عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

تفسير آية الوضوء


تعرض الکثِر من العلماء والادباء والمفسرين الی اية الوضوء بالبحث والتفسیر والتمحیص وتطرقوا الی الجانب النقی منه وکذلک الجانب العرفاني ، نطرح في هذا المقال الجانبین تباعا وناخذ اولا :

الجانب (النقلي) الروائي لتفسیر آية الوضوء :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(1).
یقول العلامة المقدّس الأردبيلي، أحمد بن محمّد (... - 993 هـ) في تفسیره زبدة البيان في أحكام القرآن ص 15 - 22
تخصيص المؤمن بالخطاب لأنّ الكافر لم يقم إلى الصلاة، ولأنّه المنتفع به كما في أكثر التكاليف ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ أي إذا صلّيتم فإنّ المراد بالقيام قيامها، والتقدير إذا أردتم الصلاة مثل ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ﴾(2)
فأقيم مسبّب الإرادة مقامها للإشعار بأنّ الفعل ينبغي أن لا يترك ولا يتهاون فيه، ويفعل سابقاً على القصد الّذي لا يمكن إلّا بعده، فظاهر الأمر الوجوب، فيجب الوضوء للصّلاة بأن يغسل الوجه. والغسل محمول على العرفيّ، وفسّر بإجراء الماء على العضو ولو كان بالآلة وأقلّه أن يجري ويتعدّى من شعر إلى آخر، وظاهرها يدلّ على وجوبه كلّما قام إليها لأنّ ظاهر "إذا" العموم عرفاً وإن لم يكن لغة، ولأنّ الظاهر أنّ القيام إليها علّة، ولكن قيّد بالإجماع والأخبار بالمُحْدِثين (من الحَدَث)
وقيل: كان ذلك في أوّل الأمر ثمّ نسخ، وقيل الأمر فيه للندب وردّ النسخ بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "المائدة آخر القرآن نزولاً فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها"(3)
ولي في النسخ تأمّل إلّا أن يقال المراد نسخ وجوب الوضوء على المتوضّئين المفهوم من عموم فاغسلوا، فعمومه منسوخ، وليس ذلك بتخصيص حيث كان العموم مراداً معمولاً به، وكذا في الندب إلّا أن يقال الندب بالنسبة إلى المتوضّئين فيكون المراد به الرجحان المطلق، فكان الندب بالنسبة إلى المتوضّئين والوجوب بالنسبة إلى غيرهم هذا صحيح ولكن ليس هذا قولاً بأنّ الأمر للندب فقط كما قاله في الكشّاف...
الآية تدلّ على وجوب أمور في الوضوء:
الأوّل: غسل الوجه وهو العضو المعلوم عرفاً، وقد حدّ في بعض الأخبار المعتبرة بأنّه الّذي يدور عليه الإبهام والوسطى عرضاً، وطولاً من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، وهو أوّل فعل في الوضوء، فظاهر الآية لا يدلّ على اعتبار النيّة،ولا على تعيين الابتداء، لكن اعتبار النيّة معلوم إذ لا يمكن الفعل الاختياريّ بدونها وفعلهم عليهم السّلام كان من الأعلى إلى الأسفل في أعضاء الغسل فهو أحوط، ولا على وجوب الترتيب بين أجزاء العضو، بل لا يمكن ذلك حقيقة، نعم ملاحظة العرفيّ حسن ولا على وجوب التخليل مطلقاً ويدلّ على عدمه الروايات الصحيحة(4)
ولا على وجوب المسّ والدّلك باليد لصدق الغسل مع الكلّ، فكلّما دلّ عليه دليل من خبر أو إجماع يقال به، والباقي يبقى على حاله.
الثاني: غسل اليدين والترتيب مستفاد من الإجماع والخبر ويمكن فهمه من الآية أيضاً بتكلّف بأن يقال يفهم تقديم الوجه لوجود الفاء التعقيبيّة ولا قائل بعدم الترتيب حينئذ فإنّ الحنفيّة لا توجب الترتيب أصلاً، بل تجوّز تقديم غسل الرجلين على غسل الوجه.
وأيضاً عطف الباقي على الوجه الّذي هو مدخول الفاء يفيد التعقيب في كلّ واحد فتأمّل فيه فإنّها تدلّ على فعل المجموع بعد القيام إلى الصلاة فكأنّه قال: إذا قمتم إلى الصلاة فتوضّؤا ولا تدلّ على الموالاة أيضاً وفهمها بأنّه يفهم تعقيب الكلّ بلا فصل، وذلك غير ممكن فيراعى ما أمكن بعيد، فإنّ المراد مجرّد التعقيب لا بلا مهلة، وعلى تقدير كونها مرادة فلا يفهم إلّا كون غسل الوجه بلا مهلة.
نعم: يفهم وجوب الموالاة وبطلان الوضوء بتركها، مع جفاف جميع الأعضاء السابقة من الروايات الصّحيحة(5)
بل الإجماع ويمكن فهم أنّ محلّ الوجوب في غسل اليدين إلى المرافق، وإنّ سلّم أنّ ظاهرها كون الابتداء من الأصابع،ولكن انعقد إجماع الأمّة على عدم وجوب ذلك فيكون إلى هنا لانتهاء غاية المغسول ومحمولة على معناها اللّغويّ لا الغسل بمعنى كونه منتهاه بعد الابتداء من الأصابع، وأنّه يكفي مسمّى الغسل فيه أيضاً كالوجه على أيّ وجه كان ولا يبعد وجوب غسل المرفق وإن كان غاية وخارجاً من باب المقدّمة لأنّه مفصل وحدّ مشترك، كما ثبت في الأصول فقول القاضي البيضاويّ: وجب غسلها احتياطاً غير مناسب.
الثالث: مسح الرأس مطلقاً، بما يصدق مقبلاً ومدبراً قليلاً أو كثيراً على أيّ وجه كان إلّا أنّ إجماع الأصحاب، على ما نقل، وفعلهم عليهم السّلام خصّصه بمقدّم الرأس ببقيّة البلل، لا بالماء الجديد اختياراً، وجوّزه بعض نادر، ودليله ليس بناهض عليه، فإنّه روايتان صحيحتان دالّتان على عدم جواز المسح بفضلة الوضوء والنّدى بل بالماء الجديد، وحملتا، على التقيّة لذلك مع ما فيه، وعلى غير الاختيار والاحتياط لا يترك وقد منع بأكثر من ثلاث أصابع استحباباً، ووجوباً كأنّه بالإجماع، وذهب البعض إلى وجوب ثلاث أصابع، ولا دليل عليه، وعموم الآية والأخبار بل خصوصها ينفيه.
الرابع: مسح الرّجلين بالمسمّى كالرأس وفي الرواية الصّحيحة أنّه بكلّ الكفّ ويفهم من الأخرى كلّ الظهر، وإلى أصل الساق ومفصل القدم(6)
وهو المراد بالكعب، ويدلّ عليه اللّغة، وهو مذهب العلّامة وكأنّه موافق لمذهب العامّة فافهم، ودليل مسحهما إجماع الإمامية وأخبارهم، وظاهر الآية، فإنّ قراءة الجرّ صريحة في ذلك لأنّه عطف على رؤوسكم لا يحتمل غيره، وهو ظاهر وجرّ الجوار ضعيف خصوصاً مع الاشتباه، وحرف العطف، ولهذا ما قاله في الكشّاف
وقال: المراد بالمسح حينئذ الغسل القليل. وقد عرفت ما فيه وقراءة النصب أيضاً كذلك، لأنّه عطف على محلّ رؤوسكم وأمثاله في القرآن العزيز وغيره كثيرة جدّا وعطفه على الوجه معلوم قبحه خصوصاً في مثل القرآن العزيز، وليس وجود التحديد في المغسول دليلاً عليه كما قاله البيضاويّ بل هو دليل على ما ذهب إليه أصحابنا لحصول التعادل بأن يكون العضو الأوّل من المغسول والممسوح غير محدود والثاني منهما محدوداً وللقاضي هنا مباحث ولنا كذلك، يطلب من الحاشية، وظاهر الآية عدم الترتيب بينهما، ولا دليل عليه أيضاً من الإجماع والأخبار، بل أكثر الأصحاب على عدمه والأصل مؤيّد، ولا شكّ في الصّدق مع فعله غير مرتّب فتأمّل...
وظاهر إذا قمتم كون الوضوء واجباً لغيره، وهي الصّلاة مثلاً و﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ﴾أي: فاغتسلوا كون الغسل واجباً لنفسه لأنّ الظاهر أنّه معطوف على قوله ﴿إِذَا قُمْتُمْ﴾ فتقديره يا أيّها الّذين آمنوا إن كنتم جنباً فاطّهّروا ويدلّ عليه الأخبار أيضاً...
﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى﴾ كأنّه عطف على محذوف هو كنتم صحاحاً حاضرين قادرين، أي إذا قمتم إلى الصّلوة وكنتم صحاحاً حاضرين قادرين على استعمال الماء فإن كنتم محدثين لغير الجنابة توضّؤوا، وإن كنتم جنباً فاغتسلوا وإن كنتم مرضى مرضاً يضرّكم استعمال الماء، أو مسافرين فلم تقدروا على استعمال الماء لعدمه أو للتضرّر به. ﴿أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ﴾ لعلّه هنا كناية عن الحدث الخارج من أحد السبيلين فأو، بمعنى الواو "أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ" لعلّه كناية عن الجماع الموجب لغسل الجنابة وهو الدخول حتّى تغيب الحشفة قبلاً أو دبراً ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ أي اقصدوا أرضاً طاهرة مباحة فامسحوا بأيديكم بعض وجوهكم وبعض أيديكم مبتدئاً من الصّعيد أو ببعض الصّعيد، بأن تضعوا أيديكم على بعضه، ثمّ تمسحوا الوجه واليد أو من بعض التيمّم كما ورد في الرواية أي ما يتيمّم به وهو الصّعيد فلا دلالة على تقدير كونها تبعيضيّة على وجوب لصوق شي‌ء من الصّعيد، فيجب كونه تراباً يلصق كما توهّم.
فالآية تدلّ على وجوب الغسل، وأنّ الجنابة موجبة له، وأنّ الغائط بل البول والريح أيضاً أحداث موجبة للوضوء وأنّ المرض والسفر مع عدم القدرة على الماء موجب للتيمّم بدلهما، ومشعرة بأنّه يبيح به ما يبيح بهما وعلى اشتراط طاهرية ما يتيمّم به، بل إباحته أيضاً بل طهارة الماء وإباحته أيضاً في الوضوء والغسل وأنّ كيفية التيمّم أنّ المسح يكفي ببعض الوجه مطلقاً وكذا ببعض اليد ولا يحتاج إلى الاستيعاب والتخليل وأنّ أوّل أفعال التيمّم مسح الوجه.
والوضوء والغسل والتيمّم مبيّنات في كتاب الفروع مع أحكامها وجميع واجباتها وموجباتها والفروعات الكثيرة ليس هذا محلّها إذا لمقصود هنا ما يمكن فهمه من الآيات الكريمة، ثمّ لا يخفى أنّ نظم هذه الآية مثل الّتي سيجي‌ء لا يخلو عن إشكال على حسب فهمنا مثل ترك الحدث في أوّلها وذكر الجنابة فقط بعده والإجمال الّذي لم يفهم أنّ الغسل بعد القيام إلى الصلاة أم لا، وترك كنتم حاضرين صحاحاً قادرين على استعمال الماء، ثمّ عطف إن كنتم عليه، وترك تقييد المرضى وتأخير فلم تجدوا عن قوله أو جاء وذكر جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم مع عدم الحاجة إليهما إذ يمكن الفهم عمّا سبق، والعطف بأو، والمناسب بالواو، وغير ذلك مثل الاختصار في بيان الحدث الأصغر على الغائط والتعبير عنه بجاء أحد منكم من الغائط والأكبر على لامستم والتعبير عن الجنابة به وكأنّه لذلك قال في كشف الكشّاف ونعم ما قال: والآية من معضلات القرآن ثمّ طوّل الكلام في توجيه "أو" في قوله:
﴿أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم﴾، ولعلّ السرّ في ذلك الترغيب على الاجتهاد، وتحصيل العلوم لتظفير السعادات الدائمة.
ثمّ في الآية احتمالات وأبحاث أخر ستجي‌ء في الثانية إنشاء الله تعالى وقد استدلّ بقوله "فَلَمْ تَجِدُوا ماءً" على طلب الماء غلوة سهم في الحزنة، وغلوتين في السهلة ولا دلالة عليه فيها، ولا في الخبر(7)
والأصل ينفيه نعم ينبغي الطلب حتّى يتحقّق عدم الماء عنده عرفاً مثل رحله وحواليه مع الاحتمال فتأمّل.
﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ قيل: أي ما يريد الله الأمر بالوضوء للصلاة أو بالتيمّم تضييقاً عليكم ويحتمل أن يكون المراد ما يريد الله جعل الحرج عليكم بالتكاليف الشاقّة مثل تحصيل الماء على كلّ وجه ممكن مع عدم كون الماء حاضراً وإن كان ممكناً في نفس الأمر، ولا [يكلّف‌] بالطلب الشاقّ كالحفر وغيره بل بنى على الظاهر فقبل التيمّم ولا كلّف في التيمّم أيضاً بأن يوصل الأرض إلى جميع البدن أو أعضاء الوضوء بل التيمّم أيضاً وأن يطلب ما يمكن إيصاله بل يكفي مجرّد وجه الأرض، وهو مقتضى الشريعة السمحة.
﴿وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ﴾ أي من الذنوب فإنّ العبادة مثل الوضوء كفّارة للذنوب أو لينظفكم عن الأحداث ويزيل المنع عن الدخول فيما شرط فيه الطهارة عليكم فيطهّركم بالماء عند وجوده وعند الإعواز بالتراب، فالآية تدلّ على أنّ التيمّم رافع في الجملة وطهارة فيباح به ما يباح بالماء، ويؤيّده ما في الأخبار ويكفيك الصعيد عشر سنين والتراب أحد الطهورين وربّ الماء وربّ التراب واحد(8)
فيبعد منع إباحة التيمّم ما يبيحه الماء، وأنّه يجب لما يجب له.
ثمّ إنّه يزول التيمّم بزوال المانع لأنّه لا يرفع الحدث بالكلّية نعم يحتمل رفعه إلى أن يتحقّق الماء أو توجد القدرة على استعماله إذ لا استبعاد في حكم الشارع بزوال الحدث إلى مدّة فإنّه مجرّد حكم الشارع فلعلّ البحث يرجع إلى اللّفظيّ فتأمّل.
واللّام للعلّة فمفعول يريد محذوف وهو الأمر في الموضعين وقيل زائدة وليجعل وليطهّركم مفعول، والتقدير لأن يجعل عليكم ولأن يطهّركم وليس فيه قصور وضعف: لأنّ "أن" لا تقدّر بعد اللّام المزيدة كما قاله البيضاويّ. لأنّ الشيخ المحقّق الرضىّ قدّس سرّه قال في شرح الكافية: وكذا اللّام زائدة في لا أبا لك عند سيبويه، وكذا اللّام المقدّر بعدها أن بعد فعل الأمر والإرادة كقوله تعالى ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ على أنّه قال البيضاويّ أيضاً في تفسير قوله تعالى ﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ أنّ يبيّن مفعول يريد، واللّام مزيدة لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة، وهل هذا إلّا تناقض.
﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَه﴾ أي ليتمّ بشرعه ما هو مطهّر لأبدانكم ومكفّر لذنوبكم في الدِّين، أو ليتمّ برخصه إنعامه ﴿عَلَيْكُم﴾ بعزائمه ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمته ثمّ أمر الله تعالى بعد ذلك بذكر النعمة والميثاق والعهد الّذي عاهدتم به بقوله ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ ﴾ الآية وأمر المؤمنين بكونهم قوّامين للّه شهداء بالعدل فأوجب عليهم ذلك، ونهاهم عن أن يحملهم البغض على العدول والخروج عن الشرع بقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ قال البيضاويّ في ﴿اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ إذا كان هذا مع الكفّار فما ظنّك بالعدل مع المؤمنين؟ ثمّ أمر بالتقوى ووعدهم بالامتثال وأوعدهم على تركه بقوله ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
ثمّ اعلم أنّ في حكاية ابني آدم على نبيّنا وآله عليهم السلام إشارة إلى أنّ التقوى شرط لقبول العمل "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ" صفة مصدر محذوف أي أتل واقرأ تلاوة متلبّسة بالحقّ أو حال من ضمير ﴿أَتْلُ﴾ أو من نبإ ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ ظرف بناء، أو حال منه، والقربان اسم لما يتقرّب به إلى الله من ذبيحة وغيرها كما أنّ الحلوان اسم لما يحلى أي يعطى وهو في الأصل مصدر ولهذا لم يثنّ مع أنّ المراد منه اثنان، وقيل تقديره إذ قرّب كلّ واحد منهما قرباناً فلا يحتاج إلى التثنية ﴿فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ﴾ قابيل ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ وعده بالقتل بعد عدم قبول قربانه وقبول قربان أخيه، لفرط الحسد على ذلك ولبقاء ما يريده له "قالَ" أخوه هابيل ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ أي إنّما أصابك ما أصابك من عدم القبول عند الله من قبل نفسك، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ فاقتل نفسك لا نفسي.
وفيه إشارة إلى أنّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره فيكون الذنب له لا للمحسود، فلا بدّ أن يجتهد في تحصيل ما صار به المحسود محسوداً ومحظوظاً لا في إزالة حظّ المحسود فإنّ ذلك يضرّه ولا ينفع الحاسد، بل يضرّه وهو ظاهر. وفيه دلالة على أنّ القبول يشترط فيه التقوى كما قلناه.
قال البيضاويّ: وفيه إشارة إلى أنّ الطاعة لا تقبل إلّا من مؤمن متّق وفيه إشكال ولهذا ما شرطه الفقهاء فإنّ الفسق لا يمنع من صحّة عبادة إذا فعلت على وجهها، ويمكن أن يقال المراد اشتراط التقوى في تلك العبادة أي لا يقبل الله العبادة
إلّا من المتّقين فيها بأن يأتي بها بحيث لا يكون عصياناً مثل أن يقصد بها الرئاء أو غيره من المبطلات أو المراد تقوى عن ذنب ينافي تلك العبادة فيكون إشارة إلى أنّ الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضدّه وهو موجب للفساد، وبالجملة
يشترط في قبولها عدم كونها معصية ولا مستلزماً لها، الله يعلم ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.
قال في الكشّاف: كان هابيل أقوى من قابيل، ولكنّه تحرّج عن قتله واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأنّ الدفع لم يبح بعد أو تحرّياً لما هو الأفضل، قال عليه الصلاة والسلام: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، ويمكن أن يقال التسليم غير ظاهر، وكذا كونه مباحاً فانّ وجوب حفظ النفس عقليّ ولا يمكن إباحة التسليم الّذي هو ينافيه بل هو قتل النفس والآية لا تدلّ على التسليم، فإنّه قال ﴿مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ﴾ فإنّه يدلّ على عدم بسط اليد بقصد قتله لا للدفع أيضاً وهو ظاهر ويمكن فهم وجوب الدّفن من آخر الآية.

ثانيا : الجانب العرفاني في تفسير آية الوضوء :
يتحدّث السيد حيدر الآملي (719 - 787 هـ) في تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم (9)
عن وضوء أهل الشريعة يقول:
وأمّا وضوء أهل الطّريقة (طهارة النفس والعقل) فالطهارة عندهم بعد القيام بالطّهارة المذكورة، عبارة عن طهارة النفس من رذائل الأخلاق وخسائسها، وطهارة العقل من دنس الأفكار الرديّة والشبه المؤدّية إلى الضّلال والإضلال، وطهارة السرّ من النظر إلى الأغيار، وطهارة الأعضاء من الأفعال الغير المرضيّة عقلاً وشرعاً.
وأمّا أفعال هذه الطهارة المعبّر عنها بالوضوء
فالنيّة فيه، وهي أن ينوي المكلّف بقلبه وسرّه أنّه لا يفعل فعلاً يخالف رضى الله تعالى بوجه من الوجوه، ويكون جميع عباداته لله خالصة دون غيره لقوله تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾(10).
وغسل الوجه، وهو أن يغسل وجه قلبه عن حدث التعلّق بالدّنيا وما فيها، فإنّ الدّنيا جيفة وطلّابها كلاب، فالطالب والمطلوب نجسان، ولهذا قال عليه السلام:
"حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة وترك الدّنيا رأس كلّ عبادة"(11).
وقال عليّ عليه السلام:
"يا دنيا غرّي غيري فإنّي قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها"(12).
وغسل اليدين، وهو غسلهما وطهارتهما عمّا في قبضتهما من النقد والجنس والدنيا والآخرة، فإنّ طهارتهما حقيقة ليس إلّا بترك ممّا في تصرّفهما وحكمهما.
ومسح الرأس، وهو أن يمسح رأسه الحقيقي المسمّى بالعقل أو النّفس، أي يطلع عليهما حتّى يعرف أنّه بقي عندهما شي‌ء من محبّة الدّنيا وما يتعلّق بها من المال والجاه.
ومسح الرّجلين وهو أن يمنعهما عن المشي بغير رضى الله وطاعته ظاهراً وباطناً، والمراد بالرجلين في الظاهر معلوم وأمّا في الباطن هما عبارتان عن القوّة النّظرية والعمليّة عند البعض وعن القوّة الشهويّة والغضبيّة عند الآخرين وإلى مثل هذا الوضوء المضاف إلى الوضوء الأوّل أشار النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقال: "الوضوء نور"
"الوضوء على الوضوء نور على نور"(13).
أعني صفاء الظّاهر مع صفاء الباطن على الوجه المذكور فهو نور على نور، أي نور البصيرة على نور الشرع سبب صفاء الظاهر والباطن وموجب ثبات السّالك على الطّريق المستقيم في الدّنيا والآخرة لقوله تعالى:
﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾(14).
رزقنا الله الجمع بينهما والإقامة على كلّ واحد منهما، لأنّه المستعان وعليه التكلان.
وأمّا وضوء أهل الحقيقة
فالوضوء عندهم المعبّر عنه بالطهارة عبارة عن طهارة السّرّ عن مشاهدة الغير مطلقاً.
والنيّة فيها وهي أن ينوي السّالك في سرّه أنّه لا يشاهد في الوجود غيره ولا يتوجّه إلّا إليه، لأنّ كلّ من توجّه في الباطن إلى غيره فهو مشرك بالشّرك الخفيّ المتقدّم ذكره المشار إليه في قوله تعالى:﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾(15).
ولقوله:﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾(16).
والمشرك نجس لقوله:﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾(17).

التوحيد الحقيقي:
فطهارته لا يكون إلّا بهذه النيّة الّتي هي عبارة عن التوحيد الحقيقي النافي للشرك مطلقاً، لأنّه معلوم،وبل مقرّر أنّ الخلاص من الشرك جليّاً كان أو خفيّاً لا يمكن إلّا بالتوحيد ألوهيّاً كان، أو وجوديّاً كما سبق ذكره مفصّلاً عند بحث الأصول.
وغسل الوجه فيها عبارة عن طهارة الوجه الحقيقي ونظافة سرّه عن دنس التوجّه إلى الغير، بحيث لا يشاهد غير وجهه الكريم المشار إليه في قوله:﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾(18).
و لا يعرف غير ذاته المحيط المومئ إليه في قوله:
"واللّه بكلّ شي‌ء محيط" وعن هذا التّوجّه أخبر من لسان إبراهيم عليه السلام ، بقوله:﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(19).
وغسل اليدين عبارة عن عدم الالتفات إلى ما في يديه من متاع الدّنيا والآخرة، من الدّنيا كالمال والجاه والأهل والولد، ومن الآخرة كالعلم والزّهد والطاعة وما يحصل منها كالثواب والجنّة والحور والقصور، لأنّ رؤية الطّاعة والعبادة واستحقاق التعظيم بهما عند أهل الله معصية، وفيه قيل: "سيّئة تسوؤك خير من حسنة تعجبك"(20).
وفيه قيل: "خير الأعمال ذنب أحدث توبة، وشرّ الأعمال طاعة أورثت عجباً".
وإليه أشار صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: "الدّنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدّنيا، وهما حرامان على أهل اللّه"(21).
ومسح الرأس عبارة عن تنزيه سرّه وتقديس باطنه الّذي هو الرأس الحقيقي عن دنس الأنانية وحدث الغيريّة الحاجب والحاجز بينه وبين محبوبه لقول بعض العارفين فيه:
بيني وبينك إنّيٌّ ينازعني *** فارفع بفضلك إنّيِّ من البينِ‌
وفيه قيل: "وجودك ذنب لا يقاس به ذنب".
وقد سبق أنّ كلّ من شاهد الغير فهو مشرك، وكلّ مشرك نجس، والنجس ليس له طريق إلى عالم القدس والحضرة الإلهيّة لقوله:
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾(22).
ومسح الرّجلين، عبارة عن تنزيه قوّتي العملية والعلمية عن السير إلّا باللّه وفي اللّه، لأنّهما كالقدمين.
والرجلين في الظاهر لأنّه بهما يسعى في طلب الحقّ وبهما يصل إليه، وعند التّحقيق:﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾(23).
إشارة إليهما، أعني إذا وصلت إلينا بواسطتهما فدعهما فإنّك بعد هذا ما أنت محتاج إليهما، ومعلوم عند الوصول يجب طرح كلّ ما في الوجود سيّما القوى والحواسّ وما اشتمل عليهما ظاهراً وباطناً.
وعند البعض المراد بالنّعلين الدّنيا والآخرة. وعند البعض عالم الظاهر والباطن، وعند البعض النّفس والبدن، والكلّ صحيح، وفي مثل هذا الحال وهذا المقام ورد في الحديث القدسي:
"لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش وبي يمشي"(24).
إشارة إلى السّير بالله الّذي هو مقام التكميل دون الكمال المشار إليه في قوله:
﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(25).
وأمّا بالنّسبة إلى اليدين كقوله:﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾‌(26).
وهاهنا أبحاث وأسرار يطول ذكرها، يكفي الفطن اللبيب هذا المقدار، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.
ثمّ بعد أن يتحدّث السيّد حيدر الآملي عن غسل أهل الشريعة يقول:و أمّا غسل أهل الطريقة(حبّ الدنيا جنابة)
فالغسل عندهم بعد القيام بالغسل المذكور، طهارة من الجنابة الحقيقيّة الّتي هي البعد عن الله، دون المجازيّة الّتي هي الأحداث الشّرعيّة.
والجنابة الحقيقية على قسمين: قسم يتعلّق بهم، وقسم متعلّق بأهل الحقيقة.
أمّا الّذي يتعلّق بأهل الحقيقة فسيجي‌ء بيانه بعد هذا بلا فصل.
وأمّا الّذي يتعلّق بهم فهي الجنابة الحاصلة من محبّة الدّنيا، فإنّ الدّنيا في الحقيقة كالمرأة الّتي لها كلّ ساعة بعل آخر كما أشار إليها الإمام عليه السلام في قوله: " قد طلقّتك ثلاثاً لا رجعة فيها"(27)
لأنّها لو لم تكن كالمرأة أو في حكمها ما خاطبها الإمام بهذا الخطاب، فكلّ من يلامس مثل هذه ويجامعها بالنّفس أو الروح أو القلب يكون جنباً بالحقيقة، والجنابة هي البعد عن الله تعالى، فكلّ من يحبّ الدّنيا على الوجه المذكور يكون بعيداً عن الله ضرورة، فإنّ محبّة الله وقربه، ومحبّة الدّنيا وقربها ضدّان لا يجتمعان، وإليه الإشارة في القول السّابق عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي قال:
"الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدّنيا، وهما حرامان على أهل اللّه"(28).
وكذلك ما قال تعالى في كتابه العزيز:﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾(29).
وكذلك ما أشار الإمام عليه السلام في قوله:
"إنّ الدّنيا والآخرة عدوّان متفاوتان وسبيلان مختلفان، فمن أحبّ الدّنيا وتولّاها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب، وماش بينهما كلّما قرب من واحد بعد من الآخر، وهما بعد ضرّتان"(30).
فالغسل والطّهارة من هذه الجنابة يكون بترك الدّنيا وما فيها بحيث لا يبقى له تعلّق بها بمقدار شعرة، لأنّ في الغسل الشّرعي لو بقي على الجسد شعرة لم يصل الماء إليها: لم يصح غسله ولم يطهر صاحبه من الجنابة، فإنّ التعلّق من حيث التعلّق له حكم واحد وهو التعلّق سواء كان قليلاً أو كثيراً، كما قيل:
"المحجوب محجوب سواء كان بحجاب أو ألف حجاب".
وترتيب هذا الغسل وهو أن يغسل السّالك أوّلاً رأسه الحقيقي- الّذي هو القلب هاهنا- بماء العلم الحقيقي النازل من بحر القدس، من حدث الأهواء المختلفة، والآراء المتشتّتة المتعلّقة بالدّنيا وبمحبّتها الموجبة للدّخول في الهاوية الّتي هي النّار لأنّ الهوى إذا أغلب انجذب صاحبه إلى عبادة الأصنام والأوثان الباطلة ذهناً كان أو خارجاً، أمّا الخارج فهو معلوم، وأمّا الدّاخل فذلك أيضاً قد سبق بحكم قوله تعالى:
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾(31).
وكلّ من أطاع هواه لا بدّ وأن يدخل النار لقوله تعالى أيضاً:﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾(32).
أي من خفّت موازينه من العلم والعمل الصّالح الصّادران من العقل الصحيح والنفس الكامل، فهو في الهاوية الّتي هي أصلها وأمّها، لأنّ منشأ الهوى من النّفس الأمّارة، والنّفس الأمّارة منشأها ومنبعها الطبيعة الحيوانيّة، والقوى الشهويّة والغضبية اللّتان هما من جنودها وأعوانها، كذلك صادران من الطبيعة والنّفس، فلا تكون الهاوية في الحقيقة إلّا التوجّه إلى النّفس، الأمّارة والشّهوة والغضب، وأسفل سافلين إشارة إليها في قوله تعالى:﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾(33).
أي رددناه بأفعاله إلى أسفل عالم الطبيعة والنّفس الأمّارة بمتابعة الهوى ومخالفة الحقّ في أفعاله وأقواله، لقول أهل النّار فيه:
﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾(34). ولهذا دائماً أهل الله الّذين هم أهل العلم الحقيقي والعمل الصّالح والعقل الصّحيح، موصوفون بالسّكينة والوقار، والطمأنينة والإخبات وأمثال ذلك لقوله تعالى فيهم:﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾(35)﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾(36).
وأهل الأهواء والبدع موصوفون بالخفّة وقلّة العقل، وعدم السكينة والوقار، لقوله تعالى فيهم:﴿َالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ﴾(37).
وقد سدّ باب سؤال كلّ سائل في هذا المقام قوله تعالى:﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾(38).
لأنّ هذا تحريض على منع النّفس عن الهوى، وتشويق إلى دخول الجنّة الّتي هي المأوى الحقيقي والموطن الأصلي من غير التراخي ولا
"تخففوا تلحقوا فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم"(39) ، يعني تخفّفوا من أثقالكم الحاصلة من متابعة الهوى ومحبّة الدّنيا، فإنّ إلحاقكم بالحقّ وبالجنّة موقوف عليه، أي على تخفيفكم منها، وإليه الإشارة بقوله تعالى:﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ﴾(40).
ثمّ يغسل ويطهّر روحه وسرّه الّذي هو من الجانب الأيمن المعبّر عنه:بالرّوحانيّات عن محبّة العلويّات، والرّوحانيّات المعبّر عنها بالآخرة والجنّة، لأنّ أهل الآخرة مخصوصون بأصحاب اليمين والعلويّات، لقوله تعالى في الأوّل:
﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ﴾(41)
و لقوله في الثّاني:﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه﴾(42).
ثمّ يغسل جانبه الأيسر، أي يغسل ويطهّر نفسه وجسده الّذي هو الجانب الأيسر المعبّر عنه: بالجسمانيّات عن محبّة السّفليّات والنفسانيّات المعبّرة عنها بالدّنيا، بماء الترك والتجريد وعدم الالتفات إليه، فإنّ الدّنيا مخصوصة بأهل الشمال، كما أنّ الآخرة مخصوصة بأهل اليمين لقوله تعالى:﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ﴾(43)
فانّ بهذه الطّهارة يحصل له استحقاق دخول الجنّة واستعداد قرب الحضرة العزّة، كما قال:﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾(44).
رزقنا الله الوصول إليها، فانّ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وأمّا غسل أهل الحقيقة
(البعد عن الحقّ سبحانه ومشاهدة الغير، جنابة عند أهل الحقيقة)
فالغسل عندهم عبارة عن طهارتهم من الجنابة الحقيقية الّتي هي مشاهدة الغير مطلقاً، لأنّ الجنابة كما سبق بيانها هي البعد، وكلّ من شاهد الغير فهو بعد عن الحقّ ومشاهدته، ولا يمكن إزالة هذا البعد إلّا بقربه إلى التوحيد الحقيقي الّذي هو مشاهدة الحقّ تعالى من حيث هو هو لقوله:﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(45) ، و قد مرّ بيان هذا التّوحيد مراراً.
وترتيب هذا الغسل وهو أن يغسل رأسه الحقيقي الّذي هو هاهنا روحه المجرّد بماء التوحيد الذّاتي عن حدث مشاهدة الغير، لأنّ محبّة الله تعالى كما هو وظيفة الباطن المعبّر عنه بالنفس المطمئنّة، معرفته وظيفة القلب، ومشاهدته وظيفة الرّوح، كما أنّ الوصول إليه وظيفة (السّر) الّذي هو باطن الرّوح.
والى هذا الترتيب أشار جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام في بعض أدعيته وهو قوله:
"اللّهم نوّر ظاهري بطاعتك، وباطني بمحبتك، وقلبي بمعرفتك، وروحي بمشاهدتك، وسرّي باستقلال اتّصال حضرتك يا ذا الجلال والإكرام"(46)
وهذا الغسل لا يمكن إلّا بفناء العارف في المعروف، والشاهد في المشهود المعبّر عنه بالفناء في التوحيد، وذلك يكون بمشاهدة الحقّ من حيث هو هو، أعني يشاهده بحيث لا يشاهد معه غيره، أعني لا يشاهد في الوجود إلّا وجوداً واحداً، وذاتاً واحدة مجرّدة عن جميع الاعتبارات والتّعيّنات، وإليه أشار الحقّ تعالى في قوله:﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(47).
وكذلك في قوله:
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾(48)،وقد مرّ تحقيق هاتين الآيتين غير مرّة والتكرار غير مستحسن.
وحيث تقرّر هذا التّوحيد، هو الصّراط المستقيم الحقيقي، المأمور بالاستقامة عليه نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم:﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾(49)
و الحدّ الأوسط المشار إليه في قوله:﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(50)
وتقرّر أنّ له طرفان: طرف إفراط، وطرف تفريط، اللّذان هما التّوحيد الإجمالي، والتوحيد التّفصيلي.
فالطّهارة من دنس جانب الإفراط المعبّر عنه بالأيمن يكون بخلاصه من التّوحيد الإجمالي، والطّهارة من دنس التفريط المعبّر عنه بالأسر يكون بخلاصه من التّوحيد التفصيلي، والاستقامة على الصّراط المذكور والحدّ الأوسط المعبّر عنه بالطّهارة الكبرى يكون بجمعه بين التّوحيدين، وقطع النّظر عن مشاهدة الغير أصلاً ورأساً مع اعتباره ومشاهدته من حيث الجمع المعبّر عنه بأحديّة الفرق بعد الجمع، وذلك صعب في غاية الصّعوبة، ولهذا وصفه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بـ"أحدّ من السّيف، وأدقّ من الشعر"(51).
وقوله تعالى:﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾،إشارة إلى الطّرفين، وقوله:﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ ،إشارة إلى التّوحيد الجمعي المحمّدي الجامع للتّوحيدات كلّها.
وبالجملة ليست الجنابة الحقيقية إلّا مشاهدة الغير على أيّ وجه كان، وليست الطّهارة الحقيقية عند التحقيق إلّا بعد الخلاص منها على أيّ وجه كان، وفيه قيل:
قنعتُ بطيفٍ من خيالٍ بعثتُمُ *** وكنتُ بوصلٍ منكُمُ غيرَ قانعِ‌
إذا رمتَ من ليلى من البعدِ نظرةً *** لتطوى جوى بين الحشا والأضالع‌
تقول نساء الحيِّ تطمعُ أن ترى *** بعينيكَ ليلى مُتْ بداءِ المطامعِ‌
وكيفَ تَرى ليلى بعينٍ ترى بها ***سواها، وما طَهَّرتَها بالمَدامع‌
وأمثال ذلك في هذا المعنى كثير، فليطلب من مظانّها. والله أعلم وأحكم وهو يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.هذا غسل الطّوائف الثّلاث بقدر هذا المقام.
المصادر :
1- سورة المائدة، الآية: 6.
2- سورة النحل، الآية: 98.
3- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 2، ص 7.
4- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، أبواب الوضوء، الباب 46.
5- الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 35.
6- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، أبواب الوضوء، الباب 15.
7- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، أبواب التيمم، الباب الأوّل، الحديث 2.
8- الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 63.
9- تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم ج4 ص 18- 26 و ص 29 – 41.
10- سورة الأنعام، الآيتان:162- 163.
11- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 67، ص 315، .
12- نهج البلاغة، الحكمة: 77.
13- ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الأوّل، ج 2، ص 195.
14- سورة إبراهيم، الآية: 27.
15- سورة الجاثية،الآية: 23.
16- سورة يوسف،الآية: 106.
17- سورة التوبة،الآية: 28.
18- سورة البقرة،الآية: 115.
19- سورة الأنعام،الآية: 79.
20- نهج البلاغة، الحكمة: 46.
21- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 4، ص 119.
22- سورة النساء، الآية: 48.
23- سورة طه،الآية:12.
24- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 4، ص 103. مع اختلاف بسيط.
25- سورة التوبة،الآية: 122.
26- سورة الأنفال،الآية: 17.
27- نهج البلاغة، الحكمة: 77.
28- عوالي اللئالي، ابن جمهور الأحسائي، ج 4، ص 119.
29- سورة الشورى،الآية: 20.
30- نهج البلاغة، الحكمة: 103.
31- سورة الجاثية،الآية: 23.
32- سورة القارعة،الآيتان: 7- 8.
33- سورة التين،الآيتان: 4-5.
34- سورة الملك، الآية: 10.
35- سورة القارعة، الآيتان: 6- 7.
36- سورة الغاشية، الآية: 10.
37- سورة الأنعام، الآية: 71.
38- سورة النازعات، الآيتان: 40 - 41.
39- نهج البلاغة، الخطبة: 21 و167.
40- سورة الصافات،الآيتان: 60-61.
41- سورة الواقعة، الآيات: 27- 31.
42- سورة الزمر، الآية: 67.
43- سورة الواقعة، الآيات: 41 43.
44- سورة القمر، الآيتان: 54-55.
45- سورة آل عمران، الآية: 18.
46- موسوعة مؤلّفي الإمامية، مجمع الفكر الإسلامي، ج 2، ص 600، .
47- سورة القصص، الآية: 88.
48- سورة الرحمن، الآيتان: 26- 27.
49- سورة هود،الآية: 112.
50- سورة الانعام،الآية: 153.
51- فتح الباري، ابن حجر، ج 11، ص 295.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

طرق الكسب المشروع
الرجل والمرأة في المجتمع
ليالي القدر ليالي التقدير والإبرام والإمضاء
تفسير آية الوضوء
النظر إلى الحبيب يخفف الألم
الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
ما يحتاجه الطفل بعد الولادة
الظواهري: البغدادي كذّاب؛ خالف اوامرنا بعدم ...
لماذا تتغير المرأة بعد الزواج ؟
ثمان وثمانون وصية في التربية

 
user comment