلافة في الأرض؟!
كيف يمكن أن يُفهِمَ الاُمّةَ ذلك إذا كان هو يبيع قطّاعاتٍ من هذه الاُمّة لحكّامٍ فجرةٍ من قبيل معاوية بن أبي سفيان في سبيل أن يسترجع هذه القطّاعات بعد ذلك؟!
بطبيعة الحال، كان هذا معناه مواكبة المؤامرة التي كانت كلُّ روح العصر تتفجر أو تتمخّض عن مثل هذه المؤامرة. هذه المؤامرة التي كانت تتمخّض عنها كلُّ روح العصر، والتي كان أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) واقفاً لأجل أن يحبطها وينقذ الاُمّة منها، لا يُمكن –بحال من الأحوال- أن نفترض أنّ الإمام (عليه الصلاة والسلام) يساهم فيها.
النقطة الرابعة: الإمام علي (عليه السلام) يقدّم الاُطروحة السليمة على طول الخطّ:
وأخيراً إنّ عليَّ بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) لم يكن يتعامل مع الفترة الزمنيّة القصيرة التي عاشها فقط، وإنّما كان يحمل هدفاً أكبر من ذلك.
أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كان يحسّ بأنّه قد أدرك المريض وهو في أواخر مرضه، قد أدركه حيث قد لا ينفع العلاج، ولكنّه كان يفكّر في أبعاد أطول وأوسع للمعركة، لم يكن يفكّر فقط في الفترة الزمنيّة التي عاشها، وإنّما كان يفكّر على مستوى آخر أوسع وأعمق ؛ حيث قلنا بأنّ الإسلام كان بحاجة إلى أن تُقدَّم له في خضمّ الانحراف اُطروحةٌ واضحةٌ صريحةٌ نقيّةٌ لا شائبة فيها ولا غموض، لا التواء فيها ولا تعقيد، لا مساومة فيها ولا نفاق ولا تدجيل.
هذه الاُطروحة كان الإسلام بحاجة إلى أن تُقدَّم إلى الاُمّة، لماذا؟
لأنّ الاُمّة كُتِب عليها أن تعيش الحكم الإسلامي المنحرف منذ نجحت السقيفة. وحيث إنّها كُتِب عليها إلى أمدٍ طويلٍ أن تعيش الحكم الإسلامي المنحرف منذ نجحت السقيفة في أهدافها، إذاً فالإسلام الذي تعطيه السقيفة في امتدادها التاريخي إسلامٌ مشوّه ممسوخ، إسلامٌ لا يحفظ الصلة العاطفيّة –فضلاً عن الفكريّة- بين الاُمّة ككلٍّ وبين الرسالة، بين أشرف رسالات السماء وهذه الاُمّة التي هي أشرف اُمم الأرض.
لا يُمكن أن تُحفظ هذه الصلة العاطفيّة والروحيّة بين الاُمّة الإسلاميّة وبين الإسلام على أساس هذا الإسلام المُعطى لهارون الرشيد ولمعاوية بنأبي سفيان ولعبد الملك بن مروان، هذا الإسلام لا يُمكن أن يحفظ هذه الصلة، فكان لابدّ لحفظ هذه الصلة بين جماهير الاُمّة الإسلاميّة وبين هذه الرسالة من إعطاء صورةٍ واضحةٍ محدّدةٍ للإسلام، وهذه الصورة اُعطيت نظريّاً على مستوى ثقافة أهل البيت، واُعطيت عمليّاً على مستوى تجربة الإمام عليٍّ (عليه الصلاة والسلام).
فكان [الإمام علي] (عليه الصلاة والسلام) في تأكيده على العناوين الأوّلية في التشريع الإسلامي، وفي تأكيده على الخطوط الرئيسيّة في الصيغة الإسلاميّة للحياة، كان في هذا يريد أن يقدّم المنهاج الإسلامي واضحاً، [غير ملوّثٍ] بلَوْثَة الانحراف التي كُتبت على تاريخ الإسلام مدّةً طويلةً.
وكان لا بدّ لكي يتحقّق هذا الهدف من أن يُعطي هذه التجربة بهذا النوع من الصفاء والنقاء والوضوح، دون أن يُعمل ما أسميناه بـ-«قوانين باب التزاحم».
وهكذا كان. وظلّ هذا الإمام العظيم (عليه الصلاة والسلام) صامداً مواجهاً لكلّ المؤامرات على الاُمّة، هذه المؤامرات التي كانت الاُمّة نفسها أيضاً تساهم في صنعها [وفي حياكتها على أساس جهلها وعدم وعيها، وعدم شعورها بالدور الحقيقي الذي يمارسه هذا الإمام في سبيل] حماية وجودها من الضياع، وحماية كرامتها من أن تتحوّل إلى سلعة تباع وتُشترى، حتّى خرّ صريعاً على يد شخصٍ من هذه الاُمّة التي ضحّى في سبيلها، خرّ صريعاً في المسجد، فقال –كما سمعنا من هذا الشيخ- :«فزت وربّ الكعبة»(2).
هل كان عليّ (عليه السلام) أسعد إنسانٍ في آخر لحظةٍ من حياته؟
تعالوا نحسب حسابَ عليٍّ وهو في آخر لحظةٍ من لحظات حياته (عليه الصلاة والسلام) حينما قال: «فزت وربّ الكعبة»، هل كان عليٌّ أسعد إنسان، أو كان عليٌّ أتعس إنسان؟!(3)
هنا مقياسان: تارةً نقيس عليّاً بمقاييس الدنيا، واُخرى نقيس عليّاً بمقاييس الله:
لو كان عليٌّ قد عمل كلّ ما عمله للدنيا، لنفسه، إذاً [فهو أتعس إنسان]، ومَن أتعس من عليٍّ الذي بنى كلّ ما بنى، وأقام كلّ ما أقام من صروح، ثمّ حُرم من كلّ هذا البناء ومن كلّ هذه الصروح!
هذا الإسلام الشامخ العظيم الذي كان يأكل الدنيا شرقاً وغرباً، هذا الإسلام بُني بدم عليّ، بُني بخفقات قلب عليّ، بُني بآلام عليّ، بُني بنار عليٍّ (عليه الصلاة والسلام)، كان عليٌّ هو شريكَ النبيّ في كلّ محن هذا البناء، في كلّ كوارث هذا البناء، في كلّ مآسي هذا البناء.
أيّ لحظةٍ محرجةٍ وجدت في تاريخ هذا البناء لم يكن عليٌّ (عليه السلام) هو الإنسان الوحيد الذي يتّجه إليه نظر النبي ونظر المسلمين جميعاً لأجل إنقاذ عمليّة البناء؟!
إذاً فعليٌّ كان هو المضحّي دائماً في سبيل هذا البناء، هو الشخص الذي أعطى ولم يبخل، الذي ضحّى ولم يتردّد، الذي كان يضع دمه على كفِّه في كلّ غزوة، في كلّ معركة، في كلّ تصعيدٍ جديدٍ لهذا العمل الإسلامي الراسخ العظيم.
إذاً، فقد اُشيدت كلّ هذه المنابر بيد علي (عليه الصلاة والسلام)، إذاً قد اتّسعت أرجاء هذه المملكة بسيف علي (عليه الصلاة والسلام)، جهاد عليٍّ كان هو القاعدة لقيام هذه الدولة واسعةِ الأطراف، لكن ماذا حصّل عليٌّ من كلّ هذا البناء بمقاييس الدنيا؟!
إذا حسبنا [بحسب] مقاييس الدنيا، [إذا حسبنا] حساب الدنيا: لو كان عليٌّ يعمل لنفسه، فماذا حصّل عليٌّ من كلّ هذه التضحيات؟ من كلّ هذه البطولات؟ ماذا حصّل غير الحرمان الطويل الطويل؟ غير الإقصاء عن حقّه الطبيعي؟!
بقطع النظر عن أيِّ نصٍّ أو تعيينٍ من الله، كان حقّه الطبيعي أن يحكم بعد أن يموت النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّه الشخص الثاني عطاءً للدعوة وتضحيةً في سبيلها. إذاً، كان من حقّه الطبيعي أن يحكم بعد النبي (صلّى الله عليه وآله)، اُقصي [عن] حقّه الطبيعي، قاسى ألوان الحرمان، اُنكرت عليه كلّ امتيازاته.
معاوية بن أبي سفيان هو الذي يقول لمحمّد بن أبي بكر: «كان عليٌّ كالنجم في السماء في أيّام رسول الله، ولكنّ أباك والفاروق ابتزّا حقّه وأخذا أمره، وبعد هذا نحن شعرنا أنّ بإمكاننا أن ندخل في ميدان المساومة مع هذا الرجل» «وقد كنّا وأبوك معنا في حياة من نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) نرى حقَّ ابن أبي طالب لازماً لنا، وفضله مبرزاً علينا، فلمّا اختار الله لنبيّه[ (صلّى الله عليه وآله)] ما عنده وأتمّ له ما وعده وأظهر دعوته وأفلج حجّته قبضه الله إليه، فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه وخالفه على ذلك... ثمّ قام بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان يهتدي بهداهما ويسير بسيرتهما.. فإن يكن ما نحن فيه صواباً فأبوك أوّله، وإن يك جوراً فأبوك أسّسه ونحن شركاؤه، وبهداه أخذنا، وبفعله اقتدينا. ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا ابنَ أبي طالب وأسلمنا له، ولكنّا رأينا أباك فعل ذلك فاحتذينا بمثاله واقتدينا بفعاله، فعب أباك ما بدا لك، أو دع، والسلام على من أناب ورجع عن غوايته وتاب» (4)
عليٌّ أيضاً يقول عن نفسه، يحدّث عن مقامه في أيّام النبي، وكيف أنّه أخذ هذا المقام يتنازل بالتدريج نتيجةً لمؤامرات الحاكمين عليه حتّى قيل: عليٌّ ومعاوية. «وهلمَّ الخطب في ابن أبي سفيان؛ فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه. ولا غرو والله! فيا له خطباً يستفرغُ العجب ويُكثر الأود»( 5)
إذاً، فعليٌّ (عليه الصلاة والسلام) حينما تحمّل، حينما واجهه عبد الرحمن بن ملجم بتلك الضربة القاتلة على رأسه الشريف، كان ماضيه كلّه ماضي حرمانٍ وألمٍ وخسارة، لم يكن قد حصل على شيء من هذا البناء العظيم العريض، لم يكن قد حصل على شيء منه.
لكنّ [الأشخاص الذين حصلوا على شيءٍ عظيم من هذا البناء هم اُولئك الذين لم يساهموا في هذا البناء] [هم اُولئك الذين كانوا يفرّون في اللحظات الحاسمة في عمليّة] هذا البناء، هم اُولئك الذين كانوا على استعدادٍ دائماً للتنازل عن مستوى هذا البناء في أيّ لحظةٍ من اللحظات، اُولئك حصلوا على مكاسب عريضةٍ من هذا البناء.
أمّا هذا الإمام الممتحن الذي لم يفرّ لحظة، الذي لم يتلكّأ في آن، الذي لم يتلعثم في قولٍ أو عمل، هذا الإمام العظيم لم يحصل على أيّ مكسبٍ من هذا البناء بأيّ شكلٍ من الأشكال!
انظروا! إنّ هذه الحادثة يمكن أن تفجّر قلب الإنسان ألماً، الإنسان غير العامل حينما ينظر في حال إنسانٍ عاملٍ على هذا الترتيب يتفجّر قلبه ألماً لحال هذا العامل المسكين، لحال هذا العامل التعيس الذي بنى فغيّر الدنيا، ثمّ لم يستفد من هذا التغيير.
ثمّ تعالوا انظروا إلى المستقبل الذي كان ينظره الإمام عليٌّ بعين الغيب. هذا ماضيه، فماذا عن مستقبله؟!
كان يرى بعين الغيب أنّ عدوّه اللدود سوف يطأ منبره، سوف يطأ مسجده، سوف ينتهك كلّ الحرمات والكرامات التي ضحّى وجاهد في سبيلها، سوف يستغلّ هذه المنابر التي شيّدت بجهاده وجهوده ودمه، سوف يستغلّها في لعنه وسبّه عشرات السنين، هو الذي كان يقول لأصحابه، كان يقول لهم، لبعض الخلّص من أصحابه: «إنّه سوف يعرض عليكم سبّي ولعني والبراءة منّي، أمّا السبُّ فسبّوني، وأمّا البراءة منّي فلا تتبرّؤوا منّي». «أمّا إنّه سيظهر عليكم بعدي رجلٌ رحْب البلعوم مندحق البطن، يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه، ولن تقتلوه. ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي، فأمّا السبُّ فسبّوني؛ فإنّه لي زكاة ولكم نجاة. وأمّا البراءة فلا تتبرّؤا منّي؛ فإنّي ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة» (6)
إذاً فهو كان ينظر بعين الغيب إلى المستقبل بهذه النظرة. لم يكن يرى في المستقبل نوعاً من التكريم يُتدارك به هذا الحرمان. كانت الأجيال التي سوف تأتي بعد أن يفارق الدنيا، هذه الأجيال كانت ضحية مؤامرةٍ اُمويّة جعلتها لا تدرك أبداً دور الإمام عليٍّ (عليه الصلاة والسلام) في بناء الإسلام.
هذا هو حرمان الماضي، وهذا هو حرمان المستقبل. وبالرغم من كلّ هذا قال (عليه الصلاة والسلام): «فزت وربّ الكعبة».
حينما أدرك أنّها اللحظة الأخيرة، وأنّه انتهى خطُّ جهاده وهو في قِمّة جهاده، وانتهى خطُّ محنته وهو في قمّة صلاته وعبادته، قال: «فزت وربّ الكعبة»؛ لأنّه لم يكن إنسان الدنيا، ولو كان إنسان الدنيا لكان أتعس إنسانٍ على الإطلاق، لو كان إنسان الدنيا لكان قلبه يتفجّر ألماً وكان قلبه يتفجّر حسرةً، ولكنّه لم يكن إنسان الدنيا. لو كان إنسان الدنيا فسوف يندم ندماً لا ينفعه معه شيء؛ لأنّه بنى شيئاً ثمّ انقلب عليه هذا العبرة التي يجب أن نأخذها:
هذه هي العبرة التي يجب أن نأخذها. نحن يجب أن نستشعر دائماً أنّ السعادة في عمل العامل لا تنبع من المكاسب التي تعود إليه نتيجةً لهذا العمل، يجب أن لا نقيّم سعادة العامل على أساس المكاسب التي تعود إلينا نتيجة لهذا العمل؛ لأنّنا لو قيّمناه على هذا الأساس فقد يكون حظّنا كحظّ هذا الإمام من دنياه؛ حيث إنّه بنى إسلاماً، غيّر دنيا، ووجّه اُمّة، ثمّ بعد هذا انقلبت عليه هذه الاُمّة لتلعنه على المنابر ألف شهر.
نحن يجب أن لا نجعل مقياس سعادة العامل في عمله هو المكاسب والفوائد التي تنجم عن هذا العمل، وإنّما رضا الله سبحانه وتعالى، وإنّما نجعل المقياس حقّانيّة العمل، كون العمل حقّاً، وكفى.
وحينئذٍ سوف نكون سعداء، سواءٌ أثّر عملنا أم لم يؤثّر، سواء قدّر الناس عملنا أم لم يقدّروا، سواء رمونا باللعن أو بالحجارة [أم لم يفعلوا]، على أيّ حالٍ سوف نستقبل الله سبحانه وتعالى ونحن سعداء؛ لأنّنا أدّينا حقّنا
وواجبنا، وهناك من لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا .
لئن ضيّع هؤلاء السعادة، ولئن ضيّعوا فهمهم، ولئن استولى عليهم الغباء فخلطوا بين عليٍّ وعمر وبين عليٍّ ومعاوية، لئن انصرفوا عن عليّ (عليه السلام) وهم في قمّة الحاجة إليه، فهناك من لا يختلط عليه الحال، من يميّز بين عليٍّ (عليه السلام) وبين أيّ شخصٍ آخر، هناك من أعطى لعليٍّ (عليه السلام) نتيجةً لعملٍ واحدٍ من أعماله مثلَ عبادة الثقلين، ذاك هو الحقّ، وتلك هي السعادة.
اللهمّ احشرنا معه، واجعلنا من شيعته والمترسّمين خطاه، والحمد لله ربّ العالمين.
المصادر :
1- الإمامة والسياسة 196 :1/المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك 299 :5؛ البداية والنهاية 8:89
2- (3) الإمامة والسياسة 180 :1؛ أنساب الأشراف 488 :2؛ شرح نهج البلاغة 207 :9.
3- المدرسة القرآنيّة: 201؛ ومضات: 41.الشهید الصدر قدس سره
4- وقعة صفّين: 120 – 121؛ مروج الذهب 12 :3؛ شرح نهج البلاغة 190 :3.
5- نهج البلاغة: 231 – 232، الخطبة 162. / حديقة الشيعة:208؛ منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 8 :10؛ مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة 522 :3/ نهج البلاغة: 49، الخطبة 3.
6- نهج البلاغة: 92، الخطبة 57.