عربي
Friday 15th of November 2024
0
نفر 0

من هو الصحابي

من هو الصحابي

اختلفت الأقوال في حد الصحبة ومن هو الصحابي فقيل :من صحب النبي أو رآه من المسلمين ، فهو من أصحابه .
وإليه ذهب البخاري في صحيحه وسبقه إليه شيخه علي بن المديني وقال : من صحب النبي صلّى الله عليه وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحابه .
وهذا التعريف ينطق على المرتدين في حياة التبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعده ، وعلى كلّ راء له ، وإن لم يعقل ، وهذا أمر لا يقره العقل ، والوجدان ، فإن الردة محبطة للعمل ، فلا مجال لبقاء سمة الصحبة ، وقد ذهب أبو حنيفة إلى الإحباط ، ونصّ عليه الشافعي في ( الام ) .
وقال الزين العراقي : الصحابي من لقي النبي مسلماً ثم مات على الإسلام .
وقال سعيد بن المسيب : من قام مع النبي سنة كاملة ، أو غزا معه غزوة واحدة .
وهذا القول لم يعملوا به لأنه يخرج بعض الصحابة الذين لم تطل مدّتهم مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ، ولم يغزوا معه .
قال ابن حجر : والعمل على غير هذا القول (1) .
وحكى ابن الحاجب قولاً لعمر بن يحيى أنه يشترط في الصحابي طول الصحبة ، والأخذ عنه (2) .
كما أنهم جعلوا من الصحابة من لم ير النبي صلّى الله عليه وآله وهو مسلم له ، أو له رؤية قصيرة .
ومهما تكن الأقوال ، والتعاريف فإن هذا الاسم يطلق على كل من سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أو رآه من المسلمين مطلقاً ، وهم كلّهم عدول عندهم ، وما صدر منهم يحتمل لهم بحجة أنهم مجتهدون .
وهذه هي النقطه الجوهرية التي وقع الاختلاف فيها ، إذ الشيعة لا يذهبون لهذا القول فلا يثبتون العدالة إلا لمن اتصف بها ، وكانت فيه تلك الملكة ، وأصالة العدالة لكل صحابي لا دليل عليه ، ولا يمكن إثباته .
فالشيعة تناقش أعمال ذوي الشذوذ منهم بحرية فكر ، وتزن كل واحد منهم بميزان عمله ، فلا ( يوادّون من حاد الله ورسوله ) ويتبرأون ممن ( اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله ) .
والشيعة لا يخالفون كتاب الله ، وسنة رسوله ، وعمل السلف الصالح في تمييز الصحابة ، ومن هو مصداق هذا الاسم حقيقة .
ومن هذا فتحت على الشيعة باب الاتهامات الكاذبة ، وقد لفقها خصومهم ، ولو كان هناك صبابة إنصاف ، ومسكة من عقل ، وقليل من تتبع ، وإعطاء الفكر حريته ، لما وقعت تلك الملابسات ، وحلت تلك المشاكل .
ومن الغريب أن تتهم الشيعة بسب الصحابة ، والطعن عليهم أجمع ، وبذرة التشيّع نشأت في مجتمع الصحابة ، ومنهم أبطال التشيع ، وحاملو دعوته ، وهم الذين عرفوا بالولاء لعليّ عليه السّلام ، وناصروه في حربه لمن بغى عليه ، وهم خيار الأئمة(3).

الأخذ بعدالة جميع الصحابة

وإذا كان الجمهور على أنّ الصحابة كلّهم عدول ولم يقبلوا الجرح والتعديل فيهم كما قبلوه في سائر الرواة ، واعتبروهم جميعاً معصومين من الخطأ ، والسهو ، والنسيان ، فإنّ هناك كثيراً من المحقّقين لم يأخذوا بهذه العدالة (المطلقة ) لجميع الصحابة ، وإنما قالوا كما قال العلامة المقبلي إنها ( أغلبية ) لا عامة وإنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الغلط ، والسهو ، والنسيان ، بل والهوى ، ويؤيدون رأيهم بأن الصحابة إن هم إلاّ بشر يقع منهم ما يقع من غيرهم ، ممّا يرجع إلى الطبيعة البشرية .
وإن سيّدهم الّذي اصطفاه الله صلوات الله عليه « والله أعلم حيث يجعل رسالته » قد قال :
« أنا بشر أصيب وأخطىء » .
ويعزون حكمهم بمن كان منهم في عهده صلوات الله عليه من المنافقين ، والكاذبين . وبأنّ كثيراً منهم قد ارتدوا عن دينهم بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى ، بل ما وغع منهم من الحروب والفتن التي أهلكت الحرث ، والنسل ، ولا تزال آثارها ـ ولّما تزل ـ إلى اليوم ، وما بعد اليوم ، وكأن الرسول صلوات الله عليه قد رأى بعين بصيرته النافذة ما سيقع من أصحابه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى .
فقال في حجة الوداع : « لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض » .
وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي قال :
« إنكم تحشرون حفاة عراة وإنّ أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال .
فأقول : أصحابي ! أصحابي ! فيقول إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم .
فأقول : كما قال العبد الصالح :
( وكنت شهيداً عليهم ما دمت فيهم ) » .
وروى مسلم هذا الحديث بلفظ : « ليردن علّي ناس من أصحابي حتى إذا عرفتهم اختلجوا من دوني فأقول : أصحابي! فيقول : لا تدري ماذا أحدثوا بعدك » .
وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال : « بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم ، خرج رجل من بيني ، وبينهم قال : هلم : قلت أين ؟ قال : إلى النار والله ، قلت وما شأنهم ؟ قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم » (همل النعم : الإبل بلا راع أي لا يخلص منهم من النار إلاّ قليل .) .
وفي رواية أخرى أنّ النّبي قال :
« يرد علّي يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلأون عن الحوض ، فأقول :
يا رب أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم أرتدوا على أدبارهم القهقرى » .
وأخرج عن سهل بن سعد قال : قال النّبي : « ليوردن علّي أقوام أعرفهم ، ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم » .
قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال :
هكذا سمعت من سهل ؟! فقلت نعم .
فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته ـ وهو يزيد فيها ـ فأقول :
إنهم منّي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول :
« سحقاً ، سحقاً لمن غير بعدي ! » .
واخرج من حديث عن ابن عباس جاء فيه :
وأن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول :
أصحابي ! أصحابي ! فيقال :
إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ...» الحديث .
أخرج ابو يعقوب عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة ، أنه كان يحدّث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : يرد عليّ يوم القيامة رهط (الرهط : الرجال ما دون العشرة ، وقيل إلى الأربعين عن هامش مسند عمر بن الخطاب ص 86 ط بيروت) من اصحابي فيجلون عن الحوض ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى . ( مسند عمر ص 86 ط بيروت ) .
وأخرج أبو يعقوب عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : ليذادن (ليذادن : من الذود وهو الطرد ، لأذودن : لأطردن عن هامش مسند عمر بن الخطاب ص 87 ط بيروت) رجال عن حوض كما يذاد البعير الضّال ، أناديهم
ألا هلّم ، فيقال : إنهم قد بدّلوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً (أي بعداً بعداً) . (4) .
وأخرج أبو يعقوب بن شيبة عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، قال : قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطيباً فحمد الله عزّ وجلّ وأثنى عليه ثم ذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال :
لألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول :
يا رسول الله أغثني ، أقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك ، لألفيّن أحدكما يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك ، لألفين أحدكما يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة يقول : يا رسول الله أغثني أقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك ، لألفين أحدكما يجيء يوم القيامة على رقبته صامت يقول : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغثني ، أقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك ، لألفين أحدكما يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح يقول : يا رسول الله أغثني . أقول : لا املك لك شيئاً قد أبلغتك ، لألفين أحدكما يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك (رواه البخاري في صحيحه ، كتاب الجهاد والسير ، باب الغلول وقول الله تعالى ( ومن يغلل يأت بما غلّ) . (5) .
وأخرج أبو يعقوب عن ابن أبي مليكة ، عن أسماء أبنة أبي بكر ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنا على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم وسيؤخذ بأناس دوني فأقول : أي ربّ منّي ومن أمتي فيقال : ما شعرت ما عملوا بعدك ، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم . قال : فكان ابن أبي مليكة يقول :
اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على اعقابنا ، وأن نفتتن في ديننا . ( مسند عمر ص 92 ط بيروت ) .
واخرج البخاري أيضاً في باب غزوة الحديبية عن العلاء بن المسيب عن أبيه .
قال : لقيت البراء بن عازب فقلت له :
« طوبى لك ، صحبت النبي صلى الله عليه وسلم ، وبايعته تحت الشجرة فقال ؟
يابن أخي : إنك لا تدري ما أحدثنا بعده ! » .
وأخرج عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلم : « أنا فرطكم على الحوظ وليرفعن رجال منكم ، ثم ليختلجن دوني ، فأقول :
يا رب أصحابي ! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك » .
قال البخاري : تابعه عاصم عن أبي وائل ، وقال حصين عن أبي وائل ، عن حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وسلم .
واخرج عن أسماء بنت أبي بكر قالت :
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم :
« إنّي على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم ، وسيؤخذ ناس دوني فأقول :
يا رب منّي ، ومن أمتي ؟ فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك ؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم » .
قال البخاري : فكان ابن مليكة يقول :
« اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا ، ونفتن عن ديننا ! » .
هذا بعض ما نقلناه من البخاري ، ومسلم وفيهما وفي غيرهما كثير أعرضنا عنه خشية التطويل (6) .

مسألة الصحابة

وعلى أي حال فإن فروض المسألة ثلاثة :
الأول : إن الصحابة كلهم عدول أجمعين ، وما صدر منهم يحتمل لهم ، وهم مجتهدون ، وهذا هو رأي الجمهور من السنة .
الثاني : أن الصحابة كغيرهم من الرجال وفيهم العدول ، وفيهم الفسّاق ، فهم يوزنون بأعمالهم ، فالمحسن يجازى لإحسانه ، والمسيء يؤخذ بإساءته .
وهذا رأي الشيعة .
الثالث : إنّ جميع الصحابة كفار ـ والعياذ بالله ـ وهذا رأي الخارجين عن الإسلام ولا يقوله إلا كافر ، وليس من الإسلام في شيء .
هذه ثلاثة فروض للمسألة وهنا لا بدّ أن نقف مليّاً لنفحص هذه الأقوال :
أمّا القول الثالث فباطل بالإجماع ولم يقل به إلاّ أعداء الإسلام ، أو الدخلاء فيه .
وأمّا القول الأول وهو أشبه شيء بادعاء العصمة للصحابة ، أو سقوط التكاليف عنهم ، وهذا شيء لا يقرّه الإسلام ، ولا تشمله تعاليمه .
بقي القول الوسط وهو ما تذهب إليه الشيعة ، من اعتبار منازل الصحابة حسب الأعمال ، ودرجة الإيمان .
إنّ الصحبة شاملة لكلّ من صحب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أو رآه ، أو سمع حديثه .
فهي تشمل المؤمن ، والمنافق ، والعادل ، والفاسق ، والبّر ، والفاجر ، كما يدّل عليه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك عندما أخبره جبرئيل بما قاله المنافقون :
إن محمداً يخبر بأخبار السّمآء ولا يعلم الطريق إلى الماء ، فشكا ذلك إلى سعد بن عبادة فقال له سعد : إن شئت ضربت أعناقهم .
قال صلّى الله عليه وآله وسلم : « لا يتحدّث الناس أنّ محّمداً يقتل أصحابه ولكن نحسن صحبتهم ما أقاموا معنا » .
فالصحبة إذن لم تكن بمجردها عاصمة تلبس صاحبها ابراد العدالة ، وإنما تختلف منازلهم وتتفاوت درجاتهم بالأعمال .
ولنا في كتاب الله ، واحاديث رسوله صلّى الله عليه وآله كفاية عن التمحل في الاستدلال على ما نقوله ، والآثار شاهدة على ما نذهب إليه ، من شمول الصحبة وأن فيهم العدول من الذّين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، ورسخت أقدامهم في العقيدة ، وجرى الإيمان في عروقهم ، وأخلصوا لله فكانوا بأعلى درجة من الكمال ، وقد وصفهم الله تعالى بقوله : ( أشدّاء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات منهم مغفرة واجراً عظيماً ) (7) .
وهم المؤمنون ( الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) (8) .
وقد أمر الله تعالى باتباعهم والاقتداء بهم بقوله تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) (9)
( والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ) (10) .
هؤلاء هم أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله ومن يستطيع أن يقول فيهم ما لا يرضى الله تعالى ويخالف قوله (11) .
بحث قيم في الاختلاف
عقد الإمام المقبلي (هو الشيخ صالح مهدي المقبلي من علماء اليمن المجتهدين توفي سنة ( 1108 هـ ) كان في الأصل على مذهب الزيدية ، ثم طلب الحق بعدم التقليد فانتهى إلى ترك التمذهب ، وقبول الحق الذي يقوم على الدليل ، وقد شهد له الإمام الشوكاني بالاجتهاد المطلق ، رحمه الله ورضي عنه .) في كتابه : « العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ » فصلاً قّيماُ عرض فيه لأمر الاختلاف في الدين ، واستطرد لأمر الصحابة ، وعدالتهم ، نأتي به هنا ببعض اختصار لما فيه من الفوائد الجزيلة ، والقواعد الجليلة .
نوّه الله سبحانه بالاختلاف في الدين ، وكرّر ذلك في كتابه العزيز لعلمه سبحانه وتعالى بضرره في الدنيا، وكم كرّر ذلك في بني إسرائيل قائلاً :
( وما تفرّقوا الاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ) ونحوها ، وصدق الله تعالى ، ما وجدنا الخلاف إلاّ في محل قد تبيّن الحق فيه . وقد تمّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فنهى رسول الله عن مظان الخلاف ، وحذر منها كالجدل في القدر . وقال تعالى :
( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) .
وقال رسول الله : « اتركوني ما تركتكم » ، وكمل الله سبحانه الدين على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم فلم يبق شيء يقرّبنا إلى الجنة إلاّ بينّه لنا ، ولا شيء يقربنا إلى النار إلاّ بينه ، وما عفا الله عنه ، وسكت عنه رسوله ، فلا يريد الله أن نبحث عنه بمجرد عقولنا القاصرة ، فإنها إنما جعلت الدنيا في قدر محدود في علمه سبحانه ، وجاءت الرسل بتتميم ما تتم به النعمة ، وتؤكد الحجة ، فما عدا ذلك فضول يخاف ضرره ولا يرجى نفعه ، وقد قام بمراد الله في ذلك خير القرون فكانوا يحاذرون الاختلاف أشد المحاذرة وما فرظ منهم تلافوه أشدّ التلافي ، ولم يصروا على ما فعلوه وهم يعلمون . كما كان من طلحة والزبير ، وعائشة رضي الله عنهم .
ولقد صبر من بقي من الصحابة بعد خلافة النبوة على أمراء الجور أشدّ الصبر إلى أن ظهرت البدع بسبب التنقير عما سكت الله عنه ، ورسوله ، ولو كان لهم من ذلك خير لوقفهم الله على تلك المطالب على لسان رسوله ، ولم يتركهم يتخبّطون .
ثم حدثت بين المسلمين أنفسهم نوادر كالكلام في القدر ، ومسألة خلق القرآن ، والتعرض لما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم ، واتصل بذلك المناظرة عند الملوك والامراء وصارت عصبية ، والدعوى من الجانبين أن ذلك تدين ، وما هو إلاّ أنهم لمّا تعدّوا طورهم ، ولم يقفوا على حدّهم الذي وقفهم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم عليه ، تركهم الله وشأنهم ولبسهم شيعاً ، وأذاق بعضهم باس بعض ، فكان خليفة يوافق هؤلاء فيذيق مخالفيهم العذاب الأليم ، ويخلفه الآخر ، وينقض ما فعله الأول وينكل بهؤلاء ، ويوطىء شأن هؤلاء حتى استحكم الشرّ ، وصار الناس شيعاً .
نجد أحدهم ينتقل من مذهب إلى آخر بسبب شيخ ، أو دولة ، أو غير ذلك من الأسباب الدنيوية ، والعصبيّة الطبيعيّة كما رووا أنّ ابن عبد الحكم أراد مجلس الشافعي بعد موته فقيل له ، قال الشافعي :
الربيع أحق بمجلسي ، فغضب وتمذهب لمالك ، وصنف كتاباً سمّاه :
( الرد على محمد بن إريس فيما خالف فيه الكتاب والسنة ) .
هكذا ذكره ابن السبكي .
وقد علم الله والراسخون في العلم أن الحق لم يكن برمته عند فرقة ، والباطل عند البواقي ، ولكن الحق والحمد لله لا يخرج عن مجموعهم ، وما الحق كلّه إلاّ عند من بقي على ما كان النبي صلّى الله عليه وسلم ، ولا بدّ له من الخطأ في اجتهاداته في المسائل المعفوّ عن الخطأ فيها ، لا في المهمّات .
وقل لي : من ذا الّذي وقف على ما وقف ، وقنع بما جاء عن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم ولم يتمذهب ، ويؤثر الأسلاف على الكتاب والسنة ، ويترك هذا الداء الدويّ ، ويتمسك بالإنصاف فيما يأتي ويذر ؟ لا والله ما أعرف أحداً في هذه الكتب التي طبقت البسيطة إلاّ وقد تخبط وخلط ، وتعسف لمذهبه وما أنصف ، وردّ كتاب الله تعالى إلى عقيدته وحرّف !
وبعد أن تكلم عن أحوال المتكلمين ، أخذ يبينّ أحوال المحدثين فقال :
وهؤلاء المحدّثون الذين يزعمون الثبوت على السّنة ، وينهون عن الكلام(أي علم الكلام) قد سرت فيهم المفسدة أكثر منها في غيرهم ، لأنهم قاعدون في طريق الشريعة ، والمفسدة والحرب ، والفتك ، والحيات ، والعقارب ، والسموم ، والسباع في الجادة أعظم ضرراً منها في ثنيات الطريق ، مع أن داءهم جاء من الخوض في الكلام ، وصاروا أشد عصبية من المتكلمين ، لأن المتكلمين بنوا أمرهم على التفتيش ، وأن لا يلام الطالب على المباحثة وإيراد الأسئلة ، واختراع التعليلات ، بل يعدون ذلك ظرافة وكمالاً ، فربما انكشف للمتأخر مع تعاقب الأنظار تقارب كلام الفريقين ونحو ذلك ، كما انكشف لأتباع الأشعري بطلان الجبر ، ثم تشبّثوا بالكسب ، ثم تبين عواره ، فصاروا إلى مذهب المعتزلة من حيث المعنى كما مضى ، وليس ثبوت الاختيار يختص بالمعتزلة حتى ينفر منه ، إنما هو دين الله وحجته .
فمن حقّق من المتأخرين هون ما عظم سلفه ، ولانت عريكته .
وأمّا المحدّثون فإنما أخذوا شيئأ بأول رؤية ، ثم لم ينقروا كأن ذلك بدعة وصدقوا ، ولكنه بدعة من أوله إلى آخره ، فما لهم دخلوا فيه ! كأن دخولهم من غير نيّة ، لكن دس لهم الشيطان :
أنتم أهل السنة فمن يذب عنها إن تركتم هؤلاء ؟ فلا هم اقتصروا على ما هم عليه ولا هم بلغوا إلى مقاصد القوم ليتمكنوا من الرد عليهم !
هذا الإمام أحمد حفظه للسنة ، وتقدمه وتجريده نفسه لله سبحانه وتعالى لا يجهل ، لكنه لما تكلم في مسألة خلق القرآن وابتلي بسببها ، جعلها عديل التوحيد أو زاد ! حتى إنه بلغه أن محمد بن هارون قال لإسماعيل بن علية :
يابن الفاعلة ! قلت : القرآن مخلوق ! أو نحو هذه العبارة !
قال أحمد : لعلّ الله يغفر له ، يعني محمد بن هارون ، وكان اسماعيل بن علية أحق أن يرجو له أحمد ، لأنه إمام مثله علماً وورعاً ، وإن فرض خطؤه فيما زعم أحمد ، فعفو الله أوسع ، وما خطؤه فيها كمن يقعد في الخلافة خالياً عن صفاتها ويعوث (عثى يعثي وعثاً وفيه لغة أخرى عاث يعيث وهو أشدّ الفساد ص 43 من كتاب « القرملين ») في الدماء ، والأموال ! .
غفر الله لأحمد ، لقد بلغ في هذه امسألة ما أمكنة من التعصب ، حتى صار يرد كل من خالفه فيها ولا يقبل روايته ، وهذه خيانة للسند ، فإن الّذي أوجب قبول خبر العدول ، يوجب قبول خبر هذا ، وها هو ذا يقول : نروي عن القدريّة .
ولو فتشت البصرة وجدت ثلثهم قدرية . هكذا في تهذيب المزي وغيره .
وهذه المسألة لا تزيد على القدر لو كان للخلاف في المسألتين استقرار ، بل زاد فصار يرد الواقف ويقول :
« فلان واقفي( الواقف هو الذي يتكلم في مسألة خلق القرآن) مشموم » بل غلا وزاد وقال : لا أحب الرواية عمن أجاب في المحنة كيحيى بن معين . مع أن أحمد ليس من المتعنتين ، ولا من المتشددين .
فمن شيوخه : عامر بن صالح بن عبدالله بن عروة بن الزبير بن العوّام .
قال فيه النسائي : ليس بثقة ، وقال الدار قطني بتركه . وقال ابن معين :
كذّاب خبيث عدوّ الله ، ليس بشيء وقال : جنَّ أحمد ، يحدث عن عامر بن صالح ؟ وقال الذهبي : واهن . لعلّ ما روى أحمد عن أحد أوهى منه ، مع غلّو الذهبي ، في أحمد ورؤيته له بعين الرضا ، وعلى الجملة فلا يشك أن رواته لم يكن فيهم بالشحيح ، إلاّ أن يكون من قبيل مسألة القرآن . فيا هذا ما الذّي عندك في القرآن والسنة .
إن القرآن ليس بمخلوق ؟ أو أنه مخلوق ؟ وبحثك ، وبحث غيرك كلاهما بدعة ! والله وصف القرآن بأنه قرآن عربّي ( غير ذي عوج ) وقال :
جعلناه ، ونزلناه ، وفصلناه ، ولم يقل خلقناه ، ولم يقل ليس بمخلوق .
فمن أين جئت بهذه السنة .
ولمّا أجاب علي بن المديني الذي قال البخاري:
ما أستحقر نفسي عند أحد إلاّ عنده فأجاب في المحنة فتكلموا فيه ، مع أنه عذر له ، لو أجاب في الترك ، كيف مسألة خلق القرآن حتى تحاماه بذلك مسلم مع تساهله في رجاله .
وأعجب من هذا أن الذابين عن علي بن المديني لم يجدوا من الذب إلا قولهم :
روى عنه فلان ، وروى عنه فلان أنه قال :
من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر ! ومن قال : إن الله لا يرى فقد كفر !
فهذا التنزيه إن صح هو الذي ينقم عليه به لأنه تكفير مسلم يبوء به أحدهما من غير دليل ، وكيف وما سلم من هذا التكفير أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها ومن وافقها من الصحابة والتابعين في نفي الرؤية ـ ولكن المحدّثين لم يعرفوا مقدار الخطأ في الكلام ، لأنه غير صنعتهم ـ وكل صاحب سلعة لا يعرض إلا سلعته ، فنقر عن هذا المعنى وخذ في كل فن عن أئمته ، وإياك والدخيل فيه ـ وتراهم يكررونه فمن أرادوا تنزيهه ، أومدحه قالوا :
من قال : القرآن مخلوق فهو كافر ـ ذكروا هذا في جماعة ، منهم ابن لهيعة وغيره بل قالوا : ترك المحاسبي ميراث أبيه وقال :
أهل ملتين لا يتوارث لأن أباه كان واقفيّاً .
وقال يحيى بن معين أمير الجرح والتعديل :
كان عمرو بن عبيد دهرياً ! قيل : وما الدهري ؟ قال : يقول : لا شيء ... وما كان عمرو هكذا .
فلو طلبت أعظم المتكلين ، بل القصاص المجازفين لا تكاد تجد من يتجاسر هذا التجاسر على رجل علمه ، وزهده ، وتألهه ، مثل الشمس في الضحى ، وقد تبعه شطر هذه البسيطة .
وقال يحيى بن معين في عنبسة بن سعيد بن العاص بن أمية ثقة ـ وهو جليس الحجاج بن يوسف ، وكذا قال النسائي ، وأبو داود ، والدارقطني ، بل روى له البخاري ومسلم ، وروى البخاري لمروان بن الحكم الذي رمى طلحة وهو في جيشه والمتسبب في خروجه على عليّ ، وفعل كل طامّة .
وقال ابن حجر العسقلاني وهو إمام المتأخرين ( كامل ) في ترجمة مروان :
إذا ثبتت صحبته لم يؤثر الطعن فيه !!
كأن الصحبته نبوّة ، أو أن الصحابي معصوم! وهو تقليد في التحقيق بعد أن صارت عدالة الصحابة مسلّم بها عند الجمهور .
والحق أن المراد بذلك ( الغلبة ) فقط ، فإن الثناء من الله تعالى ورسوله ـ وهو الدليل على عدالتهم ـ لم يتناول الأفراد بالنصوصية إنّما غايته عموم ، مع أن دليل شمول الصحبة لمطلق الرأي ونحوه ركيك جداُ ، وليت شعري من المخاطب الموصي ؟ وهل هو عين الموصى به في نحو قوله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهباً لم يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه .
فانظر أسباب تلك الأحاديث وهو وقوع شيء من متأخري الإسلام في حق بعض السابقين ، كما قال لعمار رضي الله عنه أيسبني هذا العبد ! .
المصادر :
1- المواهب شرح الزرقاني 8 / 26 .
2- شرح ألفية العراقي : 4/ 32 .
3- الإمام الصادق والمذهب الأربعة : 1 / 599 ـ 601 .
4- مسند عمر ص 87
5- مسند عمر بن الخطاب ص 87 ط بيروت
6- أضواء على السنة المحمدية ص 353 ـ 356 ط . دار المعارف بمصر .
7- سورة الفتح : الآية 29 .
8- سورة الحجرات : الآية 15 .
9- سورة التوبة : الآية 119 .
10- سورة التوبة : الآية 100 .
11- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : 1/ 592 ط بيروت .

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الحب بعد الأربعين
العفة أفضل العبادات
القران الثقل الاکبر
مختصر من حياة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء ...
طلب الحلال
الفتح المبين في ثورة الحسين عليه السلام
ضرورية الحكم الإسلامي زمن الغيبة الكبرى
الوقف فی الإسلام (4)
مکاتبات علي عليه السلام ومعاوية
السر في مُطالبة فاطمة الزهراء (ع) بفدك

 
user comment