النظرية المهدوية و صناعة التاريخ
أمام التلوينات المختلفة والمتخالفة للفكر، وأمام المنطلقات والمعايير التي تفصل بين الغرب والإسلام، وأمام ما احتوت عليه قيم الحداثة المتمحورة حول العقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان، يمكننا على كل حال، ضرورة استيعاب الدينامية الداخلية والخارجية لمختلف المفاهيم التي تعمل على تحريك صيرورة المجتمع في اتجاهه العمودي والأفقي، ولكن هذا التعاطي لا نجده مجديًا في مجتمعاتنا، للإنعزالية والانزوائية التي تخترقنا وتخنقنا، لانقساماتنا والمجاهيل التي تسد طريق الإبداع والتفكير، وفي هذا المقام تتطلع التجربة المهدوية إلى طرح جزئي تعاود قراءة القيم في استعادة أمل قد همشناه، وبكل خطواتها الجريئة التي تعتمد على الإصرار والوثوق، وإتيانها لخطة المستقبل بكل أبعاده الاستشراقية، قصد التغيير الذي يحمل في طياته معنى الخلاص والنجاة من الأنظمة القهرية الاستبدادية، وتفشي حالة الإحباط والخوف التي ازدادت رسوخًا. فكرست انتهاك حقوق الإنسان واحتكار الديمقراطية والتسلح. وأصبحت الحياة بلا معنى في مجتمع يفتقد وجوده ورغبته نحو الحراك والانجاز، فكان مصبها هو اجتراح منافذ وأدوات من أجل التغيير، ومن المسلم به أنّ الإنسان لا يمكن إحداث تغيير في الحياة والأحياء والوقائع ما لم يتغير هو أولاً، قصد البحث عن مركزية للتمركز.
فهل باستطاعته التجربة المهدوية أن تزعزع هذا التمركز ؟
وهل بإمكانها إعادة صناعة التاريخ ؟.
ولدراسة هذا الإشكال قسمنا البحث إلى :
- مقدمـة.
- المبحث الأول : التجربة المهدويّة المنطلقات والمعاييـر
- المبحث الثاني : المستوى لمعرفي لقراءة التجربة المهدوية.
- خـاتمة :
- البحث الأول : التجربة المهدويّة المنطلقات والمعاييـر
مثلما ننتمي إلى العالم، فإننا ننتمي إلى نصه، ومثلما ننتمي إلى تاريخنا، فإننا ندخل في نصه، والدخول لا يعني بلا وعي، بل الوعي الذي يستحضر جميع المفهومات التأويلية للظاهرة التّي نتحدث عنها، كما لا نتقبل دون أن نثير تساؤولات حول عمق هذه التجربة، ومدى حساسيتها، وتجليها، وشهودها على جميع أنماط الوجود.
إنّ الحديث عن المهدويّة كنظريّة، وعلى فكرة الخلاص كمضمون لها، هو الحديث عن تحدي، للذات، وتحدي للموضوع، وهذا التحدي هو استرجاع للوعي قصد نقده، وتفكيكه وتأويله، لكي يتسنى لنا تطويع مختلف الإرادات والممكنات حول هذه التجربة وتميزها عن سائر التجارب في الفكر العالمي.
كما أنّ هذا التوجه يدفعنا إلى فهم الفهم الذي يجليه العقل الحصيف كما يقر ديكارت لأنّ المشكلة تتعلق بين الجزئي والكلي، وبين العام والخاص، وبين الفاضل والمفضول، وبين الصالح والأصلح، وفي هذا المقام يتحدد دور الفعل التاريخي الذي يدخل في صناعة الأوضاع وإعادة بناءها وتوجيها من جديد، في ظل غياب من يدفع الأمة إلى الحراك، قصد تحمل المسؤولية أو النيابة عنه، وبالتالي البحث عن خطاب جديد يتضمن تأطير الأفراد وتوجيههم نحو أدق القضايا المصيريّة والقضايا الوجودية الكبرى، التي تتمركز حول الحياه والموت والعالم، وكذلك حول معنى إنسان وعلاقاته بالمتعالي. وما وراء العالم، وبالتالي البحث عن شكل من أشكال الوعي الذي يعكس في مكانه مطالب للخلاص سواء كانت فرديّة، مثلما يتجلى الأمر في مشاريع الحركات الإصلاحية والتي كانت منطلقاتها صوفية روحيّة كتجربة المهدي بن تومرت، والأمير عبد القادر الجزائري، وتجربة رئيس حزب الله الشيخ حسن نصر الله، أو يكون هذا الوعي في صيغته العامة يبحث عن بديل غائب في غائب لابد أن يكون دافعًا للتعبير عن روح زمنه، ولكي نلتمس منه الأسئلة والأجوبة في الوقت نفسه، أمام التحديات التي تطرحها كبرى القضايا المحلية والعالميّة.
إنّ الموضوع كما يرى هيدغر، لا يمكننا أن نرغمه من جانبنا على المجيء، حتّى في أفضل المحالات، حتّى ندركه ونفهمه بعمقٍ، كما لا ننتظر، حتّى يتوجه إلينا، وهذا الانتظار ما هو إلاّ نسق التأمل الباطني الذي مستقر الكثير من الذوات، كما لا يعني التلمص والابتعاد عنه بل الانتظار(*) هو التفكير في جميع الجهات والممارسات التي تخدم المجتمع، وبالمصلحة التي يقتضيها الدّين، كما لا ندخله أي - الانتظار- في شراك التعطيل، حيث تتعطل جميع مصالح الفرد والمجتمع، في الوقت الذي أصبح العالم قرية واحدة، يشهد عليها الانفجار الرقمي والمعلوماتي.
- ليس هناك فهمًا خالصًا أو رؤية للتاريخ، دون الإشارة أو الإحالة إلى الحاضر، بل إنّ فهم التاريخ ورؤيته لا يتمان أبدًا إلاّ من خلال ذلك الوعي الذي يقف في الحاضر والذي عبر عنه هيغل على أنّه : (البحث الذي لم يعد يعرف شيئًا يعلو على يقينه الباطني أو اقتناعه الذاتي، فنحن إزاء ذاتٍ قد تحللت من كل واجب محددٍ يمكن أن تكون له قيمة القانون، لأنّها قد أصبحت تملك من قوة اليقين الذاتي ما يجعلها تتصف بأعلى صورة من صور بالاستقلال الذاتي) ([1]).
ولكن أين صورة الاستقلال الموضوعي الذي تتلاقى فيه كل قيم التغيير والتحويل
ما دام الغائب لم يشهد شهوده ؟ أما أننا نؤجل البحث في هذه النقطة إلى حين ؟.
- إننا نسعى بلا شك إلى البحث عن سر تغيير السنن التاريخية التي تحيلنا إلى تقييم الوضع السوسيولوجي من خلال الوعي الذي يقف في الحاضر، والذي يعبر عن وجود إنساني مهموم يسعى إلى تحقيق إمكانيات في الوجود، حيث ينتج هذا الهم ثلاثة تراكيب :
1. هم يتحقق ممكنات : المستقبل الذي يجرى ترقبه، الأمل المنشود لكسبه.
2. هم مما يتحقق ممكنات : الماضي الذي يستبق في صورة مشرقة يطفئ نيران الحقد
والكراهية.
3. هم بما يجرى تحقيقه من ممكنات : الذي يتشكل في الحاضر، فيساءلنا ونساء له عمّا ينبغي أن نفعله في لحظة تظل مرجعية الفعل المشخص مهددة بالجمود، وبالتالي سقوطها في اغتراب موهوم واستغلال محسوب، فتصبح العلة التي تسقط الرمز، كما أنّها الفيروس الذي سيهدد المعنى والغيب، وبالتالي يتحول الدين في مشروع المهدوية إلى قيد وسجن وإلى فخ ومأزق، وداءٍ ووباء([2]). وفي هذا الصدد يتساءل الإمام الخميني.
لا يوجد نص على شخصٍ معين يدير شؤون الدولة. فما هو الرأي إذن ؟ هل تُترك أحكام الإسلام معطلة. أم نقول أن الإسلام جاء ليحكم قرنين من الزمن ثم يمهلهم بعد ذلك.
ولكن عندما يعجز الانتظار عن الاستقرار على مستقبل محدد، فإنّ الحاضر يخال نفسه ممزقا بين سقطتين، سقطة ماض راح، وسقطة الحاضر النهائي الذي لا يوقظ أي حاضر، حتّى ينعكس، وهو ينقسم على نفسه، الشيء الذي يمكن أن يحوي دلالات حاضرنا الكبرى([3]).
- علينا إخراج النظرية من طابعها العام وإدخالها في عمقها الذري النووي، لكي نتجنب التناقض الحاصل بين الفكرة والشخص، حيث يتوسع الاختلال عندما يكون عالم الأشخاص هو الذي يحدد ويستقطب أوجه النشاط الثقافي، وأن يكون شخصٌ معين بصفة خاصة، وبالتالي نغوص في اختلالٍ جوهري، يجذب لصالحه جميع الروابط المقدسة فنغوص من جديد في عبادة الوثن دون الفكرة ويسقط الإصلاح الذي دخل معركة دون ردار([4]).
نتيجة للاصطدام الذي سيحدث داخل المنظومة القيميّة العليا، وعدم الانتظام والتوافق سيساهم في صياغة سلوك الفرد العام والخاص، والذي ينفلت في عالم الأشخاص وينعكس جذريا على عالم الأشياء ومتغيراتها، فينكشف الخلل والعجز الموجود بين هذه العوالم الثلاث والتي أخلتنا في أكبر الأزمات خلال العقود الماضية، وستدخلنا الآن إذا لم نعي بقاعدة وإستراتيجية هذه العوالم الثلاث. حيث يتولد انهيار في المنظومة الاجتماعية، وخلخلة في البنيّة الاقتصادية، وانرواءً في المرجعية العقدية، واستلاب في الحقوق المدنية، وارتداد في المواقف السياسية، وضعف وعجز في مواجهة وإدارة الأحداث.
· وكما يقول برهان الدين عليون : « لا تعود المشكلة هي : كيف نحمي أنفسنا من الثقافة الأجنبية، إنّما كيف نستوعب الحضارة من أفق ثقافتنا وانطلاقًا من أطرها ومنطلقاتها الذاتية، أي كيف نعزل الحضارة العالمية عن مسبقاتها المرجعية الخاصة بالمنطقة التي دفعتها في مرحلتها الأخيرة، وكيف نتمثلها في أطر ثقافتنا الذاتية. أي كيف نصبح نحن مركز الحضارة) ([5]).
أو بتعبير آخر كيف نزعزع اللوغوس فنمتلكه دون أن يمتلكنا ؟ .
- لا مراء أن هناك جانبا لا يمكن أن نغفله، هو أن ننظر للفكرة على المستوى الوجودي القيادي، وفي بعدها المتعالي الذي يمنح الفرد وجوده الحقيقي، ليس كما وصفه دوركايم على أنّه يفكر من خلال عقلٍ جمعي، ولا كما وصفه كانط على أنّه المنعزل الذي يفكر في عزلة صوريّة خالصة، لكنه الإنسان الفرد والنموذج المتميّز الذي وصفه مانهايم على أنّه الإنسان المشخص، الإنسان في موقف، الإنسان المرتبط بوجوده السوسيولوجي العام، أي أنّه ينظر إلى الفكر الإنساني في استجاباته وصراعاته، في سكناته، وحركاته حين يواجه موقفًا من المواقف التي تصادفه أو أزمة من الأزمات.
· ومن هذا المنطلق يتحدد دور الفرد، أو الإنسان العظيم، الإنسان الممتاز الذي يتولى ويتصدى لمهمة متعددة الجبهات، والذي لا يخرج عن نطاق الزعامة التي تدفع المجتمع نحو الحراك والتحول، بواسطة هذا القائد الكارزمي الذي يجسد اجتماع الناس حول
قضية مشتركة، آنية وحساسة، حيث يكون مجسدًا للأدوار التالية :
1. الـدور الـرحماني : باعتباره آية الرحمة حيث يجسد سلطة الخلاص سواء خلاص فردي أو جماعي، إذ ينزوي الأمر في إنقاذ البشرية وتحقيق المجتمع المنشود أو البشرى المنتظمة والمنتظرة.
2. الـدور المعنـوي : يتركز البحث في أسس النجاح وكيفيات تحقيقه في جميع الميادين سواء داخلية أو خارجية (مناهضة المشروع الأمريكي واليهودي في المنطقة، المؤدي إلى كفالة لنصر مصداقا لقوله تعالى : } إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ {.
3. الـدور التغيـري : أن يقود التغيير بمفهومه الإيجابي، باعتباره حامل رسالة، وصاحب مشروع، على كل براثن الظلم والاستبداد، ومن ثم فهو المنتظر المصطفى، فتتنامى النظرية جماهريا وطبقيًا ودينيًا وحتّى عسكريًا ، تحمّله في نهاية المطاف إلى تغيير الأوضاع وتحولٌ في الاستراتيجيات. تتحول بمقتضاها العلاقة بين الحاكم والمحكومين([6]).
- وفي هذا التاريخ، تطمح المهدوية إلى مجتمع يسود فيه قيم الحرية والعدالة وهي غاية الغايات بعيدة كل البعد عمّا بناه أفلاطون في الجمهورية، والفارابي في مدينته، وبالتالي الخروج من الفكرة الطوباوية بحيث يجعلنا هذا الخروج نعتنق الفعل في مضمونه وأهدافه إلا في شخصه وهويته.