أ- في ظلال الحديث
يرشدنا الحديث المتقدم إلى أسس التعامل البنّاء والعلاقة الإسلامية الرائدة مع صنفين من الناس، الأول: كبارنا والثاني: صغارنا.
في الحديث:"ليس منّا من لم يوقّر كبيرنا ولم يرحم صغيرنا"(1).
فيوضح لنا ما ينبغي اتباعه كميزان نركن إليه وبه نتعرف على مناسبة كل عمل لموقفه أو عدم مناسبته، حيث من القبح بمكان أن يكون تصرفنا مع الكبار على حد تصرفنا مع الصغار أو العكس.
فما أسوأ أن يتصابى الرجل مع أبيه فلا يحترمه ولا يوقّره، ويخرج بذلك عن حدّ التأدب والانضباط المطلوب منه مع والده أو والدته أو سائر الكبار من أرحامه وغيرهم.
وكذلك كم هو مستهجن وغريب أن يتعاطى الإنسان مع ولده بوقار ورسمية فلا يترك للولد حياة طفولته ولا صغره، ويلبسه لباس شخصية أخرى يحتاج إلى بلوغ مراسمها عدة عقود من الزمن وكثيراً ما يترك هذا النوع من التعاطي آثاراً سيئة ويخلق عقداً تعيش مع هذا الصغير إلى أن يكبر، من ثم يترجمها في تعامله مع الناس فضلاً عن تطبيقها مع أطفاله إن قدّر له أن يكون أباً فيما بعد من هنا كان توجيه آل البيت عليهم السلام إلى نوعين من العلاقة، إحداهما عنوانها: الرحمة وهي مع الصغار، والأخرى عنوانها التوقير وهي مع الكبار، وكلا العنوانين محل اهتمام وعناية في الكتاب والسنّة.
ب- الوقار حلية العقل
للكلام في الوقار جهتان:
الأولى: بلحاظ نسبته إلى الإنسان نفسه، حيث يجمل أن يكون وقوراً.
والثانية: بلحاظ نسبته إلى الغير فيسمى توقيراً وهو المراد من الحديث في صدر الدرس.
وهو في الجهتين فضيلة من فضائل الأخلاق السامية يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: "عليكم بالسكينة والوقار"(2).
وعنه صلى الله عليه وآله: "ليس البرّ في حسن اللباس والزيّ، ولكن البرّ في السكينة والوقار"(3).
ويقابل هذه الوضعية اللائقة، والهيئة الجميلة للإنسان المؤمن هيئة أخرى غير ملائمة ولا مناسبة وهي الابتذال والطيش ومن أراد أن يكون آمناً من الحالة الثانية عليه ملازمة الحالة الأولى يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ملازمة الوقار تؤمن دناءة الطيش"(4).
وعنه عليه السلام: "لتكن شيمتك الوقار، فمن كثر خرقه استرذل"(5).
وفي حديث ثالث: "وقار الرجل يزينه وخرقه يشينه"(6).
ومما يساعد على هذا الخلق الكريم، لزوم الصمت إلا في الموارد اتي يرجح فيها الكلام كالموعظة والتدريس، وامتلاك ملكة الحلم ومتابعة العلم، والهدوء والاستقامة، وعدم الدخول إلى مجالس البطّالين والسفهاء، وعدم معاشرة الأذنين من الناس وعدم الهزل والممازحة في الخطاب وغير ذلك من الأمور، وهذا كلّه يعود إلى الجهة الأولى، وبعضه تشترك فيه الجهة الثانية.
ومما يعتبر في توقير الإنسان غيره من كبار المؤمنين الذين يحترمهم وأمر بتوقيرهم كما في خطبة النبي صلى الله عليه وآله المشهورة في استقبال شهر رمضان المبارك، حيث جاء فيها: "وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم ووقّروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم واحفظوا ألسنتكم..."(7)
أولاً: عدم رفع الصوت أثناء الخطاب معه أو في محضره.
ثانياً: ترك الإشارة إليه باليد والإمساك بثيابه حين التحدث معه.
ثالثاً: اجتناب القهقهة إذا كان من داعٍ للضحك والاقتصار على التبسم.
رابعاً: مناداته بالكنية أو الوصف الجميل.
خامساً: عدم التقدم عليه بالمشي أو الدخول قبله إلى المجلس عندما يرافقه.
سادساً: أن لا يمدّ رجليه أثناء حضوره.
سابعاً: أن لا يجلس ويتركه قائماً بل يحرص على راحته.
وغير ما ذكر من الأمور التي فصلها علماء الأخلاق في كتبهم.
ج- الرحمة بين الخالق والمخلوق
لقد عرفنا من ما مرّ بنا في الفقرة الماضية أن الكبير مأمور بأن يرحم الصغير وسوف نتحدث هنا عن الرحمة المتبادلة بين الملخوقين عموماً وموقعها في ايجاب الرحمة الإلهية، بعد بيان كيف يكون الإنسان راحماً صغيره.
إن الصغار كثيراً ما يقعون في الخطأ ويقومون بأعمال تؤدي إلى سخط الكبار ولا فرق بين أن تكون الأعمال المرفوضة ترتبط بالصغار أنفسهم أو تتعداهم لتطال آباءهم أو الكبار عموماً، ولهم احتياجات كثيرة، ويفتقرون إلى عناية شديدة وانتباه كامل، والحاصل أنهم يتطلبون من المرء بذل جهدٍ وعناء في سبيل المحافظ عليهم والوصول بهم إلى شاطىء الأمان، فالمطلوب هو اعتماد مبدأ الرحمة في الحياة معهم وبذل المودة والعطف الدائمين، لا الإهمال والإعراض ولا المعاقبة والمؤاخذة كلّما بدر منهم ما لا يوافق طبعنا، وليس التعامل برحمة مع الصغار يحتاج إلى شرح وتعداد ظواهر له، لأنه أمر مشخّص يمارسه الناس في حياتهم اليومية وقلّما نجد القساوة والغضب في التعاطي مع الصغار في مجتمعنا الإسلامي لأنه يدعونا إلى حياة الأسرة وبنائها بناءً سليماً، ولذلك لا تشكّل القساوة على الصغار ظاهرة فاضحة إلا في المجتمعات غير المتدينة.
وبالجملة إن من لا يَرحم لا يُرحم ومعنى ذلك أن الإنسان الذي يمتنع عن رحمة غيره لن يرحمه الآخرون وكذلك لن يرحمه الله تعالى، فالرحمة بين المخلوقين لها أثر فعّال وهي سبب أكيد لنزول الرحمة الإليهة يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ببذل الرحمة تستنزل الرحمة"(8).
وعنه عليه السلام: "أبلغ ما تستدرّ به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة"(9).
وفي المقابل قال عليه السلام: "من لم يرحم الناس منعه الله رحمته"(10).
وفي الحديث: "رحمة الضعفاء تستنزل الرحمة"(11).
والذي ينبغي أن يقال إن كل ذي فطرة سليمة طيبة لا بد وأن تملأ قلبه الرحمة سواء الكبار أو الصغار وذلك سبيل من أراد الحصول على رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء.
يجيب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: لما قال له رجل: "أحب أن يرحمني ربي؟ ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله"(12).
وعنه صلى الله عليه وآله: "إن الله تعالى خلق مائة رحمة، فرحمة بين خلقه يتراحمون بها وادّخر لأوليائه تسعة وتسعين"(13).
من فقه الإسلام
س: لقد توفي زوجي في حادث سير وكان سائق السيارة أحد أصدقائه فأصبحت القيّم الشرعي والقانوني على ولديَّ الصغيرين.
فأولاً: هل عليّ مطالبة السائق بدفع الدية أو مطالبته بمتابعة مسألة الحصول على مبلغ التأمين؟
وثانياً: هل يجوز لي التصرف في المال المختص بالأولاد في إقامة مراسم العزاء لوالدهم؟
وثالثاً: هل يجوز لي التنازل عن حق الأطفال الصغار بالنسبة للدية؟
ورابعاً: لو تنازلت عن حق الأطفال فلم يرضوا بذلك بعد بلوغهم، فهل عليّ ضمان الدية لهم؟
ج: 1- لو كان على السائق أو على غيره ضمان الدية شرعاً لوجب عليك ولايةً على الصغار الاحتفاظ بحقهم الشرعي بمطالبته لهم ممن عليه الحق، وكذلك الأمر في مسألة حق التأمين إذا كان ذلك للصغار بموجب القاون.
2- لا يجوز صرف أموال الصغار ولو كانت من إرثهم من أبيهم في نفقات مجالس الترحيم لوالدهم.
3- ليس لك التنازل عن حق الصغار بالنسبة للدية.
4- لا ينفذ منك التنازل عن حق الأولاد، ولهم بعد بلوغهم الرجوع والمطالبة بالدية.
س: توفي زوجي عن أولاد صغار لنا، واستناداً لرأي المحكمة صار جدُّهم لأبيهم هو الولي والقيّم عليهم جميعاً، فإذا بلغ أحد الأولاد، فهل يصبح هو قيماً على إخوته؟ وإذا لم يكن له ذلك، فهل يحق لي أن أكون مشرفة على الأولاد؟ ثم إنّ جدَّهم استناداً إلى رأي المحكمة يريد أخذ سدس أموال الميّت لنفسه. فما هو حكم ذلك؟
ج: تكون القيمومة والولاية على الأيتام الصغار إلى زمان بلوغهم ورشدهم لجدّهم لأبيهم بلا حاجة في ذلك إلى نصب من المحكمة، ولكن تصرفاته في أموال الصغار يجب أن تكون وفقاً لمصلحة وغبطة الصغار، فلو قام بعملٍ خلافاً لمصلحة الصغار كان لهم الرجوع في ذلك إلى المحكمة لبحثه ومتابعته، وكل من بلغ منهم وكان رشيداً يخرج من تحت ولايته وقيمومته ويصبح مالكاً لأمر نفسه، ولكن ليس له ولا لأمه الولاية والقيمومة على الباقين الصغار، وحيث إن جدّهم يرث من أموال أبيهم السدس منها فلا مانع من أن يأخذ السدس من أموال الميت لنفسه(14).
قال تعالى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(15)
في الحديث: "كن في الشدائد صبوراً وفي الزلازل وقوراً"(16)
إعتناء الإمام الخميني قدس سره بالأطفال
يقوم مراراً في الليل لتغطية حفيدته
تقول ابنته: كنت أنام في غرفة الإمام في الأيام التي كانت تسافر فيها والدتي، لكنه كان يقول لي: "لا حاجة لأن تنامي أنت هنا، فنومك خفيف جداً وهذا الأمر يؤذيني"! لقد لفَّ الساعة التي كان يستفيد منها للإسيتقاظ بقطعةٍ من القماش، ووضعها في مكان بعيد عني لكي لا يوقظني صوت جرسها. وفي سحر إحدى الليالي كنت مستيقظة لكنني لم أظهر ذلك لأنه كان قد قام لصلاة الليل، وفي الصباح سألني: "هل سمعت صوت جرس الساعة؟"، لقد أراد أن يعرف إن كنت قد استيقظت أم لا، فأجبته بسؤال أردت أن أتهرب به من الإجابة الصريحة، قلت له: وهل توجد في غرفتك ساعة لكي أستيقظ على صوتها؟! لكنه عرف هدفي من هذه الإجابة، فقال: "أجيبي على سؤالي بوضوح: هل استيقظت على صوت جرس الساعة؟"، فاضطررت إلى القول: أتصور أنني كنت مستيقظة قبل ذلك، وكنت صادقة في ذلك لأن صوت الساعة كان بعيداً وضعيفاً جداً إلا أنه قال رغم ذلك: لا ينبغي أن تنامي في غرفتي بعد الآن، فهذا يجعلني دائماً في قلق بسبب إحتمال إستيقاظك لأقل صوت". فقلت نحن نتعمد أن ينام عندك من يكون نومه خفيفاً لكي يستيقظ بسرعة، إذا أصابتك وعكة، وكان ذلك بعد الأزمة القلبية التي أصابته وانتقل على أثرها إلى طهران، لكنه رغم ذلك قال: "كلا، لا حاجة لذلك، قولي لابنتك ليلى أن تنام في غرفتي بدلاً منك". فاستجبنا لأمره.
وبعد أيام قال: "لا حاجة لأن تنام ليلى هنا أيضاً، فهي تزيح عن نفسها الغطاء وهي نائمة فأضطر إلى القيام مراراً في الليل لتغطيتها به"(17).
شديد الرحمة بالأطفال
كان الإمام شديد الرحمة بالأطفال ومنهم حفيده علي الذي كان يقول له: كن أنت علياً وأنا أكون الإمام! ثم يبدأ بتلاوة سورة التوحيد ويقلد حركات الإمام بيده ويقول: أنا الذي سيعين الحكومة وأنا الذي سيُخرس هذه الحكومة، والإمام يضحك من فعله، أو أن يقول له: أنا طبيبك فاضطجع لأفحصك، فيضطجع الإمام ويضع علي السماعة الطبية على صدره.
المصادر :
1- التحفة السنية (مخطوط) للسيد عبد الله الجزائري، ص320.
2- ميزان الحكمة، حديث 22296.
3- م.ن. حديث 22297.
4- غرر الحكم 9800.
5- م.ن. 7397.
6- م.ن. 10068.
7- مفاتيح الجنان، ص322، خطبة النبي صلى الله عليه وآله في استقبال شهر رمضان المبارك.
8- ميزان الحكمة، حديث 7001.
9- م.ن. حديث 7003.
10- م.ن. حديث 7006.
11- م.ن. حديث 7002.
12- ميزان الحكمة، حديث 7004.
13- م.ن. حديث 6991.
14- أجوبة الاستفتاءات، ج2، ص146 145.
15- لقمان: 19.
16- غررالحكم 7147.
17- السيدة زهراء المصطفوي (إبنة الإمام).