تتجلى ضمانة الوحي في مجمل النبوءات التي زخرت بها التعاليم وحثت على الاعتقاد بها بوصفها وعد الله الذي لا يخلف الميعاد. وما تعبيرنا بالنبوءة في المقام إلا جريا على المتداول. وإلا فهي حقائق المستقبل التي ذكرتها المصادر الدينية الكبرى. إضافة إلى أنها عينت لها تاريخا مجملا متصلا بأشراط محتومة كما عينت لها جغرافيا مشهودة.
تظل دولة الطوبا مستحيلة التحقق بلا ضمانات. حيث لم يعد بها من تنزل وعده منزلة المحتوم. ولا تعينت جغرافيتها التي ستشهد نشأتها الأولى إلا في خيال الحالمين. إنها محض تعبير عن أحلام. لكنها أحلام تؤكد بأن ثمة حتمية لا مفر منها. أن تبلغ الأمم رشدها الحقيقي و تتكامل فكرة العدالة لتستصدر نموذجها الكامل بقيادة الإنسان الكامل.
ثم إنها بما هي تعبير عن تصميمات أيديولوجية وثقافية خاصة بالحالم وبيئته الثقافية لا يمكن أن تكون بالضرورة كونية وفيها إسعاد كل البشر. بينما ليس في دولة الموعود ما يتعذر تحقيقه. وليس لها من خصوصيات إلا قصة الدين كما يطرحها تحدي الإلحاد. وهذا سينحل بمجرد أن يدرك العالم أن الدين ضرورة وواقع أكثر الحقائق برهانية وقوة في زمن الموعود.فالدين كان ولا يزال وسيظل الظاهرة الأبرز في تاريخ النوع. فإذا تحقق ذلك لم يعد في مظاهر دولته العادلة ما يجعل الحليم حيران. بل يصبح الإلحاد شذوذا وتفاهة وانحطاطا. فلن تزعج دولته يهوديا أدرك تعاليم موسى ولا مسيحيا أدرك تعاليم عيسى، حيث كان من المفترض أن يشهد الأنبياء على صدق دولة الموعود ، ليؤكدوا لاتباعهم أنها هي نفسها دولة الوعد الموسوي والعيسوي. لكن عودة المسيح نفسها هي الدليل الكافي لذلك ، حيث وجود المسيح الذي شكل عقدة مفصلية في الانتقال النبوي من الموسوية إلى العيسوية ، سيثبت ذلك بضمانة قوة الموعود نفسه ويجعل الأبدال والأتباع من مختلف الأقوام . حيث من بني إسرائيل من سيدخل دولة الموعود وينصرونها؛ اعني الأمتين اليهودية والمسيحية. دولة الموعود تؤكد أن الأشرار الذين سيواجهون دولة الموعود هم أشرار الخلق ممن كان يتأسلم أو يتهود أو يتمسح ، مما يعني أنها دولة الإنسان التي ستعيد وضع خريطة الطريق لتوزيع أمثل لقيمة الإيمان، فهي دولة الابتلاء الكبير. فخصومها قد يكونوا يهودا أو مسيحيين أو حتى مسلمين وغير دينيين، كما ان أتباعها سيكونون مسلمين ويهود ومسيحيين، إنها ليست قضية مسلمين فقط بل هي قضية العالم أجمع!
ففي رواية عن الإمام الباقر (ع):" فإذا اجتمع عنده عشرة آلاف رجل ، فلا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد ممن يعبد غير الله تعالى إلا آمن به وصدقه"[6].
أما من جهة الحروب ومظاهر العنف المقدس الذي تحدثنا عنه الأخبار، فهو لا شك عارض ستقوم به البشرية نفسها مع ظهور النموذج وتحققه على الأرض بقيادة الإمام المهدي ـ عج ـ. بمعنى أن الحرب سوف تكون موقف الشعوب والأمم من عدوها الذي يبغي لها الاستمرار تحت وطأة الجور، وليس ذلك خيارا للإمام إلا من حيث هو الحل الأخير الذي ستفرضه أقلية قليلة من البشر، تريد أن يتأبد الشر في العالم حيث كتب الله أن للعدل المطلق دولة موعودة هي حجته على أن عالم الخلق قادر أن يظفر بتلك العدالة التي جاء من أجلها الرسل ودعا إليها صلاح الأمم دون أن تتحقق. إن عنوان الحرب أو السيف الذي وصفت به دولة الموعود ، هو من باب التغليب لأمر اختص به الموعود دون سائر خواص الخلق من الأنبياء والأولياء[7]؛ أعني تنفيذه للحكم الواقعي في مقام القضاء[8]. فالعدالة المطلقة تقتضي أن لا يأخذ بالظاهر فيما هو يعلم الواقع. وأن لا يحكم بالبينات والأيمان فيما هو يدرك من أمر الجاني في حاق الواقع ما خفي عن الأنام. إن سائر الأنبياء والأوصياء كانوا على علم بما يفعل الخلق، ولكنهم لم يكونوا مأمورين بتنفيذ الأحكام على وفق ما يعلمون . وبذلك فقط تتحقق العدالة المطلقة ليس لأن الموعود سيحكم في مقام التقاضي بالعلم فقط ، بل إن سيفه سيلحق كل من أتى جريمة حتى يدخل في قلوب الجناة الرعب ، فلا يجرأ أحد على الإقدام على أية جريمة. إنه الردع والقانون يتنزل في موارده دونما شطط ولا إخطاء الجاني.
عن الإمام الصادق (ع):" إذا قام قائم آل محمد (ع) حكم بين الناس بحكم داود ، لا يحتاج إلى بينة ، يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه ويخبر كل قوم بما استنبطوه"[9].
ليس سيف الإمام المهدي سيفا جبارا إلا من حيث هو تعبير عن جلال البارئ تعالي ، ولكن لا ننسى قيمة الجمال لدولة الموعود التي بها ستصبح الأرض مسرحا لكبرى قيم العدالة والحق والخير، فتعتدل بها السياسة والمعاش ، ويشذ فيها الباطل والجور والشطط. إن سيف المهدي قوة لا شطط فيها. سيف العدالة لا يحرفه عن مهمته نزوة عصم منها . فهو مأمور تجري حركته بعين الله، لأنه وعد الله ووليه الذي احتفظ به لهذه المهمة العظيمة وسدد خطوه ، حتى كان له وليا وناصرا ودليلا وعينا.
يومها ستدرك الأمم قاطبة أي سيف هذا الذي يمتشقه أسد الله الموعود. ذلك لأنها ستشهد لأول مرة بعد تاريخ مرير من الجور أنه سيف في خدمة الحق و العدالة. لن يتطلع أحد إلى نموذج آخر بعد ذلك ، لأن النموذج الأخير سيعلم الأمم أن فرصتهم الأخيرة هي ها هنا في ظل حكومة الموعود.