اعتقد التائهون أن الغنى هو المكاسب المادية التي تجلب الملذات، وتؤمن الشهوات، ولكن الإسلام بيّنه بصورته الحقيقية، إذ أنه يقوم على أسس إيمانية متينة نابعة من ركيزة معنوية، لا تُكسر ولا تنتهي.
التوکل علی الله فيه عناصر القوة التي يتشكل منها غنى الروح والعقل والنفس، تکون للانسان زيادة في رصيده الإيماني والأخلاقي، ليتمكن من تخطّي المطبات المادية التي تُشغل الإنسان وتهلكه.
عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: "إنّ الغنى والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا"(1).
عن الإمام علي عليه السلام: "غنى المؤمن باللَّه سبحانه"(2)
وعنه أيضاً عليه السلام: "الغنى باللَّه أعظم الغنى، الغنى بغير اللَّه أعظم الفقر والشقاء"(3)
وعنه عليه السلام: "من استغنى باللَّه افتقر الناس إليه"(4)
لتوكل لغة وشرعاً
التوكل حسب ما ورد في بعض المفاهيم اللغويّة، هو عبارة عن: "إظهار العجز والاعتماد على الغير، وعند أهل الشرع: هو الثقة بما عند اللَّه تعالى، واليأس مما في أيدي الناس، ويقال: المتوكل على اللَّه يعلم أن اللَّه كافل رزقه وأمره فيركن إليه وحده ولا يتوكل على غيره"(4)
"يقال... وكلت أمري إلى فلان أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه"(6)
فالتوكل هو الاعتماد على الغير، وبين الاعتماد على المخلوق والاعتماد على الخالق فرق كبير، وبين الوثوق بالفقير والوثوق بالغني المطلق مساحة واسعة.
فالتوكل على اللَّه هو سبيل الراشدين، وديدن العقلاء والمؤمنين، وهو الطريق الطبيعي المنطقي، باعتبار أن اللَّه تعالى هو المتصف بكل الصفات الكماليّة، فهو الخالق والقوي والغني والرحيم إلى اخر صفاته وأسمائه الحسنى.
يقول العلامة الطباطبائي قدس سره: "إنه تعالى متصف بصفات كريمة يؤمن معها أن يستغش عباده المتوكلين عليه المسلمين له أمورهم، فإنه رؤوف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم، ويجمع الجميع إنه أرحم الراحمين، على أنه لا يغلب في أمره ولا يقهر في مشيئته، وأما الناس إذا امنوا على أمر واطمئنَّ إليهم في شيء فإنهم أسراء الأهواء وملاعب الهوسات النفسانية، ربما أخذتهم كرامة النفس وشيمة الوفاء وصفة الرحمة، فيحفظوا ما في اختيارهم أن يحفظوه ولا يخونوه، وربما خانوا ولم يحفظوا، على أنهم لا استقلال لهم في قدرة ولا استغناء لهم في قوة وإرادة"(7).
التوكل والأسباب الطبيعية
وهل إن الاعتماد على اللَّه تعالى يعني ترك الأسباب الطبيعية في الحياة؟ وهل معنى ذلك أن لا يتعامل الإنسان مع الناس، وينزوي في زاوية بيته منعزلاً عن حركة الحياة ونشاطها؟
بالطبع لا، ليس المراد بالتوكل على اللَّه ترك الأسباب، فإن الإنسان عليه أن يسير وفقاً للأسباب التي وضعها اللَّه تعالى، ولكن مع هذا عليه أن يستشعر في نفسه أنه ضعيف ولا استقلال له في إدارة أموره، وأن الأسباب العادية باستقلالها لا تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد، بل عليه أن يلتجىء في أموره إلى وكيل يصلح شأنه ويدبر أمره أحسن تدبير، فذلك الوكيل هو اللَّه تعالى، العالِم بكل تفاصيل الكون، المطلع على عباده، مسبب الأسباب، ومقلِّب القلوب، القاهر الذي لا يقهره شيء، الغالب الذي لا يغلبه شيء، يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد.
التوكل دعم للروح
إنّ التوكل على اللَّه، قوَّة للنفس، ودعمٌ قويٌ للروح، وإصلاح لقلب الإنسان وحياته.
يقول العلامة الطباطبائي قدس سره في هذا المجال: "إن مضي الإرادة والظفر بالمراد في نشأة المادة في الحياة يحتاج إلى أسباب طبيعية وأخرى روحية، والإنسان إذا أراد الورود في أمر يهمّه وهيّأ من الأسباب الطبيعية ما يحتاج إليه لم يحل بينه وبين ما يبتغيه إلا اختلال الأسباب الروحية النفسيّة كوهن الإرادة والخوف والحزن والطيش والشره والسفه وسوء الظن والتشائم وغير ذلك، وهي أمور هامة عامة، وإذا توكل على اللَّه سبحانه وفيه اتصال بسبب غير مغلوب البتة، وهو السبب الذي فوق كل سبب قويت إرادته قوّة لا يغلبها شيء من الأسباب الروحية المضادة المنافية فكان نيلاً وسعادة"(8)
التوكل في القران نماذج
لقد ورد كثير من الآيات حول صفة التوكل على اللَّه نأتي على نماذج منها:
• دعوة إلى التوكل
"وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"(9)
"... وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ"(10)
• الأنبياء والصالحون وصفة التوكل
"فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا..."(11)
"رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"(12)
"وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا"(13)
• اللَّه كافٍ للمتوكل عليه
"وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ"(14)
"وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً"(15)
• التوكل على اللَّه لا ينافي إرادة وعزم الإنسان
"فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ"(16)
• اللَّه يحب المتوكلين
"... إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"(17)
التوكل على اللَّه في الأحاديث
• معنى التوكل
"جاء جبرائيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول اللَّه، إن اللَّه تبارك وتعالى أرسلني إليك بهدية لم يعطها أحداً قبلك، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قلت، وما هي؟ قال: الصبر وأحسن منه، قلت وما هو؟ قال: الرضا وأحسن منه، قلت وما هو؟ قال الزهد وأحسن منه، قلت: وما هو؟ قال: الأخلاص وأحسن منه، قلت: وما هو؟ قال: اليقين وأحسن منه، قلت: وما هو؟ قال: إن مدرجة ذلك التوكل على اللَّه عزَّ وجلَّ، فقلت: وما التوكل على اللَّه عزَّ وجلَّ؟ فقال: العلم بأن المخلوق لا يضرُّ ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق، فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى اللَّه، ولم يرج ولم يخف سوى اللَّه، ولم يطع أحداً سوى اللَّه، فهذا هو التوكل..."(18)
وعن الإمام علي عليه السلام: "التوكل التبري من الحول والقوة..."(19).
وسئل الإمام الصادق عليه السلام عن حد التوكل، فقال: "أن لا تخاف مع اللَّه شيئاً"(20)
• ما يورث التوكل
عن الإمام علي عليه السلام: "التوكل من قوّة اليقين"(21)
وعنه عليه السلام: "إن حسن التوكل لمن صدق الإيمان"(22)
وعنه عليه السلام: "من وثق باللَّه توكل عليه"(23)
• ثمرة التوكل
القوّة: فعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللَّه"(24)
عن الإمام علي عليه السلام: "أصل قوّة القلب التوكل على اللَّه"(25)
التفاؤل: عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الطيرة شرك، وما منّا إلا، ولكن اللَّه يذهبه بالتوكل"(26) ويقصد بالطيرة بفتح الياء هو التشاؤم بالشيء.
الأمل: عن الإمام علي عليه السلام "الثقة باللَّه أقوى أمل"(27).
الراحة والسرور: وعنه أيضاً عليه السلام: "الاتّكال على اللَّه أروح"(28)
وعنه عليه السلام: "من وثق باللَّه أراه السرور، ومن توكل عليه كفاه الأمور"(29)
وعنه عليه السلام: "ليس لمتوكل عناء"(30)
الكفاية والرزق: عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من توكل على اللَّه كفاه مؤنته ورزقه من حيث لا يحتسب"(31)
بقاء الغنى والعز: عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الغنى والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا"(32)
• بين الاتكال على اللَّه والاتكال على غيره
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو أن رجلاً توكل على اللَّه بصدق النية لاحتاجت إليه الأمور ممّن دونه، فكيف يحتاج هو، ومولاه الغني الحميد"(33)
وعنه صلى الله عليه وسلم: "لا تتكل إلى غير اللَّه فيكلك إليه"(34)
• الإتّكال على النفس بمعنى الغرور بالنفس
عن الإمام علي عليه السلام: "الثقة بالنفس من أوثق فرص الشيطان"(35)
وعنه عليه السلام: "إن أبغض الرجال إلى اللَّه تعالى لعبداً وكله اللَّه إلى نفسه، جائراً عن قصد السبيل، سائراً بغير دليل، إن دُعي إلى حرث الدنيا عمل، وإن دعي إلى حرث الاخرة كسل"(36)
إنّ التوكل والأسباب الظاهرية لا يعني تعطيل العقل والعمل بالأسباب الظاهرية فقد ورد:
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رداً على سؤال: يا رسول اللَّه أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟
قال صلى الله عليه وسلم: "اعقلها وتوكل"(37)
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "لا تدع طلب الرزق من حلِّه فإنه عون لك على دينك واعقل راحلتك وتوكل"(38)
• بين التوكل والتواكل
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أنه مرّ يوماً على قوم فرآهم أصحاء جالسين في زاوية المسجد، فقال عليه السلام: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، فقال عليه السلام: لا، بل أنتم المتأكلة، فإن كنتم متوكلين فما بلغ بكم توكلكم؟ قالوا: إذا وجدنا أكلنا، وإذا نفدنا صبرنا، قال عليه السلام: هكذا تفعل الكلاب عندنا! قالوا: كيف تفعل؟ قال: إذا وجدنا بذلنا، وإذا فقدنا شكرنا"(39)
من كل الذي مرَّ، سواء في القرآن الكريم أو في الأحاديث الشريفة، نرى، أن مفهوم التوكل هو مفهوم لا بدَّ له للإنسان المؤمن، لكي ينطلق في الحياة، انطلاقة التفاؤل والنشاط، لا خنوع الكسل والبطالة.
ونرى أن هذه الصفة، كانت من الصفات المترسِّخة في نفوس الأنبياء والصالحين، ولذلك كانوا أقوياء باللَّه، أصحاب إرادات صلبة، وعزائم ماضية.
ومفهوم التوكل لا يعني إلغاء العقل، والسير على السنن والأسباب الطبيعية التي أودعها اللَّه في خلقه.
لذلك نقول في نهاية المطاف: إعقلوا وتوكلوا، تعقلوا وتوكلوا، تفكروا وتوكلوا، إعملوا وتوكلوا، هذا هو شعار الإسلام للتوكل.
اللهم اجعلنا من المتوكلين عليك، والواثقين بغناك ولطفك، فالمتوكل عليك غني بك، والمتوكل على غيرك فقير إليه.
توكل الإمام الخميني قدس سره
من أبرز الصفات الروحية للإمام اطمئنان النفس... وكان كلامه وكل مظاهر حياته تطفح بالاطمئنان والتوكل.
• عندما ألقي القبض عليه وأرادوا نقله إلى طهران كان بعض أنصاره حول السيارة يبكون والإمام يصبرهم، وفي الطريق يقول الإمام انحرفت السيارة عن الطريق الأصلي إلى جادة ترابية فأيقنت أنهم يريدون قتلي... ولكن رجعت السيارة مجدداً إلى الشارع العام فتأملت في نفسي فوجدت أني لم اضطرب أبداً.
• يقول أحد المقربين من الإمام: أنتم تعلمون أن عبء حوادث الثورة كان دائماً على كاهل الإمام... ولولا ذلك الاطمئنان والتوكل لكان من المستحيل أن يستطيع تحمل كل هذه المشاكل. كان المسؤولون في أكثر الحوادث يخرجون عن طورهم ولم يكن وعيهم السياسي يكشف لهم عن أي مخرج ولكنه كان بجملة واحدة يُنهي كل اضطرابهم.
• في مجريات احتلال وكر التجسس الأمريكي، كان أكثر المسؤولين غير راضين... وفي كل يوم كانوا يطرحون أمراً جديداً، واحد يقول: ليس بالإمكان محاربة أمريكا، والثاني يقول: لقد أنزلت أمريكا قواتها في المنطقة، وآخر يقول: جاء الأسطول الأمريكي.
وحده الإمام كان يقول: أمريكا لا تستطيع أن ترتكب أية حماقة... ذات يوم شكى أحد الشخصيات الثورية أمام الإمام المؤامرات... ووضع الإمام بهدوء يده على صدره قائلاً: أنت لماذا تخاف؟ لا يحدث أي شيء.
... في الليلة التي وصل فيها إلى المكتب خبر استشهاد الاثنين وسبعين شخصاً... أصبنا جميعاً بدوار ولم نكن ندري كيف نوصل هذا الخبر إلى الإمام... الإمام الذي كان يحبُّ بهشتي بقلبه وروحه حبّاً جمّاً، أُوعز إلى الإذاعة أن لا تذيع الخبر لأن الإمام يستمع إلى نشرة آخر الليل... تمَّ الاتفاق أن يذهب السيد أحمد والشيخ رفسنجاني في اليوم التالي إلى الإمام لإخباره بما جرى بطريقة مناسبة خشية أن يصاب الإمام بسوء... وعندما وصلا لإخباره عزاهم الإمام وهدّأ روعهم(40)...
• عندما استشهد ولده السيد مصطفى... الذي كان باستطاعته أن يكتب في شبابه آلاف الصفحات في التفسير وأن يتفوق في المسائل الفقهية على الكثير من أساتذته... ولم يكن يترك التهجّد وقيام الليل في شهادة شخصية كهذه، لم يهتز الإمام بمقدار ذرة وفي اليوم التالي يواصل تدريسه... وقد اشترك في تشيعيه لاستحباب ذلك وكونه فقط عملاً يرضاه اللَّه تعالى وفيما بعد كان وكأنه لم يفقد إبنا.
المصادر :
1- الري شهري، محمد، ميزان الحكمة، مج 10، ص681، ح 22250.
2- ن.م، مج 7، ص293، ح 15024.
3- ن.م، ص294، ح 15025.
4- ن.م، ص294، ح 15026.
5- الزبيدي، تاج العروس، بيروت، مكتبة الحياة، ج8، ص160.
6- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، ط1، بيروت، دار احياء التراب العربي، ج11، ص734.
7- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القران، ح11، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، ط 1412ه، ص215 214.
8- الميزان في تفسير القران، م.س، مج 4، ص65.
9- التوبة:51
10- إبراهيم:12
11- يونس:85
12- الممتحنة:4
13- إبراهيم:12
14- الطلاق:3
15- النساء:81
16- آل عمران:159
17- آل عمران:159
18- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج66، ص373.
19- ميزان الحكمة، الري شهري، مج 10، ص676، ح 22225.
20- ن.م، ح 22226.
21- ن.م، ص680، ح 22236.
22- ن.م، ح22238.
23- ن.م، ح22241.
24- ن.م، ص681، ح 22245.
25- ن.م، ح22248.
26- ن.م، ص682، ح 22258.
27- ن.م، ح 22264.
28- ن.م، ح 22257.
29- 29- ن.م، ح 22265.
30- 30- ن.م، ح 22225.
31- ن.م، ص683، ح 22267.
32- ن.م، ص681، ح 22250.
33- ن.م، ص681، ح 22251.
34- ن.م، ص689، ح 22291.
35- ن.م، ص692، ح 22301.
36- م.ن، ص692، ح 22304.
37- ن.م، ص685، ح 22277.
38- ن.م، ص685، ح 22279.
39- ن.م، ص686، ح 22282.
40- سيماء الصالحين، الشيخ رضا مختاري، ص320 317، دار البلاغة، ط 1992م.