لم یعمل الحکام على التقارب مع فرقة الخوارج والشیعة والمعتزلة وغیرهم من الفرق المخالفة لأهل السنة، وذلک لکون أفکار هذه الفرق وأطروحاتها تصطدم بمصالحهم ونفوذهم مما یجعل استثمارها لخدمتهم یضربهم (1).
إلاّ أنهم تقاربوا مع فرق أهل السنة واستثمروها لدعم نفوذهم ومصالحهم وتحالفت معهم فرق أهل السنة من أجل تثبیت أقدامها فی واقع المسلمین ودعم أنشطتها وتوسیع رقعتها وتصفیة خصومها من الفرق الأخرى.
نصوص أهل السنة:
إن المتأمل فی أطروحة أهل السنة بفرقها المختلفة یتبیّن له أنّها تتخذ موقفاً واحداً من الحکّام، وهو موقف الاعتراف والمسالمة والسمع والطاعة فی جمیع الأحوال مهما کانت سیاساتهم ووضعهم الشرعی.
وسوف نعرض هنا نصوص عقائد أهل السنة فی الحکام کما وضعها کبار رموزهم.
یقول ابن حنبل: الخلافة فی قریش ما بقى من الناس اثنان، لیس لأحد من الناس أن ینازعهم فیها ولا یخرج علیهم ولا نقر لغیرهم بها إلى قیام الساعة. والجهاد ماض قائم مع الأئمة، بروا أو فجروا، لا یبطله جور جائر ولا عدل عادل. والجمعة والعیدان والحج مع الأئمة وإن لم یکونوا بررة عدولا أتقیاء، ودفع الصدقات والخراج والأعشار والفیء والغنائم إلى الأمراء عدلوا فیها أم جاروا. والانقیاد إلى من ولاه الله أمرکم لا تنزع یداً من طاعة، ولا تخرج علیه بسیفک حتى یجعل الله لک فرجاً ومخرجاً ولا تخرج على السلطان وتسمع وتستطیع ولا تنکث بیعته، فمن فعل ذلک فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة(2).
وقال الأشعری: وأجمعوا ـ أی أهل السنة ـ على السمع والطاعة لأئمة المسلمین، وعلى أن کل شیء من أمورهم عن رضا أو غلبة من بر وفاجر لا یلزمهم الخروج علیهم بالسیف جاروا أو عدلوا، وعلى أن یعززوا معهم العدو ویحج معهم وتدفع إلیهم الصدقات إذا طلبوها، ویصلی خلفهم الجمع والأعیاد(3).
وقال ابن قدامة: ومن السنة السمع والطاعة لأئمة المسلمین وأمراء المؤمنین برهم وفاجرهم، ومن ولی الخلافة واجتمع علیه الناس ورضوا به أو غلبهم بالسیف حتى صار خلیفة وسمى أمیر المؤمنین وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج علیه وشق عصا المسلمین(4).
ویقول ابن تیمیة: ویرون ـ أی أهل السنة ـ إقامة الحج والجهاد والجمع والأعیاد مع الأمراء أبراراً کانوا أو فجاراً(5).
ویقول الطحاوی: الحج والجهاد ماضیان مع أولی الأمر من المسلمین، برّهم وفاجرهم إلى قیام الساعة لا یبطلها شیء ولا ینقضها(6).
وما سبق عرضه تلتزم به جمیع فرق أهل السنة من الماضی والحاضر باستثناء فرقة الجهاد على ما سوف نبین عند الحدیث عن الفرق.
من هنا فإن التحالف القائم بین أهل السنة والحکام ـ الذی له ما یبرره من خلال عقائدهم التی استثمرها الحکام فى إضفاء المشروعیة على حکوماتهم ـ أتاح لحکام العصور الحدیثة من تأسیس ما سمى بالمؤسسة الدینیة الحکومیة وابتداع فکرة شیخ الإسلام لتکون لسان حال الدین الذی یخدم مصالح الحکام ویستقطب الجماهیر المستضعفة إلى صفوفهم مما یضعف الفرق والاتجاهات الأخرى المعارضة ویسهل على الحکام استئصالهم وتصفیتهم.
إن المتتبع لحرکة الصدام بین فرق أهل السنة والفرق المخالفة یتبین أن الحکام استثمروا أهل السنة بدوافعهم العقائدیة التی تنبذ الآخر وتعادیه فی ضرب هذه الفرق تحت ستار شرعی.
وهذا التحالف بین أهل السنة والحکام فی مواجهة المعارضة قائم ومستمر حتى الیوم ویتجلّى بوضوح من خلال مواقف المؤسسات الدینیة الحکومیة المعاصرة فی مواجهة المعارضین للحکم والخارجین عن طاعته حتى من أهل السنة(7).
القمع الحکومی:
وفی الوقت الذی کان فیه أهل السنة فی سلام ووئام مع الحکام کانت الفرق والاتجاهات الأخرى تعیش فی خوف وتقوقع وتشتت فی الآفاق هرباً من بطش الحکام وإرهابهم الدائم لهم، وقد فرضوا الحظر على انشطتهم وطاردوا رموزهم وأعدموا العدید منهم.
أمثلة من بطش الحکام بالفرق الأخرى ورموزها:
إن أول صورة من صور البطش والتنکیل ضد الفرق والاتجاهات المخالفة للحکام کانت على ید معاویة بن أبى سفیان حین طارد شیعة الإمام علی وبطش بهم وأعدم الصحابی الجلیل حجر بن عدی الذی رفض أن یتبرأ من الإمام علی(8).
وقام ولده یزید بقتل الإمام الحسین وأبناء الرسول(صلى الله علیه وآله وسلم) فی کربلاء وقطع رؤوسهم وسبی نساءهم فی واقعة عاشوراء(9).
ومن بعدهما ابن الزبیر وأخیه مصعب وقد قتلا الکثیر من المعارضین بعد أن استتب لهما المقام بالکوفة وعلى رأسهم المختار الثقفی وجماعته الذین طاردوا قتلة الحسین وثأروا منهم(10).
ومن بعدهما الحجاج بن یوسف الذی کان یقتل بالظنة والذی قتل آلاف الرجال والشیوخ من أجل الحفاظ على ملک بنی أمیة(11).
ومن بعده قتل جهم بن صفوان بتهمة القول بنفی صفات الله والقول بخلق القرآن(12).
وقتل غیلان الدمشقی لتکلمه فى القدر وتبنّیه آراء جهم(13).
وبطش المتوکل العباسی بخصوم أهل السنة من الشیعة والمعتزلة (14).
وفرض صلاح الدین فرقة الشافعیة والأشعریة على مصر بعد إسقاط الحکم الفاطمی وبطشه بالرافضین ومطاردتهم وقتلهم(15).
ومن بعده حکام الممالیک والعثمانیین الذین بطشوا بالمخالفین وأراقوا دمائهم تحت مظلة أهل السنة(16).
ومن قبل ظهور فرق أهل السنة عمل الحکام على استثمار فرقة المرجئة وفرقة الجبریة فی إضفاء المشروعیة على جرائمهم ومنکراتهم وتخدیر الجماهیر المسلمة فی فترة برز فیها الصراع المسلح حول فکرة الإمامة ومشروعیتها بین آل البیت وشیعتهم وبین الأمویین والخوارج الذین ناصبوا کلا الطرفین العداء.
وقد برزت فرقة المرجئة کفرقة محایدة تنادى بالاعتدال والامتناع عن اتخاذ موقف من الفرق المتنازعة وإرجاء الأمر إلى الله، وهذه الفکرة جاءت فی صالح حکام بنی أمیة، إذ من شأنها أن تدفع قطاعات من المسلمین إلى الابتعاد عن مناصرة الشیعة أو الخوارج على الأقل فضلا عن اعتزال العمل العسکری والسیاسی(17).
أما فرقة الجبریة فقد برزت بفکرة نفی الصفات عن الله سبحانه وإثبات صفتی الفعل والخلق فقط، وعلى هذا الأساس اعتبرت الجبریة أنه لا یصح أن یتصف المخلوقین بهاتین الصفتین، وما دامت قد انتفت هذه الصفات عن المخلوقین ینتفی عنهم الاختیار ویصبحوا مجبرین فی أفعالهم.
من هنا فإن فکرة الجبر تخدم الحکام إذ تنفی عنهم المسؤولیة لأفعالهم وجرائمهم ما داموا مجبرین علیها(18).
المصادر :
1- استثمر المأمون العباسی المعتزلة والشیعة بعض الوقت ثم بطش بهما، أنظر کتب التاریخ فترة حکم المأمون.
2- رسالة السنة ط السعودیة.
3- عقیدة أهل السنة المسماة برسالة أهل الثغر. ط القاهرة.
4- لمعة الاعتقاد، ط القاهرة. وانظر الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة للبیهقی ط. بیروت.
5- العقیدة الواسطیة.
6- العقیدة الطحاویة.
7- مواقف فرقة الأزاهرة أو المؤسسة الأزهریة الحکومیة فی مصر من فرقة الإخوان وفرقة الجهاد وفرقة التکفیر وسائر فرق أهل السنة المخالفة لهم والاتجاهات الأخرى المعارضة لهم ـ فی کتاب الحرکة الإسلامیة فی مصر. وأنظر فصل فرقة الأزاهرة من هذا الکتاب.
8- ترجمة حجر فی کتاب التراجم، مثل الإصابة فی تمییز الصحابة وأسد الغابة فی معرفة الصحابة والاستیعاب فی معرفة الأصحاب. وأنظر کتب التاریخ، أحداث عام 51هـ.
9- احداث مذبحة کربلاء فی عام 61هـ بکتب التاریخ.
10- کتب التاریخ، أحداث عام 66هـ و67هـ.
11- سیرة الحجاج مع التابعی الزاهد سعید بن جبیر فی کتب التاریخ أحداث عام 94هـ.
12- جهم بن صفوان من الموالی أقام بالکوفة وکان معاصراً لواصل بن عطاء مؤسس فرقة المعتزلة وقد قتل عام 128هـ.
13- هو غیلان بن مروان ووالده کان مولى لعثمان بن عفان، واختلف المؤرخون فی والده، قتله هشام بن عبدالملک.
14- سیرة المأمون فی کتب التاریخ. وأنظر السیوطی وأنظر تاریخ حکام الأندلس وسیرة ابن حزم فی کتب التاریخ.وأنظر الدرر الکامنة فی أعیان المائة الثامنة لابن حجر ج1/152.
15- أحداث عام 567هـ فی کتب التاریخ. وکان صلاح الدین قد أمر المنادی أن ینادی فی طرقات مصر أن من لم یتمذهب بمذهب الشافعی ویعتقد عقیدة الأشعری فقد حل دمه.
16- حاول بعض أمراء الممالیک استثمار ابن تیمیة ضد الفرق الأخرى، وقد حرض ابن تیمیة حکام الممالیک على الشیعة فی الشام. أنظر أحداث مذبحة کسروان عام 705هـ فی کتب التاریخ. وأنظر إعدام الطالب الشیعی فی دمشق بفتوى مالکیة عام 755هـ. وأنظر بطش العثمانیین بالشیعة وقتلهم فقهاء الشیعة وحصول السلطان سلیم على فتوى بجواز قتل الشیعة من فقهاء الفرق السنیة. وعلى ضوء هذه الفتوى تم قتل الآلاف من الشیعة فی الشام وبلاد الأناضول.وأنظر الدرر الکامنة فی أعیان المائة الثامنة ج1. وأنظر تاریخ الدولة العثمانیة فی البلاد العربیة.
17- فکرة المرجئة قد تم تطویرها فیما بعد لتخرج عن النطاق السیاسی إلى النطاق الشرعی والعقائدی، واعتبار أن من قال لا إله إلاّ الله فهو مؤمن، فالإیمان هو التصدیق لا الأفعال ولا العبادات.. أنظر کتب الفرق.
18- کان الجعد بن درهم الذی أخذ عنه الجهم أفکاره مؤدب مروان بن محمد آخر ملوک الأمویین، ولهذا کان یلقب بمروان الجعدی، وقد أخذ عنه القول بالجبریة ونفی الصفات والقول بخلق القرآن. انظر: الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج5 / أحداث عام 132هـ .