بسم الله الرحمن الرحيم
الإخوة والأخوات الأعزاء، لقد وقعت القضايا المربوطة بالفن في مطبّات عجيبة؛ وليس الأمر بعيداً عن التوقع، لأننا نعيش في حقبة خاصة حيث أدى تفجر المواهب واتساع وشمول كافة المظاهر الإنسانية الجيدة - وبضمنها الفن - ووصولها الى الجميع، أدى ذلك الى زيادة اهتمام الناس بالفن،
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب أن تدخل المفاهيم والمضامين الثورية الجديدة للعمل الفني وتتجلّى وتتفتح فيه، في حين توجد عقبات تعترض سبيل التنظيم الصحيح للعمل الفني و التمهيد للتنظيم الجماهيري.
لذا، يجب تجاوز هذه المطبات، ولا يكفي لتحقق التطوير المطلوب توفر العزم لديكم والإيمان بالعمل الفني، بل يجب توفر الإندفاعة والعشق لتعبيد هذا الطريق للعمل المستقبلي؛ وأعتقد أن لهذا العمل الفني المسرحي فاعلية كبيرة لكنها مجهولة للناس مع الأسف، وهكذا كان الحال في السابق أيضاً؛ فالبضاعة التي تصنعها يد الفنان المبدع الدقيق لا تجلب أنظار العوام بقدر ما تجلبها البضاعة البرّاقة المصنوعة في المعامل؛
وهذا ما يصدق على المسرحية إذا أردنا مقارنتها بالفيلم، فالعارفون بقيمة الفن المسرحي قليلون في حين أن له على المشاهد والمستمع تأثيراً وخصوصيات يفتقدها الفيلم في أغلب الحالات على الأقل.
فالفيلم يجب أن يكون قوياً جداً، وأداء الممثلين فيه إستثنائي، والتصوير والعمل التقني والإنارة كلها إستثنائية لكي يصور حركة الممثلين بأنها طبيعية وحية ومحسوسة؛ أما في المسرحية فالممثلون أناس حقيقيون والكلام يخرج من أفواههم مباشرة وصورهم الحقيقية هي أمام المشاهد، ولذلك تأثيرات حتمية تتوفر في المسرحية ويفتقدها الفيلم، وتوجد أشياء وخصوصيات أخرى تعرفونها أنتم أهل العمل المسرحي أفضل مني ولا شك، وأنا تحدثت عن إحساسي كمستمع ومشاهد.
ومن الضروري الإستفادة من الفن المسرحي بأقصى حد ممكن لسببين: الأول هو أن الكلام الذي يجب تبليغه للناس كثير ويحتاج الى ألف لغة لكي يستطيع الإنسان قول هذه الألف حقيقة الجميلة المجهولة، وحتى لو تمت الإستفادة من جميع أنواع الفنون على الصعيد الإجتماعي لبقيت هناك الكثير من الحقائق والصور الجميلة مجهولة لم يتم تصويرها وتجسيدها للناس،
فالفنان هو - على أي حال - إنسان محدود والآلاف من الفنانين محدودون أيضاً، في حين أن الحوادث والحقائق الواقعية وصور الجمال واللطافة في حياة بني الإنسان غير محدودة، لذا فهم غير قادرين على تصويرها جميعاً.
وعلى أي حال، ففي مجتمع مثل مجتمعنا الثوري هناك كل هذه الوقائع والقضايا الإستثنائية المشهودة فيها، والتي قرأنا نظائر بعضها في الكتب والآثار، ففي كل هذه الصور الخالدة للشجاعة والتضحية والفراسة والفطنة والبسالة في أشكال الدفاع المقدس ضد أشرس مصاديق العداء، وصور كل هذه الصعاب المقترنة بنقل المجتمع من الوضع السابق الى الحالة النموذجية التي يطمح لها، وهي الصعاب التي تواجهها كل الثورات، كل هذه القضايا يجب توضيحها وتبيانها، فمَن القادر على تصوير كل ذلك؟!
أي كاتب وأي شاعر مقتدر؟!
بل وكم لدينا من هؤلاء؟!
وأي بيان بليغ يجب توفره ليعرف شعبنا نفسه بحقائق حياته؟!
إذا كان من الضروري في المجتمعات العادية المتعارفة وجود دور الفن الذي يرسم في الواقع لوحة الحياة - أي ينتخب الصور الجميلة والبارزة ويعرضها - فإن ضرورة وجوده في مجتمعنا الثوري أشد وألزم، الأسباب كثيرة، فمثلاً مَن يستطيع تصوير كل الحوادث المثيرة للإعجاب والحيرة التي يشهدها مجتمعنا؟!
أُدرسوا وضع إحدى عوائل الشهداء أو أحد المعوقين في الجهاد أو المقاتل الذي تحثه عائلته على الذهاب للجبهة، صوّروا طبيعة الحياة في الجبهة لليلة واحدة وتصوروها في أذهانكم، تصوروا الإنتفاضة العظيمة للشعب في الدفاع عن الثورة والوطن بآلاف النماذج والمظاهر التجسيدية والمصاديق المتناثرة.
تمعّنوا في الجهاد الدفاعي الذي يخوضه هذا الشعب والبلد، وبشاعة العداء والأعمال العدائية للأعداء ضد هذا الشعب وحقدهم عليه؛ لاحظوا حالات انتقال الناس من انعدام الإيمان أو ضعفه أو التعلق بالحياة المادية والشخصية الى رحاب العالم الملكوتي والذوبان في الجمع....
هذه آلاف الموضوعات الحية والمهمة والجذابة والجميلة التي لا يستطيع تصويرها سوى إبداع الفن ولا يستطيع توضيحها سوى لغته؛ فعلينا توضيحها بمختلف أنواعه ومنها: فن التمثيل، وهو الأفصح والأكثر تأثيراً.
هذا هو السبب الأول لضرورة الإهتمام بالفن المسرحي واستثمار المواهب. أما السبب الثاني فهو أن الفن يشكّل إحدى الخصائص الإنسانية، ولا يمكن إيصال المجتمع للتكامل مع الغفلة عنه، مثلما هو حال الجسم الذي نموّن بعض أعضائه دون البعض الآخر.
إذا أراد مجتمع ما تحقيق التطور والتكامل في الجوانب المادية والمعنوية والفكرية فيجب أن ينمو الفن فيه، ونحن نعتقد - إستناداً الى أصول فلسفتنا الشمولية - أن جميع الفنون يجب أن تنمو، ومنها فن التمثيل، ولغته أفصح وأبلغ من لغات الفنون الأخرى؛
وبالطبع فللشعر والقصة وبعض الفروع الفنية الأخرى خصوصيات يفتقدها التمثيل، ولكن لا شك في المقابل أن لهذا خصوصيات تفتقدها الفروع الفنية الأخرى. لذا فإني أساند بقوة الدعوة الى العمل في الفن التمثيلي، الذي يجب أن يصبح جماهيرياً اليوم، حيث تحضر الجماهير في مختلف ميادين الحياة؛
في حين أن هذا الفن لم يتركز بين جماهير الشعب في السابق؛ وكم هي جيدة الفكرة التي أشار إليها الإخوة بشأن إقامة عروض تمثيلية في الشوارع والمعابر العامة، فلو انتشرت هذه الظاهرة لكان لها آثار جيدة ولطيفة.
ولكن على الإخوة المديرين لهذه الأمور الإنتباه الى أنه كلما كان الفن المعيّن أكثر تأثيراً، والرسالة التي يحملها أهم كلما وجب أن تتوفر الدقة بدرجة أكبر بشأن الوسيلة التبليغية لها من جهة التقنية والجانب الفني أولاً،
فأفضل رسالة تضيع إذا كان هذا الجانب ضعيفاً؛ وتارة تكون للكلمة الجيدة فرصة واحدة فقط تقال فيها فإذا قيلت بصورة سيئة فلن تأتي فرصة أخرى لتعرض فيها بصورة جيدة.
أحياناً أرى أو أسمع أشياء في التمثيليات التلفزيونية أو الإذاعية تعبّر عن حقائق صحيحة جيدة بحد ذاتها، لكن طريقة أداء الممثلين سيئة الى درجة أن تأثيرها السلبي على الإنسان ينتقل الى أصل تلك الحقائق التي يتحدثون عنها.
إذاً، فالتقنية الفنية القوية أمر مهم للغاية في العمل الفني، فأفضل المضامين إذا أعطيتموها لشاعر ضعيف لضيّعها.
إذاً، فالشرط الأول هو قوة الجانب الفني في العمل الفني، أي شرط التأثير والفائدة، أي أن المدح الذي أوردته بشأن العمل المسرحي - وهو دون قدره بكثير - لا يشمل العرض الضعيف فهو خاص بالعمل الجيد الصحيح والقوي.
وعلى الفنانين وأساتذة هذا الفن والخبراء فيه أن يُفهموا الذين يريدون العمل فيه ضرورة عدم السماح بـإنتاج العمل الضعيف.
لنضرب مثلاً على ذلك من عالم الشعر، لأن العمل المسرحي في بلدنا لا سابقة له باستثناء ما يُجرى في مراسم العزاء الحسيني سابقاً. أما المسرحية بالمعنى الجديد فهي فن حديث الولادة، فالشعر الفارسي يمتاز بسابقة طويلة في مجتمعنا ولغتنا، كذلك في اللغة العربية - وهي لغة قريبة منا، بل جارة لنا من جميع الجهات - وقد ظهر فيها شعراء كبار كان أحدهم يشتغل بنظم قصيدة واحدة على مدى عام كامل، ولذلك يُطلق على هذا النمط من القصائد وصف "الحوليات"،
وطبيعي أن تكون هذه القصائد خالدة في التاريخ خلود النقوش المحفورة على الصخور الصمّاء، ولا زالت هذه القصائد محفوظة متداولة، على الرغم من أن مضامينها في الحقيقة فارغة، لكن جانبها الفني قوي الى درجة أنه خلّدها الى الآن.
أتذكر الى الآن بعض قصائد الشعراء العرب، التي لو أنشد أحدهم مضامينها في شعر فارسي اليوم لاعتقلته اللجان الثورية دون أمرنا، ولما أطلقت سراحه حتى لو طلبنا منهم ذلك!
ورغم هذه المضامين لا زلت أتذكرها وهي لا زالت حية على الرغم من مرور أكثر من ألف ومئة أو مئتي عام؛ فالفن الجيد هو الذي يبقى كما هو وأثره ومحال أن يزول أو يُزال. والمثال الذي ضربته في فن الشعر بصدق على سائر الفروع الفنية من قصة وتمثيلية وغيرها.
إذاً، فالتقنية الفنية القوية أمر مهم ومهم جداً، وإذا أردتم عرض أي مضمون قوي في الثورة ومقبول في مجتمعنا الحالي، فعليكم أن تودعوه في عمل تمثيلي قوي ومناسب. وأرجو من الإخوة المسؤولين عن هذه الأمور في وزارة الإرشاد في أنحاء البلد أن يولوا اهتمامهم البالغ بقوة وصحة ومتانة التقنية الفنية وأسلوب العرض، بمعنى أن يضعوا مصفى لتنقية النتاجات من العمل الضعيف.
هذه هي القضية الأولى.
أما القضية الثانية فترتبط بالمضمون، والمضامين التي خلقتها الثورة في أجواء مجتمعنا، وهي كثيرة، وقد أشرت الى نماذج منها في مجال الحرب والجهاد وتلك الروح الجهادية التي تتجلّى اليوم في سلوكيات شعبنا.
أحياناً أزور منازل عوائل الشهداء وأجلس معهم في أجواء حياتهم، والد الشهيد ووالدته والزوجة والإخوة والأخوات، وأطلب أن يسجلوا أحاديثهم، وأسمعها بدقة، وأحصل على تلك الصور الدقيقة الرائعة التي تتجلّى فيها، وأطلب أن يصوروا تلك الحالات المعنوية العظيمة، ولكن هل يكفي ذلك؟ وهل يمكن تصويرها؟ كنت أفكر مراراً في سر عجزي عن تصوير وتبيان كل مظاهر العظمة في هذه العوائل الصغيرة؟!
عليكم أنتم أن تقوموا بهذه المهمة فأنتم قادرون عليها، فالفن والعمل المسرحي الجيد يستطيع إنجاز ذلك لأنه يستطيع أن يجسّد أدق المشاعر والعواطـف الإنسانيــة - كما أعتقد - وهذا هو الفن الصادق والأداء التمثيلي الجيد، وأنتم قادرون على ذلك وهذه مهمتكم.
من المفيد أن تقوم الفرق المسرحية بزيارة الجبهات - وفي ذلك جهاد عظيم - وزيارة المقرات ومراكز تجمع المقاتلين، واعرضوا لهم أعمالكم الفنية هناك وعرّفوهم بالحياة التي يعيشونها،
أوضحوا لهم تلك الجنان الصافية التي يحيَون فيها، فالإنسان ما دام يعيش في هذه الجنان المعنوية لا يحس بها عادة، ويجب أن يراها في الخارج ليعرفها؛ فأعطوهم فرصة مشاهدة ذلك في أعمالكم الفنية والإحساس به، وعلى أي حال أقدّم لكم شكري أولاً وآخراً.
المصدر :
ترجمة حديث آية الله العظمى السيد الخامنئي مع أعضاء مهرجان عشرة الفجر المسرحي (10/2/1988 م):