عربي
Friday 22nd of November 2024
0
نفر 0

السراج المنير

السراج المنير

لم يكن نورُ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يضيء فقط حين كان يذهب إلى المسجد ويعِظِ الناس, بل كان ينير أيضًا عندما كان يجلس في بيته، وحين يكون ساكتًا، وعندما كان يمشي، وحين يكون في ميدان القتال، في كلّ تلك الأوضاع والأحوال، كان وجود الرسول ينير, كان مُنَوِّرًا ومنيرًا في الوقت نفسه, وذلك لأنّ تمام حركات الرسول وسكناته وأقواله وأعماله، كانت كلّها في خدمة الله وفي سبيل الله .
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ , فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان سراجًا منيرًا... وليس من شأن السراج أنّه إذا أراد الإنارة أنار، وإن لم يرد لم يُنِر. فالسراج منيرٌ أراد أم لم يُرد. أينما كان وجوده، يجعل ذلك المحيط منوّرًا ونورانيًّا. لقد شبّه الله سبحانه الرسول بالسراج، ليس السراج المطفأ، بل المضيء: السراج المنير. أينما يكون، يجعل جوّ حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وذلك المحيط منوّرًا أساسًا. كان ينير الجوّ بأخلاقه، بمسلكه، بطريقة عمله، بتعامله، بعلمه، بحكمته, سواءٌ أعطى الدروس لأحد أم لا.
البشارة بالرسالة في أخبار الأديان السابقة
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾ , حيث بشّر كلا هذين الكتابين بمجيء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان في مكّة مؤمنون..., وهم أنفسهم الذين كانوا على دين الحنفيّة. وقد كان آباء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأجداده مؤمنين .
من نسل أفضل العائلات
وُلد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في عائلة كبيرة، عائلة معروفة بجذورها العظيمة. بالطبع، عاش الرسول نفسه - وللمصادفة - في فترة الولادة ومرحلة الطفولة والحداثة حياةَ الفقر، وكان هذا أمرًا عارضًا, وإلّا، فقد كانت عشيرة بني هاشم تُعدّ من الفروع الهامّة ومن سادة قريش، ومن العائلات الشريفة فيها. هل تعرفون من هم أعمام الرسول وأيّ احترام كانوا يلقون؟! فقد كان حمزة نفسُه أو أبو لهب أو الآخرون يُعدّون من العائلات العريقة. في مثل هكذا عائلة ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
بيئة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
في مثل هذه الظروف ظهر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم, ومن عائلة وشجرة ليس من السهل لأحد مواجهتها. فلو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد اختير من بين العائلات الضعيفة أو من عائلات المجتمع السفليّ، لكان التصدّي له أسهل بالنسبة للمتنفّذين، ولقلّ احتمال تجذّر هذه الشجرة.
وكانت أخلاق هذا الإنسان وتصرّفاته وشخصيّته، على امتداد حياته إلى الأربعين سنةً، تلقي بظلالها على الجميع. في هذه السنوات، بدأ دعوته، وكلّ هذه كانت ظروفًا ومقدّمات لأن تبقى غرسة الإسلام .
عائلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
تُوفي والده صلى الله عليه وآله وسلم قبل ولادته, وعلى رواية أخرى، بعد ولادته بعدّة أشهر.
طبقًا لعادات العائلات الشريفة والأصيلة في الحجاز، حينذاك، كانت تُودِع أولادها لدى النساء العفيفات والنجيبات ليربّينهم بين القبائل
العربيّة، أُودِع هذا الطفل العزيز، نور عين عائلته، لدى امرأةٍ أصيلة ونجيبة ـ من بني سعد ـ تُدعى حليمة السعديّة. فحملته معها إلى قبيلتها، وبقي ذلك الدرّ النفيس عندها ستّ سنوات، أرضعته وربّته, لذا، ترعرع النبيّ في الصحراء (بين القبائل العربيّة).
ومن وقت لآخر، كانتْ تُحضِر هذا الطفل لأمّه ـ السيّدة آمنة ـ لتراه ومن ثمّ تُرجعه. بعد ستّ سنوات حيث تلقّى هذا الطفل من الناحية الجسميّة والروحيّة تربيةً ممتازة, حيث أصبح من الناحية الجسديّة قويًّا، وجميلًا، ونشيطًا ومجرّبًا (مقتدرًا), ومن الناحية الروحيّة كان قويًّا، وصبورًا، وحسن الأخلاق والمسلك، وبعيد النظر - والتي هي لازمة للحياة في تلك الظروف - أُعيد إلى أمّه وعائلته. حملت الأمّ هذا الطفل وأخذته معها إلى يثرب لزيارة قبر أبيه ـ الذي تُوفّي هناك ودُفن. فيما بعد، حين قصد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وكان مارًّا من هناك قال: هنا دُفن والدي وأذكر أنّني جئت مع والدتي إلى هنا لزيارته. وفي طريق العودة، وفي منطقةٍ تُسمّى بالأبواء، تُوفّيت الأمّ، ليصبح الطفل يتيم الأبوين. فحملته أمّ أيمن إلى المدينة وأودعته عند جدّه.
اعتنى عبد المطّلب بهذا الطفل واحتضنه كاحتضانه روحه ومهجته. وفي أحد أشعاره يقول عبد المطّلب: إنّني كأمّ بالنسبة إليه. اهتمّ هذا الشيخ الذي قارب المئة سنة ـ وكان رئيس قريش وعزيزًا في قومه، وفائق
الاحترام ـ اهتمامًا بالغًا بهذا الطفل، حتّى لا تظهر عقدة النقص العاطفي فيه على الإطلاق, وبالفعل لم تظهر, وإنّه لأمرٌ مدهش أن يتحمّل هذا الحَدَث قساوةَ العيشِ من دون أبٍ وأمّ، وذلك لكي تزداد قابليّته ويقوى استعداده, لكن لم يحدث له حتّى مقدار رأس إبرة من الدونية , التي يمكن أن تصيب أطفالًا في مثل سنّه. فقد كرّمه عبد المطّلب وأعزّه، بنحوٍ مثير للدهشة.
ورد في كتب التاريخ والحديث أنّ بساطًا ومسندًا كان يُفرش لعبد المطلب إلى جانب الكعبة، فكان يجلس عليه وكان يجتمع حوله أبناؤه وشبابُ بني هاشم بعزّة واحترام. عندما كان يغيب عبد المطّلب أو يكون داخل الكعبة، كان هذا الطفل يأتي ويجلس مكانه. وحين كان عبد المطّلب يعود، كان شباب بني هاشم يطلبون من هذا الطفل القيام قائلين: إنّ هذا المكان مكان أبينا, فيقول عبد المطّلب: لا، هذا مكانه، وينبغي أن يجلس هنا. حينذاك، كان (عبد المطلب) يجلس جانبًا ويترك ذلك الطفل العزيز والشريف والمكرّم جالسًا في مكانه. كان عمره ثماني سنوات حين مات جدّه.
وفي الرواية أنّه عندما حضرت عبدَ المطلب الوفاة، استدعى أبو طالب ابنه الشريف والنجيب، وأخذ منه عهدًا وأودعه هذا الطفل, وطلب منه الاهتمام به كما كان يفعل هو. وافق أبو طالب واصطحب الطفل معه إلى منزله واحتفى به كعزيزٍ له. حمى أبو طالب وزوجته المرأة العربيّة الشجاعة، أي فاطمة بنت أسد والدة أمير المؤمنين عليه السلام هذا الإنسان العظيم لمدّة تقرب من أربعين عامًا وساعداه. في هذه الظروف كانت طفولة وشباب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. تجذّرت في هذا الطفل الخصال الأخلاقيّة المتعالية، والشخصيّة الإنسانيّة العزيزة، والصبر والتحمّل الكبيران، والتعرّف على الآلام والعذابات التي قد تحصل للإنسان أثناء الطفولة، مهّدت الأرضيّة لنسج شخصيّة هذا الطفل العظيمة والعميقة. وفي هذه المرحلة، رافق أبو طالب في سفر بقصد التجارة.
تكرّرت أسفار التجارة، حتّى وصل إلى مرحلة الشباب ومرحلة الزواج من خديجة وبالتالي مرحلة الأربعين التي هي مرحلة النبوّة .
الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم
التربية الإلهيّة
إنّ تعليم وتأديب الأنبياء عليهم السلام - باعتبارهم تلامذة حضرة الأحديّة (الواحد الأحد) الخاصّين - أمرٌ موجود, إلّا أنّ البعثةَ، أمرٌ إضافي على التعليم. في البعثة، هناك التعليم والتهذيب والتزكية أيضًا, وفيها الإتيان بالكتاب والحكمة, إلّا أنّ هذه الأمور ليست كلّ شيء, بل هناك شيء يُضاف على ذلك وهو البعث .
لقد ربّى الله تعالى الشخصيّة الروحيّة والأخلاقيّة لذاك العظيم في ظروفٍ وهيّأها لتتمكّن من حمل الأمانة العظيمة.
وعلى هذا الأساس، كانت تزداد القابليّة الروحيّة لهذا الطفل الذي أُوكلت إليه مهمّة تربية عالَمٍ، بناءً على سعته الوجوديّة والأخلاقيّة. وتجذّرت في هذا الطفل الخصال الأخلاقيّة المتعالية، الشخصيّة الإنسانيّة العزيزة، الصبر والتحمّل الكبيران، التعرّف على الآلام والعذابات التي قد تواجه الإنسان أثناء الطفولة .
لن يوكل الله تعالى أمر هذه المسؤوليّة الخطيرة والعظيمة إلى من لم يحظَ بأعلى مستويات مكارم الأخلاق, لذلك خاطب الله تعالى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل البعثة: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .
إنّ بناء وصقل شخصيّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليصبح محلًّا مناسبًا للوحي الإلهي، هي مسألة تعود إلى مرحلة ما قبل البعثة, لذلك جاء أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي اشتغل في شبابه بالتجارة، حيث كان يحصل على أموالٍ كثيرة من هذا الطريق، كان يتصدّق بجميع هذه الأموال على الفقراء. في هذه المرحلة التي هي المرحلة الأخيرة للتكامل النبوي وقبل نزول الوحي - المرحلة السابقة على النبوّة - كان الرسول يقصد جبل حراء وينظر إلى الآيات الإلهيّة: إلى السماء، والنجوم، والأرض، والخلائق التي تعيش على الأرض والتي تحمل عواطف وأحاسيس متنوّعة طبق أساليب متعدّدة. كان يرى آيات الله تعالى في كلّ ذلك وكان يزداد خضوعه يومًا بعد يوم مقابل الحقّ، ويزداد خشوع قلبه مقابل الأمر والنهي الإلهيّين والإرادة الإلهيّة وتنمو فيه بذور الأخلاق الحسنة. وفي الرواية أنّه: "كان أعقل الناس وأكرمهم" . وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة يزداد غنًى (كمالاً) يومًا بعد يوم حتّى وصل إلى الأربعين. "فلمّا استكمل أربعين سنة ونظر الله عزّ وجل إلى قلبه، وجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها
وأخضعها" , في عمر الأربعين أصبح قلبه منوَّرًا وخاشعًا وأكثر القلوب استعدادًا لتلقّي النداء الإلهي.
"أَذِنَ لأبواب السماء، ففُتحت، ومحمّد ينظر إليها" . عندما وصل إلى هذه المرحلة من المعنويّة والروحانيّة والنورانيّة وأوجّ الكمال، فتح الله تعالى أمامه أبواب السماء وأبواب عوالم الغيب, وفتح عينيه على العوالم المعنويّة والغيبيّة. "وأَذِن للملائكة فنزلوا ومحمد ينظر إليهم" , كان يرى الملائكة ويكلّمهم، ويسمع كلامهم حتّى نزل إليه جبرائيل الأمين وقال: ﴿اقْرَأْ﴾ وكانت بداية البعثة .
الارتباط بعالم الغيب
إنّ ينبوع البعثة التي فاضت وجرت في قلب النبيّ الأكرم المقدّس صلى الله عليه وآله وسلم, كان له مسار مهمّ, فالمسألة لا تنتهي عند حدود أن يضيء الله حقيقةً ونورًا في قلب إنسان مميّز وبارز واستثنائي, هذه هي الخطوة الأولى وهي بداية العمل. طبعًا، هنا الجزء الأهمّ في القضيّة. إنّ إشعاع هذا النور في قلب الرسول المقدّس والمبارك وتحمّله مسؤوليّة الوحي، هو ذاك الجزء الذي يصل (يربط) - وبشكلٍ صريح - عالم الخلق وعالم الوجود الإنساني والمادّي بمعدن الغيب. هنا تكمن حلقة الوصل.
وعلى الرغم من أنّ البركات الإلهيّة كانت حاضرة دائمًا، طيلة المسيرة التي سنشير إليها - فيما يتعلّق بالبشر وفيما يتعلّق بهذا الطريق - فإنّ حلقة الوصل قد تجلّت في لحظة البعثة التي انسابت وجرت من عالم الغيب، منبع الحقائق الإلهيّة ومنبع البعثة - وهذه الكلمة كافية - إلى روح الرسول المقدّسة وفاضت على قلبه صلى الله عليه وآله وسلم. فالخطوة الأولى، هي حصول هذه البعثة .
العصمة
العصمة تعني حالة الحفظ. والمعصوم هو الشخص المحفوظ الذي لا يهدّده خطر. أمّا أنه لا يهدّده خطر, فليس لأنّه وصل إلى نقطة لا وجود فيها للخطر أصلًا وذاتًا؟، بل معنى ذلك أنّه وصل إلى نقطة قد بلغت المراقبة وقوّة الانتباه (اليقظة) والتقوى مستوىً بحيث لا شيء فيه يقبل الفساد. ولو لم يحصل للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تلك الحالة من التقوى في أعلى مراتبها المتصوّرة عند البشر، لكان معرّضًا للخطر.
إنّ طبيعة الإنسان وذاته قابلة للفساد (والنقص), ولكن عندما يصل الإنسان إلى ذاك المستوى من الانتباه والتقوى الموجودَين في تلك الشخصيّات العظيمة، عند ذلك تحصل العصمة. ماذا يعني ذلك؟ يعني عدم وجود خطر يهدّده مع هذا المقدار من المراقبة. وكلّ من كانت
مراقبته أدنى من ذلك، فهو دائمًا في معرض الخطر .
كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يمتلك قناعة وطهارة شخصيّة، ولم يكن في وجوده المبارك أيّ نقطة ضعف. كان معصومًا طاهرًا وهذا بحدّ ذاته عامل مهمّ في التأثير .
الرسالة
أرى من المناسب هنا، الإشارة إلى أهميّة دعاء الندبة، الذي هو في الحقيقة خطبةً غَرّاء توضّح الاعتقادات والآمال وتألُّق الفرقة الإماميّة والشيعة طوال التاريخ. لاحِظوا، إنّ هذا النّهج الواضح موجودٌ في بداية دعاء الندبة, "الحمد لله على ما جرى به قضاؤك في أوليائك" . وقد استمرّ هذ النهج منذ بداية تاريخ الرسالات إلى عصر رسالة النبيّ الخاتم.
أمّا مضمون الرسالة التي هي عبارة عن دين الله، فهو في الحقيقة تأسيس وتوجيه وقولبة لكافّة الجهود الإنسانيّة. الدين يعني صراط الحياة. إذا نظرتم إلى مجتمعٍ إنساني وإلى بلدٍ ما، فستشاهدون أنّ النّاس في هذا المجتمع يبذلون جهودًا متنوّعة في سبيل مسائلهم الشخصيّة والعاطفيّة والحياتيّة والعموميّة، ويأتي الدين ليوجّه كافّة هذه النشاطات، ويهديها ويساعد العقل الإنساني ليتمكّن - وبسرعة - من تنظيم هذه النشاطات، بما يؤدّي إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة .
القرآن:
القرآن، كتابٌ عظيم، ذو شأنٍ سامٍ واستثنائي, هو مجموعة محدودة- ثلاثمئة أو أربعمئة صفحة - إلّا أنّ كافّة المعارف الضروريّة للذهن في معرفة حقيقة العالم، قد وضعها الله فيه بشكل عميق، وهو ليس لمستوى معين، بل يمكن للإنسان مهما بلغ من شأنٍ فكري، أن يغوصَ ويخوضَ ويتعلّمَ من هذا المحيط العميق، وهذا بحدّ ذاته معجزة كبيرة. خُذوا كتابًا علميًّا عميقًا على سبيل المثال, فالإنسان العاميّ لا يفهمه، وإذا ما ارتقت معلومات الإنسان قليلًا، يفهم أشياء منه, وإذا ما ارتقت معلوماته أكثر، تمكّن من الاستفادة العليا منه, وإذا ارتقى أكثر من ذلك فقد يكون الكتاب بالنسبة إليه مذكِّرًا مفيدًا عند الرجوع إليه، ولكن إذا ارتقى الإنسان أكثر
من ذلك، يصل إلى مكان يصبح الكتاب بالنسبة إليه غير مهمّ, فالإنسان المتبحّر والعارف بعلمٍ ما والذي دَرَّس كتابًا ما مئة مرة، وتعلَّم ونقَدَ الكثيرَ من الأمور فيه، فلن يعد في هذا الكتاب أيّ جديد بالنسبة إليه. أمّا القرآن فليس كذلك. القرآن يحمل كلامًا جديدًا حتّى للرسول الذي نزلت هذه المعارف على قلبه وسمعه وذلك حتّى أواخر لحظات حياته. كلّما تعمّق الإنسان في القرآن، تمكّن من إدراك المزيد من الأمور والأشياء .
عظمة القرآن:
القرآن ليس كتابًا عاديًّا نطبع منه عدّة آلاف من النسخ، ثمّ نشجّع الآخرين وندفعهم لمطالعته, كالكتب العادية التي نجد أخيرًا شخصًا يقرأها من البداية إلى النهاية، وإذا استساغ هذا الشخص الكتاب، قرأه مرة ثانية أو ثالثة, إنّ أجمل الكتب يقرأها الإنسان مرّتين أو ثلاثة في أحسن الأحوال، وبعد ذلك ينتهي منه. القرآن ليس كذلك, القرآن ليس كتابًا للقراءة والانتهاء منه, هو كتابٌ يجب أن تكونَ مفاهيمه جزءًا من وجود الإنسان, وجزءًا من ذهن الإنسان, وجزءًا من التكامل الحقيقي والمعنوي لروح الإنسان, لذلك لا يمكن الحديث في القرآن حول المطالعة مرّة، أو مرّتين أو عشر مرّات, روح الإنسان هي التي يجب أن تفهم القرآن. ليست المسألة، مسألة الفكر والذهن حيث يجب على الإنسان
الدقّة والفكر ليفهم شيئًا منه, بل يجب على روح الإنسان أن تفهم القرآن. تستبطن الآيات الكريمة في القرآن ذلك القدر الواسع من المفاهيم، التي إذا ما تدبرّ فيها الإنسان باستمرار، وجد أشياء جديدة .
كيفيّة النزول:
المسلّم به وجود اختلافٍ في كيفيّة نزول هذه الآيات على قلب الرسول المبارك وكيفيّة نزولها على سمعه المبارك. أن تتنزّل هذه المعارف من المقام الأعلى - من الحضرة الربوبيّة - إلى الحدّ الذي يمكن لإنسانٍ ولقلب إنسان أن يفهمه ويدركه، هو "النّزول" (التنزّل) نفسه. وقد حصل هذا الأمر مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, حيث أُلهم قلبه المبارك, أي أنّ هذه المعارف قد اتّضحت بالنسبة إلى ذاك القلب النوراني, وبعد ذلك نزلت على سمعه المبارك على صورة كلمات، فسمع وحدّث الناس بما سمع. لكن بإمكاننا
أن نسمع هذه الكلمات وأن لا نُحصّل أي شيء من معارفها وحقائقها وأن لا نتدبّر فيها، فماذا ستكون النتيجة؟ النتيجة هي أنّه لن يحصل بعد ذلك ﴿تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ , مع العلم أنّ هذه الآيات لو نزلت على جبل لَتصدّع، ومن البديهي وجود اختلاف بين نزولها على الجبل ونزولها علينا. ممّا لا شكّ فيه، إنّ كيفيّة نزولها على الجماد سيكون بشكل آخر، نحن ولأنّنا لا نتدبّر ولا نتواضع لهذه المعارف ولهذه المعاني، يكون أثرها ضعيفًا, وإلّا فلو تمكّنا من فهم معاني هذه المعارف وهذه الكلمات: ﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ ، فسترتجف قلوبنا, وستُصاب بالحالة الذي يُصاب بها الجبل عند نزولها عليه. نحن لسنا أقلّ إحساسًا من الجبل. الجبل سيُصاب بتلك الحال. يحصل هذا الأمر ببركة التفكير, أي إنّ ساحة التفكير تنطلقُ إلى هذه المستويات .
مراتب النزول:
إنّ مفاهيمَ القرآن الكريم، مفاهيمٌ عالية جدًّا. أنزلها الله تعالى على قدر قلب الرسول, ثمّ يدركها (أدركها) قلب الرسول الذي هو جسم بشريّ, أو أن نقول إنّه يدركها بمقدار الفهم الإنسانيّ. إنّ ذلك الشيء الذي في عالمَي الجبروت واللاّهوت، غير ذاك الشيء الذي يأتي إلى عالمنا المادّي ويلقى إلى ذهن الإنسان, حيث يتنزّل هذا. ونحن بإمكاننا أيضًا تنزيل المسائل بهذه النسبة وإيصالها إلى الأذهان .
إنّ آيات القرآن التي تشتمل على الأحكام، قد نزلت بالتدريج, لم تنزل دفعة واحدة. وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد اطّلع على الآيات بنفسه دفعة واحدة، إلّا أنّها نزلت بالتدريج ونزلت من جديد لأجل التبشير والإنذار، أي للحديث بها مع الناس وعرضها في المجتمع .
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ , لقد نزل القرآن بتمامه، على الرسول، في ليلة القدر. من المناسب هنا أن نعلم أنّ ﴿أَنزَلْنَا﴾ لا تعني
الإنزال فقط، بل تشتمل الإنزال دفعة واحدة. لقد أنزلنا إليك القرآن في ليلة القدر, أي إنّا أنزلنا كافّة القرآن دفعة. وخلافًا لكلمة ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾، فإنّ ﴿نَزَّلْنَا﴾ تعني أنزلنا بالتدريج, ﴿وَنَزَّلْنَاهُ﴾ . والرسول كان يقرأ الآيات للناس على امتداد فترة زمنيّة بنحوٍ متناسب. طبعًا كان الوحي هو الذي يحدّد له هذا التناسب، ويشخّص له ما ينبغي أن يُحَدَّث به الناس الآن, و هذا هو الوحي الذي كان ينزل على امتداد الزمان .
المصدر :
من کتاب / الشخصية القياديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم / سلسلة في رحاب الولي الخامنئي دام ظلّه

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ما هي العصمة
دموع الحسين ودموعنا....
دعاء النور لدفع الحمى
أهل البيت القدوة الصالحة والنموذج الأمثل
أصل يوم العذاب في ظلامات فاطمة عليها السلام
اختلاف المسلمين عن اليهود والنصارى في هوية ...
فاطمة عليها السلام وحديث الكساء الشريف
شروط وآثار حبّ آل البيت
ممّن هو المهديّ ؟
قصة السيدة رقية بنت الإمام الحسين(عليهما ...

 
user comment