والياس نوعان :
1. اليأس المطلوب :
هناك يأس مطلوب للمرء أن يفعله ، بل واجب عليه في كثير من الأحوال ، كتمني القصيرة أن تصبح طويلة ، والقبيح أن يكون جميلا ، والبطال أن يكون أغنى الناس ، واليأس مما سوى الله تعالى من خلقه ولا سيما مما في أيديهم مما أعطاهم الله تعالى من نعم لم يعطها له فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي وَأَوْجِزْ قَالَ إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ وَأَجْمِعْ الْيَأْسَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ أخرجه ابن ماجة2. اليأس المحرم :
هو القنوط من رحمة الله ، أو من تغيير وضعه ، أو يأسه من زوال ما ألم به ، أو يأسه من النصر وهكذاوفي الموسوعة الفقهية :
الْإِيَاسُ بِمَعْنَى انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ - الْإِيَاسُ مِنْ حُصُولِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ جَائِزٌ وَلَا بَأْسَ بِهِ .
بَلْ اسْتِحْضَارُ الْإِيَاسِ مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْبَعِيدَةِ الْحُصُولِ قَدْ يَكُونُ رَاحَةً لِلنَّفْسِ مِنْ تَطَلُّبِهَا . وَفِي الْحَدِيثِ ( أَجْمَعُ الْإِيَاسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ) .
وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ الْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْإِيَاسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الْإِيَاسُ مِنْ الرِّزْقِ أَوْ نَحْوِهِ كَالْوَلَدِ , أَوْ وُجُودِ الْمَفْقُودِ , أَوْ يَأْسِ الْمَرِيضِ مِنْ الْعَافِيَةِ , أَوْ يَأْسِ الْمُذْنِبِ مِنْ الْمَغْفِرَةِ .
وَالْإِيَاسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَقَدْ عَدَّهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْكَبَائِرِ . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ : عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ ; لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) , وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا الضَّالُّونَ ) .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ : مَا الْكَبَائِرُ ؟ فَقَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ , وَالْإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ , وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ , وَهَذَا أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ ) قِيلَ : وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا , وَبِكَوْنِهِ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالطَّبَرَانِيُّ .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَإِنَّمَا كَانَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مِنْ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ .
ثُمَّ هَذَا الْيَأْسُ قَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ حَالَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهُ , وَهِيَ التَّصْمِيمُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ , وَهَذَا هُوَ الْقُنُوطُ , بِحَسَبِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ :
( وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ) وَتَارَةً يَنْضَمُّ إلَيْهِ أَنَّهُ مَعَ اعْتِقَادِهِ عَدَمَ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ يَرَى أَنَّهُ سَيُشَدِّدُ عَذَابَهُ كَالْكُفَّارِ . وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْيَأْسِ مِنْ الرِّزْقِ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِحَبَّةٍ وَسَوَاءٍ ابْنَيْ خَالِدِ ( لَا تَيْأَسَا مِنْ الرِّزْقِ مَا تَهَزْهَزَتْ رُءُوسُكُمَا ) .
وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْقَنُوطِ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ أَوْ حُلُولِ الْمُصِيبَةِ فِي مِثْلِ قوله تعالى :
( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إذَا هُمْ يَقْنَطُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .
وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْيَأْسِ مِنْ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ فِي قوله تعالى :
( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ , فَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ .
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَالْإِنَابَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَطْلُوبَةٌ , وَبَابُ التَّوْبَةِ إلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ جَمِيعًا مَفْتُوحٌ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ , أَيْ حِينَ يَيْأَسُ مِنْ الْحَيَاةِ . فَتَوْبَةُ الْيَائِسِ - وَهِيَ تَوْبَةُ مَنْ يَئِسَ مِنْ الْحَيَاةِ كَالْمُحْتَضَرِ - الْمَشْهُورُ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ , كَإِيمَانِ الْيَائِسِ . وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَفَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ تَوْبَةِ الْيَائِسِ وَإِيمَانِ الْيَائِسِ , فَقَالُوا بِقَبُولِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي
أَمَّا مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْيَائِسُ حَقًّا مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ , لقوله تعالى :
( وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) , بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُرْجَى لَهُ .
وقال ابن حجر الهيتمي في الزواجر :
قَالَ تَعَالَى : ( إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) .
وَقَالَ تَعَالَى : ( إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )
وَقَالَ تَعَالَى : ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .
وَقَالَ تَعَالَى : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) .
وَفِي الْحَدِيثِ : ( إنْ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ , كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ , فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ , وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ عَلَى أَوْلَادِهَا , وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَك , يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتنِي بِقُرَابَةِ الْأَرْضِ - بِضَمِّ الْقَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ قَرِيبِ مِلْئِهَا - خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ) .
وَعَنْ أَنَسٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : ( أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ : كَيْفَ تَجِدُك ؟ قَالَ : أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي , فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ ) . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ : مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَوَّلُ مَا يَقُولُونَ لَهُ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ يَا رَبَّنَا . فَيَقُولُ : لِمَ ؟ فَيَقُولُونَ رَجَوْنَا عَفْوَك وَمَغْفِرَتَك , فَيَقُولُ : قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ مَغْفِرَتِي ) .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ : ( إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ ) . وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ ( سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ : لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - )
. وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ ; ( قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ , وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ ) .
وَالْبَيْهَقِيُّ : ( أَمَرَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى شَفِيرِهَا الْتَفَتَ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ يَا رَبِّ إنْ كَانَ ظَنِّي بِك لَحَسَنًا , فَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - رُدُّوهُ , أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ) .
وَالْبَغَوِيُّ : ( إنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - , يَقُولُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ أَنَا عِنْدَ ظَنِّك بِي ) .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ , لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي عَلِمْته مِمَّا ذُكِرَ , بَلْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ آنِفًا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ , بَلْ جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ .
وجوب التسليم لله تعالى بما يحدث في هذا الكون
لا بد للمؤمن أن يسلم لله تعالى بقضائه وقدره وبكل ما يجري في هذا الكون دون أدنى شك قال تعالى ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ .(1)نداء خاشع . .
في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء . وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال . وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس . وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة :حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفاً من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف!
( قل : اللهم مالك الملك . تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء ) . .
إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة . . إله واحد فهو المالك الواحد . . هو ( مالك الملك ) بلا شريك . . ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه .
يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء . فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه . إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلاً . وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا . أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل . .
وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه ، وبلا مجير عليه ، وبلا راد لقضائه ، فهو صاحب الأمر كله بما أنه - سبحانه - هو الله . . وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله .
وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير . فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل . يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل . ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل . فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات؛ وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال : ( بيدك الخير ) . . ( إنك على كل شيء قدير ) . .
وهذه القوامة على شؤون البشر ، وهذا التدبير لأمرهم بالخير ، ليس إلا طرفاً من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق :
( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل؛ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي؛ وترزق من تشاء بغير حساب ) . .
والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة ، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس : هذه الحركة الخفية المتداخلة . حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي . . الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال ، متى ألقى القلب إليها انتباهه ، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق .
وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول . .
أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح . . سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك ، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة ، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء . . شيئاً فشيئاً يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار .
وشيئاً فشيئاً يتنفس الصبح في غيابة الظلام . . شيئاً فشيئاً يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء . وشيئاً فشيئاً يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف . . وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير!
كذلك الحياة والموت ، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج . كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة ، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة! خلايا حية منه تموت وتذهب ، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل .
وما ذهب منه ميتاً يعود في دورة أخرى إلى الحياة . وما نشأ فيه حياً يعود في دورة أخرى إلى الموت . . هذا في كيان الحي الواحد . . ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله ، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة . . وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . . ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئاً . ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير!
حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك . حركة خفية عميقة لطيفة هائلة . تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر . . فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدّبر؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير؟
ثم أنى يتخذ بعضهم بعضاً عبيداً ، ويتخذ بعضهم بعضاً أرباباً ، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال : ( وترزق من تشاء بغير حساب ) . .
إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى . حقيقة الألوهية الواحدة . حقيقة القوامة الواحدة . وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد . وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد . ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم ، مالك الملك ، المعز المذل ، المحيي المميت ، المانح المانع ، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال .
*لماذا يصل الإنسان إلى اليأس ؟
هناك أسباب كثيرة جدا ولكن أهمها :
1. إخفاقه في شيء في حياته (زواج ، تجارة ، علاقة مع صديق خانه في النهاية ، ....) وهذا يجب عليه البحث عن أسباب الفشل والإخفاق
وقد يكون سوء الاختيار ، وهذا يؤدي إلى الطلاق وغيره ،
وقد تكون العلاقة بينه وبين صديقه قائمة على الدنيا وعلى المطامع فلما زالت أسبابها تحولت لعداوة
وقد يكون سبب الفشل والإخفاق الإهمال في العمل ،
أو عدم الأخذ بالأسباب المشروعة ، أوالثقة العمياء بالناس ،
أو المال الحرام أو المشبوه ، أو المعاصي التي يرتكبها وما أكثرها
فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ ) أخرجه ابن ماجة
أو يكون نوعا من الاختبار والابتلاء فتظهر حقيقته عند الابتلاء
قال تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ* يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) (2)
وقال تعالى ( فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ )(3)
فهذا هو تصور الإنسان لما يبتليه الله به من أحوال ، ومن بسط وقبض ، ومن توسعة وتقدير . . يبتليه بالنعمة والإكرام . بالمال أو المقام . فلا يدرك أنه الابتلاء ، تمهيداً للجزاء . إنما يحسب هذا الرزق وهذه المكانة دليلاً على استحقاقه عند الله للأكرام ، وعلامة على اصطفاء الله له واختياره . فيعتبر البلاء جزاء والامتحان نتيجة! ويقيس الكرامة عند الله بعرض هذه الحياة! ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق ، فيحسب الابتلاء جزاء كذلك ، ويحسب الاختبار عقوبة ، ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله ، فلو لم يرد مهانته ما ضيق عليه رزقه . .
وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصور ومخطئ في التقدير . فبسط الرزق أو قبضه ابتلاء من الله لعبده . ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر . ويظهر منه الصبر على المحنة او الضجر . والجزاء على ما يظهر منه بعد .
وليس ما أعطي من عرض الدنيا أو منع هو الجزاء . . وقيمة العبد عند الله لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا . ورضى الله أو سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الأرض . فهو يعطي الصالح والطالح ، ويمنع الصالح والطالح . ولكن ما وراء هذا وذلك هو الذي عليه المعول . إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي . والمعول عليه هو نتيجة الابتلاء!
غير أن الإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان لا يدرك حكمة المنع والعطاء . ولا حقيقة القيم في ميزان الله . . فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنالك . وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة ، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء ، فعمل له في البسط والقبض سواء . واطمأن إلى قدر الله به في الحالين؛ وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء!
وقد كان القرآن يخاطب في مكة أناساً يوجد أمثالهم في كل جاهلية تفقد اتصالها بعالم أرفع من الأرض وأوسع أناساً ذلك ظنهم بربهم في البسط والقبض .
أو أنه يطلب الابتلاء من الله فلا يتحمله
فعَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ كَاتِبًا لَهُ قَالَ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَرَأْتُهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا قَالَ ( أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِم ) أخرجه البخاري .
وكثير من المغرورين بأنفسهم يطلبون من الله البلاء وعندما ياتيهم لا يستطيعون تحمله فيسقطون على الطريق وقكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قصة ذاك الرجل العابد الذي سال الله أن يبتليه ( وقال كل في حبك يهون ) فابتلاه الله بحصر البول فصار يوزع الجوز على الصبيان ويقول لهم ادعوا لعمكم المجنون أن يفرج الله عنه قصة ذاك الصوفي مهما فعلت بي فلا أبالي
و عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ قَالَ نَعَمْ كُنْتُ أَقُولُ اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تُطِيقُهُ أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ أَفَلَا قُلْتَ اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ قَالَ فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ حَدَّثَنَاه عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى قَوْلِهِ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَلَمْ يَذْكُرْ الزِّيَادَةَ و حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعُودُهُ وَقَدْ صَارَ كَالْفَرْخِ بِمَعْنَى حَدِيثِ حُمَيْدٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ لَا طَاقَةَ لَكَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ ) أخرجه مسلم
عدم تحقق النصر للمسلمين
فعدم تحقق النصر للمسلمين في هذا العصر الظالم أهله يجعل كثيرا من الناس ييأسون من رحمة الله وقد يكفر بعضهم ويشك في دينه أو يرتد عن دينه ، فلا بد من البحث عن أسباب هزيمة المسلمين
المصادر:
1- في سورة آل عمران /26 - 27
2- الحج / 11 – 13
3- الفجر / 15 – 16
source : راسخون