کان المقداد وعبد الرحمن بن عوف كانا جالسين ، فقال عبد الرحمن للمقداد :
مالك لا تتزوج ؟
قال : زوجني ابنتك.
فغضب عبد الرحمن وأغلظ له ! (١)
قام المقداد من عنده منكسفاً ، يتعثر بأذيال الفشل ، فلم يكن يتوقع من صحابي كعبد الرحمن أن يرده هذا الرد القاسي ويغلظ له في القول ، وشعر في قرارة نفسه أن طلبه هذا قد جرَّ عليه مهانةً كان في غنى عنها ، وان عبد الرحمن الزهري نظر إليه نظرةً قَبليّةً ؛ فبنو زهرة من صميم قريش ، وأنى لحليف لهم من بهراء لاجئ ان يتطاول على هذا البيت العريق يريد مصاهرته ! ومن يكون المقداد في جنب عبد الرحمن ، وابنة عبد الرحمن !!
غضب عبد الرحمن وأغلظ له ، فما كان من المقداد إلا أن يمم قاصداً رحاب الرسول الكريم صلىاللهعليهوآله حيث يجد المؤمن فيض الرحمة والحنان والعطف ، وحيث تجد الإِنسانية المعذبة من يلم جراحها ويمسح آلامها ، مشى نحو النبي فشكا ذلك إليه.
« فقال صلىاللهعليهوآله » : أنا أزوجك ! (2)
محمدٌ ومن مثل محمد صلی الله عليه وآله وسلم!؟ وهبّت في تلك اللحظات نسمةٌ كأنها أتت من الجنة ، هدأت لها نفس المقداد وارتاحت بعد عناء ، وأطرق يفكر في جوٍّ مفعم بالنشوة ، من يا ترى ؟
من تكون هذه التي سيختارها له محمد ؟
وربما خطر على باله أنه سيختار له واحدةً من بنات المهاجرين والأنصار كما فعل مع جويبر وجلبيب رضي الله عنهما ؛ ولا أظن أن تصوره ذهب إلى أبعد من ذلك ؛ وفي ذلك الهناء والسعادة ، ولكن كانت المفاجأة أعظم وأكبر من التصور !!
فقد اختار له النبي صلىاللهعليهوآله كريمة درجت في أعز بيت من قريش والعرب ، وأعز بيت في الإِسلام ؛ اختار له ابنة عمه « ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ».
وإنما فعل ذلك ، ـ كما ورد عن أبي عبدالله الصادق عليهالسلام ـ « للتتضع المناكح ، وليتأسوا برسول الله صلىاللهعليهوآله وليعلموا أن اكرمهم عند الله أتقاهم. » (3)
وليعلموا أن اشرف الشرف الإسلام. (4)
« بين الأشعث بن قيس والإمام علي عليهالسلام »
ثمة رواية تقول : أن الأشعث بن قيس الكندي « دخل على علي بن أبي طالب عليهالسلام فوجد بين يديه صبّية تدرج ، فقال : من هذه يا أمير المؤمنين ؟
قال هذه زينب بنت أمير المؤمنين !
قال : زوجنيها ـ يا أمير المؤمنين.
قال عليهالسلام : أعزب ، بفيك الكثكث (5) ، ولك الأَثلب ، أغَرك ابن أبي قحافة حين زوَّجك ام فروة ؟! إنها لم تكن من الفواطم ، ولا العواتك من سُليم !
فقال : قد زوجتم أخمل مني حسباً ، وأوضع مني نسباً ، المقداد بن عمرو ، وإن شئتَ فالمقداد بن الأسود ؟!
قال علي عليهالسلام : ذلك رسول الله فعله ، وهو أعلم بما فعل ، ولئن عُدَتَ إلى مثلها لأَسؤَنّك (6) !
ورُبَّ معترضٍ على مضمون كلام الإِمام مع الأشعث ، حيث يُستشمُّ منه رائحة التعصيب والمنطق القبلي ـ حاشا الإمام ذلك ـ فيؤخذ بالوهم والتباس الحقيقة. فالإمام علي عليهالسلام أبعد ما يكون عن هذا التفكير العشائري لو وجد خصمه أهلاً وكفؤاً لزينب ، حسب الموازين الإسلامية.
لقد كان الأشعث بن قيس يرى في نفسه كبراً تظهر آثاره بين الفينة والفينة سيما مع الإمام علي ، فقد كان جريئاً عليه ، وجرأته تلك تنم عن وقاحة وسوء ظن ، وغلظة ، فكان يعترض الإمام في أحرج المواطن وأشدها
وكان ينهج في فيما كان الإمام علي عليهالسلام يخطب ذات يوم ، إذ اعترض عليه الأشعث بشأن التحكيم ، فكان من جملة ما قاله الإمام له : « ما يدريك ما عليّ مما لي ، عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين حائك بن حائك ، منافق بن كافر ، والله لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى ، فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك ، وإن إمرءً دل على قومه السيف ، وساق إليهم الحتف لحريٌ أن يمقته الأقرب ، ولا يأمنه الأبعد ». (7)
واسم الأشعث : معدي كرب ، وأبوه قيس الأشج ، وكان الأشعث أبداً أشعث الرأس فسمي الأشعث وغلب عليه حتى نُسي إسمُهُ وقد تزوج رسول الله أخته قتيلة ، فتوفي قبل أن تصل إليه. وأما الأسر الذي أشار إليه امير المؤمنين هنا في الجاهلية ، فهو انه حين قتل أبوه خرج يطلب الثأر فأسر ، وفدي بثلاثة آلاف بعير ، لم يفد بها عربي قبله ولا بعده ، وفي ذلك يقول عمرو بن معدي كرب الزبيدي.
فكان فداؤه ألفي بعيرٍ / وألفا من طريفاتٍ وتُلدِ
وأما الأسر الثاني في الإسلام ، فقد كان في عهد أبي بكر ، وذلك أن بني وليعة ارتدوا بعد رسول الله ، وملكوا عليهم الأشعث ، فحاصره المسلمون وكان في حصن ، فاستسلم بعد أن شرط عليهم أن يبعثوا به الى ابي بكر ، ثم فتح لهم الحصن ، فدخلوه واستنزلوا كل من فيه وأخذوا أسلحتهم وقتلوهم وكانوا ثمانمائة ، ! وقيل : أمنوه مع عشرة من أهل بيته فقط ، ثم أخذ موثقاً بالحديد. قال الطبري : وكان المسلمون يلعنون الأشعث ويلعنه الكافرون أيضاً وسبايا قومه ، وسماه نساء قومه عرف النار ـ وهو اسم للغادر عندهم.
وقال ابن أبي الحديد : كان الأشعث من المنافقين في خلافة علي عليهالسلام ، وهو في أصحاب امير المؤمنين عليهالسلام كما كان عبدالله بن أبي بن سلول في اصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه ـ (8)
ذلك منهج : خالف تُعرف ! وكان الإِمام عليهالسلام يعامله بالمثل ، وقد انكشفت حقيقته لديه فيما بعد.
إن هذا الرجل كان بعيداً عن الإيمان وعن مبدأ علي ، فلم يبق له شيءٌ يفتخر فيه أمام عليّ إلا النسب والعشيرة حيث قال : قد زوجتم اخمل مني حسباً !
بيد أن الإمام عليهالسلام تناوله من حيث بدأ. فأفهمه أنه ليس كفؤاً لزينب ، ولا لواحدة من الفواطم والعواتك ، وأن كندة التي يفتخر بها الأشعث ، ليست كفؤاً لهاشم وسُلَيم ، قرعاً للحجة بالحجة ، وفلاًّ للحديد بالحديد.
وحين ضرب له الأشعث مثلاً بالمقداد ، لم يُطل معه الإمام الشرح ، بل أجابه بقوله : ذاك رسول الله فعله.
جواب مسكتٌ لا يمكن معه رَدٌّ ، أو اعتراض من مسلم ! فهل يفعل الرسول إلا ما فيه المصلحة والرجحان ؟ وهل كان ليزوج المقداد من ابنة عمه ضباعة لو لم يكن كفؤاً لها ؟
زوجة المقداد وأولاده
وضباعة كنيتها أم حكيم وقد ولدت للمقداد عبدالله ، وكريمة.
وكانت تروي عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)وعن زوجها المقداد. وروى عنها ابن عباس ، وعائشة ، وبنتها كريمة بنت المقداد ، وابن المسيب وعروة ، والأعرج وغيرهم. (9)
وقتل عبدالله بن المقداد في حرب الجمل مع عائشة « سنة ست وثلاثين » فمر به علي بن أبي طالب ، فقال : بئس ابن الأخت أنت. (10) ولم أجد لعبد الله ترجمةً أوسع مما ذكرت. وأما معبد فقد ذكر في « الإصابة ». وأظن أن أمره قد التبس على ابن حجر ، فتارةً يقول : مرت ترجمته في ترجمة والده. وتارةً يذكر : معبد بن المقدام بدل المقداد. وأما في غير هذا الكتاب من الكتب التي بين يدي فإنها لا تتعرض لذلك. والله أعلم.
واليوم ، هناك عائلة واسعة الانتشار تسمى : ( بآل المقداد ) وهم يسكنون في سوريا ولبنان وغيرهما من البلاد العربية.
وقد سألت السيد حسن محمد المقداد عن سبب التسمية ، فأجابني أنهم ينتمون إلى ( المقداد ) وأن هذا أمر توارثه الأبناء عن الآباء ، وقال فيما قال : أن النزوح الأساسي كان إلى الشام قبل مئات السنين بسبب الإضطهاد الديني ، ثم توزعوا بين الشام وجهات بعلبك.
وأخبرني الحاج كاظم المقداد : أن شجرة النسب ( نسبهم ) توجد عند آل المقداد الموجودين في « بصرى الشام » وهم وإياهم ابناء العم ، وذلك : أن إثنين من ابناء المقداد كانوا في قلعة السويداء ، فنزحوا الى منطقة ( حجولا ـ كسروان ) ثم رجع أحدهم فسكن بصرى الشام.
المصادر :
1- الإصابة ٣ / ٤٥٤ ـ ٤٥٥.
2- تتمة رواية الإصابة.
3- راجع الوسائل ١٤ ب ٢٦ ح ١ ص ٤٥.
4- مكارم الأخلاق / ٢٠٧ : قال رسول الله الخ ..
5- الكثكث التراب والحجارة. والأثلب : التراب والحجارة. أو مطلق ما يعاب به الإنسان.
6- العقد الفريد ٦ / ١٣٦.
7- تصنيف نهج البلاغة / ٢٢٢.
8- راجع شرح النهج ١ / من ص ٢٩٢ ـ ٩٢٧.
9- الإصابة ٤ / ٣٥٢.