تختلف المرجعية عن اءي مؤسسة اخرى من مؤسساتنا السياسية والعلمية والاجتماعية بما تمتلك من رصيدكبير من الاحترام والثقة في نفوس الناس، وامر هذا الرصيد يعود الى مجموعة من العوامل التاريخية ساهمت في تكوين هذه الثقة في نفوس الجمهور.
ومن جملة هذه العوامل: التوصيات الكثيرة لاهل البيت (عليهم السلام)بالارتباط بالفقهاء ومنحهم الثقة وتكريمهم.
ومنها: الدور الذي تنهض به المرجعية في تمثيل الامام الحجة المنتظر(عجل الله فرجه الشريف)، وهذا التمثيل يعط ي للمرجعية قيمة حضارية كبيرة في نفوس جماهير المؤمنين، والنصوص الواردة عن اءهل البيت (عليهم السلام)تؤكد هذا التمثيل في عصرالغيبة.
ومن جملة هذه العوامل: الظلامات الكبيرة التي تعرضت لها المرجعية في تاريخها السياسي من قبل الانظمة السياسية التي لم تتمكن من اخضاع الفقهاء لاراداتها وقراراتها السياسية، واستقامة المرجعية على الخط الفقهي الذي ورثه الفقهاء من اءئمة اءهل البيت (عليهم السلام)
هذه النقاط مجتمعة وغيرها تجعل للمرجعية قيمة حضارية كبيرة، وتمنحها موقعا سياسيا واجتماعيا متميزا،وثقة كبيرة في نفوس الناس ومحبة في قلوبهم.
وقد استفادت المرجعية من هذه القيمة الحضارية في تاريخها السياسي كثيرا، واستخدمتها في القضايا الكبيرة التي مرت بالامة خلال صراعها السياسي استخداما جيدا، وعلى درجة عالية من الكفاءة، كان آخرها الثورة الجماهيرية الكبيرة في ايران بقيادة الامام الخميني رحمه اللّه حيث استطاعت المرجعية اءن توظف هذه الثقة والعلاقة الروحية والفكرية في حياة الامة وفي مختلف مواقع الصراع والمواجهة السياسية والعسكرية.
ومن المؤكد ان هذه الثقة لم تتكون تاريخيا بصورة عفوية، كما لم يكن اءمر المحافظة عليها اءمرا يسيرا، فهما قداستنفذا جهدا وعملا غير يسير من قبل الجماهير والمرجعية على امتداد هذا التاريخ.
المرجعية من مراكز القوة في المجتمع:
اذن المؤسسة الدينية تعتبر من مراكز القوة الاساسية في مجتمعنا، ومراكز القوة عادة تختزل قوة الامة وارادتها. فان للامة ارادة وقوة، وهذه الارادة والقوة قد تجتمعان في مركزواحد، فيكتسب هذا المركز قوة كبيرة تساوي قوة الامة، وارادة قوية تساوي ارادة الامة.
وهذه المراكز هي ملك للامة كلها، لان قوتها وفاعليتها نابعة من الامة... ودورها هو تمثيل ارادة الامة وعزمها في القضايا الكبيرة التي لا يتمكن الناس من القيام بها اءفرادا وجماعات.
وتلك حاجة حقيقية في الامة.
فلابد في الامة من مراكز قوة تمثل ارادة الامة ووعيها وقوتها وصرختها واحتجاجها.
والمؤسسة الدينية تمتلك هذا الثقل السياسي والاجتماعي والحركي الى حد كبير.
والذين يفهمون هذه القيمة الحضارية ويحترمونها ويحترمون دورها التاريخي لابد اءن يضعوا في حساباتهم اضرار وخسائر التفريط بها في طريقة البحث والنقد لهذا الكيان الديني، الفقهي، السياسي،.. دون اءن نقصدتجنب (النقد الموجه)، فان النقد الموجه ضرورة حقيقية في تنبيه وتوجيه وتثبيت هذا الكيان، ليؤدي دوره بصورة اءكثر فعالية، ولكن (النقد) من دون هذا الاعتبار، اءو بغير هذا التوجيه قد يؤدي، من حيث لا يقصد الناقدالى هذه الخسارة في حياة الامة ومسيرتها.
ولذلك فان طائفة من هذه النقود التي يوجهها الكتاب والمفكرون الشيعة الذين يفهمون هذا الدور للمرجعية الشيعية وقيمتها التاريخية عن حسن نية يحتاج اءحيانا الى (نقد النقد) او (توجيه النقد) ليسلم من السلبيات التي قد تترتب عليها من دون قصد، سواء كان النقد من داخل المؤسسة او من خارجها، لا فرق.
اذن ودون اءن نمنع هذا الحوار نقول لابد في كل حوار يجري اءن ناءخذ بنظر الاعتبار هذه الحقيقة.
فليس من باءس على اءحد من المفكرين والمعنيين بشؤون الامة اءن يحاور هذه المؤسسة اءو تلك من مؤسسات الامة، وهذا المركز اءو ذلك من مراكز القوة، اذا كان يلتزم في الحوار اءن لا يفرط بشيء منه، وان لا يجره الحواروالنقاش الى التسقيط والالغاء.
العمق الاجتماعي لامتنا:
وقد يختفي هذا العمق الاجتماعي والقيمة الحضارية للعلماء والمؤسسة الدينية عن اءعين الكثيرين، فلا يرون للمؤسسة الدينية هذا النفوذ، وهذا التاءثير وهذه المركزية، والموقع الحساس الذي تحدثنا عنه.
واولئك على جانب من الحق، فان المجتمع قد يتعرض لمؤثرات سياسية واعلامية معينة، فتختفي القوة الحقيقية في ذلك المجتمع، وتظهر على السطح حالة وهمية كاذبة، ولكنها تملا السمع والعين.
وقد تعرض مجتمعنا في السنوات العجاف لمثل هذه الحالة، فاختفت هذه القوة عن السطح الظاهر للحياة، دون اءن تفقد قدرتها ونفوذها في وسط الجمهور، اءو على الاقل دون اءن تفقد مقومات هذه القوة، وظهرت على السطح قوة سياسية عسكرية تمتلك مفاتيح الاعلام والمال والسلطان، دون اءن تملك من دعم الجمهور وتاءييده قليلا او كثيرا، ولكنها تعتمد على(النظام الامني القمعي) من جانب، وعلى (التضليل الاعلامي) من جانب آخر.
واختفت في هذه السنوات العجاف (اعراف) الامة و(ايامها) و(اخلاقها) وحتى (مصطلحاتها) و(شعاراتها) عن العين وظهرت على السطح اعراف، وايام، واخلاق، ومصطلحات، وشعارات لا قبل للامة بها. وفي حالة تشبه حالة (المسخ الحضاري) ولكننا نقول تشبه حالة المسخ ولا نقول هي حالة المسخ الحضاري، لان العلماء لم يفقدوا في السنوات العجاف هذه قدرتهم ونفوذهم الحقيقي، وانما اختفوا عن السطح الظاهر للحياة فقط، وملاهذا السطح زبد يملا العين والسمع.
الا اءن الاحداث الاخيرة في العراق وايران واءفغانستان ومصر والجزائر... اءعدت العالم الاسلامي للعودة الى حالته الطبيعية مرة اخرى، ومهدت الظروف السياسية لتحتل الحالة الاسلامية ومن يرعى هذه الحالة من العلماء العاملين السطح الظاهر للحياة الاجتماعية والسياسية.
وكان اءهم هذه الاحداث والهزات في العالم الاسلامي، على الاطلاق هي الثورة الاسلامية في ايران... فقد كان لهذه الثورة دور كبير في ذهاب الزبد الذي كان يطفو ويطغى على سطح الحياة، وفي ابراز وتثبيت ما ينفع الناس من الوعي والحركة والاخلاق والاعراف والقوانين، ومن الناس الذين يحملون هذا الوعي والحركة.
وكانت هذه الثورة بمثابة زلزال قلب المجتمع، فظهر على السطح ما كان خافيا وكامنا في العمق من قبل، واختفى عن السطح تماما ما كان يملا العين والسمع من قبل، من الزبد الذي لا يحمل شيئا مما ينفع الناس.
وهذه خاصية الهزات القوية، وفي هذه الهزة العميقة ظهر علماء الدين وبرز دورهم القيادي الفاعل في الاحداث السياسية، وفي مواجهة الاستكبار والكفر، وكان للامام الراحل الخميني رحمه اللّه الدور القيادي البارز في هذه الحركة.
ولا تنقص من قيمة هذا الدور وهذا الحجم اطلاقا بعض الاخطاء السياسية والاجتماعية التي ارتكبها قادة الثورة ورجالها من العلماء وغيرهم.
فلابد في كل ثورة من الاخطاء.. وكل ثورة تمر عبر بحر من الفتن، ولا يمكن اءن تسلم الثورة عبر هذه الفتن من الاخطاء.
وليس المهم حدوث هذه الاخطاء في وقتها، وانما المهم هو جرد الثورة بصورة مستمرة، وتصحيح مسيرها، وتصحيح الاخطاء التي تقع فيها، وتثبيت المكاسب الحضارية والسياسية التي حققتها الثورة.
ونعود مرة اخرى الى القيمة الحضارية والسياسية للعلماء في امتنا، فنقول: في هذه الثورة تبادلت (القيادة)و(القاعدة) الثقة، وشعر الناس باءن قيادتهم تشاركهم في همومهم وتتحسس آلامهم، حتى لو كانت تعجز عن ازالتها اءو تخفيفها، ووقفت الامة الى جانب قيادتها في الازمات الشديدة، وفي اءقسى اءيام الحصار الاقتصادي والسياسي والاعلامي.
واءحس الناس باءن قيادتهم تحترم ارادتهم وتراثهم ومواريثهم الحضارية، وكان الناس قد اءلفوا منذ زمن طويل هجر القيادة وتنكرها لارادتهم ومواريثهم الحضارية وتراثهم.
ونوجز القول ونقول: ان هذه الثورة اءعادت الناس الى اءنفسهم، بعد اءن كانت الانظمة الحاكمة والمرتبطة بعجلة الغرب والشرق قد سلختهم عن اءنفسهم.
وتلك قيمة حضارية كبيرة. ومن خلال هذا التصور نستطيع اءن نفهم ونتحدث عن مركز العالم الديني وموقعه السياسي والاجتماعي في الامة.
الموقع التوجيهي والقيادي للعالم الديني في المجتمع:
يمارس العالم الديني في مجتمعنا دورا توجيهيا وقياديا خطيرا.
وهذا الموقع يتطلب حضورا فاعلا ومؤثرا في وسط الامة. فلا يستطيع العلماء ان يمارسوا مثل هذا الدور الخطيرفي الامة، اذا كانوا منعزلين عن الامة وعن حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعن حركتها وطموحهاوآمالها وآلامها.
وتبادلهم الامة اءغلى ما عندها، واءغلى ما عند الامة هي (الثقة) و (الطاعة). ولولا ان الامة تمنح (الثقة) و(الطاعة) للعلماء لم يكن بامكان العلماء اءن يمارسوا دورا فعالا من خلال هذا الموقع الخطير.
مصادر الثقة:
ولم تكتسب المؤسسة الدينية هذه الثقة وبهذه الدرجة من الامة من دون سبب، فان الامة لا تمنح الثقة الا ضمن حساب دقيق.
فقد يكتسب اءحد ثقة جماعة من الناس بصورة اءو اخرى، من دون سبب كاف، ولكن من غير الممكن اءن شخصااءو مؤسسة تكتسب ثقة امة من الناس بصورة اعتباطية ومن غير سبب كاف وبصورة مستمرة، رغم كل العوامل السلبية.
وعندما نبحث عن الاسباب التي دعت الناس الى اءن يضعوا ثقتهم في (العلماء) بهذه الصورة نلتقي بسببين اءساسيين:
السبب الاول: هو توجيه اءهل البيت (عليهم السلام)الامة باحترام العلماء ووضع الثقة فيهم، والرجوع اليهم، والاخذبتوجيهاتهم، والاحتفاف بهم، والتزامهم، وتبنيهم.
والسبب الثاني: هو تاريخ المؤسسة الدينية، وهذا التاريخ يضرب بجذوره في عمق الماضي وتستحضره ذاكرة الامة.
والذين يستحضرون هذا التاريخ يعرفون جيدا اءن المؤسسة الدينية سلمت خلال هذا التاريخ الطويل من الغيبة الكبرى الى اليوم من الانحراف والشطط والانتهازية والتلاعب، واستثمار ثقة الناس في المصالح الشخصية.
وهذا التاريخ حاضر في ذاكرة الامة ضمن اءرقام وقضايا واقعية.
وليس معنى ذلك اءن التاريخ لم يشهد عضوا في هذه المؤسسة شط اءو انحرف. فقد حصل هذا الامر بالتاءكيد،والمناقشة فيه مناقشة في البديهيات. ولكن الامر الذي حدث الى جنب ذلك، ان كل عنصر شط اءو انحرف من داخل المؤسسة الدينية عزلته هذه المؤسسة عن نفسها اءو عزله الناس باءنفسهم عن المؤسسة.
ولعل هذا الوعي المبكر لتشخيص حالات الانحراف في اءعضاء المؤسسة الدينية، والموقف العملي السريع تجاه هذه العناصر وعزلها عن هذه المؤسسة وتجريدها عن صلاحياتها واءدوارها هو من جملة اءسباب حصانة المرجعية والحوزة العلمية.
ويدخل في هذا الباب النماذج المعاصرة التي يعرفها الناس في حياتهم من العلماء العاملين الموجودين في كل زمان وفي كل قطر تقريبا، ممن عرفهم الناس عن كثب وعرفوا فيهم الصلاح والتقوى والجدية والاخلاص ونكران الذات، والزهد والاعراض عن الدنيا، والاهتمام بشؤون الناس، والقوة والجراءة والثبات والصمود.
وهؤلاء العلماء لهم حضور فاعل بطبيعة الحال في حياة الناس، يعرفهم الناس ويلتقونهم ويتعاملون معهم،وياءخذون منهم ويمنحونهم ثقتهم. ويدخلون الحياة السياسية والاجتماعية من اءوسع اءبوابها. ومع ذلك لايسجل لهم التاريخ سقوطا عند هذه المزالق، كما يسجل لغيرهم، ولا يفقدون رغم كل النقد والتجريح، ثقة الناس واعتمادهم، ويبقى هؤلاء عناصر صلبة في تيار العمل السياسي والاجتماعي والحركي، لا يمكن ترويضهم بارهاب ولا اغراء.
وعندما يتلاقى هذان العنصران، ثقة الجمهور بقيادته، وصلابة عناصر القيادة واستقامتها، تكتسب المؤسسة الدينية قيمة كبرى، وتعتبر مصدر خطر كبير بالنسبة للمؤسسات الاستكبارية التي تطمع في الوصول الى مرب سياسية واقتصادية في العالم الاسلامي.
واءقول مرة اخرى: ليس معنى ذلك كله اءن المؤسسة الدينية تخلو من عناصر ضعيفة تستغل ثقة الناس استغلالاشخصيا، وتستفيد من احترام الناس وثقتهم في شؤون شخصية.
فان وجود هذه العناصر ضمن المؤسسة الدينية حق وواقع وطبيعي في نفس الوقت، ووجود هذه القيمة الكبيرة للعالم الديني وللمؤسسة الدينية عموما اءيضا صحيح وواقع، ولا سبيل للمناقشة في هذه اءو تلك.
ومن الخطاء التفريط في هذا الموقع الاجتماعي بما يحمل من قوة وبما يكسب من ثقة الناس، كما ان من الخطاءتجنب الحوار والنقد الموضوعي البناء لهذه المؤسسة.
كيف نتعامل مع المؤسسة الدينية؟:
امامنا ثلاثة اءنماط من التعامل مع هذه المؤسسة:
الاول: التعامل من خلال الثقة المطلقة لكل شرائح المؤسسة الدينية.
والثاني: النقد الذي لا يتجنب صاحبه فيه حالة التسقيط والالغاء.
والثالث: النقد الموجه المسؤول الذي يطلب فيه صاحبه نقاط الضعف ويوضحها للتسديد والنصح وليس للتسقيط والالغاء.
والفرق بين الاسلوب الثاني والثالث واضح لا يخفى على الناقد ولا على القارئ.
فان النمط الثاني من التعامل نمط غير مسؤول من النقد، بينما النمط الثالث نمط مسؤول من النقد.
والناقد غير المسؤول لا يهمه الا تثبيت نقاط الضعف على هذه المؤسسة مهما كان الثمن، ومهما آل اليه الامر،بينما الناقد الاخير يهمه النصح والتسديد، ومعالجة نقاط الضعف، فهو يحرص على الكيان من حيث الاساس،ويحرص في نفس الوقت على اصلاح وتسديد نقاط الضعف في هذا الكيان... وهذا هو النقد المسؤول والموجه في مقابل النقد غير المسؤول وغير الموجه.
ولست اءشك اءن المؤسسة الدينية بحاجة الى كثير من النقد، كما لست اءشك اءن النقد غير المسؤول وغير الموجه ضرره اءكثر من نفعه، بل لا ياءتي بغير الضرر، لان النقد اللا مسؤول عمل تخريبي في مركز من اءهم مراكز القوة في المجتمع يؤدي الى تشكيك الناس وسلب ثقتهم عن هذا المركز، دون استبداله بمثله فضلا عن استبداله بخيرمنه.
وهذا الاسلوب من النقد نابع من اءحد اءمرين:
اما عدم وعي لمراكز القوة في المجتمع وضرورتها.
او اللا مبالاة وعدم الاهتمام بوجود هذه المراكز. والثاني اسواء من الاول.
المصدر :
الاجتهاد والتقليد / محمد مهدي الاصفي