من العوامل الأساس الّتي أدّت إلى إعاقة حركة التفسير عند علماء المسلمين،بل تحوّلت في كثير من الحالات إلى مانع يصدّ عن التعاطي مع كتاب الله وعقبة تردع المفسّرين من ارتياد معانيه والغوص في أعماقه، الخطأ في فهم النصوص المستفيضة بل المتواترة الواردة عند الفريقين عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام الّتي تحدّثت عن ظاهرة تفسير القرآن بالرأي، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من فسَّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب"(1) ، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "من فسَّر في القرآن برأية فليتبوّأ مقعده في النار"(2).
ويعتبر منهج التفسير بالرأي من المناهج المذمومة والمرفوضة في التفسير، وقد جاء بحث ودراسة هذا المنهج كما ذكرنا بسبب ورود الأحاديث في ذمّه، والأخطار المترتّبة على المفسّر في حالة استخدامه؛ والّتي قد تؤدّي به إلى الانحراف عن التفسير، وبالتالي يكون مصيره جهنّم كما ورد في الروايات، ولهذا السبب فإنّ معرفة هذا المنهج التفسيري والاحتراز عنه تحظى بأهميّة خاصّة عند المفسّرين.
وإذا أخذنا التفسير بمعناه العام (الصحيح والخاطئ)، فإنّ هذا المنهج (التفسير بالرأي) سوف يعدّ جزءاً من المناهج التفسيريّة؛ أمّا إذا كان مقصودنا من التفسير هو الصحيح فقط، فحينئذٍ يكون إطلاق اسم التفسير على التفسير بالرأي من باب المسامحة في التعبير ؛ لأنّ هذا المنهج لا يكشف ولا يبيّن المراد من آيات القرآن، بل يبيّن نظر ورأي المفسِّر.
المراد من التفسير بالرأي
الرأي: الأصل في معنى هذه الكلمة هو النظر بكلّ وسيلة، وتشمل النظر بالعين أو بالقلب أو عن طريق الشهود الروحاني أو بقوّة الخيال.
وكلمة "الرأي" بمعنى: اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن. ويرى بعض المفسّرين أنّ القرآن والسنّة لم يستعملا "الرأي" بمعنى الإدراك العقلي. فإذاً يمكن أن يقال إنّ معنى "الرأي" هو العقيدة أو الانطباع الشخصي الّذي يتكوّن على أساس وخلاصة القول في منهج التفسير بالرأي: إنّ الشيء المذموم أو الممنوع شرعاً، الّذي استهدفه حديث "من فسّر القرآن برأيه..."، أمران:
1- أن يعمد شخص إلى آية قرآنية، فيحاول تطبيقها على ما قصده من رأي أو عقيدة أو مسلك، تبريراً لما اختاره في هذا السبيل، أو تمويهاً على العامّة.
وهذا قد جعل القرآن وسيلة لإنجاح مقصوده بالذّات، ولم يهدف إلى تفسير القرآن في شيء.
2- الاستبداد بالرأي في تفسير القرآن، محايداً طريقة العقلاء في فهم معاني الكلام، ولا سيّما كلامه تعالى، فإنّ للوصول إلى مراده تعالى من كلامه وسائل وطرقاً، منها: مراجعة كلام السلف، والوقوف على الآثار الواردة حول الآيات، وملاحظة أسباب النزول، وغير ذلك من شرائط يجب توفّرها في مفسّر القرآن الكريم، فإغفال ذلك كلّه، والاعتماد على الفهم الخاصّ، مخالف لطريقة السلف والخلف في هذا الباب. ومن استبدّ برأيه هلك، ومن قال على الله بغير علم فقد ضلّ سواء السبيل(3).
الجذور التاريخية للتفسير بالرأي
لا يوجد تشخيص دقيق لبداية هذا المنهج في التفسير؛ ولكن روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعض الروايات في ذمّ هذه الطريقة في التفسير؛ ولعلّ ذلك يكشف عن أنّ هذا المنهج بدأ في زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ولهذا فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر هذا التفسير وذمّ القائمين به.
ثمّ طرحت هذه المسألة بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في زمان الأئمّة عليهم السلام ، فصدرت عنهم روايات متعدِّدة في ذمّ التفسير بالرأي، بل روي عن الإمام عليّ عليه السلام ، أنّه خاطب بعض الأفراد ونهاهم عن هذا النوع من التفسير، ثمّ انتشر هذا المنهج في العصور التالية في بعض كتب التفاسير، فأخذ بعض المفسّرين والفرق باتّهام بعضهم بعضاً في استخدام هذا المنهج، كما أتّهم بعض الكتّاب الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير وإخوان الصفا، وبعض الصوفية، وأحياناً الأشاعرة والمعتزلة باستخدام التفسير بالرأي، لتأويلهم آيات القرآن طبقاً لعقائدهم. وقد بلغ هذا المنهج أقصى ما وصل إليه في العصر الحاضر، حيث سعى بعض المنافقين مع ظهور المدارس الإلحادية والتفسير بالرأي أن يجذبوا شباب المسلمين إلى صفوفهم، وإخفاء مقاصدهم الإلحادية تحت هذا الستار، وقد أطلق الشهيد المطهّري على هذا المنهج تسمية "المادّية المغفّلة"، أو "المادّية المنافقة".
أدلّة المخالفين للتفسير بالرأي
1- آيات القرآن الكريم، مثل:
ألف - قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(4).
ب - قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾(5).
بيان الاستدلال:
ألف - إنّ التفسير بالرأي كلام غير علمي ينسب إلى الله تعالى؛ لأنّ المفسّر بالرأي لا يملك اليقين بالوصول إلى الواقع، وغاية ما يتوصّل إليه هو الظنّ.
ب- إنّ نسبة الكلام غير العلمي إلى الله حرام؛ للنهي عن ذلك في القرآن كما في الآيتين المتقدّمتين؛ فالنتيجة هي حرمة التفسير بالرأي(6).
2- روايات المنع من التفسير بالرأي
ثمّة روايات متعدّدة في مصادر الشيعة والسنّة يمكن تقسيمها إلى عدّة مجموعات:
ألف- الروايات الّتي تُدين وتذمّ التفسير بالرأي فقط وتذكر جزاءهم، منها:
ـ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار"(7).
ـ عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من فسّر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر"(8)
ـ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "قال الله جلّ جلاله: ما آمن بي مَنْ فسّر برأيه كلامي"(9).
ب- الروايات الّتي تعتبر التفسير بالرأي نوعاً من أنواع الكذب والقول بغير علم، منها:
ـ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من فسَّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب"(10).
ـ وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار"(11).
ج- الروايات الّتي تدين التفسير بالرأي من جهة كونه ضلالاً، منها:
ـ عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "ويحك يا قتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت"(12).
د- الأحاديث الّتي تدين التفسير بالرأي وإن كانت النتيجة صحيحة، منها:
ـ عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ فهو أبعد من السماء"(13).
أدلّة القائلين بجواز التفسير بالرأي
1- الآيات القرآنية الّتي تحثّ على التفكّر والتدبّر، منها:
قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ ، ومنها الآية الّتي تشير إلى مسألة الاستنباط من القرآن وهي: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾.
فقد ورد الحثّ في هذه الآيات على التفكّر والتدبّر في آيات القرآن، وأشارت الآية الأولى إلى أنّ أصحاب العقول والفهم يمكنهم الاستنباط من القرآن والوصول إلى المطالب القرآنية عن طريق الاجتهاد والعقل.
ولا معنى لأن يحثّنا الله سبحانه وتعالى على استخدام العقل والتدبّر ثمّ يقف حائلاً دون استعمال الاجتهاد والنظر والرأي.
والجواب: لقد خلط هؤلاء بين مورد التفسير بالرأي مع التفسير العقلي والتدبّر في فهم القرآن، فما ورد في هذه الآيات هو الترغيب والحثّ على التدبّر في فهم القرآن، وأنّه لا يجوز الاجتهاد والاستنباط من الآيات إلّا بعد مراجعة القرائن العقلية والنقلية والتدبّر فيها. أمّا بالنسبة إلى المفسّر بالرأي فإنّه يعلن رأيه الشخصي قبل الرجوع إلى هذه القرائن ويقوم بتحميل نظره الشخصي على الآيات، فالمنع من التفسير بالرأي لا يعني عدم جواز التدبّر والتفكّر في آيات القرآن.
2- إنّ المنع من التفسير بالرأي لا يعني عدم جواز الاجتهاد في التفسير:
لأنّ المنع من الاجتهاد يؤدّي إلى تعطيل الكثير من الأحكام، وهذا الأمر باطل بالضرورة؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يُفسّر جميع الآيات، فلا بدّ للمجتهد من استنباط الأحكام من القرآن وإذا ما أخطأ في ذلك فهو مأجور أيضاً.
والجواب: إنّ الاجتهاد في الأحكام على قسمين: الاجتهاد قبل مراجعة القرائن العقلية والنقلية، والثاني: الاجتهاد بعد مراجعة القرائن العقلية والنقلية، والأوّل ممنوع؛ لأنّه اجتهاد وفتوى بغير دليل والآخر جائز لأنّه اجتهاد صحيح.
وكذلك الاجتهاد في التفسير فإنّه ينقسم إلى هذين القسمين أيضاً، فيطلق على القسم الأوّل التفسير بالرأي، وعلى الثاني التفسير الاجتهادي الصحيح.
3- لقد قرأ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم القرآن واختلفوا في تفسيره:
ولأنّ جميع أقوالهم الّتي اختلفوا فيها لم يؤخذ جميعها من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قطعاً بل اعتمدوا فيها على آرائهم الشخصية، واجتهدوا في مقابل بعضهم البعض، فإن كان التفسير بالرأي حراماً فهذا يعني أنّ الصحابة قد ارتكبوا الحرام.
والجواب: لا بدّ من الالتفات إلى عدّة نقاط في مسألة اختلاف الصحابة في التفسير:
ألف - يمكن أن يكون ذلك الاختلاف نتيجة لوصول أخبار مختلفة للصحابة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو يكون ناشئاً عن اختلاف فهمهم لكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ب- يحتمل أن يكون تفسيرهم ناشئاً عن الاختلاف في فهم الآيات المتشابهة، أو الجمع بين الناسخ والمنسوخ أو العامّ والخاصّ وأمثال ذلك، وهذا أمر طبيعي ولا يعتبر من التفسير بالرأي.
ج- لم يثبت أنّ الصحابة قاموا بتفسير القرآن في كلّ الموارد دون مراجعة المعايير المعتبرة في التفسير، أو دون مراعاة القرائن العقلية والنقلية والالتفات إلى الآيات المحكمة.
د- على فرض أنّ بعض الصحابة قد تورّط في التفسير بالرأي عن طريق الغفلة أو السهو أو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يوجد دليل على عصمتهم لكي يكون عملهم دليلاً على جواز التفسير بالرأي.
وعلى هذا فمن مجموع أدلّة المخالفين لهذا المنهج في التفسير القوية والمقبولة يتبيّن أنّه منهج خاطئ، وأنّ أدلّة القائلين بجوازه ضعيفة لا تنهض لأن تكون أساساً للعمل بهذا المنهج.
الطباطبائي وموقفه من منهج التفسير بالرأي
يعتبر كتاب الميزان في تفسير القرآن، للعلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي واحداً من أشهر وأهمّ كتب التفسير في واقعنا المعاصر، ونظراً لشهرته اخترنا هذا التفسير ليكون نموذجاً لبحثنا.
حول تفسير الميزان
من تأليف العلّامة الحكيم السيّد محمّد حسين الطباطبائي المولود بتبريز سنة (1321هـ). والمتوفّى بقمّ المقدّسة سنة (1402هـ).
وهو تفسير جامع حافل بمباحث نظريّة تحليلية ذات صبغة فلسفية في الأغلب، جمع فيه المؤلّف إلى جانب الأنماط التفسيريّة السائدة، أموراً ممّا أثارته النهضة الحديثة في التفسير، فقد تصدّى لما يثيره أعداء الإسلام من شبهات، وما يضلّلون به من تشويه للمفاهيم الإسلامية، بروح اجتماعية واعية، على أساس من القرآن الكريم.
مزايا تفسير الميزان
1- جمع بين نمطي التفسير: الموضوعي والترتيبيّ، فقد فسَّر القرآن آية فآية وسورة فسورة، لكنّه إلى جنب ذلك، نراه يجمع الآيات المتناسبة بعضها مع بعض، ليبحث عن الموضوع الجامع بينها، كلّما مرّ بآية ذات هدف موضوعيّ، وكانت لها نظائر منبثّة في سائر القرآن.
2- عنايته التامّة بجانب الوحدة الموضوعيّة السائدة في القرآن، كلّ سورة هي ذات هدف أو أهداف معيّنة، هي تشكّل بنيان السورة بالذّات، فلا تتمّ السورة إلّا عند اكتمال الهدف الموضوعيّ الّذي رامته السورة، ولذلك نجد السور تتفاوت في عدد آياتها.
3- الاستعانة بمنهج "تفسير القرآن بالقرآن"، فقد حقّق القرآن هذا الأمر وأوجده بعيان؛ إذ نراه يعتمد في "تفسيره" على القرآن ذاته، فيرى أنّ غير القرآن غير صالح لتفسير القرآن، بعد أن كان تبياناً لكلّ شيء فيا تُرى كيف يكون القرآن تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه؟!
يقول العلّامة الطباطبائي: "الطريقة المرضيّة في التفسير هي أن تفسّر القرآن بالقرآن، ونشخّص المصاديق ونعرّفها بالخواص الّتي تعطيها الآيات، كما قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ وحاشا القرآن أن يكون تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه"(14) ويمكن القول بحقّ إنّ "الميزان في تفسير القرآن" هو من التفاسير الجامعة لكلّ مناهج وألوان التفسير حيث تجد أنّ السيّد الطباطبائي جمع إلى جانب منهج تفسير القرآن بالقرآن منهج التفسير الروائي والفلسفي والتاريخي والاجتماعي...
بيان الطباطبائي لمنهج التفسير بالرأي
ذكر العلماء والمفسّرون آراء متباينة حول مفاد روايات التفسير بالرأي، وسنعرض لرأي العلّامة الطباطبائي وموقفه من هذا المنهج.
اعتبر السيّد الطباطبائي أنّ التفسير بالرأي يحتمل وجوهاً متعدّدة، أهمّها:
- تفسير المتشابه الّذي لا يعلمه إلّا الله.
- التفسير المقرّر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تبعاً، فيردَّ إليه بأيّ طريق أمكن وإن كان ضعيفاً. وهذا يحصل فيما لو كان للمفسِّر ميل إلى نزعة أو مذهب فيتأوّل القرآن على رأيه ويصرفه عن المراد، فيجرّ شهادة القرآن لتقرير رأيه.
- التفسير بأنّ مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل.
- التفسير بالاستحسان والهوى ومن دون الاستناد إلى نظر في أدلّة العربية ومقاصد الشريعة، وما لا بدّ منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول.
- القول بالقرآن بما يعلم أن الحقّ غيره.
- القول في القرآن بغير علم وتثبُّت، سواء علم أنّ الحقّ خلافه أم لا. ثمّ علّق عليها بقوله: "وربما أمكن إرجاع بعضها إلى بعض، وكيف كان فهي وجوه خالية عن الدليل، على أنّ بعضها ظاهر البطلان".
معنى "الرأي" عند الطباطبائي
ثمّ بعد أن استعرض النصوص الدالّة على النهي عن تفسير القرآن بالرأي قال: "قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من فسّر القرآن برأيه..."، الرأي هو الاعتقاد عن اجتهاد، وربما أطلق على القول عن الهوى والاستحسان، وكيف كان لما ورد قوله برأيه مع الإضافة إلى الضمير، عُلِم منه أن ليس المراد به النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن حتّى يكون بالملازمة أمراً بالاتّباع والاقتصار على ما ورد من الروايات في تفسير الآيات عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام على ما يراه أهل الحديث. بل الإضافة في قوله: "برأيه" تفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال بأن يستقلّ المفسّر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس، فإنّ قطعة من الكلام من أيّ متكلّم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ونحكم بذلك: إنّه أراد كذا، كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما، كلّ ذلك لكون بياننا مبنيّاً على ما نعلمه من اللغة ونعهده من مصاديق الكلمات حقيقة ومجازاً.
والبيان القرآني غير جار هذا المجرى، بل هو كلام موصول بعضه ببعض في عين أنّه مفصول، ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض كما قاله الإمام عليّ عليه السلام ، فلا يكفي ما يتحصّل من آية واحدة بإعمال القواعد المقرّرة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها، دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ويجتهد في التدبّر فيها كما يظهر من قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾.
التفسير المنهي عنه
فالتفسير بالرأي المنهيّ عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف وبعبارة أُخرى إنّما نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن تفهّم كلامه تعالى على نحو ما يتفهّم به كلام غيره وإن كان هذا النحو من التفهُّم ربما صادف الواقع، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية الأُخرى: "من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ"، فإنّ الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلّا لكون الخطأ في الطريق، وكذا قوله عليه السلام: "إن أصاب لم يؤجر"(15).
وليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ وسرد الجمل وإعمال الصناعات اللفظية، فإنّما هو كلام عربيّ روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربيّ، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ وقال تعالى: ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ وقال تعالى:﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وإنّما الاختلاف من جهة المراد والمصداق الّذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.
توضيح ذلك: إنّا من جهة تعلّق وجودنا بالطبيعة الجسمانية وقطوننا المعجّل في الدنيا المادّية، ألفنا من كلّ معنى مصداقه المادّي واعتدنا بالأجسام والجسمانيات، فإذا سمعنا كلام واحد من الناس حملناه على ما هو المعهود عندنا من المصداق والنظام الحاكم فيه، لعلمنا بأنّه لا يعني إلّا ذلك؛ لكونه مثلنا لا يشعر إلّا بذلك، وعند ذلك يعود النظام الحاكم في المصداق يحكم في المفهوم، فربما خصّص به العام أو عمّم به الخاصّ أو تصرّف في المفهوم بأيّ تصرّف آخر، وهو الّذي نسمّيه بتصرّف القرائن العقلية غير اللفظية.
مثال ذلك إنّا إذا سمعنا عزيزاً من أعزّتنا ذا سؤدد وثروة يقول: وإن من شيء إلّا عندنا خزائنه، وتعقّلنا مفهوم الكلام ومعاني مفرداته حكمنا في مرحلة التطبيق على المصداق أنّ له أبنية محصورة حصينة تسع شيئاً كثيراً من المظروفات، فإنّ الخزانة هكذا تتّخذ إذا اتّخذت، وأنّ له فيها مقداراً وافراً من الذهب والفضّة والورق والأثاث والزينة والسلاح، فإنّ هذه الأمور هي الّتي يمكن أن تخزن عندنا وتحفظ حفظاً. وأمّا الأرض والسماء والبرّ والبحر والكوكب والإنسان فهي وإن كانت أشياء لكنّها لا تخزن ولا تتراكم، ولذلك نحكم بأنّ المراد من الشيء بعض من أفراده غير المحصورة، وكذا من الخزائن قليل من كثير، فقد عاد النظام الموجود في المصداق وهو أنّ كثيراً من الأشياء لا يخزن، وأنّ ما يختزن منها إنّما يختزن في بناء حصين مأمون عن الغيلة والغارة، أوجب تقييداً عجيباً في إطلاق مفهوم الشيء والخزائن.
ثمّ إذا سمعنا الله تعالى يُنزل على رسوله قوله:﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾
فإن لم ترق أذهاننا عن مستواها الساذج الأوّلي فسّرنا كلامه بعين ما فسّرنا به كلام الواحد من الناس، مع أنّه لا دليل لنا على ذلك البتّة فهو تفسير بما نراه من غير علم.
وإن رقت أذهاننا عن ذلك قليلاً، وأذعنّا بأنّه تعالى لا يخزن المال وخاصّة إذا سمعناه تعالى يقول في ذيل الآية: ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ أيضاً: ﴿وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ حكمنا بأنّ المراد بالشيء الرزق من الخبز والماء، وأنّ المراد بنزوله نزول المطر لأنّا لا نشعر بشيء ينزل من السماء غير المطر، فاختزان كلّ شيء عند الله ثمّ نزوله بالقدر كناية عن اختزان المطر ونزوله لتهيئة المواد الغذائية. وهذا أيضاً تفسير بما نراه من غير علم؛ إذ لا مستند له إلّا أنّا لا نعلم شيئاً من السماء غير المطر، والّذي بأيدينا ها هنا عدم العلم دون العلم بالعدم.
وإن تعالينا عن هذا المستوى أيضاً واجتنبنا ما فيه من القول في القرآن بغير علم وأبقينا الكلام على إطلاقه التامّ، وحكمنا أنّ قوله: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾ يبيّن أمر الخلقة، غير أنّا لمّا كنّا لا نشكّ في أنّ ما نجده من الأشياء المتجدّدة بالخلقة كالإنسان والحيوان والنبات وغيرها لا تنزل من السماء، وإنّما تحدث حدوثاً في الأرض، حكمنا بأن قوله: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾ كناية عن مطاوعة الأشياء في وجودها لإرادة الله تعالى، وأنّ الإرادة بمنزلة مخزن يختزن فيه جميع الأشياء المخلوقة، وإنّما يخرج منه وينزل من عنده تعالى ما يتعلّق به مشيّته تعالى. وهذا أيضاً كما ترى تفسير للآية بما نراه من غير علم؛ إذ لا مستند لنا فيه سوى أنّا نجد الأشياء غير نازلة من عند الله بالمعنى الّذي نعهده من النزول ولا علم لنا بغيره.
وإذا تأمّلت ما وصفه الله تعالى في كتابه من أسماء ذاته وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله والقيامة وما يتعلّق بها وحكم أحكامه وملاكاتها، وتأمّلت ما نرومه في تفسيرها من إعمال القرائن العقلية، وجدت أنّ ذلك كلّه من قبيل التفسير بالرأي من غير علم وتحريف لِكَلِمه عن مواضعه.
من هنا يظهر أنّ التفسير بالرأي كما بيّناه لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير النبويّ: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار.
ومن هنا يظهر أيضاً أنّ ذلك يؤدّي إلى ظهور التنافي بين الآيات القرآنية من حيث إبطاله الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدّي إلى وقوع الآية في غير موقعها ووضع الكلمة في غير موضعها. ويلزمها تأويل بعض القرآن أو أكثر آياتها بصرفها عن ظاهرها، كما يتأوّل المجبّرة آيات الاختيار، والمفوّضة آيات القدر، وغالب المذاهب في الإسلام لا يخلو عن التأوّل في الآيات القرآنية وهي الآيات الّتي لا يوافق ظاهرها مذهبهم، فيتشبّثون في ذلك بذيل التأويل استناداً إلى القرينة العقلية وهو قولهم إنّ الظاهر الفلاني قد ثبت خلافه عند العقل فيجب صرف الكلام عنه(16).
المصادر :
1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 27، ص 190.
2- تفسير الطبري، ج 1، ص 85.
3- التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 1، ص 63 64.
4- سورة الأعراف، الآية: 33.
5- سورة الإسراء، الآية: 36.
6- الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 4، ص 210.
7- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي،ج 3، ص 75.
8- تفسير البرهان، هاشم الحسيني البحراني، ج 1، ص 19، المطبعة العلمية، إيران، 1393هـ.
9- عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج 1، ص116.
10- تفسير البرهان، هاشم الحسيني البحراني، ج 16، ص 7.
11- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 75.
12- تفسير البرهان، هاشم الحسيني البحراني، ج 16، ص 7.
13- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 89، ص 110.
14- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 1، ص 9.
15- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 76ـ 77.
16- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 78ـ 81.