لقد سعى هذا الأخير عبر صياغة تلفيقية من فلسفات تتناقض في مبدئها ومنتهاها مع هذه النهاية السيئة التي اكتمل نشيدها عشية انهيار المعسكر الشرقي، إلى أن يصور النيوليبرالية كحركة طبيعية قدر لها أن تواجه كل هذه المضادات لتراتبية التطور التاريخي، ما جعلها انتصارا لطبيعة الاشياء. ففي محاولة تحريفية قصوى استعار هذا الأخير المنظور الهيغلي ليغطي على أزمتين بنيويتين في المشروع النيوليبرالي: الأولى تتعلق بفلسفة التاريخ الهيغلي التي ترى تاريخ البشر هو صيرورة غير منقطعة بحثا عن الاعتبار والكرامة. وهذا المنظور حتما لم يعد مؤسسا حقيقيا للنيوليبرالية بنكهتها الفيكتورية التي حولت مفهوم الاعتراف والكرامة لينحصر في أولئك السادة الذين امتلكوا على حين غفلة وبأي شكل اتفق قدرة التحكم بثرواة الأمم وأيضا مكنهم ذلك من الاستغلال الأقصى لعموم الخلق. فالرأسمالية في أطوارها النيوليبرالية اليوم هي لحظة عارمة تقوم على مولنة الكرامة واختزال الرقي في المراكمة التي عادة ما تقوم على المضاربات المالية الوهمية المدمرة للسياسة الاجتماعية والاقتصادية. وهذا ما يقودنا إلى الأزمة الثانية حيث لم يصدقنا فوكوياما حينما جعل من الفلسفة الهيغلية رجز أيديولوجيته النيوليبرالية. إن غاية الانسان ليست اقتصادية. وهنا تصلح الهيغلية مستندا ضد النزعة الماركسية. فليس بالإمكان أن نبرر أهمية الديمقراطية لو سقطنا في هذه النزعة المادية لتاريخ التقدم البشري. صحيح قد تكون الهيغلية برسم المادية الماركسية جدلا مقلوبا يمشي على الرأس. لكن تاريخ النيوليبريالية مع كل هذا الادعاء لم يكن يوما استجابة لهذه النزعة الهيغلية بقدر ما هو معانقة لهذه النزعة المادية ؛ المادية التي جعلت من الديمقراطية اليوم وسيلة للاجهاز على آخر ما تبقى من آثار للقيم والكرامة. لم تكن النيوليبرالية هي حصيلة نضال طويل من أجل الكرامة ، بل هي نفسها ذلك الخطر المهدد للكرامة ، وبالتالي هو ما يجب الانتصار عليه.
يقول فوكوياما مدافعا عن فكرته ومنزها إياها عن زيف الأيديولوجيا:
" وبالرجوع إلى سؤالكم وعن ما أشرتم إليه من أن نظرية نهاية التاريخ هي أيديولوجيا، فإني أقول: ليست أيديولوجيا بالمعنى الذي حملته تسمية أيديولوجيا منذ زمان، إن نهاية التاريخ هي أكثر من ذلك، إنها وصف وتحليل للأسلوب وللطريقة التي يتغير بها العالم ويطور بشكل أمبريقي نظامه السياسي في الزمان "[1].
يحاول فوكوياما أن يقنعنا كما فعل في كتابه المذكور بأن ثمة رؤية أمبريقية للتاريخ يستند إليها هذا النوع من الوعد الكاذب بنهاية التاريخ عند أعتاب النيوليبرالية. والحق أن الأحداث التي رافقت هذا الاعلان لم تكن لتعزز من صدق هذه الاطروحة. إن حديثه الانشائي عن النماذج الواعدة في أسيا هي دليل على انتصار الليبرالية. وقد سعى لتبرير عظمة النموذج الاسيوي الذي قادته ثورة النمور الاسيوية، حتى لو اقتضى الحال ان يجازف هذه المرة ويقلل من نزعته الهيغلية ويتمسك بنزعة اكثر ايديولوجية وبراغماتية وهو يعزو الأبوية المنازعة لديمقراطية هذه البلدان إلى آفاق انتربولوجية خارج منطق التراتبية التاريخية التي أصر عليها منذ البداية أيما إصرار. إن فوكوياما لم يتأمل فارق النموذج لما يبرر سياسة القمع والاستبداد في المجال السياسي للنمور بكونها فرعا لأصول الأبوية ، ذلك الارث الطبيعي للسوسيوـ ثقافة السياسية لبلدان لا يهم حقا أن تكون مثالا يعزز انتصار عقيدة الانسان الأخير، طالما أن هذه الأبوية المناقضة لأصول الديمقراطية نفسها تتماشى مع الارتفاع المضطرد لمعدل النمو. وذلك حينما يستشهد هذا الأخير بكلام لكوان يوفان، رئيس الوزراء السانغافوري الأسبق" إن شكلا من الاستبداد الأبوي يتناسب أكثر مع التراثات والتقاليد الكونفوشيوسية في آسيا. والأهم أنه يمشي بشكل أفضل مع معدل النمو المرتفع، بالمقارنة مع الديمقراطية الليبرالية الغربية. فالديمقراطية في نظر لي كوان هي عقبة في طريق النمو"[2] .
إن التاريخ هنا سيكف ان يكون بحثا عن الكرامة والاعتراف ، بل هو تاريخ نشاط مادي ذي طبيعة استعراضية قابلة للانهيار الكارثي كما حدث قبل سنوات، وكما سيحدثنا أحد أبرز الفاعلين في اقتصاد المضاربات ، والمتهم الرئيسي في كارثة الانهيار الذي شهدته اقتصادات النمور قبل سنوات، حينما يقول، ليس فقط عن هذه الاقتصادات التي أظهرت أن مضاربا واحدا في حجم سوروس يمكن أن يدفع بها إلى هاوية الإفلاس، بل عن عموم النموذج الرأسمالي لما قال:" إن انهيار السوق العالمية، سيكون حدثا مؤلما يسفر عن نتائج يتعذر تصورها ، ومع ذلك أجد أن تصور الانهيار أيسر من تصور استمرار النظام الراهن"[3].
هنا الديمقراطية تصبح برسم هذه الرأسمالية الجامحة مجرد عارض غريب، وبأن الغرض متى تم ولو بدونها، فذلك هو المطلوب. ثمة مغالطة بخصوص هذه اللعبة القذرة التي تجعل من جموح غريزة التغلب والسيطرة ، طبيعة للاجتماع أيضا. وليس غريبا ما قاله تشومسكي عن هذه اللعبة القذرة لمنطق السوق:
"إن مثلا من قبيل الديمقراطية والسوق مثل جيدة، طالما أن "ميل الملعب" يضمن فوز الناس الذين يجب أن يفوزوا. أما إن حاولت جموع الرعاع رفع رؤوسها، فيجب أن يضربوا إلى أن يخضعوا بشكل أو بآخر. في العالم الثالث غالبا ما يفي العنف المباشر بالغرض. أما إذا أثرت قوى السوق على امتيازاتنا المحلية ، فسرعان ما نقذف بالتجارة الحرة في النار"[4].
الاقناع بأن النيوليبرالية ستنتصر لأنها التعبير عن طبيعة الاشياء ، سيعيدنا إلى البداية الفيكتورية التي تراجعت فترة طويلة بفعل نضالات شهدتها اوربا. إنها اهتبال وحشي لفرص تاريخية تملك النيوليبرالية قدرة خارقة على استغلالها. لكنها لم تكن هي النهاية نتيجة صمودها الطويل ، وليس بروزها لحظة الفراغ يعني أنها هي نهاية الاعتقاد. ان النيوليبرالية والرأسمالية لم تكن التعبير عن رفع القيود المكبلة للانماء، ولا هي معانقة سمحة لطبيعة السوق. بل كانت دائما نتيجة تدخل الدولة. بل يكون تدخلها في الغالب أشرس تدخل. يحدثنا جون غراي عن هذه الحقيقة بوضوح تام:
" إن السوق الحرة التي وجدت في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر لم توجد مصادفة كما أنها على نقيض التاريخ الاسطوري الذي يروج له اليمين الجديد لم تنشأ من تطور طويل غير مخطط ، وإنما كانت صناعة يدوية للسلطة وفن الحكم"[5].