ولد الإمام السجّاد (عليه السلام) قبل وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) بثلاث سنين(1) «كان مولدُ عليِّ بن الحسين (عليه السلام) بالمدينة سنة ثمان وثلاثين من الهجرة، فبقي مع جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) سنتين» ، يعني: ولد وأميرُ المؤمنين في خطّ الجهاد في حرب الجمل، أو على أبواب خطّ الجهاد في حرب الجمل. وعاش طفولته مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في محنته، ثمّ عاش مع عمّه الحسن (عليه السلام) في محنته، ثمّ عاش مع أبيه الحسين (عليه السلام) في محنته، ثمّ استقلّ بالمحنة، حتّى رأى جيوش الخطّ المنحرف تدخل إلى مسجد رسولالله (صلّى الله عليه وآله) فتربط خيلها باُسطوانات المسجد(2).
هو يحدّث (عليه السلام) بأنّه كان يدخل إلى مسجد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، هذا المسجد الذي كان من المفروض أن يكون منطلقاً للرسالة في أفكارها ومفاهيمها ونورها إلى العالم كلّه، هذا المسجد قاسى على عهد الإمام زين العابدين (عليه السلام) هذا المستوى من الذلّ والهوان، وجيش الانحراف -جيش بني اُميّة- يأتي إلى المدينة ويعلن إباحتها، يهتك كلَّ حرمات النبي (صلّى الله عليه وآله) في المدينة، ويدخل إلى مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله) ويربط خيله باُسطوانات المسجد.
الإمام السجّاد (عليه السلام) عاش هذه المحنة، [من] محنة الجمل إلى حين دخول جيوش الانحراف إلى المسجد واستهتارها بحرمات النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على هذا المستوى.
يمكن أن نعتبر أنّ الفترة التي عاشها الإمام السجّاد (عليه السلام) هي أقسى فترةٍ مرّت على إمام؛ لأنّها بدايةُ تكشّفِ قمّة الانحراف.
صحيحٌ أنّ هذه القمّة لم تنحسر بعده وإنّما بقيت، ولكنّ البداية كانت على عهده، هو عاصر البداية، وبهذا كنّا نعتبر الإمام السجّاد (عليه السلام) ممتحناً أكثر من سائر الأئمّة (عليهم السلام).
لماذا كان معاوية أقدر على الاستمرار بخطّه ؟
في ظلال هذا الإمام الذي سوف نتحدّث عنه مفصّلاً -عن وضعه وحياته، وعن تفاصيله(1)- نعود إلى تسلسل حديثنا السابق؛ حيث إنّا كنّا بدأنا بعرض حياة الأئمّة (عليهم السلام) بتسلسلٍ، وهذا التسلسل بدأناه من حين وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وانتهينا إلى حين وصول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الخلافة وتسلّمه زمام المسؤوليّة في المجتمع الإسلامي. فنعود إلى ما كنّا فيه؛ حفاظاً على تسلسل الحديث.
طبيعة الموقفين وصراع الاُطروحتين:
إنّ الإمام (عليه السلام) كان يوجد منذ البدء في طبيعة موقفه وطبيعة موقف معاوية -الذي كان يمثّل خطّ الانحراف- ما يفرض -أو يحرّك- النتيجة التي انتهى إليها الصراعُ بين الإمام (عليه السلام) ومعاوية.
هناك عدّة نقاطٍ لا بدّ من الالتفات إليها تفصيلاً، ساُوجزها إجمالاً:
النقطة الاُولى: اختلاف الموقفين على مستوى الغزو والدفاع:
إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت عمليّته على مستوى الغزو، وكانت عمليّة معاوية على مستوى الدفاع:
أ- كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن تسلّم زمام الحكم في الدولة الإسلاميّة يرى نفسه مسؤولاً عن تصفية الانحراف وهذا الانشقاق غير الشرعي الذي أوجده خطّ بني اُميّة والموالين لبني اُميّة في جسم الاُمّة الإسلاميّة، وكان يرى أنّ من همّه ومن واجب الاُمّة الإسلاميّة القضاءَ على هذا الانشقاق.
وهو حينما ركّز عاصمته وقاعدته الشعبيّة في العراق كان مطلبه السياسي الذي يريد أن يبني هذه القاعدة الشعبيّة لتحقيقه ولبذل الجهد والتضحية في سبيله هو تصفية هذه التجزئة السياسيّة غير المشروعة في جسم الاُمّة الإسلاميّة. وكان معنى هذه التصفية أن يبدأ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) معاويةَ بالهجوم والغزو، يعني ذلك: أن ينقل قاعدته الشعبيّة، ويكلّفها بأن تقوم وتتحرّك، وتخرج من بلادها مهاجرةً في سبيل الله تعالى لكي تقضي على زمرة الانحراف التي قدّر لها أن تتمركز في ثغرٍ من ثغور المسلمين، وهو الشام.
كان يعلم بأنّ العراقيّين لم يكونوا موتورين من الشاميّين بما هم شاميّون، ولم تكن مصالحهم الخاصّة قد تعطّلت عن طريق انفصال الشام عن جسم الدولة الإسلاميّة، وإنّما كان هناك اعتبارُ الرسالة، اعتبار الإسلام الذي يستصرخهم ويناديهم ليقوموا بتصفية هذا الانشقاق والقضاء على هذه التجزئة.
فهم يجب أن يكونوا مدفوعين في هذه المعركة بدافعٍ رساليٍّ كبير، ويجب أن يصلوا إلى مستوىً عظيمٍ من فهم القضيّة وإدراك أبعادها وتبيّن مضمونها؛ حتّى يكونوا على مستوى العطاء لها، عطاء النفوس والأرواح والأموال والأولاد.
بـ- بينما معاوية لم يكن همّه على مستوى الغزو، ولم يكن موقفه يتطلّب منه أن يغزو، وإنّما كان موقفه يتطلّب منه أن يمسك الشام، كان يتطلّب منه أن يحاول فصل الشام عن باقي أجزاء الوطن الإسلامي الكبير.
وفرقٌ كبيرٌ بين قائدٍ يأمر جيشه بأن يتحرّك من بلاده ليخوض معركةً لا يوجد أيُّ اعتبارٍ لخوضها سوى اعتبار الرسالة فقط، بينما هذا المستوى من العطاء لم يكن هو اُطروحة معاوية لجيشه.
معاوية لم يكن يقول لجيشه: تعالوا نحتلّ العراق، تعالوا لنغزو باقي أرجاء الوطن الإسلامي، وإنّما كان يمنّيهم بالسيادة والاستقلال، وفي النهاية وعلى الخطّ الطويل بزعامة الوطن الإسلامي والعالم الإسلامي.
والأشخاص الذين كانوا يدورون في فلك الإمام (عليه السلام) كان فيهم عددٌ كبيرٌ من الواعين وأنصاف الواعين، والحارِّين وأنصاف الحارِّين. وهذه الكتلة الكبيرة من الواعين وأنصاف الواعين، والحارِّين وأنصاف الحارِّين استجابت لمطالب الرسالة منذ اللحظة الاُولى، استجابت للإمام (عليه السلام)، وشعرت بأنّ من واجبها الإسلامي أن تصفّي هذه التجزئة، وأعطت هذه الكتلةُ من التضحيات ما أعطت، وخاضت عدّة معارك ضارية.
هؤلاء أعطَوا للقضيّة التي طرحها أمير المؤمنين (عليه السلام) عطاءً لا يستهان به، ولكنّ هذا العطاء كان ولا بدّ أن يتناقص بالتدريج وفقاً لمستوى وعي هؤلاء،
إذاً، فهنا لم تكن الاُطروحتان متكافئتين من حيث درجة الجهد، من حيث درجة الطلب، من حيث درجة الدفع والتحريك: اُطروحة تريد منك أن تخرج من بيتك مهاجراً تغزو في سبيل الله، واُخرى تريد منك أن تبقى في بيتك، وأن تحافظ على استقلال بيتك في بيتك.
هذا الفرق الكبير بين الدرجتين لهاتين الاُطروحتينـ-بين درجة الجهد التي تفرضها هذه الاُطروحة ودرجة الجهد التي تفرضها الاُطروحة الاُخرى- كان له دورٌ كبيرٌ في طبيعة الموقف
النقطة الثانية: عليٌّ (عليه السلام) يواجه إفرازات السقيفة ومعاوية يكرّس جاهليّة الشام:
أ- إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كما كان بصدد تصفية التجزئة السياسيّة المنحرفة التي وقعت في العالم الإسلامي وقتئذٍ، كان أيضاً يواجه انحرافاً في داخل المجتمع الإسلامي الذي حكمه نتيجةً للظروف السياسيّة التي صبغته. وكان لابدّ له أن يخوض معركةً ضدّ هذا الانحراف الذي كان يعيشه المجتمع العراقي والحجازي والمجتمع الإسلامي بشكلٍ عام؛ فعليٌّ (عليه السلام) كان يواجه معركتين:
1- معركةً ضدّ التجزئة السياسيّة في جسم الاُمّة الإسلاميّة.
2- ومعركةً اُخرى ضدّ الانحراف الداخلي في المجتمع الإسلامي، والذي كان يتمثّل في بقايا سياسة الخلفاء الذين سبقوه، كان يتمثّل في التمييز غير الشرعي وغير الإسلامي، وفي أفكار وعواطف كثيرة غير إسلاميّة، وفي الاستئثار بالأموال وإقامة الثروات على أساس غير مشروع، ويتمثّل في إسناد الولايات ومراكز النفوذ إلى اُناسٍ لا ينسجمون مع خطّ الرسالة.
كان لا بدّ له (عليه السلام) أن يصفّي كلَّ هذا، كان لا بدّ له أن يقلّم أظافر المنحرفين، وأن يسترجع الأموال من الخائنين، وأن يحارب الأفكار والمفاهيم المنحرفة وغير المتّفقة مع خطّ الإسلام.
وهذه المعركة كبيرة في داخل مجتمعه، كان لا بدّ له أن يخوضها إلى جانب معركته الخارجيّة.
بـ- وهذا على عكس معاوية بن أبي سفيان، الذي لم يكن يعيش معركةً في داخل مجتمعه؛ لأنّ الشام بالرغم من أنّها داخلةٌ في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلاميّة بالفتح العسكري، فإنّه لم يدخل الإسلام إلى الشام دخولاً كبيراً، بل دخل الإسلام بشعاراته الأوّليّة فقط.
لم يدخل الإسلام بمضمونه الحقيقي إلى قلوب أهل الشام؛ فأهل الشام كانوا لا يزالون يعيشون الرواسب الجاهليّة بدرجةٍ كبيرة؛ حيث إنّهم كانوا يتأطّرون بالأفكار التي آمنوا بها قبل الإسلام.
وكذلك لم تكن أوضاعهم الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة تختلف بدرجةٍ كبيرةٍ عمّا كانت عليه قبل الإسلام، حتّى التشريعات الشكليّة للوضع السياسي كانت هي التشريعات الشكليّة للوضع السياسي قبل الإسلام.
عمر بن الخطّاب -بالرغم من صرامته الشكليّة ضدّ هذه التشريعات في العالم الإسلامي- قد أمضى هذه التشريعات عند معاوية وأبقاه على وضعه حينما عرض عليه معاوية أن يعيش في الشام كخليفةٍ للقياصرة، ويجب أن يواصل اُبّهة القياصرة وجلالهم. لقد أمضى عمر بكلّ وقاحة مواصلة معاوية لخطّ القياصرة(3).
فالشام كانت تعيش إلى درجة كبيرة الجاهليّةَ التي كانت عليها قبل الإسلام، ومعاوية لم يكن يرى أيّ تناقض بين أهدافه واُطروحته وبين المجتمع الشامي بوضعه الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، هذا المجتمع الذي كان مؤهّلاً تماماً لتقبّل اُطروحة معاوية، وهو أن يتزعّم الشام زعامةً ملكيّة قيصريّة لا تؤمن بالارتباط الحقيقي بالله تعالى.
بينما اُطروحة عليٍّ (عليه السلام) كانت هي الاُطروحة التي تواجه انحرافاً عاش عشرين عاماً بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) وكان مسؤولاً عن تصفية ذلك الانحراف.
ومن هنا نجد الفارق بين وضع كلٍّ من الإمام (عليه السلام) ومعاوية في مجتمعه الذي يحكمه.
المصادر :
1- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 137 :2.
2- مناقب آل أبي طالب 143 :4؛ بحار الأنوار 131 :46، الحديث 21. وكان ذلك في وقعة الحرّة المعروفة سنة 63 هـ- ؛ حيث «وجّه يزيد مسلم بن عقبة المري في جيش عظيم لقتال ابن الزبير، فسار بهم حتّى نزل المدينة، فقاتل أهلها وهزمهم، وأباحها ثلاثة أيّام؛ فهي وقعة الحرّة» المعارف: 351؛ تاريخ اليعقوبي 250 :2؛ معجم البلدان 249 :2؛ الفخري في الآداب السلطانيّة والدول الإسلاميّة: 116.
3- أنساب الأشراف 147 :5؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 331 :5؛ البداية والنهاية 125 :8.