إنَّ الإمام الخميني رحمةالله عليه يعتبي في عصرنا امتداداً لسلسلة الأولياء الصالحين، باعتباره وارثأ للخطّ القويم الذي انتهجه الأنبياء و الأئمة المعصومين عليهم السلام و عباد الله الصالحين، و قد كان نهجه في تزكية النفس علي صعيد السير و السلوك أحد المناهج الفريدة في التأريخ الإسلامي، حيث كان نهجاً وضَّاءَ يستنير به السالكون في خضّم جاهلية الحكم و الفكر و الأخلاق، و لقد تبنَّي ثورة الأنبياء التي تجّرت في عصور مظلمة و سارت أشعتها عبر العصور حتّي استقّرت في عصرنا هذا؛ لتبني اُمَّة تتّبع سبيل الأنبياء و الرسل، و هي الدولة الموطئين للدولة الأسلامية العالمية التي سيقودها مصلح البشرية الإمام المهدي عليهم السلام.
إن النهج الذي انتهجه الإمام الخميني رحمةالله عليه هو الطريق الواضح و الأوحد، الذي ينبغي لكلّ طلاب الحقيقة أن يتّجهوا من خلاله نحو تزكية نفوسهم و تهذيبها، في طريق سيرهم و سلوكهم إلي الله تعالي، الذي يؤكّد في كتابه العزيز علي تزكية النفس فيقول: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَاد * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا). (1)
إذاً فالسبيل إلي تزكيه النفس ليس سوي ناتج طبيعي عن مداومة الالتزام الصادق و التامّ بأحكام الدين الحنيف و تعاليمه بنحوٍ شامل و عميق، و التفاعل مع ما ندب إليه الدين من سنن و مستحبّات و أخلاقيات و الابتعاد عمّا نبذه من مكروهات، و العيش مع القرآن و آياته، و الاُنس مع الله تعالي بفنون الأدعية الرائعة المأثورة عن النبي و أهل بيته الأطهار عليهم السلام... إلي غير ذلك من تعاليم الدين الحنيف؛ و هو ما سار عليه الإمام الخميني رحمهالله عليه في كلّ لحظة من لحظات حياته المباركة، و ما يؤكّد عليه أيضاً من خلال بياناته الواضحة و خطبه الشفّافة، م مثالاً علي ذلك قوله رحمةالله عليه.
إنَّ العلم و التهذيب النفسي هما اللذان يوصلان الإنسان إلي مرتبة الإنسانية... عليكم أن تصلحوا أنفسكم لتتمكّنوا من القيام و لا يكون الإصلاح إلا بإتباع أحكام الله. (2)
من خلال ما تقدم اتّضحت أهمية مسألة تزكية النفس و تهذيبها، و هو ما ورد التعبير عنه بالجهاد الأكبر، كما جاء في الروايّة عن أبي عبدالله عليه السلام «من أنَّ النبي صلي الله عليه و آله و سلم بعث بسيرية فلمّا رجعوا قال: مرحباً قضوا الجهاد الأصعر و بقي الجهاد الأكبر»، قيل: يا رسول الله و ما الجهاد الأكبر؟ قال: «جهاد النفس». (3)
و قد كان الإمام الخميني رحمةالله عليه نموذجاً فريداً في مسألة تهذيب نفسه و مجاهدتها، فهو نورُ يستضيء به الآخرون، و شمسُ للأجيال القادمة.
بناء علي ذلك أحببت أن أتعرّض لمسألة تهذيب النفس من خلال إلقاء بعض الأضواء علي فكر الإمام الخميني رحمةالله عليه في هذا المجال، و أتطرّق، لبعض الخصوصيات التي امتاز بها في هذا المجال، من خلال سيرتة العطرة و فكره الوضَّاء؛ و ذلك من خلال الفصول التالية:
الفصل الأوّل: الطرق المؤدّية إلي تزكية النفس.
الفصل الثاني: العوامل المانعة عن تزكية النفس.
الفصل الثالث: نماذج من التزكية في حياة الإمام الخميني رحمةالله عليه.
أسأل الله تعالي أن يكون هذا الجهد البسيط مرضيّاً عند الله تعالي، و نافعاً للقرّاء الأعزّاء، و موضع قبول الساحة المقدسة لولي الله الأعظم، الإمام المهدي (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)،
كما أسأله تعالي يوفّقني لخدمة الاسلام المحمّدي الأصيل، ( وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ). (4)
الفصل الأوّل: الطرق المؤدّية إلي تزكية النفس
1. جهاد النفس
يُعرّف جهاد النفس بأنّه، عبارةعن انتصار الإنسان علي قواء الظاهرية و جعلها مؤتمرة بأمر الخالق، و تطهير المملكة من دنس وجود قوي الشيطان و جنوده. (5)
إنّ من الأخطاء الكبيرة التي قد يقع فيها بعض السالكين في ميدان مجاهدة النفس و تزكيتها، الظنّ بأنّ القرب من الله تعالي لا يتحقق مع الحضور في ساحات العمل بين الناس، و لابدّ من الابتعاد عن مواطن الاحتكاك بالناس من أهل الدنيا، و هجر الأنشطة الاجتماعية و السياسة و حتّي العمل الخاصّ أحياناً و ذلك بقصد التفرّغ للعبادة. و الحقّ أنّه لا يمكن الحصول علي التهذيب الحقيقي للنفس و تزكيتها بعيداً عن معترك الحياة و تحمّل الصعاب و التعامل مع مجرياتها، فالسالك هو الشخص الفاعل في محيطه و مجتمعه الكادُ علي عياله، المتهّم باُمور المسلمين السائر في خدمتهم و حلّ مشاكلهم كما قال رسول الله صلي الله عله و آله و سلم:
«من أصبح لا يتهّم باُمور المسلمين فليس بمسلم». (6)
و قال أبي عبد الله عليه السلام:
« أنّ النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال: من أصبح لا يهتّم باُمور المسلمين فليس منهم، و من يسمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين، فلم يجبه فليس بمسلم». (7)
و كما قال أيضاً:
« الخلق عيال الله فأحبّ الخلق إلي الله من نفع عيال الله، و أدخل علي أهل بيت سروراً». (8)
إذاً فالطريق إلي الله هو طريق عملٍ و كدحٍ و تعب لا طريق راحة و قعودٍ، قال تعالي:
(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ).(9)
و إنَّ هناك أشخاص تحرّكوا و خرجوا من حفرة النفس، و هاجروا منها ( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ). (10) فلقد خرجت هذه الطائفة عنهذا البيت الظلماني، و وصلت إلي مرتبة لم يعد لها فيها شيء من نفسها، فلم يلتفتوا إلي شيء سوي الله تعالي، و تحرّكوا و أعطوا كلّ شيء لله تعالي، و لم يتركوا لأنفسهم شيئاً، بل كل وجودهم كان لله تعالي، كما فعل سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، و من سار علي نهجه و سيرته كالإمام الخميني رحمةالله عليه الذي يوضّح عملية جهاد النفس بقوله:
إنّ ما هو ضروري بالنسبة إلينا جميعاً هو أن نبدأ بإصلاح أنفسنا و عدم الاقتناع بإصلاح الظاهر وحده، بل السعي للبدء بإصلاح قلوبنا و عقولنا و الإصرار علي أن يکون غدنا خيراً من يومنا، علي المرء أن يبدأ بإصلاح نفسه و السعي لجعل عقائده و أخلاقه و أعماله مطابقة للإسلام، لذلك من الطبيعي جداً أن نشاهد ما نشاهده من المفاسد العامّة و بصمات الفشل و الخسران طالماً أنَّ الإنسان خسر في معركة الذات و صراعها مع العدو الذي بين جنبيه. (11)
2. العلم
لا يفرق الإمام الخميني رحمةالله عليه بين العلم و التربية، بل يري أنّهما توأمان فيقول في ذلك:
صحيح أنّ العلم نور، و لكن الأوعية النظيفة و القلوب الطاهرة، أما الأوعية النتنة و القلوب المظلمة فليس الأمر فيها كذلك، إنّ العلم الذي يطلبه صاحبه للجاه و الظهور لايزيده إلا عن الله سبحانه. (12)
زبلات و هكذا يتلازم طلب العلم و تهذيب النفس و تنقيتها، لكل تتكامل العلمية المطلوبة و المتوخاة من طلب العلم؛ فكلّ خطوة في طلب العلم لابدّ أن تكون مقترنة بخطوة مثلها في تهذيب النفس و إصلاحها، و استئصال الأهواء النفسية الخبيثة، و تنمية القوي الروحية و اكتساب مكارم الاخلاق، و تحصيل التقوي.
بناءَ علي ذلك يقول رحمةالله عليه:
إنَّ جميع العلوم الشرعية مقدّسة لمعرفةالله تبارك و تعالي و لحصول حقيقة التوحيد في القلب التي هي صبغة الله (وَمَن أحسَنُ مِنَ اللِ صِبغَةً) (13) غاية الأمر أنّ بعضها مقدّمه قريبة و بعضها مقدمة بعيدة و بعضها مقدّمة بواسطة... و هكذا العلم بالمنجيات و المهلكات في علم الأخلاق مقدّمة لتهذيب النفوس و هو بدوره مقدّمة لحصول الحقائق و المعارف و لياقة النفس لتجلّي التوحيد و هذا عند أهله من الوضوح بمكان. (14)
3. التمسك بالقيم الأخلاقية
يري الإمام الخميني رحمةالله عليه أن الله سبحانه و تعالي إنمّا بعث الأنبياء عليهم السلام لبناء الإنسان و تربيته، و تحذيره من اتبّاع الطرق المؤدّية إلي النقائص الرذائل، و ترغيبه بالفضائل.
و ينطق من هذه القاعدة ليشخص بعض التغرات في المسالك الأخلاقية الإسلامية، فيعيدها إلي عدم إيلاء علم الأخلاق ما يستحقّه من اهتمام في حياتنا بشكل عامّ، وفي حلقات الدارسة في المعاهد الدينية بشكل خاصّ، بحيث حلّت المسائل المادّية محلّ التكبير من المسائل الروحية و الخلقية.
و علي ضوء ذلك الذمام الخميني رحمةالله عليه يدعو أيضاً من يحاول التصدّي للرئاسة و الزعامة أن يهذب نفسه، فيقول رحمةالله عليه:
لابدّ لكم من تهذيب أنفسكم، حتّي إذا ما أصبح أحدكم رئيس قوم أو فئة، اشتغل في تهذيب نفوسهم أيضاً. (15)
كما أنَّ الإمام الخميني رحمةالله عليه يري أن سبب تسابق الدول المستكبرة للسيطرة علي الشعوب، و ابتلاع ثرواتها، و نهب خَيراتها، و إبقاء الدول الضعيفة تحت نفوذها، و تعمق الغش و الاضطرابات في العالم، ناتج عن عدم تزكية النفوس، وانحدارها إلي هاوية الانحطاط و الرذيلة و لهذا يقول رحمةالله عليه:
إنَّ اُولئك الذين يؤججون النيران في أنحاء من العالم، و يمهّدون الطريق لارتكاب المجازر، إنّما يتسابقون للسيطرة علي الشعوب و نهب ثرواتها و مصادرة خيراتها و إبقاء الدول الضعيفة و المتخلّفة تحت أسرها و سلطتها؛ و لذلك يفجرون كلّ يوم باسم الحرية و البناء و الإعمار و الدفاع عن استقلال البلدان و أراضيها، و بذرائع خادعة اُخري، حرباً في كلّ منطقة من العالم، و يلقون ملايين الأطنان من القنابل الحارقة علي رؤوس أبناء الشعوب المستضعفة. (16)
و إذا كان قد حُددّ الداء، فكيف يتصوّر الدواء الذي يساعد في القضاء علي الاختلاف فيما بين أفراد الاُمة؟
و يأتي الجواب في حديثه رحمةالله عليه حيث يقول:
يجب أن تكونوا واعين يقظين، لا تجعلوا أنفسكم أالعوبة بيد الشيطان، كأن يقول أحدكم، إنّ تكليفي الشرعي يقتضي كذا و يقول الآخر إنّ تكليفي الشرعي عكس ذلك، ففي بعض الأحيان يتولّي الشيطان نسج التكاليف الشرعية للإنسان، ويملي عليه واجبات معيّنة، و في أحيان اُخري تدفع الاهواء النفسية الإنسان، ويملي عليه واجبات معيّنة، و في أحيان اُخري تدفع الاهواء النفسية الإنسان لأداء بعض الأعمال علي أنّها واجب شرعي، فليس من الواجب للشرعي أن يهين مسلم مسلماً، ليس من الواجب الشرعي أن يسيء المسلم إلي أخيه في الدين. (17)
4. القرآن و العتره الطاهرة
إنَّ قيام الإنسان بعمل أو ورد أو طريقة لها آثار و فوائد سلوكية علي النفس، يجب أن يتحصَّل منه أمرين:
أوّلهما: أن يكون له أصلاً في تعاليم الإسلام و القرآن و منهج النبي صلي الله عليه و آله و سلم و أهل بيته الأطهار عليهم السلام.
و ثانيهما: أن لا يخالف ذلك الورد أو العمل سنّةً أو مستحباً أولي منه، و أن لا يكون فيه كراهية فضلاً عن الحرمة و العياذ بالله.
و يُنصح هنا بعدم الانجرار أصلاً وراء هذا النوع من الطرق و الأعمال و الأوراد سوي ما كان منها وارداً في كتب الأدعية و الأعمال المعتبرة، و علي سبيل المثال كتاب «مفاتيح الجنان» للمحقق الشيخ العباس القّمي؛ الذي فيه من الكنوز العرفانية و الأدعية و الأعمال و الأوراد ما يفي بالغرض، و زيادة للوصول بالسالك إلي برّ الأمان و موطن العشق، هذا إضافة للقرآن الكريم و الالتزام بالتكاليف الشرعية و الأخلاق الإسلامية الحميدة.
فوظيفة السالك إلي الله أن يعرض نفسه علي القرآن الشريف، فكما أنّ الميزان في صحّة الحديث أو عدام صحّته و اعتباره أو عدم اعتباره يكون بعد عرضه علي كتاب الله فما خالف كتاب الله فهو باطل وزخرف، كذلك الميزان في الاستقامة و الاعوجاج و الشقاء و السعادة هو أن يكون مستقيماً و صحيحاً في كتاب الله... كذلك جميع معارفة وأحوال قلبه و أعمال الباطن و الظاهر لا بدّ أن يطبقها علي كتاب الله. (18)
فالقرآن الكريم كتاب معرفة الله و طريق السلوك إليه تعالي... و أنّ من أعظم وأسمي معاجزة هي هذه المسائل العرفانية العظيمة التي لم تكن معروفة لدي فلاسفة اليونان. (19)
بالإضافة إلي ذلك السالك فعلي السالك في سبيل تهذيب نفسه ملازمة الدعاء و التضرعّ إلي الله و التوّسل إليه تعالي بأحبّ خلقه و آله الطاهرين، و أن يكون محور دعائه و توسّله بأن يعينه الل في طريق سيره و سلوكه علي نفسه و هواه، و أن يخرج حبّ الدنيا من قلبه و أن يرزقه محبتّه و محبّه أوليائه المعصومين، لأنّه بغير هذا الدعاء الصادق و الدائم لا يمكن للسالك أن يصل إلي خير و إن ظنّ ذلك، وليعلم بأنّ سادتنا الأطهار قد تركوا لنا من فنون الأدعية و المناجاة العرفانية و التربوية ما يعجز اللسان عن شكر نعمتها، و لذلك يقول الإمام رحمةالله عليه:
مفتاح الدائرة و مختمها و مؤخّر السلسلة و مقدمّها محمد صلي الله عليه و آله وسلم آله المصطفون من الله الذين بهم فتح الله و بمعرفتهم ُعرف الله، الأسباب المتّصلة بين سماء الإلهية و أراضي الخليفة الظاهر فيهم الولاية، و الباطن فيهم النبوة و الرسالة. (20)
و كيف لانجعل منهاجنا الأساسي في طريق سيرنا و سلوكنا القرآن و العترة الطاهرة، مع أنَّ الرسول صلي الله عليه و آله و سلم يؤكّد علي التمسّك بهما كما ورد عنه صلي الله عليه و اله و سلم:
« إنّي تارك فيكم الثقلين: أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الأرض و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليَّ الحوض». (21)
5. الجهاد في ساحة الحرب
بما أنَّ «الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الل لخاصّة أوليائه»، (22) و أنّه أقصر الطرق إلي لقاء الله، فلابدّ إذاّ للسالك علي نحو الحقيقة، أن يختار نهج الجهاد و طريقه، و من يعرض عن هذا الدرب لا يكون سالكاً حقّاً بل مجرّد مدّعٍ بالقول، بل و حتّي بالعمل؛ لأنَّ السالك هدفه هو لقاء الله تعالي، و من كان هدفه لقاء الحبيب و المعشوق الحقيقي و الأوحد لابدّ و أن يكون حريصاً علي الإسراع في اللحاق بحبيبة، كما قال تعالي علي لسان نبيّنا موسي عليه السلام: ( وَ عَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَي). (23) و إنَّ سيرة الأنبياء و الاُولياء تشهد علي ذلك؛ من خلال عشقهم لساحات الوغي و لقاء العدّو طلباً للشهادة الموصلة للقاء المعشوق بأسرع طريق و أفضل حال. فإنَّ حال اللقاء هو نعم الحال فهو لقاء الحبيب بحبيبه المضرّج بدماء عشق اللقاء، هذا إضافة إلي شيء آخر و هو أنّ طريق الجهاد هو أسرع طريق في بناء الأنفس و تزكيتها و ذلك بسرعة قياسة لا نظير لها، بحيث لا يوجد في هذا العالم مكان أو ظرف يسمحان بهذه السرعة في طيّ مراحل تهذيب النفس و تزكيها، كميادين القتال و الجهاد في سبيل الله، يشير الإمام الخميني رحمةالله عليه للمجاهدين قائلاً:
لقد طوي هؤلاء في ليلة واحدة طريق مئة سنة، و قد وصلت أيديهم و بشكل مباغت إلي كلّ ما يتمناه العرفاء و الشعراء من العرفان في سنوات متمادية، و نقلوا العشق للقاء الل من الشعار إلي العمل، و ثبّتوا آمال الشهادة من خلال أعمالهم في جبهات الدفاع عن الإسلام العزيز. (24)
6. أداء التكليف الشرعي
وهذا من الأسس المهمّة في بناء شخصية السالك إلي الله، و لتحقيق ذلك ينبغي أن يمتلك الإنسان السالك من العزم و الإرادة و التصميم ما يكفي و في كلّ أوقاته و أحواله، ليأخذ قراراً لا عودة عنه بأن يمتثيل أمر الله تعالي في أيّ زمان و مكان و مهما كانت الظروف و النتائج و مهما بلغت التضحيات، وليكون جاهزاً كلّما لزم الأمر و قضي التكليف الشرعي بأن يقدّم التضحية تلو الاُخري و بالغالي و النفيس بغير تردّد أو وجل، وصولاً إلي تقديم النفس و الروح رخيصة في سبيل الله تعالي، و ليعلم بأنّ كلّ التعاليم الإسلامية و السنن الأخلاقية و المستحباّت كقراء القرآن و التوسّل بأدعية الأئمة الأطهار عليهم السلام و ما أشبه ذلك إنّما كان وسيلة من أجل تحصيل هذه الحالة من امتثال أمر التكليف الشرعي كما فعل حماة الدين و من سار علي هديهم بروح ملؤها الاطمينان بالله.
يقول الإمام الخميني رحمةالله عليه مبيِّناً ذلك:
إنّ الطريقة و الحقيقة لا تحصلان إلا من طريق الشرعية، فإنَّ الظاهر طريق الباطن، بل يفهم منه أنّ الظاهر غير منفكّ عن الباطن، فمن رأي أن الباطن لم يحصل مع الأعمال الظاهرة و اتّباع التكاليف الإلهية فليعلم أنّه لم يقم علي الظاهر علي ما هو عليه، و من أراد أن يصل إلي الباطن من غير طريق الظاهر كبعض عوامّ الصوفية فهو علي غير بيّنة من ربّه. (25)
الفصل الثاني: العوامل المانعة عن تزكية النفس
الغفلة
إنَّ آفة الآفات هي الغفلة، فهي تحول بين المرء و قيامة بتهذيب نفسه، لأنَّ الخطوة الأولي في التهذيب هي انتباه الإنسان من غفلته، من أجل التعرّف علي ما تمتلك نفسه من ملكات سيئّة؛ لكي يقوم بمعالجتها و التغلّب عليها، و لهذا يؤكّد الإمام الخميني رحمةالله عليه علي هذه الآفة المستشرية في النفوس فيقول:
حتّي متي تريدون أن تظلّوا تغطّون في نوم الغفلة، و منغمسين في الفساد و الضياع؟...اتّقواالله...اخشوا عاقبة الاُمور... أفيقوا من غفلتكم... إنّكم لم تفيقوا بعد و لم تخطوا الخطوة الأولي. إنّ «اليقظة» تمثّل الخطوة الأولي في السلوك. و لكنّكم ما زلتم تغطّون في نوم عميق. فلو لم تكن الآفئدة ملوثة بنوم الغفلة، و القلوب اسودّت و صدئت نتيجة للذنوب، لما كنتم هكذا غير مبالين و غير مهتمين، تواصلون الأعمال و الأقوال المشينة. فلو فكرتم قليلاً باُمور آخرتكم و عقباتها الكأداء لأوليتم اهتماماً أكبر للمسؤوليات الجسام الملقاة علي عواتقكم.
إنَّ وراءكم حساباً، كما أنّ أمامكم معاداً و قيامة (فلستم كسائر الكائنات التي لا معاد لها و لا حساب عليها). فلماذا لا تتّعظون؟ لماذا لا تفيقون و تتيقّظون؟ (26)
الأهواء النفسية
من الواضح أنَّ السعادة و الراحة و الهناء القلبي لا يمكن أن يكون في طريق المعصية و المنكر وإتباع الأهواء النفسية، لأنَّ هذه الأمور غالباً ما تحقّق متعاً حسية آنية، تؤدّي بالنتيجة إلي الملل الذي يؤدّي بدوره إلي هجوم الآلام الداخلية علي النفس البشرية، فيسبب شقاءها و تعاستها، وبذلك تنقلب السعادة إلي الشقاء.
بناء علي ذلك فإنّ السعادة في الحقيقة تكون منوطه بتحقيق الإيمان في القلب و تمثله في الحياة مع الاستمتاع بما أباحه الله في هذه الحياة كما قال الله تعالي: (وَلا تَنسَ نَصيبِكَ مِنَ الدُّنيا. (27) وإنّش السعي وراء الأهواء و الشهوات يؤدّي إلي الضياع و الفشل و الإحباط، ويورث الحيرة و الضياع للهدف الذي أراده الله تعالي من الإنسان.
ولهذا فإنَّالأهواء النفسية تُعد من أخطر الأمراض و الآفات التي تواجه الإنسان في طريق سيره و سلوكه، وهذا ما يحذرنا منه الذمام الخميني رحمةالله عليه قائلاً:
لماذا تخوضون مطمئنّين في الاغتياب و الإساءة إلي إخوتكم المسلمين أو تستمعون إلي ذلك؟ هل تعلمون أنّ هذه الألسن التي تمتدّ لاستغابة الآخرين، سوف تداس بأرجل الآخرين يوم القيامة؟ هل تعملون أنّ الغيبة أدام كلاب النار. هل فكّرتم أصلاً في العواقب الوخيمة السيّئة لهذه الاختلافات و العدوات و الحسد و إساءه الظنّ و الأنانية و الغرور و التكبّر؟! هل تعلمون أنّه من الممكن أن تكون جهنّم عاقبة هذه الأفعال الدنيئة المحرّمة و تقود إلي الخلود في نار جهنّم؟!
لا قدرّ الل أن يبتلي الإنسان بأمراض لا تبدو آلامها، إنّ الأمراض المؤلمة تدفع الإنسان لأن يفكر بعلاجها، فيذهب إلي مراجعة الطبيب أو المستشقي. بيد أنّ المرض الذي لا يرافقه الألم و لا يشعر الإنسان بتعاته، مرض خطر لأنّه عندما يتنبّه الإنسان إليه يكون قد فات الأوان و استحال العلاج.
و الأمراض النفسية هي من هذا النوع. فلو كانت مصحوبة بالألم المباشر لحرّكت المصاب و دفعته إلي معالجتها. و لكن ماذا نفعل؟ ماذا نفعل ما دامت هذه الأمراض لا يُحسّ بآلامها رغم خطورتها؟
إنّ مرض الغرور و الأنانية، من الأمراض التي لا تظهر آلامها...المعاصي الاُخري تفسد مرض و الروح دونما ألم. إنّ هذه الأمراض ليست فقط غير مصحوبة بالألم، بل تتسم بظاهر يبعث علي التلذّذ. إذ أنّ مجالس الغيبة و النميمة قد تكون محببة!. فالإنسان يشعر مع حبّ النفس و حبّ الدنيا - اللذان هما مصدر جميع الذنوب - بلذّة و نشوة. (28)
حبّ الدنيا
أنَّ من الآفات الخطرة الاُخري، حبّ الدنيا و التعلّق بها و إيثارها علي الآخرة، و لهذا ورد في الحديث الشريف: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»؛ (29) لأنَّ محبّتها تعترض بين العبد و بين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة؛ و لهذا فإنَّ أعظم الناس غروراً من اغترّ بالدنيا و زخرفها و شهواتها فآثرهما علي الآخرة و رضي بها؛ ولذلك يبقول الله تعالي: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (30) و قال الشاعر:
وإنَّ امرءاً دنياه أكبر همّهِ *** لمستمسكُ منها بحبلِ غرورِ
و في خطورة الانهماك في حبّ الدنيا يقول الإمام الخميني رحمةالله عليه:
إنَّ جذور كلّ الاختلافات التي تفتقد إلي الهدف المحدّد و المقدّس، تعوّد إلي حبّ الدنيا. (31)
و يقول رحمةالله عليه:
فالأمور الدنيويه بأجمعها إذا ما تسبّب في انشداد الإنسان إلي الدنيا و غفلته عين الله تبارك و تعالي، فإنّها تبعت علي الحجب الظلمانية. (32)
و في تأثير حبّ الدنيا علي قلب الإنسان يقول رحمةالله عليه:
إنّ قلب الإنسان كالمرآة صاف و مضيء، و لكنّه يتكدّر نتيجة تكالبه علي الدنيا و كثرة المعاصي. (33)
الأنانية و حبّ الذات
إنَّ النفس و الاهتمام بها من الاُمور الفطرية، و من الخطأ أن ينكره الإنسان، كما ورد في الخبر « و لنفسك عليك حقّاً» (34) لكن المنكر هو تجاوز الحدّ و قصر النظر، في ذلك و في أيّ شيءِ آخر. و في فهم العقلاء لا يوجد تعارض بين حبّ النفس و حبّ الآخر أو الغير، بل يوجد تكامل لازم، والحبّ الحقيقي الواعي أو سع من أن يحبس في إطار النفس الواحدة، إلا أنَّ خير الحبّ ما كان علي هدي و علم و فيه بعد نظر، و العاقل من يحاول تعظيم حبّه لسمّو نفسه، لتعظيم ثمَّ تفيض بحبّها و سمّوها علي الآخرين. و غاية النفس العاقلة هي نوال رضا الله في جنّات النعيم، تلك هي الغاية التي ليس بعدها غاية، و هذا هو الفوز المبين للنفوس التي تستحقه. أما الذي هانت عليه نفسه فباعها للشيطان و هو لا يدري، فسوف يصدق عليه قوليه تعالي: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ). (35)
و إنَّ جميع الاختلافات القائمة بين البشر هي بسبب عدم التزكية؛ و لهذا كانت غاية البعثة أن تزكّي الناس حتّي بتعلّموا بواسطة التزكية الحكمة، و يتعلّوا القرآن و الكتاب، و لا يحدث الطغيان فيما لو تمّت التزكية، لأنَّ الإنسان عندما يغرق في حبّ نفسه، و يري لنفسه مقاماً، و عظمة فإنَّ الأنانية و رؤية النفس تكون سبباً لطغيانه حتي يكون مصداقاً لقوله تعالي: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) (36) و إنَّ أساس كلّ الاختلاف الموجود بين البشر، يعود إلي الطغيان الموجود في النفوس. و هذه من أكبر الآفات التي يبتلي بها الإنسان.
و لهذا نري الإمام الحميني رحمةالله عليه يوصي ابنه قائلاً:
تحرّر من حبّ النفس و العُجب فهما إرث الشيطان، فبالعُجب و حبّ النفس تمرّد علي أمر الله بالخضوع لولّي الله و صفيّه جلّ و علا، و اعلم أنّ جميع ما يحلّ ببني آدم من مضائب ناشئ من هذا الإرث الشيطاني فهو أصل الفتنة وريما تشير الآية الكريمة: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ ) (37) في بعض مراحلها إلي الجهاد الأكبر. (38)
ذنَّ الذنسان الذي يتبّع هوي نفسه و لا يهتّم منذ أن عرف نفسه بغير عالم الطبيعة المظلم، و لا يفكّر مطلقاً في أنّه من الممكن أن يكون بعد هذا العالم الملوثّ ثمّة مكان ضيق و منزل آخر، ولذا تراه غارقاً في حُجب الظلمة؛ إنّ مثل هذا الإنسان هو مصداق لقوله تعالي: (أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) (39) فقد ابتعد عن الله تعالي لأنّ قلبه ملّوث بالذنوب و تغلّف بحُجب الظلام، و لأنَّ روحه ضُمرت نتيجة كثره المعاصي؛ ذلك أنَّ عبادة الدهواء و حبّ الدنيا و الجاه، يعمي العقل و العين و يحول دون رؤية الحقيقة، فلا يعود بمقدوره التخلّص من حُجب الظلام، ناهيك عن التخلّص من حُجب النور و تحقّق مرتبه الانقطاع إلي الله سبحانه. (40)
الحجب الظلمانية و النورانية
إنّ الحُجب التي يُبتلي بها الانسان تشمل الحجب الظلمانية و النورانية، فمن الحجب الطلمانية - حجاب الشهرة، حجاب البطن، حجاب الحسد، و حجاب التمّنيات - بيد أنّ ثمّشة حُجب اُخري تعترض الذين يتخلّصون من حجب الظلمة محاولين جعل الدنيا طريقاً للآخرة، و هذا ما يمكن أن نُدركه من خلال المناجات الشعبانية الواردة عن الإمام امير المؤمنين عليه السلام التي يقول فيها: «و أنر أبصار قلوبنا بيضاء نظرها إليك»؛ (41) أي اللهمّ اجعلني دائم الاتّصال و الرتباط بك و أدخلني في حريم عزّك و شأنك و أنر بصيرة فؤادي بحيث تقوي علي النظر إليك «حتّي تخرق أبصار القلوب حُجب النور» (42) فيقدر بصري علي اختراق كافّة الحجب النوارية و يجتازها حتّي يصل إليك ليراك و يدعوك، و هذا ما يوضّحه الإمام الخميني رحمةالله عليه في كلماته النورانية حيث يقول:
إنّ التوجه إلي غير الله تعالي يحجب الإنسان يحجب «ظلمانية» و حُجب «نورانية». فالاُمور الدنيوية بأجمعها إذا ما تسبّب في انشداد الإنسان إلي الدنيا و غفلته عن الله تبارک و تعالي، فانها تبعثعلي الحجب الظلمانية. و عند ما تکون الدنيا وسيله التوجّه إلي الله تعالي و الوصول إلي دار الآخرة، التي هي «دارالتشريف»، فإنّ حُجب الظلام هذه تتبّدل بحجب النور. و إنَّ «كمال الانقطاع» هو تبدد كلّ الحجب النورانية منها و المظلمة، لكي يمكن الورد إلي الضيافة الإلهية التي هي «معدن العظمة». و لذا نري في هذه «المناجاة» يطلبون من الله تعالي،البصيرة و النور القلبي حتّي يتسّني لهم خرق حُجب النور و بلوغ معدن العظمة: «حتي تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلي معدن العظمة» (43) و لكنَّ الإنسان الذي لم يُبدد بعد حجب الظلام؛ الإنسان الذي ما تزال كلّ توجّهاته إلي عالم الطبيعة و منحرفاً عن الله- و العياذ بالله- و يجهل أساساً عمّا وراء الطبيعة و العالم الروحي و هو منكوس إلي الطبيعة، و لن يفكّر- في أيّ وقت - بتهذيب نفسه و الاستفادة من القوي الروحية و المعنوية الذاتية لإزالة ما ران علي قلبه من ظلمه الذنوب. إنّإنساناً هذا شأنه هو في الحقيقة في أسفل سافلين، الذي هو أدني حجب الظلام و أشدها: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) (44) في حين إنَّ الله سبحانه خلق الإنسان في أسمي مرتبة و مقام: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (45)، (46).
الشيطان
أنَّ من أعداد التي تصدَّه عن سبيل الله و التي تُعد من أبرز الآفات التي تحول دون تحقيق تزكية النفس هو «الشيطان»؛ لأنّه يزيّن الإنسان سوء عمله حتّي يراه حسناً، و قد حذرّنا الباري تعالي من ذلك، و ذكرنّا بأنّ الشيطان عدوّ مبين، و من أهمّ الوسائل التي يتخّذها الشيطان في إغوائه للبشر، هو إثارة الحمية و التعصب في النفوس، و إنَّ عاقبة الذين يصدّون عن سبيل الله الضلال البعيد، و أن تحبط أعمالهم و يزدهم الله في غيِّهم، و يقيّض له شيطاناً يكون لهم قريناً، و يزيدهم عذاباً فوق العذاب، كما قال تعالي: ((وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ). (47)
و لهذا فإنَّ إمامنا الخميني رحمةالله عليه يوصينا بمحاربة الشيطان قائلاً:
وقتال أساس الفتنة و هو الشيطان و جنوده، و لهؤلاء فروغ و جذور في أعماق قلوب بني الإنسان كافّه، و علي كلّ إنسان أن يجاهد (حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ) (48)
داخل نفسه و خارجها، فإذا حقّق هذا الجهاد النصر، صلحت الاُمور كافّة و صلح الجميع. (49)
الفصل الثالث: نماذج من التزكية في حياة الإمام الخميني رحمةالله عليه
لقد انعكست ملامح التزكية علي مفردات الحياة الكريمة للإسلام الخميني رحمةالله عليه، و قد شهد له بذلك ثلّة من الإعلام ممّن ينتمي لمدرسته أو عايشه و اطّلع علي سيرته العطرة و سلوكه الرفيع، و هذا ما يمكن أن نتعرّف عليه من العناوين التالية:
عبادته
علي الرغم من كثرة مشاغله كان الإمام يولي أهميّة خاصّة لأداء المستحبّات، خاصّة تلاوة القرآن و الدعاء و إقامة الصلاة في أوّل وقتها، كان يتلو كا تيسّر من القرآن ثلاث إلي خمس مرّات في اليوم و يختمه في شهر رمضان المبارك ثلاث ختمات. (50)
و في ذلك يقول حجّة الإسلام و المسلمين رحيميان:
كان الإمام رحمةالله عليه شديد الإقبال علي تلاوة القرآن في شهر رمضان المبارك خاصّة، و لا أتذكّر أنّني دخلت عليه مرَّة في هذا الشهر- خاصّة في شهر رمضان الأخير من حياته المباركة - و لم أرَهُ يتلو كتاب الله، كنت أراه مقبلاً علي تلاوته كلّما دخلت عليه لأمر ما. (51)
و يؤكّد حجّة الإسلام و المسلمين الرسولي المحلاتي علي مدي تعلّق الإمام رحمةالله عليه بالقرآن الكريم قائلاً:
يلتزمُ الإمام - و مُنذ مقتبل عمره الشريف - بتلاوة مقدار من القرآن كلّ يوم، و هذا الأمر جزءُ تابت في برنامجه اليومي بدقّة، فهو يخصّص فيه ساعة للإقبال علي تلاوة القرآن و الاُنس به، لا يدخل عليه فيها أحد، و لا يجيب فيها علي سؤال أحدٍ، فكان يتوجّه بكلّ وجوده للقراءة و التدبّر في آياته و معانيه. (52)
لم يغفل الذمام عن الذكر و الصلاة و الدعاء إلي اللحظات الأخيرة من حياته، و ينقل السيّد أحمد: أنَّ والده بدأ- قبل الظهر من اليوم الأخير من حياته - صلاة لم تعرف ما هي، و بعد مّة من الصلاة سأنا: هل حان وقت صلاة الظهر؟ و عند ما علم بحلول موعد أذان الظهر، أقام صلاتي الظهر و العصر، و كان يكرّر التسبيحات الأربعة باستمرار إلي أن اُغمي عليه بالكامل. (53)
إنّ رؤية الإمام و هو يستعد للعبادة بارتداء ملابسه البيضاء و وضع العمامة علي رأسه بدقّة و سائر المقدمات الاُخري، كلّ ذلك يمثّل خواطر عزيزة لا تنسي، بل إنّ رؤية طلعته الملكوتية في كلّ لحظة لا يمكن أن تنسي. (54)
لقد كان اهتمام الإمام رحمةالله عليه بالتهجّد و العبادة أمراً مشهوراً بين أهل العلم سواء من فضلاء الحوزة أو من طلبتها الجدد، و كان الجميع يقولون:
إنَّ السيد روح الله الخميني من المتجهدين المتعبّدين. (55)
أمّا فيما يتعلّق بصلاة الليل فيقول أحد أرحام الإمام الذي كان منذ أن كان عمر الذمام 15 عاماً:
كنَّا معاً خمين و عمر الإمام 15 عاماً، و کان الإمام يستعين بمصباح زيتي صغير للذهاب إلي الطرف الآخر من المنزل لكي يقيم صلاة الليل دون أن يوقظ أحداً.
و تقول السيّدة الإمام:
لم يحدث ذلي الأن، و لا لمرَّة أن أستيقظ أحد من النوم بسبب قيام السيّد الصلاة الليل، لأنه لم يكن يوقد أي مصباح أثناء قيامه، لا مصباح الغرفة و لا مصباح الممرّ و لا حتبي مصباح محلّ الوضوء، بل كان يضع قطعةً من الإسفنج تحت صنبور الماء لكي لا يوفظ صوت صبّ الماء أحداً و هو يتوضّاً لصلاة الليل. (56)
قد روي أحد علماء طهران:... حللتُ ضيفاً علي المرحوم السيد مصطفي في احدي الليالي، و قد قضينا شطراً طويلاً من الليل في البحث و الأحاديث العلمية، ثمّ نمنا و لكن بعد فترة قصيرة من نومنا استيقظت علي صوت بكاء و نحيب، فأيقظت السّيد مصطفي و قلت: يبدو أنّ أحد جيرانكم قد توفيّ و أهله يبكون لأجله، فأصغي السيّد مصطفي للصوت ثّم قال: كلا، إنّه صوت بكاء سماحة السيّد (و كان السيّد مصطفي يذكر الإمام بهذا الوصف)؛ فهذا وقت إقامة لصلاة الليل و التهجّد و التضّرع لله.(57)
لقد كان الإمام رحمةالله عليه يولي اهتماماً كبيراً لصلاة الليل إلي درجة بحيث عند ما يسأله أحد الصحافيين بعد انتصار الثورة، عن الخطّة الدفاعية التي ستلجاً إليها الجمهورية الإسلامية للمحافظ علي هذا الانتصار، يجيبه الذمام رحمةالله عليه إجابةًحيرّت ذاك الصحافي - الذي توقّع أن يكون الحديث عن ترسانة صواريخ، أو جيش كبير - إذ قال له: «بالمحافظة علي صلاة الليل يبقي الانتصار». (58)
و لقد كان واضحاً أنَّ أهمّ قضية يهتّم بها الإمام رحمةالله عليه و هو يقاسي أصعب مراحل المرض هو القيام بالعبادة لله تعالي، و كان اهتمامه بذلك بصورة لا يمكن توضيحها بالكلمات، لكن مشاهدة هذه الحالة يمكن أن تشكّل أعظم درس و أجمل يحملها ذهن الإنسان، كانت حالته تلك مفعمة بالإخلاص و الحبّ لله تعالي، كان يقوم - رغم شدَّة متاعبه المرضيّة - بجميع الآداب التي ينبغي مراعاتها للظهور أمام الناس، و كان يقوم بذلك بكلّ دقّة و رغبة قلبية، و أنَّ كلّ ما يمكن أن يقال بهذا الشأن هو أقلّ بكثير ممّا كان يري الإنسان منه فهذا ما لا يمکن بيانه باللسان. لقد کان يتهيا - رغم تعبه و آلامه - لأداء نافلة الليل و يستدعي من حوله لتوفير مقدّمات ذلك، و قد قام بذلك حتّي في الليالي التي تلت إجراء العلمية الجراّحية الدخيرة له، و لم نكن نجد له تفسيراً سوي شدّه حبه و إخلاصه لله تعالي، فلا يمكن أن نجد لذلك تفسيراً سوي الانجذاب القوي لصلاة الليل و التهيّو الدقّة، سوي رسوخ الحبّ و الأخلاق لله تعالي.
زهده
لقد اتّخذ الإمام حياة البساطة، البساطه في كلّ شيءٍ، في ملبسه و في حيث كان يتحاشي تناول السمن و الدسم، و يبتعد عن تاطي الأغذية القيّية، و كانت أجود و جباته الغذائية المفضَّلة الخبز و اللبن و الجبن و لبّ الجوز فقط.
و هذا ما يصرّح به البر و فسور الفرنسي مونتي حيث يقول:
أكثر ما شدّتي إلي الإمام بساطة عيشه، ففي باريس كان في منزل صغير ذي غرفتين لا أكثر، واحدةُ لنومه و الثانية لعلمه و لقاءاته، و لا تشاهد في وسائل معيشته السجادات و الأثاث الثمين، كما أنَّ طعامه كان بسيطاً جداً هو مقدار قليل من اللبن و الأرز، و كذلك حال الخيمة التي كان يصلّي فيها فهي متواضعة و بسيطة للغاية. (59)
لقد كان الإمام رحمةالله عليه يتجنّب الحياة المترفة و بهارج الدنيا التي كان يلهث وراءها من تعلّق قلبه بحبّ الدنيا من الجبارة و الطواغيت، و ينهي عن ما يقوم به الطواغيت من أفعال.
كان المنزل الذي يعيش فيه الذمام قديماً للغاية بني منذ سنين طويلة، و قد نصبت في جدران ساحته مصابيح قديمة كنّا نحس بالخطر منها عند هطول الدمطار لاحتمال أن يقع اتّصال كهربايي فيها يسري علي البيت بأكمله، فاشتريت أربعه مصابيح ذات غطاء، مضادّة للماء، لدفع هذا الخطر و استبدلت بها المصابيح القديمة، و بعد ساعة أو ساعتين جاءتني السيّدة التي تخدم في بيت الإمام برسالة منه اشتملت علي سطرين قال فيها: «لاتقوموا بعمل هنا دون استشارتي، و لا تفعلوا هنا ما يُفعل عند الطواغيت أرجعوا هذه المصابيح»؛ و هذه المصابيح التي يراها الإمام بأنّها من شأن الطواغبت؛ اشتريتها بمائة تومان فقط. فذهبنا و اشترينا مصابيح اُخري يتمانين توماناً - و كانت درجة الاطمئنان لعملها لا بأس بها - و جئنا بها فسألنا الإمام خن ثمنها فأخبرناه، فأمرنا بنصبها محلّ تلك، و إرجاع الاُولي، فأرجعناها و استلمنا فارق القيمة. و لم نعد بعدها للقيام بعمل دون استشارة الإمام. (60)
لقد تحلي الإمام بالقناعة بما عنده و التورّع عن الطمع بما عند الاخرين، فقد كان قانعاً بالعائد القليل الذي كان يصله من أملاكه التي ورثها من أبيه، و كان يعيش في منزل متواضع مستأجر يقع في أحدي المحلات القديمة و النائية في مدينة قم. و رغم ذلك لم يغفل عن مساعدة الضعفاء، و قد اتّضح من وصيّته فيما بعد أنّه لم يتصرف لنفسه في الحقوق الشرعية طوال الأعوام العشرة التي تلت انتصار الثورة. (61)
و مع ما يتحلّي الذمام رحمهالله عليه به من زهد، إلا هذا الزهد الحوزوي لا يعني - حسب رؤية الإمام - أن تكون ملابسه في حالة مزرية مذلّة أو تكون فيها علامة الاستجداء، بل إنَّ الإمام كان يعتقد بلزوم أن تكون ملابس الحوزوي مناسبة و قلبه مهذّباً عاوراً و يقول:
إنّ إعمار القلب يكون بالتوجّه إلي الله و بالاُمور المعنوية. (62)
تواضعه
لقد كان الذمام الخميني رحمةالله غاية في التواضع، والابتعاد عن الممارسات التي يراد منها إضفاء الجلالة و الوجاهة الظاهرية عليه، و كان حازماً في النهي عن القيام بذلك، فإذا سار أحدّ خلفه توجّه إليه و نهاء عن ذلك، و هذا ما عرفه عنه أقربائه و تلامذته و بعض أصحاب المحلات القريبة من منزله، و هناك الكثير من الأحداث المنقولة عنه، و التي يتبيّن من خلالها شدّة تمسّكه بالتواضع و تجنُّب مظاهر التكبّر و الغرور، يقول حجّة الإسلام و المسلمين السيّد حميد الروحاني:
كان الإمام يتأذّي بشدّة من أن يحيط به مرافقون و أمثال ذلك، و قد شاهدتُ بنفسي مراراً أنَّ ضغط ازدحام الزوّار كان يشتدّ عليه و يعتصره مع كبر سنّه و ضُعف بدنه، لكنَّه رغم ذلك لم يكن يسمح لأحد بإبعاد الناس عنه و فتح الطريق أمهمه، و يروي المرحوم السيد «إملائي» قائلاً: رأيت الإمام يوماً في حرم الإمام الحسين عليه السلام في وسط الزوّار و لم يكن قادراً علي التحرّك بسبب شدّة الازدحام، فسارعت لإبعاد الناس و فتح الطريق له، فتغيّر وجهه و تعرّض لي مانعاً عن قيامي بذلك، لكنّي تابعت عملي هذا، فالتفت فجأةُ فوجدته قد غيّر مسيره و أعرض عن الطريق الذي فتحته له وسار باتّجاه آخر وسط الجموع! (63)
و لقد كان يجتنب الجلوس في صدر المجالس، متأسيّاً بالرسول صلي الله عليه و آله و سلم الذي كان يجلس حيث انتهي به المجلس. (64)
و هذا ما نقله عنه حجةالاسلام و المسلمين السيّد محمّد الروحاني، حيث قال:
كنتن أري الإمام - قبل أن يفجّر ثورته - يجلس حيثما وجد مكاناً في أيّ مجلس يدخله، و غالباً ماكان يجلس قرب الباب و في وسط عامة الناس، علي العكس تماماً من الآخرين الذين كانوا يجلسون إلا في صدر المجلس و لو كان ممتلثاً. (65)
صبره
إنَّ الذمام الخميني رحمةالله عليه كان صامداً أمام مشاكل الحياة بحيث، قلّ نظيره ممّن يحمل صفات الصبر و الثبات تجاه المواقف الصعبة و الممّات الجسيمة التي تواجهه، فلقد أدهش الذمام رحمةالله عليه كلّ المراقبين السياسيين بصيره و ثباته، فلقد كان جلداً في تحمّله للمصائب منذ ظهر علي الساحة السياسة، و هناك ظواهر بارزة تبدو في ظاهرها من المفارقات، لكن حين إمعان النظر فيها تبدي مدي حذره و احتياطه من أقوال السفهاء، فلقد ذكر غير واحد من المقربّين أنّه لم ير باكياً قطّ في استشهاد فلذة كبده المرتجي مصطفي الخميني، ففي الوقت الذي كنت فيه مراسم العزاء تقام في إيران إثر هذا الخبر المفجع، أثار الإمام الخميني رحمةالله عليه دهشة العالم بصلابة تعبيره عن هذا الموقف إذ وصف الحادثه بأنّها: «من الألطاف الإلهية الخفيَّة». فلقد نقل حجة الإسلام و المسلمين الشيخ الفرقاني قائلاً:
عند ما عرف الذمام استشهاد المرحوم السيّد مصطفي، كنت و عدد آخر الإخوة حاضرين عنده فشرعناه بالبكاء و النحيب الشديد، لكننّا لا حظنا أنَّ الإمام أشدّ صبراً فلم تجر من عينه و لا دمعة، و كنت قد سمعت في وقت سابق من أحد الأشخاص أنَّ علي من يصاب بمصيبة أن يبكي إلا أصابته سكته قلبية، و لذلك قمت إلي الشيخ الفرقاني - و كان ذاصوت حسن و يجيد قراءة مجلس العزاء - و طلبت منه أن يقرأ سيئاً من مصيبة سيّد الشهداء عليه السلام عسي أن يبكي الذمام، فأخذ بقراءة مصيبة علي الأكبر عليه السلام و أشعار بالعربية و الفارسية رقيقة للغاية في هذا المجال و علي مدي عشرين دقيقة و بصورة تُبكي كلّ سامع، و لكن الذمام لم يبك و لم تخرج من عينه و لا دمعة واحدة رغم أنّنا جميعاً شاهدنا الإمام كثير البكاء علي مصائب سيّد الشهداء عليه السلام فبمجرّد أن يبدأ الخطيب بقراءه هذه المصائب كان الإمام يُخرج مندليه من جيبه و يبكي بحرفة. (66)
هذا الرجل الصابر الثالث الذي قُدَّر له أن يحمل في صدره هموم الملايين و أشوافهم، و اتكأب تلك الملايين بآمالها العريضة علي ذ لك الصدر الرحيب تشاهده من قرب و بعد بسيطاً في غلاقاته و تامله، ذا زهد و كفاف في عيشته فبيته الصغير من الطين المستأجر في چمران لو قُدّر لك دخوله سيحكي لك أيّام محمّد و علي وفي جنباته تلك الأسرة الصغيرة، يعيش هذا القديّس الوقور كمال الأبوّة حُباً و عطفأف و هناك لقطات نادرة شوهدت له علي شاشة التلفزة و هو يعيش بابتسامته الحريضة مزاح النبوّة و أكّد ذلك لقطة خالدة في الأيام الأخيرة من رحلته الملكوتيه إذ شوهد يحتضن حفيده البريء علي سرير الموت.
و من نماذج صبره الاُخري ما رواه الحاج السيّد أحمد:
أنَّ الإمام قام عند سماعه بخير استشهاد ولده الحاج السيّد مصطفي في النجف الأشرف باتوجّه - بكلّ صبر و استقامة - إلي الجلوس في زاوية، والإقبال علي تلاوة كتاب الله. (67)
و علي الرغم من كلّ ما كان يقاسيه الإمام من آلام و متاعب و ضعف و هو يرقد في المستشفي، إلا أنَّه كان يقيم صلاته بنشاطٍ و استقامة كما لاحظ الجميع ذلك، كان يتلو أذكار الصلاة بوضوح رغم أن کمامة الأوکسجين کانت موض.عة علي فمه و أنفه، و کان الحاضرون يسمعون صوته و هو يتلو أذکار الصلاة و لكن كان إذا أتمَّ الصلاة عاد صوته ضعيقاً خافتاً لا نستطيع سماعه، الأمر الذي كان يثير تعجّباً. (68)
النظم و الاستثمار الدقيق للوقت
إنَّ المشاهد لحياة الإمام الراحل المرتبطة بتنظيم وقته يجد أحداثاً و مواقف و صور مدهشة جدّاً، أصبح الإمام من خلالها يُشبَّه باساعة في دقّته، بل من خلال تحرّكاته و تصرّفاته يعرف أهل بيته أو تلامذته أو المهتمّون بشخصيته بأنَّ الوقت الذي يمارس فيه هذه الممارسة هو الساعة كذا، فهو يذهب إلي النوم في ساعة كذا، و يستيقظ الساعة كذا، و يشرب الشاي الساعة كذا، و يقرأ الجرائد الساعة كذا، و يمشي مشيته الرياضية الساعة كذا، و يذهب إلي زيارة أمير المؤمنين عليه السلام الساعة كذا، و يخرج من زيارته الساعة كذا.
يقول المرحوم السيّد مصطفي: إنَّ الذمام عند ماتزوَّج وضع لنفسه برنامجاً، نظم فيه شؤونه اليومة بحيث يستطيع التفرّغ للتعبّد و الدراسة إلي جانب ضمان رضا زوجته، و علي الرغم من أنَّ أغلب الناس يغفلون - عادة - عن التزاماتهم اليومية في أيّام الزواج الاُولي و يهملون الكتب و الدراسه؛ إلا أنّ الإمام لم يغفل عن ذلك ببركة هذا النظام الدقيق، فكان يرجع إلي المنزل بعد أداء صلاتي المغرب و العشاء جماعةُ، ثمّ يتناول طعام العشاء، و يذهب بعد ذلک إلي فراش النوم مبکراً لکي يستيقظ آخر الليل لأداء صلاة الليل و التهجُّد و يتابع دراسته بانتظام. (69)
و يقول حجّة الإسلام و المسلمين السيّد حميد الروحاني:
كان العاملون في بيت الإمام في النجف الأشرف يعرفون كم الساعة - في أيّ وقت - بملاحظة ما يقوم به الإمام من شؤونه اليومية! فهو يقوم بكلّ عمل في وقته المحدّد كلّ يومٍ دونما تغيير. (70)
و ينقل عن أحد أرحام الإمام أنّها كانت تقول:
كانت جميع أعمال الإمام كانت تسير وفق برنامج منظّم فبعد أيّام قليلة من إقامتي في النجف الأشرف: أصبحتُ أعرف العمل الذي يقوم به في كلّ ساعة من ساعات يومه، بل أصبحتُ أعرف كم الساعة من خلال ملاحظة العمل الذي يقوم به. و قد سألتُ السيّدة زوجته مرّة عن أعمال الإمام، فأجابتني: يكفيكِ أنأخيرك ببرنامجه ليوم واحدٍ و ما عليك إلا أن تضربيه في 360 يوماً لتعرفي ما يقوم به في سنته! (71)
كان الإمام قد خصّص أوقاتاً معيّنة للمطالعة و القراءة و للأعمال المستحبّة التي لم يرد فيها أوقات خاصّة، مثل تلاوة القرآن و الزيارات و الأدعية، و كان يلتزم بالقيام بكلّ عمل في الوقت المخصّص له و بدقّة بالغة، بحيث أنَّ كلَّ من يعاشره و لو لمدَّة قصيرة يعرف حتّي - لو ابتعد عنه كثيراً فيما بعد - العمل الذي يقوم به في أيّ ساعةٍ بمجرّد النظر إلي ساعته، لأنَّه عرف سابقاً العمل الذي التزم الإمام القيام به في تلك الساعة. (72)
و لقد كان الإمام الخميني رحمةالله عليه يعطي دروساً في تعليم احترام المواعيد، و ذلك من خلال سيرته و تعامله مع الآخرين:
ففي أحد الآيّام اتّصل و أخيرنا بأنَّ في حنيفة الماء خللاً، فتقرّر أن أذهب إليه في صباح اليوم الثاني و في الساعة الثامنة لإصلاحها، لكنّني و صلت في الساعة الثامنة و خمس دقائق: و عند ما استأذنتُ للدخول لإصلاح الحنيفة: لم يأذن لي الإمام و قال: لقد قلت: تعال في الساعة الثامنة، فاذهب الآن و تعال غداً في الثامنة. (73)
خاتمة
من خلال ما تقدَّم نعلم أنّنا لو بنينا جميع اُمور حياتنا علي أساس حبّ الدني و حبّ النفس، صارت جميع أعمالنا غير خالصة لله سبحانه و تعالي، و شيئاً فشيئاً تنغرس في نفوسنا مجموعة كبيرة من الرذائل من دنانية و غرور و تكبّر و حبّ الرئاسة و الجاه... و غير ذلك، و النتيجة ضعف الإيمان بل اضمحلاله في النفس، و توفير العوامل المخالفة لتزكية النفس، و هو ما يبينّه الإمام الخميني رحمةالله عليه حيث يقول:
احذروا أن يستفحل - لاسمح الله - حبّ الدنيا و و حبّ النفس شيئاً فشيئاً في نفوسكم، و يصل بكم الأمر إلي أن يتمكن الشيطان من إيمانكم: إذ يقال أنّ كلّ جهود الشيطان تتكرس لسرقة الإيمان وسلبه.
إنّ كلّ جهود إبليس و مساعيه مكرّسة لاختطاف إيمان الإنسان؛ فلم يقدّم لكم أحد تعهّداً أو مستندداً ببقاء إيمانكم. (74)
إنَّ مَنْ يفرس حبّ النفس و حبّ الدنيا في نفسه فلن يعير إلي أيّ قيمة معنوية اهتاماً يذكر حتّي لو كان الإسلام نفسه، و هذا هو الضعف بعينه الذي انتاب المسلمين بل فشي فيهم و انتشر انتشار النار في الهشيم، كلّ واحد منّا لا يتعدّي اهتماماته نفسه و اُسرته علي خلاف ما كان يوصي رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم: « من أصبح لا يهتّم باُمور المسلمين فليس منهم». (75)
لقد كان الإمام الراحل السيّد روح الله الخميني رحمةالله عليه دائماً يوصي المسلمين بتزكية النفس و التنبّه لخطر أعداء الإسلام و ما يخططون له حيث كان يقول:
هذبّوا أنفسكم و تجهّزوا و استعدّوا للحيلولة دون وقوع المفاسد التي يمكن أن تعترضكم...إنَّ أيّاماً سوداء بانتظاركم، و يبدو أنّ أيّاماً عجافاً ستواجهكم... إنَّ عملاء الاستعمار يتطلّعون للقضاء علي الإسلام و محو كلّ أثر له، و لابدّ لكم من الوقوف في وجه ذلك و قفة شجاعة. و لن يتسنّي لكم ذلك مع وجود حبّ النفس والجاه و الغرور و التكبّر. (76)
لقد عمل الغرب علي إضعاف قوّه المسلمين، من خلال الإعلام بعد أن عجز عن هزيمتهم بالقوّة العسكرية في كثير من المعارك، فعملوا علي بثّ الأقمار الصناعية و إنشاء القنوات الإباحية و توجيهها إلي المسلمين؛ لإضعاف نفوسهم و محو هويّتهم الإسلامية من داخل نفوسهم، و العمل علي ارتفاع معدل الحالة الشهوانية؛ ليصبُّوا كلّ اهتمامهم في هذا الجانب، و تمحي كلّ الاهتمالات الاُخري و خاصّة التي تتعلّق بالإسلام و الجهاد و التضحية و الهطاء و البذل من أجل خدمة الإسلام و المسلمين.
بناءُ علي ذلك فعلينا أن نتوخّي الحذر ممّا يقوم به الغرب من خطط، و ما يحوكه من مؤامرات، و أن لا نكون غافلين عن أهدافهم الشيطانية، متناسين تعاليم الإسلام و أحكام القرآن، نتيجة للابتعاد عن تزكية النفس و اتّباع الهوي، و لهذا يقول الإمام أميرالمؤمنين علي عليه السلام: «أشجع الناس من غلب هواه». (77)
المصادر :
1. الشمس (91): 7-10.
2.جهاد النفس في فكر الإمام الخميني رحمةالله عليه، ص3.
3. الكافي، ج5، ص12، ح3.
4. هود (11): 88.
5. جهاد النفس في فكر الإمام الخميني رحمةالله عليه، ص5.
6. بحارالانوار، ج71، ص337، ح16.
7. بحارالانوار، ج71، ص339، ح120؛ وسائل الشيعه، ج16، ص337، ح3.
8. بحارالأنوار، ج71، ص339، ح121؛ الكافي، ج2، ص164، ح6.
9. الانشقاق (84): 6.
10. النساء (4): 100.
11. جهاد النفس في فكر الإمام الخميني رحمةالله عليه، ص3.
12. المصدر السابق، ص10.
13. البقره (2): 138.
14. جهاد النفس في فكرالإمام الخميني رحمةالله عليه، ص17.
15. الجهاد الأكبر أو جهاد النفس، ص30.
16. المصدرالسابق، ص34- 35.
17. المصدرالسابق، ص37-38.
18. جهاد النفس في فكر الإمام الخميني رحمةالله عليه، ص15.
19. المصدر السابق.
20. المصدرالسابق، ص16.
21. الخلاف، ج 1، ص27، عيون اخبار الرضا،ج1، ص 34، ح 40؛ كماالدين و تمام النعمه، ص238، ح57.
22. نهج البلاغه، الخطبة 27.
23. طه (20): 84.
24. جهاد النفس في فكر الإمام الخميني رحمةالله عليه، ص8.
25.المصدر السابق، ص17.
26. الجهاد الأكبر أو جهاد النفس، ص60-61.
27. القصص (28): 77.
28. الجهاد الأكبر أو جهاد النفس، ص61-62.
29. الخصال، ص 25، روضةالواعظين، ص441.
30. آل عمران (3): 14.
31. الجهاد الأكبر أو جهاد النفس، ص35-36.
32. المصدر السابق، ص55.
33. المصدرالسابق، ص52.
34. المجموع، ج6، ص395، نيل الأوطار، ج4، ص345.
35. القارعة (101): 9-11.
36. العلق (96): 6-7.
37. البقره (2): 193.
38. جهاد النفس في فكر الإمام الخميني رحمةالله عليه، ص5.
39. الأعراف (7): 176.
40. الجهاد الأكبر أو جهاد النفس، ص56.
41. ر.ك: المصدر السابق، ص55- 56.
42. بحارالانوار، ج91، ص99؛ إقبال الأعمال، ج3، ص299.
43. المصدر السابق.
44.التين (95): 5.
45. التين (95): 4.
46. الجهاد الأكبر أو جهاد النفس، ص55-56.
47. الزخرف (43): 36-39.
48. البقره (2): 193.
49. جهاد النفس في فكر الإمام الخميني رحمةالله عليه، ص5.
50. قبسات من سيرة الإمام الخميني - الحالات العبادية و المعنوية - ص12.
51. المصدر السابق.
52.المصدر السابق، ص13.
53. المصدرالسابق، ص93.
54. المصدرالسابق، ص150-151.
55. المصدرالسابق، ص126.
56. المصدرالسابق.
57. المصدرالسابق، ص132.
58. انكسار الشمس- مشهد من رحيل الإمام- ص6.
59. قبسات من سيرة الإمام الخميني رحمةالله عليه، الحياة الشخصية - ص60.
60. المصدرالسابق، ص71-72.
61. راجع المصدرالسابق.
62. قبسات من سيرة الإمام الخميني رحمةالله عليه، الحياة الشخصية- ص89.
63. المصدرالسابق، ص148.
64. تفسير ابن كثير، ج4، ص348؛ سبل الهدي و الرشاد، ج7، ص152.
65. قبسات من سيرة الإمام الخميني رحمةالله عليه - الحياة الشخصية - ص155.
66. المصدرالسابق، ص 259-260.
67. المصدرالسابق (الحالات العبادية و المعنوية)، ص14.
68. المصدرالسابق، ص93.
69. قبسات من سيرة الإمام الخميني رحمةالله عليه - الحياة الشخصية - ص9.
70. المصدرالسابق.
71.المصدرالسابق، ص10.
72. المصدرالسابق، ص11.
73. المصدرالسابق.
74. الجهاد الأكبر أو جهاد النفس، ص64.
75. بحارالانوار، ج71، ص339، ح116؛ وسائل الشيعة، ج16، ص337، ح3.
76. جهاد النفس في فكر الإمام الخميني رحمةالله عليه، ص34.
77.بحارالانوار، ج67، ص76، ح5؛ ميزان الحكمة، ج2، ص1413؛ منازل الآخرة و المطالب الفاخرة، ص212.