الحمد للّه الاَوّل فلا شيء قبله، و الآخر فلا شيء بعده، الظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه، و هو القائل عزّاسمه و علا سلطانه " هو الاَوّل والآخر والظاهر والباطن و هو بكل شيء عليم"والصّلاة و السّلام على أشرف خليقته، و خاتم رسله و أنبيائه محمّد أمين وحيه ورسالاته، وعلى آله الّذين هم موضع سرّه، و عيبة علمه، و موئل حِكَمه صلاة طيّبة ، لا يحصيها العادّون.
أمّا بعد: فانّ اللّه سبحانه بعث رسوله الخاتم لاِنجاز عدته، و إتمام نبوّته، مأخوذاً على النبيّين ميثاقه، مشهورةً سماته، كريماً ميلاده، وأهل الاَرض يومئذ مِلل متفرّقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتّتة، بين مشبِّهٍ للّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشيرٍ إلى غيره، فهداهم من الضلالة ، وأنقذهم من الجهالة.(1)
بعثه سبحانه بمعجزته الخالدة، فيها هدىً و نور، وشفاء لما في الصدور، ولمتزل تشع نوراً و رحمة، و سيباً و عطاءً لمن أنس بها و درسها، و خالطت جسمه و روحه و قلبه و دمه.
إنّ القرآن المجيد هو المعجزة الباقية عبر القرون إلى يوم القيامة، مشتملة على معارف و حقائق لم تكن في زبر الاَوّلين، و لم تتجاوز عنها عباقرة المتأخرين،يقف و بناءً على ذلك فمن قرأالقرآن و تدبّر، وتلا آياته و فكّر، أحسّ ـ عند ذاك ـ أنّه أمام بحر ليس له ساحل.
و إنّ من أبرز تعاليمه العالية ما أتى به حول التوحيد و الشرك، و التنزيه و التشبيه، و ربما يدور معظمها حول كلمات ثلاث، أعني: الاِله ، و الربّ، و العبادة.
و لمّا كان لها هذا الشأن العظيم ، فجدير بالمسلم الواعي أن يقف على معانيها، و يحلّلها حسب ما ورد في القرآن الكريم، ويزيل عنها الاَغشية التي أحاطت بها عبر تمادي القرون.
العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ لصدوره من الاِنسان من داعٍ وباعثٍ فما هو الداعي الصحيح لها؟
الجواب: العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ من وجود داع إليه و يمكن أن يكون الباعث أحد الاَمور الثلاثة التالية:
1- الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه
وهذا هو الداعي العام في غالب الناس وقد أُشير إليهما في مجموعة منالآيات:
قال سبحانه: " تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبُّهُمْ خَوفاً وَطَمعاً" (2) وقال عزّمن قائل: "وَادْعُوهُ خَوفاً وَطَمعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنينَ" (3)
وقال عزّمن قائل: "أُولئِك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً" (4)
ومع هذه النصوص الرائعة الصريحة في تجويز عبادة اللّه بهذين الداعيين، نرى أنّ بعض المتكلّمين يرفضون هذا النوع من الداعي، و يُصرّون على لزوم خلوص العبادة من أيّ داع نفساني من غير فرق بين الطمع في رحمته، أو الخوف من ناره و يبطلون العبادة إذا كانت ناشئة عن هذين المبدئين.
لا شكّ أنّ العبادة لاَجل كمال المعبود وجماله من أفضل العبادات، و لكنّها غاية لا يصل إليها إلاّ من ارتاض في ميدان العبادة حتى ينسى نفسه ولا يرى إلاّمعبوده، و أين تلك الاَمنية من متناول أغلبية الناس الذين تهمهم أنفسهم لاغير، و إن أطاعوه فلاَجل الخوف.
وإليك حديثين رائعين عن أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام :
قال أمير الموَمنين - عليه السلام - : إنّقوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار، و إنّ قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الاَحرار.(5)
وقال الاِمام الصادق - عليه السلام - : العبادة ثلاثة، قوم عبدوا اللّه عزّو جلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاَجراء، و قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الاَحرار، وهي أفضل العبادة.(6)
2- كونه سبحانه أهلاً للعبادة
أن يعبد اللّه بما أنّه أهل لاَن يُعبد، لكونه جامعاً لصفات الكمال و الجمال، و هذا النوع من الداعي يختص بالمخلصين من عباده الّذين لا يرون لاَنفسهم إنّية، و لا لذواتهم أمام خالقهم شخصية، إندكت أنفسهم في ذات اللّه فلا ينظرون إلى شيء إلاّ و يرون اللّه قبله و معه و بعده، فهم المخلَصون الّذين لا يطمع الشيطان في إغوائهم قال سبحانه حاكياً عن إبليس: "وَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ"(7) قال سيد الموحدين علي - عليه السلام - :«ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك و لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك.(8)
المصادر :
1- ( اقتباس من خطبة الاِمام أمير المؤمنين 7 ، رقم 1 .
2- (السجدة|16)
3- (الاَعراف|56).
4- (الاِسراء|57).
5- ) نهج البلاغة، قسم الحكم برقم 237.
6- (2) الحر العاملي: وسائل الشيعة ج1|44، ب 8 من أبواب المقدمة ، الحديث 8.
7- (الحجر|19ـ40)
8- المجلسي: مرآة العقول ، ج8، ص89: باب النيّة.