يجري في أوساط المثقفين اليوم حوار كثير حول المرجعية والحوزة العلمية ودور العلماء في المجتمع.لكي نعرف قيمة الدور الذي نهض به العلماء في تاريخنا السياسي والفكري المعاصر، لابد ان نشير اشارة سريعة الى المؤامرات الكبرى التي حلت بالاسلام والمسلمين في تاريخنا الفكري والسياسي المعاصروالقريب منه... عندئذ نستطيع ان نقيم الدور الذي نهض به العلماء في هذه المرحلة من التاريخ،ونحدد اسلوب النقد الذي نسمح به لانفسنا في نقد نقاط الضعف الموجودة في هذه المؤسسة.
وهذه المؤامرات هي:
1- التحريف.
2- التغريب.
3- الاستبداد السياسي.
1- التحريف:
حركة التحريف المعاصرة حركة واسعة وهي في الظاهر فكرية عقائدية، الا انها في خلفياتها سياسية.
والاهداف التي يحققها التحريف في المجتمع الاسلامي هي:
الف - النيل من نقاوة الفكر الاسلامي واصالته.
ب تشويش الساحة الاسلامية باثارة المشاكل الفكرية فيها وخلق جو من الاضطرابات والقلق الفكري في هذه الساحة.
ج ايجاد اقليات عقائدية وفكرية في المجتمع الاسلامي، تنفذ من خلالها الانظمة التي تحكم الامة بالاستبدادوالارهاب، وتتخذ منها ادوات لاثارة المشاكل والمتاعب في صفوف الامة، وبالتالي احكام القبضة السياسية على الامة.
ولو استقراءنا التاريخ الاسلامي القريب والبعيد وجدنا اءن هذه الاقليات التي اءوجدتها الانحرافات الفكرية خلقت كثيرا من المشاكل في حياة الامة، كالفرق المنحرفة من الصوفية والقاديانية والشيخية، والغلاة، والبابية والبهائية والنواصب والاغاخانية وغيرهم.
وقد كان للعلماء دور بارز في مكافحة هذه الانحرافات الفكرية والتقليل من حجمها وخسائرها.
فان بعض هذه الفرق كان يمس اصول الالوهية كالغلاة، وبعضها كان يمس النبوة والمعاد والعدل، ومنها ماكان يمس شريعة اللّه وحدوده من الحلال والحرام.
2- التغريب:
وهو اشرس هجوم قام به الغرب تجاه الشرق.
وقد سبقت هذا الهجوم الدراسات الاستشراقية التي مهدت لدخول الغرب الى العالم الاسلامي في الشرق.
وكانت الغاية من هذا الهجوم هو مصادرة القيم الاسلامية وتصدير الافكار والاعراف الغربية الى العالم الاسلامي.
فمتى بداء هذا الهجوم؟ وكيف كانت بداياته؟ والغاية منه؟ في عام 1798 م غزى نابليون مصر وهذه السنة بالذات تعتبر بداية محنة طويلة للشرق الاسلامي.
ولم يواجه نابليون في هذا الغزو مواجهة عسكرية تذكر، ولكنه واجه مقاومة شديدة من قبل جماهير الامة التي كانت تتمتع بحصانة حضارية قوية ضد غزو الكافر لبلاد المسلمين. وقد شلت هذه المقاومة حركة نابليون العسكرية.
فان الاسلام يمنح المسلم مناعة كاملة ضد الكفر واءخلاقه وافكاره واحكامه وعاداته ونفوذه، مهما يكن امر هذاالنفوذ، سياسيا كان، ام عسكريا ام اقتصاديا، ام حضاريا. وهذه الحصانة والبراءة التي يتمتع بها الانسان المسلم تحميه من غزو الكفار.
وقد اصطدم نابليون في مصر بهذه العقبة اشد واقوى من المواجهة العسكرية التي واجهها في هذا الغزو.
فبداء نابليون يفكر في تغريب الشرقيين وانتزاع هذه المناعة الاسلامية من نفوس الشرقيين وتطبيعهم بمعاشرة الغربيين وترويضهم بقبول أخلاقهم وعاداتهم وقيمهم وقوانينهم ونفوذهم السياسي والعسكري والفكري والاقتصادي.
ولذلك بداء نابليون يفكر في مخطط كامل للغزو الحضاري الى جانب الغزو العسكري.
وقد ورث الانكليز بعد ذلك نظرية الغزو الحضاري من سلفهم الفرنسيين كما ورثها الامريكان من الانكليز.
ومهما يكن من اءمر فان الغربيين بداءوا حركة تخريب حضارية شرسة في مصادرة القيم والاحكام الاسلامية واستبدالها بالقيم والاحكام المادية في العالم الاسلامي. واهم مفردات التغريب ثلاث:
الف - اسباغ الطابع المادي (اللا رباني) على حياة الانسان، وعزل الايمان باللّه عن حياة الانسان المسلم، وحشرالايمان باللّه في زوايا ومساحات محدودة من حياته في المساجد وفي بعض الطقوس والشعائر الدينية، كماعزل الغرب الايمان باللّه من حياته العملية وحشره في الكنيسة وفي بضع ساعات من اءيام الاحاد فقط... بعكس الاتجاه الاسلامي الذي يحاول اءن يربط كل حياة الانسان بالايمان باللّه وذكره. ففي منهج التربية الاسلامية يرتبط الانسان في كل حال بذكر اللّه، ويستقيم في كل حالة على نهج اللّه، ويراقب حضور اللّه تعالى ومراقبته له في كل اءحواله، حتى في غير العبادات وممارسة الشعائر الدينية.
وهو بعكس ما يتجه اليه الغرب تماما بالنسبة الى الايمان باللّه، فان الغرب لم يرفض بصورة رسمية مساءلة الايمان، ولكنه عزل الايمان عن حياته تماما، الا في حالات نادرة وضمن مساحات محدودة جدا.
ومن مظاهر اسباغ الحالة المادية (اللا ربانية) على حياة الانسان، تحويل الانسان من محور الوهية اللّه تعالى الى محور الوهية الانسان، واستبدال الوهية اللّه بالانسان في حق التشريع والسيادة.
ففي الاسلام يرجع الانسان كلا من هذين الامرين (التشريع والسيادة) الى اللّه تعالى، ولا يحق للانسان اءن يشرع،فان التشريع خاص باللّه تعالى، ولا يحق للانسان ان يتولى سلطانا اءو ولاية في شاءن من شؤون الناس الا فيماياءذن به اللّه تعالى، وفي حدود ما اءذن به اللّه تعالى، فان التشريع والولاية للّه لا يشاركه فيه اءحد من خلقه.
وقد حول الغرب حق التشريع وحق السيادة من محور (اللّه) تعالى الى محور الانسان، وجعل من الانسان الهايشرع ويمنح حق السيادة والولاية في مقابل اللّه تعالى.
وهذه هي النظرية المعروفة ب (الديمقراطية) التي يتبناها الغرب وروج لها، وصدرها الى الشرق الاسلامي فيمابعد.
وبموجب هذه النظرية يحق للانسان اءن يشرع لحياته ما شاء من حكم وقانون، ويحق له ان يمنح الولاية والسيادة لمن يشاء من الناس بغير حدود.
والخلاصة الاخيرة التي نستطيع اءن نوجز بها هذه النظرية هي: اءن الديمقراطية تقرر حاكمية الانسان في مقابل حاكمية اللّه تعالى، وتعكس تضايق الانسان من حاكمية اللّه، وتتوجه الى استبدال حاكمية اللّه بحاكمية الانسان.يقول تعالى :(وطائفة قد اهمتهم اءنفسهم يظنون باللّه غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الامر من شيء)(1)
والاسلام يقرر في مقابل الديمقراطية مبدا الشورى وهو مبدا ينسجم تماما مع اصل التوحيد، يقرر مشاركة الناس بصورة حقيقية في تقرير مصيرهم، دون ان يزاحم حقا للّه تعالى في التشريع والسيادة.
ومن الخطا ما يرتكبه بعض الكتاب المعاصرين في الخلط بين مبدا (الشورى) و(الديمقراطية).
ب - التحلل والاباحية: وهو البعد الثاني من ابعاد الحضارة الغربية، والمفردة الثانية من اهم مفردات التغريب التي صدرها الغرب للشرق، وتتلخص هذه المفردة في دعوة الانسان الى التحلل من القيود والقيم، وفسح المجال للانسان ان ياخذ حظه من كل الشهوات واللذات من دون قيود ولا حدود. وقد دخلت هذه الاباحية وهذا التحلل بلادنا في الشرق تحت شعار (الحرية) كما دخل معها العدوان على حق اللّه في التشريع والسيادة تحت عنوان(الديمقراطية).
ونظر الغرب للتحلل والاباحية بنظريات علمية دخلت بلادنا مع الحرية والاباحية جنبا الى جنب، كالداروينية،والفرويدية، وامثال ذلك من النظريات التي تؤكد عمق الحالة الحيوانية وتاصيل الجانب الحيواني لدى الانسان واصالة الهوى والشهوة والغريزة في شخصيته. وتعط ي الغريزة الجنسية الدور الاول والاكبر في حياة الانسان، بعكس الاتجاه القرآني الذي يعط ي للجانب الروحي والانساني الدور الاول والاكبر في حياة الانسان،ويعتبر الجانب الحيواني مركبا للشطر الانساني.
كما ان الاسلام يخالف تماما طرح الحرية مفهوما وشعارا وقيمة في حياة الانسان، فان الانسان من حيث المبداعبد للّه تعالى، وشان العبد الطاعة والالتزام والتعبد والتقوى وكف النفس والاستعصام والورع.
وهذه المفاهيم التي يطرحها الاسلام في مقابل التحلل والاباحية تنبع من اصل (العبودية). كما ان المفاهيم التي يطرحها الغرب تنبع من اصل (الحرية).
وهذان اصلان مختلفان لا يجتمعان، ولا تجتمع النتائج الحاصلة منهما، وهما يعتبران خطان فكريان وحضاريان في اتجاهين مختلفين ومتعاكسين.
ونحن نتهم الماسونية في تصدير هذه الكلمة الى العالم الاسلامي. واللّه تعالى وحده يعلم الخسائر والاضرارالحضارية، والضلال، والعمى، والطيش الذي لحق بهذه الامة نتيجة شيوع وانتشار هذه الكلمة.
وقد ادرك علماؤنا بصورة مبكرة خطر هذا الشعار، وحذروا الناس منه، واستخدموا كل الوسائل الممكنة لصدتيارها الجارف.
وكانوا مدركين بصورة واضحة للنتائج والاثار السيئة التي تحملها هذه الكلمة، وللمدلولات العقائدية التي تدل عليها هذه الكلمة.
ونحن الان بعد اكثر من سبعين سنة من الصراع بين هذين الخطين نقرا في التاريخ هذا الوعي المبكر لعلماء الاسلام لمداليل هذه الكلمة وآثارها في حياة المسلمين فيملكنا الاعجاب والاعتزاز بهذا الوعي والتحذير المبكر.
يقول الملا علي الكني للملك ناصر الدين القاجار الايراني في رسالة يبعثها اليه يحذره فيها من حركة التغريب التي بدات تزحف الى العالم الاسلامي: (ان كلمة الحرية القبيحة تصادر كل ما يقوله الانبياء تحت عنوان العبودية والتقوى).
ويعبر الشيخ فضل اللّه النوري عن هذه الكلمة بـ الكلمة المشؤومة.
ج - استبدال الولاء للّه ولرسوله وللمؤمنين بالولاء للقوم والوطن: كانت عملية (تبديل الولاء) واحدة من اهم نقاط المؤامرة في عملية التغريب، فليس في الغرب ولاء للّه وللرسول وللمؤمنين، وانما الولاء للوطن والقوم، وليس فيما بين المسلمين ولاء للقوم والوطن، ولكن الولاء للّه ولرسوله وللمؤمنين.
ومع استقرار هذا الولاء في نفوس المسلمين لا يمكن النفوذ الى كيانهم السياسي وبسط نفوذهم وسلطانهم في بلاد المسلمين.
ولهذا السبب خطط الغرب لعملية تبديل الولاء، واستحداث الولاءات القومية، والوطنية وافقد العالم الاسلامي الحصانة التي كان يتمتع بها من ناحية الولاء للّه ولرسوله وللمؤمنين.
وسخرت الانظمة الحاكمة في بلاد المسلمين كل امكاناتها الاعلامية والتربوية لالغاء الولاء للّه ولرسوله وللمؤمنين. وتثبيت الولاء للقوم والوطن مكان الولاء للّه.
وعمقت هذه الانظمة فكرة الولاء القومي والوطني بكل امكاناتها. فعممت الثقافة الوطنية والقومية على كل الجهازالتربوي والتعليمي في بلاد المسلمين، ونظمت على هذا الاساس البرامج الفنية في الاعلام من خلال الاغاني والاناشيد، واستخرجت التاريخ والتراث القومي والوطني، من زوايا الخمول والنسيان وسلطت عليه الاضواء،وسمت به الشوارع والمدارس والمعارض والمحلا ت والقاعات. وعمدت الى اخفاء معالم التاريخ الاسلامي وابراز وتلميع الاساطير القومية والوطنية البائدة ..الى غير ذلك من الاعمال التي قامت بها هذه الانظمة في عملية(استبدال الولاء).
وكلفت هذه العملية كثيرا من الجهود والاموال، ليس فقط في ابراز مجاهيل التاريخ واساطير التراث القومي والوطني باسم الفن والفولكلور، وانما في تخريب الولاء الذي كان يضمره المسلمون للّه ولرسوله وللمؤمنين،وفي نسيان والغاء التاريخ والتراث الاسلامي.
وكان في مقدمة هذه المؤامرة الحكام الذين يحكمون بلاد المسلمين من قبل رضا پهلوي في ايران وكمال اتاتورك في تركيا وامان اللّه خان في افغانستان والى جنبهم من الكتاب والادباء والشعراء والمفكرين الذين سخروا اقلامهم وادبهم وفكرهم لخدمة استيراد هذا الولاء الجديد الى العالم الاسلامي واخراجه وابرازه بصورة مناسبة. من مثل رفعت الطهطاوي في مصر الذي قضى نحو خمسين سنة من عمره في پاريس ورفع في مصر شعار الوطنية ودعا اليه، وسليم النقاش المسيحي الذي طرح شعار مصرللمصريين، وبطرس البستاني المسيحي ايضا الذي كان يعد في مقدمة الدعاة الى الوطنية وشبلي شميل وسلامه موسى وغيرهم.
ومن الغريب ان اكثر المفكرين من دعاة القومية والوطنية هم من المسيحيين.
وقد جنى الغرب ثمرة هذا الولاء الجديد في الشرق الاسلامي كما كان يتمنى ويريد. ودعم بهذا المشروع الجديد في استبدال الولاء مشاريعه السياسية في تمزيق العالم الاسلامي وتحويله الى اجزاء منفصلة عن بعض، واثار الخلافات والمشاكل القومية والوطنية فيما بينها، وفرض سلطانه ونفوذه عليها من خلال هذه التجزئة وهذه الاثارات.
يقول برنارد لويس في محاضراته التي القاها بجامعة ((انديانا)) في الولايات المتحدة تحت عنوان الغرب والشرق الاوسط:
ان تاثير التغريب في الشرق كان هو الانحلال السياسي الذي ادى الى تفتيت المنطقة وتجزئتها، فقد هدمت الخلافة العثمانية، ورغم ضعف الخلافة كان شطر كبير من المسلمين يضعون ولاءهم السياسي في خلفاء آل عثمان، وخلفهم الملوك والرؤساء الذين لم يكتسبوا ولاء الرعية، هذا الولاء الذي كان يجعل السلطان لا يحتاج الى ضغط وعنف وارهاب...فدخلت الدكتاتورية والارهاب.
وبعد ان كان كل مواطن عضوا في دولة اسلامية كبيرة لها الف سنة من التراث والتاريخ وجد الناس انفسهم منتمين الى سلسلة من الانظمة الحديثة والوحدات السياسية المفتعلة (الوطنية والقومية) والتي تحاول ايجادعمق لها في ضمير الامة، وصاحب ذلك نسف النظام القديم وتدمير الدولة الاسلامية العريقة في نفوس الناس،وحلت محلها ولاءات جديدة للقوم والوطن مستوردة من الغرب، غريبة عن مشاعر المسلمين.
هذه خلاصة عن التغريب وما استتبع التغريب من تخريب ثقافي وحضاري واسع في بلادالمسلمين.
الاستشراق والتغريب:
وقد سبقت عملية التغريب دراسات استشراقية واسعة قام بها علماء من الغرب وقد مكنتهم هذه الدراسات من معرفة التاريخ والتراث الاسلامي، ومكنتهم من معرفة بقاع العالم الاسلامي وما كان فيها من عادات وتقاليد، ومافيها من نقاط الضعف والقوة.
فكانت هذه الدراسات الاستشراقية هي الطلائع الاولى لعمليات (التغريب) التي قام بها الغرب بعد ذلك على ايدي حكام ومفكرين من العالم الاسلامي.
ولا نحتاج الى كثير من التامل لندرك ان (الاستشراق) و(التغريب) وجهان للمحاولات التي بذلها الغرب منذ عصرنابليون الى اليوم لبسط نفوذه وسلطانه في الشرق. ومهما يكن من امر فقد كان للتغريب اثر تخريبي كبير في ثقافة الامة وتاريخها وحضارتها وحصانتها.
وقد ادرك العلماء في وقت مبكر خطر هذه الموجة التي كانت تزحف بصورة منتظمة الى العالم الاسلامي،وانذروا المسلمين باخطار هذه الموجة وآثارها التخريبية في الحضارة والسياسة، وان الاستسلام لهذه الموجة من الركون الى الذين كفروا والذي حرمه اللّه تعالى واوعد عليه بالنار، ومن سبيل الكافر على المؤمن.
وقد نفى اللّه تعالى ان يكون للكافرين على المؤمنين سبيل او سلطان ونفوذ في اي شان من شؤون الحياة.
غير ان الدعوة الى التغريب كانت تتم ضمن امكانات هائلة تملكهاالانظمة ودعم واسع من الغرب، ولم تكن الدعوة المناهضة لها التي قام بها العلماء في العالم الاسلامي تملك الامكانات المكافئة للدعوة الاولى في هذا الصراع الرهيب.
وتمكن الحكام في فترة من التاريخ من عزل العلماء عن الساحة السياسية والاعلامية واستطاعوا ان يفسرواويوجهوا حركة العلماء في مناهضة التغريب بمعاداة الحداثة والتخوف من التجديد.
وكان الخلط بين التغريب من جانب والحداثة والتجديد من جانب آخر لعبة اعلامية نجح فيها دعاة التغريب حكاما ومفكرين، استطاعوا فيها ان يركزوا في اذهان الناس ان الموقف السلبي للعلماء من التغريب ينبع من تخوفهم من موجة الحداثة. الا ان نجاح الحكام والكتاب التابعين لهم في الدعوة الى التغريب لم يطل. فقد كفتناالفضائح السياسية والاخلاقية والماسي الحضارية في الغرب شر هذه الموجة، واخذ الناس يعودون من جديدالى قيمهم وجذورهم الحضارية.
3- الاستبداد السياسي:
وهذه هي المؤامرة الثالثة. ولئن خفت موجة المؤامرة الاولى والثانية فان هذه المؤامرة لا تزال قائمة بقوة، وبكل ثقلها.
وخلاصة هذه المؤامرة ان الاستعمار الانكليزى والفرنسي، وبعدهما الاستعمار الامريكي بدا يخطط بعد الحرب العالمية الثانية لاسلوب جديد من النفوذ السياسي بدل اسلوب الاحتلال العسكري.
فقد واجه الاحتلال العسكري امواجا عارمة من الغضب قادها العلماء كما حدث ذلك في العراق والجزائر، لم يقوالاستعمار على مقاومتها والتصدي لها.
فقد قاوم علماء العراق من مثل الشيخ محمد تقي الشيرازي والسيد محمد سعيد الحبوبي وشيخ الشريعة الاحتلال الانكليزي مرتين في سنة 1912م وفي سنة 1920م مما اضطر الانكليز في النهاية ان يستبدلوا طريقة بسط نفوذهم في العراق من الاحتلال العسكري الى اسلوب جديد هو (مشروع الاستعمار الجديد).
مشروع الاستعمار الجديد:
وهذه نظرية سياسية جديدة للغرب في بسط نفوذه في الشرق، وتعتمد هذه النظرية مجموعة من الاسس الاقتصادية والسياسية مثل السيطرة على الاسواق، وفرض نظام العامل الواحد في الانتاج والتصدير على البلادالمستعمرة، وربط هذه البلاد باقطاب الاستعمار من خلال احتياجات السوق الكثيرة، واغراق هذه الاسواق ببضائع الغرب في الوقت الذي لا يسمح الغرب للبلاد المصدرة للنفط مثلا ان تتجاوز في اقتصادها عامل تصديرالنفط.
وبهذه الصورة ترتبط هذه البلاد بالاستعمار من خلال العامل الاقتصادي. وهكذا تمكن الغرب ان يبسط نفوذه في هذه البلاد من خلال السيطرة على الاسواق التجارية.
ومن اسس هذه النظرية الاستعمارية الجديدة التخطيط لبسط نفوذ الدول الكبرى في العالم الثالث من خلال الانظمة الحاكمة فيه، وربط هذه الانظمة بعجلتها، وتمكينها من رقاب الناس ودمائهم واعراضهم، واموالهم،واطلاق ايديهم في حياة الناس بصورة رهيبة.
وفي ضوء هذه النظرية الاستعمارية الجديدة ولدت في العالم الثالث انظمة سياسية ذات طابع ارهابي، تحكم بالاستبداد السياسي، وتحكم قبضتها بالارهاب، وتمارس التضليل السياسي والافساد الحضاري والارهاب على نطاق واسع.
وتتبنى الدول الكبرى هذه الانظمة بشكل واسع، تدعمها وتحتضنها، كما تهيئ لها ظروف الوصول الى الحكم احيانا.
فنظام (اسرة پهلوي) في ايران ونظام (حزب البعث) في العراق، ونظام (جمال عبدالناصر) في مصر، ونظام (ابورقيبة) في تونس، والانظمة المتعاقبة على الحكم في تركيا، من ابرز هذه النماذج، كما ان النظام الشيوعي في افغانستان كان امتدادا لنفس النظرية، ولكن من طرف الاتحاد السوفيتي (سابقا) وليس من ناحية الغرب.
ولما كانت هذه الانظمة تحكم بالارهاب والاستبداد، ولم تكن نابعة من وسط الجمهور وارادته، ولم يكن لهاجذور وعمق في الامة...فانها تضطر لكي تحتفظ بنفوذها وسلطانها الى ان تكسب دعم الدول الكبرى وتحافظ عليه، ولكي تكسب دعم هذه الدول او تحافظ عليه تضطر لان تنفذ ارادة هذه الدول بشكل واسع. فهي تاتي الى الحكم على مركب النفوذ الاجنبي وتضطر ان تبقى وفية لهذا المركب الى الاخير.
اذن هذه الانظمة تحتاج في وصولها الى الحكم وفي بقائها في الحكم الى نفوذ الدول الكبرى، فهي تحتاج الى دعم الدول الكبرى المادي، كالمنح المالية والسلف، وتحتاج الى دعمها السياسي والعسكري في الصراعات السياسية والتي تؤدي احيانا الى حروب عسكرية، وتحتاج الى دعمها الامني لكشف المؤامرات واخماد الثورات والانتفاضات الداخلية، وتحتاج الى دعمها الاعلامي في الاوساط السياسية.
ومن العجب ان هذا الدعم يؤدي احيانا الى المزيد من اعتماد هذه الانظمة على الدول الكبرى، وارتباطها بها في السلف والقروض الربوية الكبيرة التي تربط مصير هذه الانظمة من الناحية الاقتصادية بعجلة الانظمة الكبرى.
كما ان الدول الكبرى تحتاج في مد نفوذها الى العالم الثالث وفي استمرار نفوذها الى هذه الانظمة.
وهذه هي اساس العلاقة العضوية والقرابة المشؤومة القائمة بين هذه الانظمة والدول الاستعمارية الكبرى.
وضمن هذه الالية تمد هذه الدول نفوذها الى العالم الاسلامي، وتستخدم هذه الانظمة في المهام الصعبة كماتستخدم العتلة في رفع الاثقال الكبيرة بسهولة وراحة.
فلم يكن بامكان (امريكا) و(اسرائيل) ان تقوما بازالة الحواجز الضخمة بين العرب والكيان الصهيوني في فلسطين، وتطبيع العلاقات بين العالم العربي وهذا الكيان، على الصعيد الرسمي على اقل التقادير، لولا (انورالسادات) الذي تبرع للغرب بتذليل هذه المهمة، والسفر الى فلسطين، واللقاء بزعماء الكيان الصهيوني في القدس،والوصول الى تفاهم عربي امريكي اسرائيلي مشترك في (كمب ديفيد).
ان دور انور السادات في هذه المهمة هو تماما دور العتلة التي تقوم برفع الاثقال الكبيرة بجهد خفيف.
ان حكام العالم الثالث(2) يؤدون هذه الخدمة الكبيرة الى الدول الكبرى بكل رضى في مقابل بقائهم في الحكم.فاذا استنفذت الدول الكبرى اغراضها من هذه الانظمة واستنفذت كل امكاناتها واحترقت اوراق هذه الانظمة بشكل كامل، استبدلتها بغيرها من خلال مؤامرة عسكرية يخطط لها الغرب، وينفذها قادة عسكريون ابتغاءالوصول الى المال والسلطان والنفوذ.
وقد واجه علماؤنا هذه المؤامرة الاخيرة، ودخلوا معها في صراع رهيب، وطالت محنتهم وعذابهم بها، وطاردالحكام علماء الاسلام المناهضين لهم في كل رقعة، في ايران والعراق ومصر والجزائر وتركيا وسوريا ولبنان وافغانستان والهند والسودان، واذاقوهم الوان العذاب، وقتلوا منهم الالاف وعذبوا وسجنوا اضعاف ذلك.واستخدموا كل امكاناتهم في استئصالهم وعزلهم عن ساحة الحياة.
ولكن هذه المحنة لم تتمكن من اخماد صرخة علماء المسلمين في مواجهة الحكام الظالمين واجهزتهم القمعية الرهيبة. وعلى عكس ما كان يريده هؤلاء الحكام من عزل العلماء عن الجمهور. كانت هذه الاعمال التعسفية والقمعية تزيد من تعلق الجمهور بالعلماء، بل ان قيمة العالم ومكانته الاجتماعية كانت ترتبط وتتناسب عندالناس بمقدار جهاده للحكام الظالمين، وبالعكس، تهبط على قدر ارتباطهم واتصالهم بهم.
ولو اردنا ان نستعرض شرحا باسماء وجهاد علماء الاسلام في تاريخنا السياسي المعاصر لطال الحديث وتطلب الامر مجلدات من البحث في هذا التاريخ.
هذه هي خلاصة غير وافية عن المؤامرات الثلاثة على العالم الاسلامي... وقد نفذت هذه المؤامرات بشكل دقيق ووفق اصول علمية مدروسة وبامكانات ضخمة. ولولا الجهود الكبيرة التي بذلتها جماهير هذه الامة بقيادة علمائها ضد هذا التيار لكان لهذا التيار شان آخر في حياتنا السياسية والحضارية والعقائدية اليوم، ولكن الادوارالكبيرة التي قام بها العلماء والمخلصون من ابناء هذه الامة اوقفت الزحف المادي من ناحية الغرب والشرق،وصدته واجبرته على التراجع من كثير من بلاد المسلمين.
المصادر :
سلطات الفقيه / محمد مهدي الاصفي
1 - آل عمران: 154.
2 - مصطلح العالم الثالث يصح سياسيا قبل سقوط الاتحاد السوفيتي.