ومن مباحث نهج البلاغة التحذير عن الاغترار بالدنيا وعبادة المادة. وما قلناه في الهدف من الزهد في الإسلام يوضح لنا مفهوم ذم الدنيا أيضاً، إذ الإسلام إنما حث على الزهد لأنه المانع عما نهانا عنه من عبادة الدنيا والمادة، وبتوضيح أي واحد من هذين المفهومين يتّضح مفهوم آخر.
ولكن، لأهمية هذا البحث في نفسه، للتأكيد الكثير من الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة على التحذير من الدنيا وعبادتها، عقدنا لذلك فصلاً مستقلاً ليتضح الموضوع أكثر من ذي قبل، ويرتفع بذلك كل إبهام فيه.
ما نبحث عنه أولاً، هو: لما اعتنى الإمام أمير المؤمنين ومن قبله رسول الله ومن بعده سائر الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) بهذا الأمر كثيراً، فتكلموا الكثير في التحذير عن الاغترار بالدنيا وفي فنائها وزوالها وزلاتها وعثراتها وأخطار الاعتناء بجمع المال والثروة، والتوفر على النعم، والمتع المادية والانهماك بها؟ فنقول:
- الواجهة الخاصة لكلام الإمام (عليه السلام) وأخطار الغنائم على عهد الخلفاء لم يكن هذا بمحض الصدفة، بل أن ذلك يرتبط بسلسلة من الأخطار العظيمة التي كانت قد أقبلت على العالم الإسلامي آنذاك من لدن عهد الخلفاء السابقين ولا سيما دور عثمان الذي انتهى الأمر بعده إلى الإمام (عليه السلام)، وذلك من قبل سياستهم المالية وكيفية إدارتهم لثروات الغنائم والفتوحات الإسلامية على عهدهم ونوعية توزيعهم لها وتداولها بينهم.
وكان الإمام (عليه السلام) قد أدرك هذه المخاطر فكافحها مكافحة عملية على عهده، حتى ضحى بنفسه في هذا السبيل، ومكافحة كلامية بالخطب والكتب وسائر كلماته (عليه السلام).
حظي المسلمون بفتوحات كبيرة، ممّا هطل على العالم الإسلامي بثروة كثيرة، ثروة استقرت في أيدي شخصياتها بدلاً من أن تقسم بالتساوي بين جميع الأفراد، أو تصرف في المصارف العامة لهم. واشتد هذا الأمر في زمن عثمان بقوة طاغية، ممّا أكسب أولئك الأفراد المعدودين الذين لم يكن لهم من قبل أية ثروة أو رأسمال، ثروة بغير حساب. وعملت الدنيا حينئذ عملها فأفسدت من الأمة الإسلامية أخلاقها.
وكان نداء الإمام (عليه السلام) حينذاك بسبب الإحساس بهذا الخطر العظيم!
كتب المسعودي في أحوال عثمان يقول: (.. وكان عثمان في نهاية الجود والكرم والسماحة والبذل في القريب والبعيد (من بيت المال طبعاً!) فسلك عماله وكثير من أهل عصره طريقته وتأسوا بفعله. وبنى داره بالمدينة وشيدها بالحجر والكلس، وجعل أبوابها من الساج والعرعر، واقتنى أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة. وذكر عبد الله بن عتبة أن عثمان يوم قتل كان له عند خازنه من المال: خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف خيلاً وإبلاً كثيرة).
ثم كتب يقول: (... وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الدور والضياع، منهم الزبير بن العوام، بني داره بالبصرة - وهي المعروفة في هذا الوقت وهو سنة ٣٣٢ ينزلها التجار وأرباب الأموال وأصحاب الجهاز من البحرين وغيرهم. وابتنى أيضاً دوره بالكوفة، ومصر، والإسكندرية.
وما ذكرنا من دوره وضياعه فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية. وبلغ ثمن ملك الزبير بعد وفاته: خمسين ألف دينار، وخلّف الزبير ألف فرس وألف عبد وأمة، وخططاً بحيث ذكرنا من الأمصار.
وكذلك طلحة بن عبيد الله التيمي ابتنى داره بالكوفة في الكناسة، المشهورة في هذا الوقت بدار الطلحيين. وكانت غلته من العراق في كل يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك، وبناحية الشراة أكثر ممّا ذكرنا، وشيد داره بالمدينة وبناها بالجس والآجر والساج.
وكذلك عبد الرحمن بن عوف الزهري، ابتنى داره ووسعها، وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف شاة من الغنم، وبلغ بعد وفاته الربع من ماله: أربعة وثمانين ألف دينار.
وابتنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق، فرفع سمكها ووسع فضاها، وجعل أعلاها شرفات.
وقد ذكر سعيد بن المسيب: أن زيد بن ثابت حين مات خلّف من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس، غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة: مائة ألف دينار.
وابتنى المقداد داره بالمدينة في الموضع المعروف بالجرف على أميال من المدينة وجعل أعلاها شرفات وصيّرها مجصّصة الظاهر والباطن.
ومات يعلي بن منبه وخلف خمسمائة ألف دينار، وديوناً على الناس وعقارات، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار.
ثم قال: (وهذا باب يتسع ذكره ويكثر وصفه فيما تملك من الأموال في أيامه..) [١].
وواضح أن هذه الثروات الطائلة لا تنبع من الأرض ولا تنزل من السماء، وما لم يكن هناك إلى جانبها حقوق مضيّعة من فقراء مدقعين لا تتيسّر هذه الثروات.
فلهذا يحذر الإمام (عليه السلام) الناس عن عبادة الدنيا ويقول في الخطبة: ١٢٧: (.. وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، ولا الشر إلا إقبالاً، ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً، فهذا أو أن قويت عُدته، وعمّت مكيدته، وأمكنت فريسته. اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً بدل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً، أو متمرداً كأن بإذنه عن سمع المواعظ وقراً. أين خياركم وصلحاؤكم وأين أحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم والمتنزهون في مذاهبهم)؟
أجل! إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وقد رزق المسلمين من سيل النعم بغير حساب، ولكن توزيعه غير العادل على أساس التمييز الطبقي هو الذي أصاب المسلمين بداء (سكر النعم)!
وكان الإمام (عليه السلام) يكافح هذا الخطر العظيم الذي كان قد أصاب الإسلام وأخذ يجر ويلاته على المسلمين، وكان يتفقد كل من كان مساهماً في إيجاد هذا الداء الوبيل! وكان (عليه السلام) يسير هو في حياته العملية الفردية الخاصة على ضد هذه السيرة غير المرضية، وحينما بلغ إلى الخلافة جعل ذلك في رأس قائمته الإصلاحية الجادة.
وكان (عليه السلام) يشير إلى هذه النقطة الهامة: (سكر النعم) ويقول: (ثم أنكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتقوا سكرات النعمة واحذروا بوائق النقمة).
ويذكّرهم عواقب هذه السكرات، ويرى أن لهم منها مستقبلاً وخيماً: (... ذاك حيث تسكرون من غير شراب، بل من النعمة والنعيم..).
قدمنا هذا الكلام هنا لتتضح لنا الواجهة الخاصة لكلمات الإمام (عليه السلام) في ذم الدنيا، وهي أنها كانت متجهة إلى ظاهرة اجتماعية خاصة في ذلك العصر العصيب.
وإذا تجاوزنا هذه الواجهة الخاصة لكلماته (عليه السلام) نجد لها - ولا شك - واجهة عامة لا تختص بذلك العصر، بل تشمل جميع الأعصار والقرون، بل هي من التعاليم التربوية العامة في الإسلام، نابعة من القرآن الكريم وكلمات الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله). ويجب أن تتضح لنا هذه الواجهة العامة لكلامه (عليه السلام) أيضاً بل نحن نولي في كلامنا هنا بهذه الواجهة العامة اهتماماً أكثر وأكبر، إذ هي الواجهة التي يخاطب بها الإمام (عليه السلام) جميع الناس في جميع العصور.
الواجهة العامة لكلام الإمام
لكل مدرسة فكرية أسلوبها الكلامي الخاص، ولابد لمن يريد أن يدرك مفاهيمها كاملة من أن يتعرف على أسلوبها في البيان، ولابد لمن يريد أن يتعرف على أسلوبها من أن يدرك وجهتها الخاصة في نظرتها العامة إلى الإنسان والوجود.
وللإسلام وجهة نظره الواضحة إلى الحياة، فهو ينظر إلى الكون وحياة الإنسان بنظرة خاصة، من أصول هذه النظرة: أن لا ثنوية في العالم، فلا ينقسم العالم في نظر الإسلام إلى قسمين خير وشر، حسن وقبيح، ينبغي أن يكون وينبغي أن لا يكون، بل أن منطق الإسلام يقول: إن القول بهذا كفر ومجوسية: (اعملوا.. فكل ميسّر لما خلق له) من خير وحكمة وغاية، ولا شيء من غير غاية: (الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى) [٢].
إذن، فلا يمكن أن يكون ذم الدنيا في منطق الإسلام متوجهاً إلى الحياة، إذ أن منطق الإسلام المبني على أساس التوحيد الخالص بما يشمل التوحيد القوة الفاعلة في العالم، والنافي لأي شريك لله في الخلقة والتكوين، لا يمكن أن ينظر إلى العالم نظرة سيئة مقيتة، وإن فكرة (الفلك الظالم) و(ظلم الدهر) فكرة غير إسلامية.
إذن فماذا يعني ذم الدنيا في القرآن ونهج البلاغة؟
ما هي الدنيا المذمومة ؟
قد يقول البعض أن ذلك يعني العلاقة القلبية.
وأقول، إن أراد هؤلاء بالعلاقة القلبية الارتباط العاطفي بالدنيا، فلا يمكن أن يكون كلاماً صحيحاً، إذ أن هذه العلاقة حلقة من سلسلة من العواطف المخلوقة معه في فطرته الطبيعية الأولى، وهي من طينته في الصميم، وهي ممّا لم يكتسبه الإنسان بنفسه، وكما أنه ليس في بدن الإنسان عضو زائد خلق عبثاً، كذلك ليس في عواطفه وأحاسيسه شيء زائد عبث، بل أن عواطفه كلها مخلوقة لغاية حكيمة عبّر عنها القرآن الكريم بآيات حكمة الخالق الحكيم: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [٣] .
إن هذه العواطف روابط تربط الإنسان بالحياة، سعياً نحو التكامل، وكما لا نستطيع أن نحكم على العالم بالطرد واللائمة، كذلك لا نستطيع أن نعد هذه العواطف الطبيعية زائدة بدون فائدة، فإنها من أجزاء الحياة.
إذن، فليس المقصود من ذم الدنيا، ذم الحياة، ولا ذم العلاقات الطبيعية والفطرية.
بل أن المقصود من ذلك، هو ذم العلاقة القلبية الموجبة لأسر الإنسان بيد الدنيا ومن في يده شيء منها. وهذا هو الذي يسميه الإسلام، عبادة الدنيا، وهو الذي يكافحه الإسلام مكافحة شديدة والإسلام في هذا يريد أن يردّ الإنسان إلى حالته الطبيعية في ضمن ناموس الحياة، فإن الإفراط في علاقة الإنسان بالدنيا خروج عن حالته الطبيعية.
هل الدنيا سجن المؤمن ؟
هناك العديد من المذاهب الفلسفية تنظر إلى الحياة نظرة ملؤها الشر والغضب، وهي تحسب أن هناك نقصاً في العالم أو تناقضاً، وإن الإنسان أسمى من أن يعيش في هذه العالم، فليست هناك أية رابطة - في نظرها - تربط الإنسان بهذه الحياة إلا علاقة السجين بسجنه أو الواقع في البئر، فلا نجاة له إلا أن يتخلص من شرور هذه الحياة.. فهل الإسلام ينظر إلى الحياة بهذه النظرة أيضاً؟ كلا.
إن الإسلام - المتمثل في نهج بلاغة الإمام (عليه السلام) - يرى علاقة الإنسان بالدنيا كعلاقة الزارع بزرعه: (الدنيا مزرعة الآخرة) أو علاقة التاجر بالمتجر: (إن الدنيا متجر أولياء الله) [٤] أو علاقة المسابق بميدان السباق: (ألا وإن اليوم المظمار وغداً السباق، والسبقة الجنة والغاية النار) [٥] أو علاقة العابد بالمسجد: (الدنيا.. مسجد أحباء الله) [٦].
ويمكننا أن نلخص القول في وجهة نظر نهج البلاغة إلى الحياة في الحكمة ١٣١ من كلمات ردّ بها الإمام (عليه السلام) على من سمعه يذم الدنيا (غداة الندامة) وهو يحسبها (متجرمة عليه)، بناء على فكرة (الفلك الظالم) و(جور الدهر) كما يتبين هذا من مطاوي كلامه (عليه السلام):
(أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها ثم تذمها! أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟ أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟! متى استهوتك أم متى غرتك! أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟! كم عللت بكفيك وكم مرضت بيديك؟ أتبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنهم بقوتك. قد مثلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك.
إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها.
مسجد أحباء الله ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة.
فمن ذا يذمها وقد أذنت بينها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهلها؟ فمثلت لهم ببلائها البلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيباً، وترهيباً، وتخويفاً، وتحذيراً.
فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكرتهم الدنيا فتذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا).
وخلاصة ما يستفاد من كلام الإمام (عليه السلام)، هو أنه سمع رجلاً قد اغتر بغرور الدنيا وخدع بأباطيلها، فلما ندم ذمها غداة الندامة، وهو يحسب أنها هي المتجرمة عليه، فرد الإمام: بأنك أنت المتجرم عليها، لأنك أنت المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها، ولكن ليست هي التي استهوتك وغرتك، بل قد أذنت ببينها ونادت بفراقها ونعت أهلها ونفسها، تخويفاً وتحذيراً وترهيباً فما تخوفت وما حذرت، بينما تذكر رجال آخرون فصدقوها واتعظوا بها، فجعلوها مسجداً ومصلى، ومكسباً ومتجراً ترددوا منه فربحوا الجنة، وسيحمدها هؤلاء يوم القيامة، وتذمها أنت يوم الندامة. فأنت المتجرم عليها لا هي المتجرمة، وليست عليها بل عليك الملامة!
إذن، فالإسلام لا يرى العالم عبثاً، ولا وجود الإنسان فيه خطأً، ولا عواطفه الفطرية غلطاً.. وإذن: فماذا يعني ذم الدنيا في نهج البلاغة؟
ونقول: من غرائز الإنسان الطبيعية غريزة التعبّد والتقديس، والسعي وراء السعادة والكمال، وما يرتبط به ويعتمد عليه أكثر من ارتباط عادي، يجعله منتهى مناه وكل أمله. وهنا إذا لم يهتد الإنسان إلى الصراط المستقيم في قدسه وأمله، فسوف يضل عن الصراط السوي ويتيه في متاهات الضلالة، سادراً في الغي يخبط في عمياء لا يهدي سبيلاً، وحينذاك تتبدل (الوسيلة بالغاية) و(الطريق بالهدف) و(وسيلة النجاة بسلاسل الأسر والعبودية) وحينئذ تتبدل حرية حركته ونشاطه ومساعيه إلى أسر وعبودية وجمود. وهذا هو الذي ينبغي أن لا يكون، وهو على خلاف نظام التكامل في الحياة، بل هو نقص ونوع من الفناء لا البقاء، وهو آفة الإنسان في معاشه، ويراه الإمام والإسلام خطراً ينبه للحذر منه. ولا شك أن الإسلام يعد الإنسان إزاء هذه الحياة بحياة أخرى أفضل منها بمراتب، ولا يرى لهذه الحياة الدنيا ما ينبغي أن تكون غاية مناه ومنتهى آماله، بل يراها مجالاً لأعمال صالحة تصبح وسيلة إلى السعادة الدائمة، ويرى الإنسان أمسى وأعز من أن يكون عبداً لها ولمن في يده شيء منها!
ولهذا نرى الإمام (عليه السلام) يؤكد عل حسن هذه الحياة، ولكن ليس ذلك إلا لمن لم يرض بها دار مقر دائم، فيقول: (ولنعم دار لمن لم يرض بها داراً..) ويكرر: (الدنيا دار مجاز لا دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم) والإنسان حر طليق، ولهذا فإن كل أسر أو قيد أو حدّ، يحدّ من شخصيته وعظمته.
ما هي الدنيا المذمومة؟
قلنا فيما سبق: إن ما يراه الإسلام ممّا لا ينبغي أن يكون في علاقة الإنسان بالدنيا هو: أن يتعلق بها قلبه حتى يصبح أسيراً لها ولمن في يده شيء منها، ولا تسري هذه النظرية السلبية إلى الدنيا من هذا الإطار إلى حياة الإنسان فيها حتى ولو كانت حرة كريمة هادفة واعية.
وقلنا، إن الذي يحاربه الإمام والإسلام في تعاليمه وإرشاداته حرباً لا هوادة فيها هو أن يجعل المرء هذه الحياة هدفاً وغاية لا طريقاً ووسيلة.
وذلك، لأنه لو أصبحت علاقة الإنسان بهذه الحياة بصورة يكون معها طفيلياً على الحياة تابعاً لها ولمن في يده شيء منها، أصبحت الحياة له موتاً وسموماً! وحطمت كل ما في نفسه من المثل الإنسانية السامية، إذ أن قيمة كل امرئ بهدفه في الحياة، فلو لم يكن له أي هدف في الحياة سوى ملء بطنه وكانت مساعيه كلها في هذه الحدود، لم يكن له قيمة سوى ما يهدف له: (من كانت همتهم بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه)!
إذن، فالكلام كله حول كيفية علاقة الإنسان بهذه الحياة كيف يجب أو كيف ينبغي أن تكون؟ إن هناك صورة يصبح الإنسان فيها بهدفه في (أسفل السافلين) وأخسّ موجود في الحياة: (إِنْ هُمْ إِلاَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [٧] وتتحطم فيها جميع قيمه ومثله الإنسانية السامية، ويخرج فيها بصورة حيوانية منكوسة!
وهناك صورة أخرى لهذه العلاقة على العكس من الصورة السابقة تماماً، أي بدل أن يكون الإنسان يضحي بإنسانيته في سبيل الحياة، تنحسر هاهنا الدنيا وما فيها أمام الإنسان، ويصبح كل ما فيها في سبيل خدمة المصالح الإنسانية، ويكون كما في الحديث القدسي: (.. يا بن آدم! خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي..).
وقد أتينا فيما سبق بشواهد من نهج البلاغة على هذا، وهنا نأتي بشواهد أخرى من نهج البلاغة والقرآن الكريم، ونبدأ بشواهد القرآن، فنقول:
تنقسم الآيات القرآنية الكريمة التي تتعلق بعلاقة الإنسان بالدنيا إلى قسمين:
القسم الأول: آيات تدل على فناء الدنيا وزوالها، وعدم ثباتها، وتغيرها وتنكرها، وانتقالها بأهلها حالاً بعد حال.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) [٨] .
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [٩].
وبديهي أن الإنسان في حياته المادية ليس بأكثر من النباتات التي ينتظرها هذا المصير المحتوم، أراد أم كره. إذن، فلو أراد أن يكون واقعياً في نظرته إلى الحياة لا شاعراً خيالياً والإنسان إنما ينال السعادة بالواقعية لا بالأوهام والخيالات - فلابدّ له من أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه، ثم لا يغفل عنها أبداً، (وكفى بالموت واعظاً لمن اتعظ).
ولكن هذا القسم من الآيات القرآنية إنما هو في الحقيقة مقدمة تمهيدية، بل صغرى وكبرى قياس واحد لنتيجة تالية في القسم الثاني من الآيات، فإن هذه الطائفة من الآيات تحاول أن تخرج الحياة الدنيا من تصاويرها هدفاً وغايةً للإنسان في الحياة، وأن تشير إلى أن هذه الحياة الزائفة الزائلة لا ينبغي أن تكون هدفاً للإنسان وغاية له، ولو كانت هي الهدف لكانت الحياة كلها فارغة جوفاً، ولكن هناك من بعد هذه الحياة حياة أخرى دائمة باقية خالدة، هي عالم الآخرة، ينبغي أن يكون هو الهدف والغاية.
والقسم الثاني من الآيات: يسلط الأضواء واضحة صريحة على مشكلة علاقة الإنسان بهذه الحياة، بما نرى فيها صريحاً، أن الذي يحكم الإسلام عليه بأن لا يكون هو: أن يتعلق الإنسان بهذه الحياة تعلق أسر وذلة وقناعة. والآيات هي:
١ـ (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [١٠] .
فهذه الآية الكريمة بينما تنتقد المال والبنين بأنها ليست بأكثر من زينة في الحياة الدنيا، تجعل بمكانها الأمل الوحيد للإنسان في هذه الحياة: الباقيات الصالحات إذ هي خير ثواباً وخير أملاً، أي ترى أن تكون هي الأمل لا الزينة.
٢ـ (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) [١١] .
وهذه الآية أيضاً إنما تنتقد أن يرضى الإنسان بالحياة الدنيا ويطمئن إليها ويغفل عن آيات الله ولا يرجو لقاء الله سبحانه، فإما أن لا يغفل عن آيات الله ويرجو لقاء الله، فلا بأس.
٣ـ (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) [١٢] .
وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد من يتولى عن ذكر الله ولم يرد إلا الحياة الدنيا، فأما من لم يتول عن ذكر الله وأراد الآخرة وسعى لها سعيها، فلا بأس عليه.
٤ـ (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَ مَتَاعٌ) [١٣] .
وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد الذين يفرحون بهذه الحياة الدنيا ولا يضمرون للآخرة أي حزن أو سرور، بل لا يعدون للآخرة أي إعداد، إذ لا يعدونها في الحياة الدنيا إلا قليلاً، فأما من لا يعد الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليلاً. ولا يعد للحياة الدنيا إلا قليلاً أيضاً، بل إنما يضمر فرحته ويعد عدته ويسعى سعيه للآخرة، فلا بأس عليه أيضاً.
٥ـ (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [١٤].
وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، ثم هم يغفلون بها عن الآخرة فلا يعلمون عنها أي شيء، أما من يعلم الآخرة علماً قطعياً، ويعلم واقع الحياة - كما في القسم الأول من الآيات - عن يقظة وشعور، فلا بأس عليه أيضاً.
فأنت ترى: أن الذي حكم عليه في جميع هذه الآيات بالنفي والتنفيذ وأن لا يكون، هو أن تصبح الدنيا أمل الإنسان الذي يرضاه، وزاده الذي يقنع به، وطمأنينته التي يفرح بها. وهكذا علاقة من الإنسان بالحياة هي التي تجعل الإنسان في خدمة الحياة وضحية ساقطة في ميادينها، بدلاً من أن تجعل الدنيا في خدمة الإنسان.
هذه هي نظرية الإسلام المتمثلة في القرآن الكريم في شأن علاقة الإنسان بالدنيا.
والإمام علي (عليه السلام) أيضاً يتبع نفس هذا الأسلوب القرآني في نهج البلاغة:
فنرى أن كلماته (عليه السلام) بهذا الصدد تنقسم أيضاً إلى نفس القسمين:
* قسم شرح فيه الإمام: فناء الدنيا وزوالها وتغيرها وانتقالها، بأوصاف دقيقة وتشبيهات وكنايات واستعارات بليغة.
* وفي القسم الثاني: يستنتج نفس النتيجة القرآنية السالفة:
ففي الخطبة ٣٢ يقسم الإمام الناس إلى قسمين، أبناء الدنيا وأبناء الآخرة. ثم يرجع إلى أبناء الدنيا فيصنفهم على أربعة أصناف.
يقول (عليه السلام):(... فالناس على أربعة أصناف:
أ) منهم من لا يمنعه من الفساد إلا مهانة نفسه وكلالة حده ونضيض وفره.
ب) ومنهم المصلت سيفه والمعلن بشرّه، والمجلب بخيله ورجله، قد أشرط نفسه وأوبق دينه، لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه.
ج) ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه، وشمّر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية.
د) ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصّرته الحال عن حاله، فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس أهل الزهادة. وليس من ذلك في مراح ولا مغدى) [١٥] .
فالإمام (عليه السلام) يعد هؤلاء الأصناف الأربعة - على رغم اختلاف وجهات نظرهم في الحياة - فرقة واحدة، هم من أهل الدنيا. وذلك، لأنهم يشتركون في وجهة واحدة هي ما عبر عنها بقوله: (.. ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً، وعما لك عند الله عوضاً).
إذن، فالمسالة مسألة تضحية الإنسانية في سبيل خدمة الدنيا، والعكس من ذلك.
وقد كتب (عليه السلام) في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) أو محمد بن الحنفية - كما في تحف العقول وابن ميثم البحراني - يقول: (أكرم نفسك عن كل دنية، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك ثمناً) [١٦] .
وفي (تحف العقول) عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه سئل: من أعظم الناس خطراً؟ فقال (عليه السلام): (من لم ير الدنيا خطراً لنفسه) [١٧] .
ويتضح لنا من هذه النظرة الفاحصة في القرآن ونهج البلاغة، أن الإسلام لم يبخس من قيمة الدنيا شيئاً، بل إنما استهدف من ذلك إحياء القيم والمثل الإنسانية السامية، وإن تكون الحياة في خدمة الإنسان لا الإنسان في خدمة الحياة، وبالتالي ما أراده الله إذ قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [١٨] .
وفي تاريخ حياة الإمام الصادق (عليه السلام) في (بحار الأنوار): أن له (عليه السلام) من الشعر قوله:
أنا من بالنفس النفيسة ربها ***** وليس لها في الخلق كلهم ثمن [١٩]
ومن هذا القبيل أحاديث كثيرة نمسك عن نقلها هنا خوف التطويل.
----------------------------------------------------------
[١] . المسعودي ـ مروج الذهب، ج٢، ص٣٤١-٣٤٣، ط مصر. وج٤، ص٢٥٢ - ٢٥٥، ط أوربا.
[٢] . سورة السجدة: ٣٢.
[٣] . سورة الروم: ٢١.
[٤] . الحكمة: ١٣١.
[٥] . الخطبة: ٢٨.
[٦] . الحكمة: ١٣١.
[٧] . سورة الفرقان: ٤٤.
[٨] . سورة الكهف: ٤٥.
[٩] . سورة الحديد: ٢٠.
[١٠] . سورة الكهف: ٤٨.
[١١] . سورة يونس: ٧.
[١٢] . سورة النجم: ٢٩-٣٠.
[١٣] . سورة الرعد: ٢٦.
[١٤] . سورة الروم: ٧.
[١٥] . الخطبة ٣٢.
[١٦] . تحف العقول، ص٢٠٠.
[١٧] . تحف العقول، ص٢٠٠.
[١٨] . سورة الإسراء: ٧٠.
[١٩] . بحار الأنوار.
يتبع ......