كان الإنسان ومنذ القدم كثير الاهتمام بكل ما يتعلق بالخلق وأسبابه ومشاكله وآفاته وأمراضه, وذلك لأسباب واضحة لا تخفى على احد, وليس البحث في هذا المجال بهدف سهل أو موضوع يسير, إذ أن الإنسان المفكر وخلال مسيرة زمنية طويلة - احتاجها للتوصل إلى العلم الصحيح بالكثير من نواحي وحقائق هذا البحث- لم يستطع وضع يده على الحقائق التي تحكم كيفية خلق الإنسان,
والقوانين التي بموجبها يتم التكاثر والتخلق والنمو, لجنس البشر أو غيره من الأجناس الحية التي تشاركه العيش على سطح الأرض. ولكن الإنسان المفكر و من خلال المراقبة الدقيقة - إن جاز التعبير- لمظاهر الطبيعة وحوادثها, مسبباتها ونتائجها, وضع نظريات وأراء قامت بمجملها على أمرين: اولهما قدرة هذا المفكر على الرؤية الصحيحة للظواهر الطبيعية من مسببات ونتائج والقدرة على الربط المنطقي بين هذه الظواهر.
وثانيها المبادئ -أو العقائد- الاجتماعية والدينية والفكرية التي صاغت بشكل عام وأساسي منطقه في الحكم على مجريات الطبيعة وبالتالي صاغت لحد كبير الفلسفة التي اعتمد عليها في تفسير ما سبق له أن لاحظه أو اكتشفه.
لهذا نجد تفاوتاً واختلافاً واضحاً في المبادئ الأساسية وفي الفلسفة والمنطق الذي حكمت رؤية الإنسان المفكر عبر الحضارات الغابرة المختلفة.
لقد اتبعت قديما الطرائق التي اعتقد الأطباء العرب والمسلمين بصحتها في تشخيص العقم أو ما يسمى أحياناً عسر الحبل (الحمل) وفي تمييز أسبابه وعلاته وفي تدبير كل منها, ويجب التنويه أن البحث يكاد يدور في مجال اقرب ما يكون إلى التكهن منه إلى التأكد, وذلك لأسباب عديدة منها:
إن البحث في أي موضوع تاريخي ذو علاقة بالحاضر كموضوعنا يتطلب قدراً كبيراً من العناء في محاولة استقراء ما وراء السطور للوصول ليس إلى معالجة سطحية تكرارية لما ورد ذكره في بعض الكتب المخطوطة وإنما دراسة تصل إلى أعماق الفكر الذي حكم تصورات السابقين عن كامل موضوع الخلق والذي اثر إلى حد بعيد في استنتاجاتهم و أرائهم ونظرياتهم حول كل ناحية من نواحيه وكل مسألة من مسائله, والتي منها الموضوع المدروس حالياً,
وهذا واجب بنظري للتمكن من فهم أين ولماذا ابتعد أو اقترب المفهوم الفلسفي التاريخي - في تفسيره ورؤيته لكل عرض وكل علامة - مما نعتبره نحن اليوم حقيقة علمية لا تقبل الجدل لأنها مثبة بالتجربة العلمية الواعية وغير المنحازة- أو هكذا نعتقد اليوم-. وهذا أساسي في القدرة على الحكم على مدى ابتعاد أو نقض أي عالم أو مفكر عن النظرة السائدة في عصره, أي الحكم على مدى تجديده ومساهمته الحقيقية في تطور العلم.
أسباب و تشخيص العقم وتدبيره في الحضارة المصرية القديمة
إن المصادر التاريخية التي تتحدث عن الحضارة المصرية وعن الطب المصري وعن إنجازات الاطباء المصريين وأساليب العلاج المتنوعة, تفتقر إلى الذكر الصريح بما احتوته المخطوطات المصرية القديمة المكتوبة على أوراق البردي, وتكتفي بذكر تعليقات على محتويات هذه المخطوطات.
هنالك ذكر متكرر لإحدى البرديات وتسمىKahun Gynecological Papyrus والتي اكتشفها العالم Flinders Petrie في عام April of 1889.
في at the Fayum site of Lahun وهذه المدينة ازدهرت في ظل المملكة الوسطى وتحت حكم امنينحوت الثانيAmenenhat II وخلفه امنينحوت الثالثAmenenhat III وتعود هذه البردية إلى العام ال29 من حكم الأخير وذلك بحسب ما ورد في أخرها أي ما يعادل.1825 B.C.E وقد تم نشر النص بالهيروغليفية وباللغة الإنكليزية عام 1898 وهي موجودة حالياً في University College London .
إن النص النسائي في هذه البردية يمكن أن يقسم إلى 34 فقرة, الفقرات ال17 الأولى لها تنسيق متشابه من حيث ابتدائها بعنوان ويتلوه وصف قصير للأعراض والعلامات, القسم الثاني يبدأ من الصفحة الثالثة, ويضم حوالي 8 فقرات غامضة بسبب اللغة المستعملة فيها وبسبب قدم النسخة.
ورغم ذلك هناك عدة فقرات يمكن فهم ما تحتويه, كالفقرة 19 التي تتعلق بالولادة, والفقرة 20 التي تتعلق بعملية التبخير التي تساعد على الحبل, أما الفقرات 20-22 فتتحدث عن وسائل منع الحمل. ومن المواد التي ذكرت روث التماسيح و العسل والحليب الفاسد. أما القسم الثالث من الفقرة 26 إلى 32 فتتحدث عن الاختبارات التي تستخدم في تشخيص الحمل.
نجد ضمن البردية وصف لعدد من الأختبارات وعددها سبع اختبارات التي تدل على عقم المرأة أو كونها غير عقيمة , بدون أن نجد أي شرح لحالات وأسباب العقم عند النساء .ومن هذه الأختبارات:
1- تضع المرأة على أرض ممسوحة بأوراق( ثمار من مصدر أخر) التوت البري فإذا حدث أقياء كانت حامل وإذا لم يحدث فلا تحمل.
2- استخدام البصل وتحديد اعقم بالاعتماد على رائحة فم المرأة.
أما القسم الرابع فيتضمن فقرتين تتحدثان عن معالجة أسنان الحامل وعن حالة مشابهة للناسور المهبلي المثاني.
أسباب و تشخيص العقم وتدبيره في الحضارة اليونانية القديمة
إن الكتب والمراجع العربية تزخر بالمعلومات حول هذا الموضوع, إلا أنني لم أتمكن حقيقة من الوصول إلى الأصل اليوناني أو الأصول المترجمة لهذه النصوص, بل اعتمدت على ما جاء في كتب الاطباء العرب منقولا عن جالينوس أو ابقراط أو غيرهم, وبالأخص اعتمدت على كتاب الحاوي لأبي بكر الرازي.
إن مراجعة لما نقل عن الاطباء اليونانيين حول أسباب العقم وأعراضه وعلاجه يظهر وجود مجموعة أعراض وعلامات ( تعتمد في أساسها على النظرية الفلسفية اليونانية) مشخصة لحالات العقم المختلفة وتستخدم للدلالة على أسبابه مع ذكر للعديد من العلاجات الخاصة بكل حالة, وعدد من العلاجات العامة المحسنة للمزاج.
1- تغيرات المزاج: ويقصد به التغيرات التي تصيب مزاج الرحم وتفسده ولأسواء المزاج العيد من الأسباب التي ذكروها كالمناخ البارد والبلاد الباردة وشرب الماء البارد وكلها تولد رطوبات باردة في الرحم, واستدلوا على فساد مزاج الرحم بتغيرات وعلامات عامة وتغيرات في الطمث وأحواله.
2- فساد المني: وكان يقصد به المني الذكري والأنثوي -حسب اعتقادهم بوجود مني للأنثى تطرحه وقت الجماع ليتلاقى مع المني الذكري ويحدث الإلقاح في داخل الرحم- وهذان يفسدان بعدد من الأسباب منها فساد مزاج الرحم وفساد المني بذاته وحالات أخرى تحدث منياً غير مولد كما في الشيوخ وتقدم عمر المرأة والصبيان واللواتي لم يبلغن وإكثار الجماع أو الإقلال منه. ووضعوا لذلك علامات يستدل عليها بفحص المني والطمث ولونها وقوامها وغلظها أو رقتها.وكانت تعالج بعلاجات مختلفة مسخنة للمزاج ومحسنة لأحوال المني.
3- احتباس الطمث:فقد كان الطمث -حسب اعتقادهم- هو طرح فضل زائد من الطبيعة, ولهذا يجب الا يحتبس وألا افسد مزاج الجسم وسبب العديد من الآفات ومنها ما سموه اختناق الرحم ,وقد يسبب العقم عند الأنثى, ويكون علاجه بالفصد أو بالاستفراغات أو بالأدوية المدرة للطمث.
4-ضعف القوة الجاذبة:قالوا بوجود قوة خاصة بالرحم تجذب المني الذكري لداخله وعللوا بعض حالات العقم بضعف هذه القوة الجاذبة واعتبروا أن رطوبة عنق الرحم بعد الجماع دليل عليها وعالجوها بعدد من الأدوية والفرزجات والحقن.
5-أفات الخصية:سواء الولادية أو الرضية أو التالية لاستخدام بعض الأدوية المبردة الشديدة وعلامتها فحص الخصية السريري, وعولجت بعلاجات مختلفة.
6-أفات القضيب:وقد ذكرالأطباءاليونان عدد من الأفات التي تصيب القضيب كالتواء القضيب وقصره ورباطه وعولج الأخير بالجراحة.
استمرت النظرية اليونانية المتعلقة بالإلقاح وفشله وأسباب العقم وعلاماته السريرية وعلاجات كل حالة مسببة له في كتابات الأطباء العرب المسلمين.
المصدر : تحقيق راسخون 2016