تستند العلاقة بين الطبيب وكل ما يمثله من منتجات دوائية واجهزة طبية ورأي شخصي من جهة ، وبين المريض وما يمثله من قوة شرائية من جهة اخرى ، الى روح النظام الاخلاقي الاسلامي. فهذا النظام الاخلاقي يرتكز على ثلاثة عناصر مهمة : هي الخبرة والثقة والاستعفاف عن المال. فالخبرة الطبية علامة حاسمة في تعريف الطبيب وتشخيصه عن غيره من الخبراء كالصيادلة والممرضين والكيميائيين. والثقة عنصر مهم في التعامل الطبي وتعني هنا صدق الطبيب في تشخيصه المرض.
اما الاستعفاف فهو الاطار العام الذي يبلور شخصية الطبيب الاخلاقية ويمنحها فهماً وشفافية في التعامل مع المرض والموت ؛ بمعني ان دور الطبيب ينبغي ان يفهم على انه يمثل رسالة رحمة لعلاج امراض الناس ، وليس تاجراً يتصيّد الحالات الاستثنائية لتجميع الثروة على حساب الآخرين. والفارق بين الطبيب والمريض في المجتمع الاسلامي هو الفارق بين امتلاك الخبرة وعدمها.
فالطبيب خبير ، والمريض فرد يبحث عن استثمار تلك الخبرة لتصحيح وضعه الصحي. هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فان المريض ينبغي ان يتمتع بصفة الثقة ايضاً ، فيفترض ان يكون صادقاً في عرضه لاعراض المرض على الطبيب ، فالتحايل واخفاء الحقيقة ليست علامة من علامات الثقة ، ونتيجتها ارباك المؤسسة الطبية اولاً ، والنظام الاجتماعي ثانياً.
وايمان المريض بالدين عامل آخر مهم ، لان المريض الملحد مثلاً لا يؤمن بالغيب ولا بالقدرة الالهية على شفاء بعض الامراض التي يعجز عن شفائها الطب الحديث ، فيعرض مرضه على الطبيب بصورة تختلف عن عرض المريض المؤمن الواثق بقدرة الله عزوجل على شفاء المرض. فتصبح صورة التعامل الاجتماعي والعلاقة الاستشارية بين الخبير والمريض مشوشة باطار القلق والاضطراب النفسي.
ولما كان الطبيب مسؤولاً عن ربط الاعراض المرضية التي يظهرها المريض باسم طبي معروف ، فان دوره كخبير يتجاوز مجرد وضع العلاج الطبي ، ويذهب الى حد التدخل بشؤونه العبادية الشخصية كمقدمات العبادة وهي الطهارة كالوضوء والغسل ، وقضايا العبادات مثل اقامة الصلاة وتأدية الصيام ، والتدخل بشوون الافراد مثل تصرفات المريض الذي يؤدي به مرضه الى الوفاة ، وما يترتب عليها من احكام تجاه الهبة والشركة والوصية.
فالطبيب هو الذي يحدد المرض المتصل بالموت فيترتب على حكمه احكام تصرفات المريض. وقد يمنع الطبيب مريضه من الصوم ، ولكن يجيزه على الغسل للصلاة الواجبة. وقد ينهاه عن السفر بقصد الحج ولكن يجيزه على الصيام. وقد يحكم على ان مرضه ليس متصلاً بالوفاة. وفي هذه الحالات يتصرف الطبيب من وحي واجبه الشرعي كخبير ، فيتجاوز بذلك الدور الذي وضعته له المؤسسة الصحية الى الدور الذي وضعه له الدين. فخبير له هذا الدور يجب ان يكون ثقة حتى يطمئن الناس الى ممارسة اعمالهم العبادية ، حينما يتعلق الامر وينحصر بخبرته الطبية.
ويتدخل الطبيب في شؤون المريض الخاصة ، فله الحق في سؤال المريض حول ادق شؤونه الحياتية. وواجب الطبيب هنا ان يحفظ للمريض ثقته به ، فلا يتعدى في السؤال الى ما يضر بمصلحة المريض او ما يشبع شهوة الطبيب من معلومات. والمدار في كل ذلك هو الاطار الاخلاقي الاسلامي الذي يدعو الى الاعتدال وحصر الاستفسار بما يتعلق بالحالة المرضية.
وينبغي على النظام الاجتماعي ايضا تقسيم الطب ومؤسسته الى قسمين ؛ قسم يتعلق بالنساء وامراضهن ، من ولادة وحمل ، وأمومة وطفولة. وقسم يتعلق بالرجال وامراضهم. فالقسم النسائي يتحمل مسؤولية الاشراف عليه والعمل فيه النساء من طبيبات وممرضات ومديرات ، وينبغي تخصيص اجنحة او مستشفيات خاصة بالامراض النسائية ، محددة بدخول النساء الخبيرات في الطب والتمريض. وفي هذا تشجيع للمرأة على تأدية دورها الاجتماعي في التطبيب والعلاج ، وتخفيف عن عبء الرجل في علاج النساء ، خصوصاً في الامراض النسائية ؛ وهو ادعى للعفة في تجنب بعض المشاكل الاخلاقية التي تحصل في المستشفيات المعمول بها اليوم.
واذا ارادت المؤسسة الطبية تقليص الفجوة الواسعة بين الطبيب كخبير وبين المريض كفرد من عامة الناس ، فما عليها الاّ ان ترفع مستوى الافراد علمياً في القراءة والكتابة وفهم اسباب نشوء الامراض ، عن طريق نشر الموسوعات الطبية الميسرة بين الناس ، واذاعة المعلومات الطبية المبسطة التي لا تضر بعمل الطبيب او اختصاصه. ولابد ان يدرك الطبيب ، ان تبسيطه المعلومات الطبية للمرضى لا يقلل من قيمته العلمية او المهنية ، بل ان ذلك يضفي احتراماً وتقديراً لعمله. فالطبيب المتواضع الذي يحاول بذل جهده في تبسيط المعلومات الطبية لمرضاه يساهم بشكل من الاشكال في تقليل آثار الألم والمعاناة التي يمر بها المريض ، ويساهم ايضاً في رفع المستوى العلمي والثقافي على صعيد افراد الاُمة الاسلامية جميعاً.
اهل الخبرة الطبية
ودفعاً للاشكلات التي يواجهها المجتمع في تمييز الطبيب القادر على العلاج من بين المشعوذين والمنتحلين للصفات الطبية ، فان المؤسسة الطبية مكلفة بحصر تعليم الطب في الكليات والجامعات الطبية التي يحدد مستواها وكمية المعلومات الواجب تدريسها ، اكثر الخبراء علماً وتجربة في العلوم الطبية.
ولا شك ان هذه العلوم متغيرة بتغير البحوث التجريبية والواقع الاجتماعي المتبدل يوما بيوم ، ولذلك فان اي تطور في هذه العلوم يجب أن ينعكس على المواد المنهجية التي تدرس في هذه الكليات. ولابد من التأكيد على الجانب الفقهي الطبي في المنهج الدراسي بقسميه الغذائي والوقائي ، ودراسة آثار المحرمات كالخمرة والدم والميتة والخنزير والمسوخ ، وآثار التدخين والمخدرات وتلويث البيئة ، وآثار كثرة تناول اللحوم الحمراء وشحومها ، واحكام الصيد والتذكية الشرعية ، واستحباب السواك والتخليل. وهذه الموارد كلها تساهم بشكل فعال في تحليل اسباب نشوء امراض الحضارة الحديثة. ولا شك ان فكرة الوقاية تجنب المجتمع الاسلامي العديد من الامراض التي اُبتلي بها صانعو تلك الحضارة ومناصروها.
ولابد في تقييم العمل الطبي قضائياً من اشتراك الحاكم الشرعي ، والبينة ، والقرائن الموضوعية. فاذا اخطأ شرعاً الزَمَهُ القاضي الشرعي العادل بالضمان. ولابد في نفس الوقت من تصميم نظام خاص ، ضمن اطار النظام القضائي ، يُحفظ فيه حق المريض اذا اصابه الخطأ ، ويحفظ سمعة المهنة الطبية ويقيم العدل بين افراد النظام الاجتماعي في هذا الحقل بالخصوص.
وقد تتولى الدولة تحديد اجور الطبيب ، حتى لا يتجاوز الحد الشرعي فيكون مدعاة لانشاء طبقة رأسمالية جديدة في مجتمع يرفض الظلم الاجتماعي. واذا كان الطبيب يتعامل مع المرض والموت ، فان هناك ، من غير الاطباء ، ممن يتعاملون مع المرض والموت ايضاً. فالممرض والممرضة يتعاملان مع نفس الحالة المرضية ، وهناك من يقوم بتغسيل الميت وتكفينه ، وعالم الدين يقوم بالصلاة عليه ، ويقوم آخر بدفنه.
نعم ان الطبيب له الكلمة الفصل في تحديد العلاج وعليه يتم الأجر ، ولكن يجب ان يكون الأجر عادلاً للجميع ، عدا عالم الدين الذي ينبغي ان لا يأخذ اجراً على الاعمال الكفائية التي يقوم بها. ومع ان تحديد الاجر يتم من خلال نوعية العمل المنجر الاّ ان رفع اجور العمل الطبي بشكل يؤدي الى تكديس المال في طرف وحرمان طرف آخر منه لا يمثل اي شكل من اشكال العدالة الاجتماعية.
وامام هذه المشكلة يقف الاسلام موقف الحكم. فالهدف من المهنة الطبية ـ كما يؤكد الاسلام ـ ليس جمع المال وكسب القوة السياسية والاجتماعية بل الخدمة الانسانية ؛ وعليه فان أجر الطبيب في النظام الاسلامي يتناسب مع نوعية العمل وكمية الجهد المبذول ولكن بشكل لا يسبب حرماناً للفقراء والمعدمين. وعلى ضوء ذلك تحدد الدولة أجور الطبيب في المعاينة والعمليات الجراحية ، وتحدد اجور بقية العاملين في الحقل الطبي.
ولا ريب ان رأي اهل الخبرة الطبية حاسم في فصل القضايا القانونية امثال تشخيص الاضطراب العقلي بنوعيه الادواري والمطبق ، وتقرير عجز الفرد عن القيام بالعمل الانتاجي ، وتحديد مقدار الجروح او الكسور في الديات. ولا يستطيع احد انكار اهمية دور الطب الجنائي في الكشف عن اسباب الجريمة ومنشأها. ومع ان هذه العوامل تشكل مادة الحسم في الحكم الصادر ضد المتخاصمين في الامور القضائية ، الا أن وظيفة الطبيب تبقى مقيدة بحدود تقديم الخبرة الطبية ، ويبقى للقاضي اصدار الحكم الشرعي على طرفي النزاع بالاستناد على المصادر الشرعية والقضائية.
ضمان الطبيب
ولما كان الطب يتعامل مع الانسان تعاملاً مباشراً ، فان الخطأ الذي يقع سيسبب للمريض اضراراً بالغة. ولذلك ، فان الطبيب لابد وان يتحمل جزءاً من المسؤولية في ضمان ما يتلفه بالعلاج. فقد ذكر الفقهاء ان الطبيب يضمن لو مات المريض بسبب العلاج. وينطبق نظام الديات في تلف النفس والاطراف على ذلك. ولما كان الضامن في الخطأ المحض عاقلة الطبيب ، فان الضامن في الشبيه في العمد ، الفاعل وهو الطبيب نفسه ، « لحصول التلف المستند الى فعله ، ولا يُطل دم امرئ مسلم ، ولأنه قاصد الى الفعل مخطئ في القصد. فكان فعله شبيه عمد ، وان احتاط واجتهد واذن المريض ، لان ذلك لا دخل له في عدم الضمان هنا ، لتحقق الضمان مع الخطأ المحض. فهنا اولى وان اختلف الضامن » (1).
وذهب ابن ادريس في كتاب السرائر الى عدم ضمان الطبيب اذا كان عالماً مجتهدا في تشخيص المرض ، واستدل على ذلك بثلاثة اُمور ، اولها : اصالة البراءة من الضمان. وثانيها : اذن المريض للطبيب في العلاج وهو مسقط للضمان فيما لو حصل التلف في الأثناء. وثالثها : ان العلاج فعل سائغ شرعاً ، فلا يستعقب ضماناً.
ورده الشهيد الثاني بقوله : « ان اصالة البراءة تنقطع بدليل الشغل. والأذن في العلاج لا في الأتلاف. ولا منافاة بين الجواز والضمان ، كالضارب للتأديب. وقد روي ان امير المؤمنين عليهالسلام ضمّن ختّاناً قطع حشفة غلام (2).
والاولى الاعتماد على الاجماع فقد نقله المصنّف في الشرح وجماعة ، لا على الرواية لضعف سندها بالسكوني »(3).
وأجمع فقهاء السنة على « ان الطبيب اذا اخطأ لزمته الدية ، مثل ان يقطع الحشفة في الختان وما اشبه ذلك ، لانه في معنى الجاني خطأ. وعن مالك رواية انه ليس عليه شيء ، وذلك عنده اذا كان من اهل الطب ، ولا خلاف انه اذا لم يكن من اهل الطب انه يضمن لأنه متعدّ ، وقد ورد في ذلك مع الاجماع حديث عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده ان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)قال : ( من تطبب ولم يعلم منه قبل ذلك الطب هو ضامن ) والدية فيما اخطأه الطبيب عند الجمهور على العاقلة » (4).
فالطبيب اذن « يضمن في ماله من يتلف بعلاجه. ولو ابرأه المريض او الولي ، فالوجه : الصحة لإمساس الضرورة الى العلاج » (5).
ونستلخص من هذا الرأي فوائد :
« الاولى : انه يجوز العلاج للامراض ؛ اما اولاً فلوجوب دفع الضرر عن النفس عقلاً وشرعاً. واما ثانياً فلقوله (صلی الله عليه وآله وسلم): ( تداووا فان الذي انزل الداء انزل الدواء ) (6)
وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم): ( شفاء اُمتي في ثلاث : آية من كتاب الله ( الطب الايماني ) ، ولعقة من عسل ( الطب الغذائي ) ، ومشراط حجام ( الطب التجريبي / الجراحي ) (7).
واما ثالثاً فللا جماع على ذلك.
الثانية : الطبيب القاصر المعرفة ضامن لما يتلف بعلاجه اجماعاً ، وكذا العارف اذا عالج صبياً او مجنوناً او مملوكاً من غير اذن من الولي والمالك ، او عالج عاقلاً حراً من غير اذن منه.
الثالثة : العارف اذا عالج حراً عاقلاً آذنا ، او احد الثلاثة مع اذن الولي فيخطئ هل يضمن ام لا ؟ قال الشيخان والتقي وسلار : نعم ، لحصول التلف مستنداً الى فعله ولا يبطل دم امرئ مسلم (8).
قال المصنف في النكت : الاصحاب مجمعون على ان الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه ، وهو الاصل في الحجة ، والاجماع المنقول بالواحد حجة عند الاكثر.
الرابعة : لو اخذ الطبيب البراءة من المريض الحر العاقل او من ولي غيره هل يكون ذلك مسقطاً للضمان ام لا ؟ قال الشيخان واتباعهما : نعم ، لان الضرورة ماسة الى العلاج لما يتعقبه من الضمان ، وللرواية المذكورة عن الصادق (عليه السلام) عن على (عليه السلام) انه قال : ( من تطبب او تبيطر فليأخذ البراءة من وليه والاّ فهو ضامن ) (9)
وانما ذكر الولي لانه هو المطالب على تقدير التلف. فلما شرع الابرام قبل الاستقرار لمكان الضرورة صرف الى من يتولى المطالبة بتقدير وقوع ما تقع البراءة منه. قال المصنف في النكت : لا استبعد ابراء المريض لانه فعل مأذون فيه والمجنيّ عليه اذا اذن في الجناية سقط الضمان فكيف بأذنه في المباح المأذون في فعله.
الخامسة : الضمان المذكور في مال الطبيب لانه شبيه عمد لتحقق القصد الى الفعل لا الى القتل » (10).
والخلاصة ، ان الطبيب مسؤول عما يتلفه بعلاجه اذا لم يكن خبيراً بالاجماع ، او كان المريض طفلاً او مجنوناً اذا لم يحصل على الاذن من وليهما ، او كان المريض بالغاً لم يأذن له بالعلاج ، ولكن يسقط ضمان الطبيب اذا اخذت البراءة من المريض.
المصادر:
1- شرح اللمعة الدمشقية : ج ١٠ ص ١٠٨.
2- التهذيب : ج ١٠ ص ٢٣٤.
3- شرح اللمعة : ج ١٠ ص ١١٠.
4- بداية المجتهد لابن رشد : ج ٢ ص ٤٥٤.
5- شرائع الاسلام : ج ٤ ص ٢٤٨.
6- قرب الاسناد : ص ٥٢.
7- العوالي : ج ٢ ص ١٤٨.
8- التهذيب : ج ١٠ ص ٢٠٥.
9- الكافي : ج ٧ ص ٣٦٤.
10- التنقيح الرائع للسيوري الحلي : ج ٤ ص ٤٦٩.