تحديد الإيمان والكفر *
الإيمان : عبارة عن الإذعان بالله سبحانه ، واليوم الآخر ، ورسالة النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فهذه الأمور الثلاثة تشكّل دعامات الإيمان وأركانه ، وما سواها ترجع بشكلٍ إليها ، نعم لمّا كان ما خلّف النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من تراث في مجال المعارف والأحكام ضخماً لا يمكن استحضاره في الضمير ثمّ التصديق به ، اضطرّ العلماء إلى تقسيم ما جاء به النبي إلى قسمين :
قسم معلوم بالتفصيل : كتوحيده سبحانه ، والحشر يوم المعاد ، في مجال العقائد ، ووجوب الصلاة والزكاة ونحوهما في مجال الأحكام .
وقسم منه معلوم بالإجمال : نعلم وروده في الكتاب والسنّة .
فلا محيص للمؤمن أنْ يؤمن بالأوّل على وجه التفصيل ، وبالثاني على وجه الإجمال .
قال عضد الدين الإيجي : الإيمان : التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة ، وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً ، وإجمالاً فيها علم إجمالاً (1) .
وبعبارة أوضح : أنّ ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إمّا أنْ يُعلم به بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة والجهاد والحج ، وإمّا أنْ لا يُعلم به كذلك .
فالمؤمن هو الذي يعتقد بصحّة كل ما بُعث به الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى أُمّته ، غير أنّ المعلوم بالضرورة ، يؤمن به تفصيلاً ، وما لم يُعلم يؤمن به على وجه الإجمال .
ويظهر ممّا تقدّم أنّ الإيمان يتجلّى في أصول ثلاثة :
الأصل الأول : الإيمان بالله سبحانه وتوحيده .
الأصل الثاني : الإيمان بالآخرة وحشر الناس في اليوم الموعود .
الأصل الثالث : الإيمان برسالة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء بها .
والاعتقاد بهذه الأصول الثلاثة يُورث الإيمان ويُدخل الإنسان في حظيرته ويتفيّأ في ظِلاله وظلال الإسلام . هذا ما عليه علماء الإسلام دون فرق بين طائفة وأخرى ، وقد آثروا في ذلك ما روي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في غير واحد من المواقف .
1 ـ روى الإمام علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) ، عن آبائه ، عن علي ( عليهم السلام ) ، قال : ( قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : أُمرتُ أنْ أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله ، فإذا قالوا حرمتْ عليّ دماؤهم وأموالهم ) (2) .
2 ـ أخرج الشيخان ، عن عمر بن الخطّاب ، أنّ عليّاً صرخ : يا رسول الله على ماذا ، أقاتل ؟ قال (ص) : ( قاتِلْهم حتّى يشهدوا أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد مَنَعُوا منك دماءَهم وأموالَهم إلاّ بحقّها وحسابهم على الله ) (3) .
3 ـ روى أبو هريرة أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( لا أزال أُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله ، فإذا قالوها فقد عَصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها وحسابهم على الله ) (4) .
إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على أنّ محور الإسلام والكفر كلمة ( لا إله إلا الله ومحمّد رسول الله ) ولو اقتصر في بعضٍ على أصلٍ واحد ولم يَذكر المعاد وحشْر الناس أو لم يذكر رسالته فلوضوحهما .
نعم ، ليس الإيمان بالأصول الثلاثة فقط مورِثاً للسعادة ، ومنقذاً عن العذاب والعقاب ، بل لابدّ من انضمام العمل إليه واقترانه بامتثال أوامره ونواهيه في الكتاب والسنّة ، وذلك من الوضوح بمكان ، وقد وردت في هذا الصدد روايات عديدة نقتصر على قليل منها :
1 ـ روى عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( بُني الإسلام على خمس : شهادة أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم شهر رمضان ) (5) .
2 ـ ما روي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) متضافراً أنًه قال : ( مَن شهد أنْ لا إله إلاّ الله ، واستقبل قبلتنا ، وصلّى صلاتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم ، له ما للمسلم ، وعليه ما على المسلم ) (6) .
وعلى ضوء ذلك فالذي يميز المؤمن عن الكافر هو الاعتقاد بالأصول الثلاثة ، وأمّا عندما يوجب السعادة الأخروية فهو في ظلّ العمل بالواجبات والانتهاء عن المحرّمات .
ويشير إلى الأمر الأوّل ما مرّ من الروايات التي تركّز على العقيدة ولا تذكر من العمل شيئاً ، كما تشير إلى الأمر الثاني الروايات التي تركّز على العمل وراء العقيدة .
إذا عرفت ما يخرج الإنسان من الإيمان ويدخله في الكفر ، يُعلم منه أنّه لا يصح تكفير فرقة من الفرق الإسلامية ما دامت تعترف بالأصول الثلاثة ، وفي الوقت نفسه لا تُنكر ما عُلم كونه من الشريعة بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة وأمثالهما . هذا ما نصّ عليه جمهور المتكلّمين والفقهاء (7) .
وها نحن نذكر بعض الشواهد على هذا الموضوع :
1 ـ قال ابن حزم عندما تكلّم ( فيمَن يكفّر ولا يكفّر ) : ( وذهبت طائفة إلى أنّه لا يكفَّر ولا يفسّق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فُتيا ، وإنّ كل مَن اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنّه الحقّ فإنّه مأجور على كلّ حال ، إنْ أصاب الحقّ فأجران ، وإنْ أخطأ فأَجْر واحد . وهذا قول ابن أبي ليلى ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وسفيان الثوري ، وداود بن علي وهو قول كلّ من عرفْنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة ( رضوان الله عليهم ) عندما نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً ) (8) .
2 ـ وقال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي : ( إنّ الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جدّاً ، وكل مَن في قلبه إيمان يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبِدَع مع قولهم لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله ، فإنّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر ) (9) .
3 ـ وقال أحمد بن زاهر السرخسي الأشعري : لمّا حضرت الوفاة أبا الحسن الأشعري في داري ببغداد أمر بجمع أصحابه ثمّ قال : اشهدوا على أنّني لا أكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب ؛ لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمّهم (10) .
4 ـ وقال التفتازاني : إنّ مخالف الحق من أهل القبلة ليس بكافر ما لم يُخالِف ما هو من ضروريات الدين كحدوث العالم وحشر الأجساد ، واستدلّ بقوله : إنّ النبي ومَن بعده لم يكونوا يفتّشون عن العقائد وينبّهون على ما هو الحق (11) .
السنّة النبويّة وتكفير المسلم :
قد وردت أحاديث كثيرة تنهى عن تكفير المسلم الذي أقرّ بالشهادتين فضلاً عمّن يمارس الفرائض الدينية ، وإليك طائفة من هذه الروايات :
1 ـ ( بُني الإسلام على خصال : شهادة أنْ لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، والجهاد ماض منذ بعث رسلَه إلى آخر عصابة تكون من المسلمين ... فلا تكفّروهم بذنب ولا تشهدوا عليهم بشرك ) (12) .
2 ـ أخرج أبو داود عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( أيّما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً فإنْ كان كافراً وإلاّ كان هو الكافر ) (13) .
4 ـ أخرج مسلم ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما ) (14) .
4 ـ أخرج مسلم ، عن عبد الله بن دينار ، أنّه سمع ابن عمر ، يقول : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( أيّما امرئ قال لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما إنْ كان كما قال ، وإلاّ رجعت عليه ) (15) .
5 ـ عقد البخاري باباً باسم ( المعاصي من أمر الجاهلية ولا يُكفَّر صاحبها بارتكابها إلاّ بالشرك ) ، يقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( إنّك امرؤ فيك جاهلية ) ، وقول الله : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) (16) . (17) .
6 ـ أخرج الترمذي في سننه عن ثابت بن الضحّاك ، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : ( ليس على العبد نذر فيما لا يملك ، ولا عن المؤمن كقاتله ، ومَن قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله ) (18) .
7 ـ أخرج أبو داود عن أسامة بن زيد قال : بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سريّة إلى الحرقات ، فنذروا بنا فهربوا ، فأدركنا رجلاً فلمّا غشيناه قال : لا إله إلاّ الله ، فضربناه حتى قتلناه ، فذكرتُه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : ( من لك بلا إله إلاّ الله يوم القيامة ؟ ) قال : قلتُ : يا رسول الله ، إنّما قالها مخافة السلاح والقتل ، فقال : ( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا ؟ مَن لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ ) قال : فما زال يقولها حتّى وددتُ أنّي لم أُسلم إلاّ يومئذٍ (19) .
8 ـ لمّا خاطب ذو الخويصرة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله : ( اعدل ) ، ثارت ثورة مَن كان في المجلس ، منهم خالد بن الوليد قال : يا رسول الله إلاّ أضرب عنقه ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( لا ، فلعلّه يكون يصلّي ) فقال : إنّه رُبّ مصلٍّ يقول بلسانه عندما ليس في قلبه ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( إني لم أؤمَر أنْ أًنَقّب قلوب الناس ولا أشقّ بطونهم ) (20) .
وعلى ضوء هذه الأحاديث المتضافرة والكلمات المضيئة عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلمائنا السابقين المقتفين أثره يُعلم أنّ تكفير مسلم ليس بالأمر الهيّن ، بل هو من الموبقات ، قال سبحانه : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (21) . لم يزل المسلمون منذ قرون غرضاً لأهداف المستعمرين ومخطّطاتهم في بثّ الفرقة بين صفوفهم وجعلهم فِرقاً وأُمَمَاً متناحرة ينهش بعضهم بعضاً ، وكأنّهم ليسوا من أُمّة واحدة ، كل ذلك ليكونوا فريسة سائغة للمستعمرين .
وبالتالي ينهبوا ثرواتهم ويقضوا على عقيدتهم وثقافتهم الإسلامية بشتّى الوسائل ؛ ولأجل ذلك نرى أنّه ربّما يشعلون نيران الفتن لأجل مسائل فقهيّة لا تمسّ إلى العقيدة بصلة ، فيكفِّر بعضهم بعضاً ، مع أنّ المسائل الفقهية لم تزل مورد خلاف ونقاش بين الفقهاء ، فمثلا : في مسألة قبض اليد اليسرى باليمنى أقوال : فمن قائل بالاستحباب ، إلى آخر قائل بالكراهة ، إلى ثالث قائل بالتحريم .
فلكلّ مجتهد رأيه ، فلا يجوز لفقيه أنْ يكفّر فقيهاً أو أتباعه في مسألة القبض ، وقِس على ذلك مسائل كثيرة تُعدّ من الأحكام ، وللاجتهاد فيها مجال واسع .
ونظير ذلك بعض المسائل العقائدية التي ليست من ضروريات الإسلام ، بل للعقل والاستدلال دور في تحقيقها ، مثلاً : عصمة الأنبياء قبل البعثة أو بعدها ، أو حدوث القرآن وقِدمه ، أو صفاته تعالى عين ذاته أو زائد عليها ، فليست هذه المسائل محور التوحيد والشرك والإيمان والكفر ، ولكلّ محقّقٍ عقيدته ودليله ولا يجوز لآخر تكفيره ، ويكفي في ذلك الاعتقاد بما جاء به النبي إذا لم يكن من أهل التحقيق .
وبما ذكرنا يُعلم أنّ تكفيرَ طائفة ، طائفة أخرى ـ لمسائل فقهية أو عقائدية لم يثبت كونها من ضروريات الدين ـ أمر محظور وزلّة لا تُغتفر ، وخدمة للاستعمار الغاشم لا غير .
ونحن لا نريد الإطالة في الكلام وتكثير الأمثلة ، وتكفي في الاطلاع دراسة وضع المسلمين وتشتّتهم ضمن اختلاف بعضهم مع بعض في فروع فقهية أو عقائدية ليست من الضروريات .
ــــــــــــــــ
* اقتباس شبكة الإمامين الحسنين (ع) من كتاب : بحوث قرآنية في التوحيد والشرك : الشيخ جعفر السبحاني : ص 12 ـ ص22 .
1 ـ الإيجي : المواقف : ص 384 .
2 ـ البحار : 68 / 242 .
3 ـ صحيح البخاري : 1 / 10 ، كتاب الإيمان . صحيح مسلم : 7 / 17 . كتاب فضائل علي ( عليه السلام ) .
4 ـ الشافعي : الأم : 6 / 157 ، اقرأ كلامه فيه حول هذا الموضوع .
5 ـ صحيح البخاري : 1 / 16 ، باب أداء الخمس من كتاب الإيمان .
6 ـ ابن الأثير : جامع الأصول : 1 / 158 .
7 ـ لاحظ المواقف للإيجي : 392 .
8 ـ ابن حزم : الفصل : 3 / 291 .
9 ـ الشعراني : اليواقيت والجواهر : 2 / 125 ، ط عام 1378 هـ .
10 ـ الشعراني : اليواقيت والجواهر : 2 / 126 .
11 ـ التفتازاني : شرح المقاصد : 5 / 227 .
12 ـ كنز العمال : 1 / 29 ، برقم 30 .
13 ـ سنن أبي داود : 4 / 221 ، برقم 4687 ، كتاب السنّة .
14 ـ صحيح مسلم : 1 / 56 ، باب : ( مَن قال لأخيه المسلم يا كافر ) من كتاب الإيمان .
15 ـ صحيح مسلم : 1 / 57 ، باب : ( مَن قال لأخيه المسلم يا كافر ) من كتاب الإيمان . الإمام أحمد في مسنده : 2 / 22 و 60 و 142 . وأخرجه الترمذي في سننه : 5 / 22 برقم : 2637 ، كتاب الإيمان .
16 ـ النساء / 48 .
17 ـ صحيح البخاري : 1 / 11 ، باب : ( المعاصي من أمر الجاهلية ) من كتاب الإيمان .
18 ـ سنن الترمذي : 5 / 22 برقم 2636 ، كتاب الإيمان .
19 ـ سنن أبي داود : 3 / 45 برقم : 2643 . صحيح البخاري : 5 / 144 ، باب بعث النبي أسامة بن زيد إلى الحرقات من كتاب المغازي .
20ـ صحيح البخاري : 5 / 164 ، باب بعث علي وخالد بن الوليد من كتاب المغازي .
21 ـ آل عمران / 105 .