ظلال إسلامية على قصة نشأة الكون
د. عبد الله زيعور
لابد في أول الأمر من التعرض للإشكال الذي ظهر خلال فترة السبعينات في بعض الكتابات الإسلامية عبر تأويل جملة من النتائج والحقائق العلمية المحدودة والآنيّة ومحاولات تفصيلها على قياس الكثير من آيات القرآن التي لم تكن تمت إلى تلك النتائج بصلة، وقد ساعد على ظهور هذا التوجّه الذي ما لبث أن رُفض لاحقاً،
أنّ من قام بهذه المهمة كانوا ممن لا علاقة لهم بجوهر الحقائق العلمية ومدلولاتها.
أما اليوم، وبنهاية هذه الموجة واستهلاك أهدافها وظهور نتائجها الخاطئة على أكثر من صعيد، تعود الرؤية الإسلامية للعلم هادئة دقيقة دون أن تجعل من أولوياتها الربط المصطنع قهراً بين تطورات العلم كافة وكتاب الله تعالى، بحيث تساهم في ضبط حقائق العلم وأفكاره وتعمل على تكاملها كآيات ربانية قيّمة تدل على طريق الله وتعرّف بالقدرة الإلهية وعظمة إعجازها لتنعكس بمضامينها ومعانيها على معرفة النفس وتهدئتها، ويعينها في هذا المنحى مسار ونوعية التطورات العلمية الحديثة التي تستدعي بالضرورة وجود القوة الضابطة للكون والمتحكمة بأصغر تفاصيله، والتي تجهز في الوقت نفسه على الأفكار والنظريات ذات الأصول المادية وهي عينها كانت قد قوَّلت العلم ما لم يقله حتى تهافتت معها كل الرؤى والفلسفات الإنسانية التي نبتت طفيلياً بجانبها...
فالعلم اليوم يعلن وعلى لسان أهم وآخر حقائقه الفيزيائية: أن الكون قد خُلق، أي أنه بدأ من لحظة ونقطة لم يكن فيها زمان ولا مكان ولا مادة وهو يتجه إلى نهاية حتمية لا مناصٍ منها، وأن ضرورة وجود القوة الخالقة المنظِّمة هي ضرورة لازمة بلزوم المسار العلمي عينه، لا يسير سليماً متعافياً فيما لو نأى عنها، وهو يصل حالياً بنتائجه إلى وصف وضبط المراحل الدقيقة والمؤثرات الجزئية التي تشارك بوداعة وجمال رائعين لكي تصل بنا إلى مرحلة الكون المتكامل الذي نعرفه ونحيا به اليوم...
في هذا السياق بالذات، نستعرض قصة الكون في لحظاته الأولى مروراً بالمحطات الرئيسية في مساره، مع اختصار وتبسيط للعرض تحتمه طبيعة الفكرة وعدم كفاية المقدمات العلمية المختصة لدى القارئ العزيز.
الانفجار العظيم (Big Bang):
منذ بداية الثلاثينات وإلى اليوم، تتجه كل الدراسات الفيزيائية في ميدان أصل الكون ونشأته إلى نظرية (الانفجار العظيم) التي تفيد أن للكون قصة، وقصة ولادته تعود إلى خمسة عشر ملياراً من السنين، وهي بدأت بانفجار هائل حصل في اللازمان واللامكان واللامادة, يصفه الفيزيائيون فقط بأنه محيط طاقة لا ينضب، من دون الإتيان بتفاصيل ومعلومات إضافية حول ما كان قبله.
هذا الكون، الذي كان أصغر بمليارات المرات من حجم رأس إبرة، كانت الكثافة والحرارة فيه أكبر من أن يتصورهما العقل البشري أو أن تضبطهما آلة قياس (10 32 درجة!!) وتطور أشواطاً هائلة خلال أجزاء صغيرة من الثانية وبوتيرة جنونية انخفضت معها حرارته إلى عشرة ملايين درجة، ثم مرحلة سميت
(بالعصر التضخمي) كبر فيها مقدار (10 50 مرة) صار معها على شكل بالون متمدد كانت المادة مرتسمة في جزيئاتها الأولى: كوارك، الكترونات، فوتونات، بروتونات... الخ ثم انتقلت إلى طور ظهرت معه حقول القوة الأربعة: نووية شديدة، نووية ضعيفة، كهرطيسية وجاذبية، ثم تلا ذلك عقب مرور مائتي ثانية ظهور ذرات الهيدروجين والهليوم وتعاقبت المواد الأخرى مادة بعد مادة...
وفي غضون ملايين وملايين الأعوام غرق الكون في زوابع وأعاصير غازية وإشعاعية، وظهرت الأرض ومعها المجموعة الشمسية الكاملة بعد مرور ما يقارب العشرة مليارات من السنين.
لحسن الحظ، ترك الكون شواهد مادية لا تحصى عن أخبار ماضيه المثقل، نستعرضها لتكون دعامة تعزز الفكرة ولتتوضح لدى القارئ العزيز...
* الشاهد الأول: هو أن البنى النظرية للانفجار العظيم قد أفادت أنه منذ اللحظة التي انبثق فيها الضوء بالانفجار وأخذ بالانتشار في الفضاء، فإن طول موجته بعد برودة الكون، يفترض أن تكون مناسبة لحرارة ثلاثة درجات.
عملياً، التقط عدد من العلماء وأولهم (بينزياس وويلسون) عام 1965 هذا الإشعاع الحراري (الخفي) المندثر بكل الأرجاء الكونية بكثافة 400 فوتون / سم3، ونالا على أثره جائزة نوبل في الفيزياء، وقد تأكد وجود هذا الإشعاع مرة أخرى عبر قمر اصطناعي أمريكي أرسل خصيصاً لخارج الأرض عام 1989 وكانت النتيجة عينها، مؤكدة بذلك حصول الانفجار الكوني العظيم وداعمة بمنتهى الدقة للنظرية ونتائجها العملية كافة.
* الشاهد الثاني: هو حركة المجرات الحاصلة توسعياً، ذلك أننا لو أعدنا شريط الزمن إلى الوراء ورجعنا بالأحداث الكونية إلى الماضي كما لو كنا نعيد شريطاً متلفزاً بأحداثه، فإن المجرات المتباعدة أصلاً تأخذ بالتقارب وتنتهي إلى نقطة واحدة ولحظة واحدة.
إذاً فحركة المجرات المنتشرة، إنما هي نتيجة عملية لانبثاق المادة كلها من مصدر وأصل واحد وبشكل انفجاري توسعي...
* الشاهد الثالث: وهو الأهم يرتكز على أن الفلكيين قد لاحظوا أن 98% من مادة النجوم والمجرات مؤلفة من الهيدروجين والهليوم، وهما العنصران الكيمائيان الأبسط في الكون، وتبين أيضاً أن كتل المجرات تتوزع بنسبة 4/3 قيمتها هيدروجين والربع الباقي هليوم... لا شيء يفسر هذا التوافق الدقيق سوى نظرية الانفجار، إذ إن هذه العناصر تحديداً، على ما هي عليه داخل النجوم، وبالنسبة الدقيقة المذكورة آنفاً ليست إلاّ بقايا انفجار، جمعتها قوى الجاذبية وركزتها بكتل كروية تشهد على أصلها الأول...
إذاً، فمع تقدم سبل العلم وإبداع العقل البشري في ربط الأسباب بالنتائج، تتفتح آفاق كبرى من المعرفة المتعلقة بأصل الحياة ونشأتها، لتطرح بدورها قضية أكبر وأشد خطورة على الإنسان، نعني بذلك المستلزمات التي تبحث في دور الإنسان في الكون وعلاقته بالأصل المدبر والمصور والقاهر للمادة في مراحل حركتها الهائلة كافة والذي يصف أدوات النشأة الكونية المؤلفة من الكوارك والالكترون والبروتون وغيرها بالدخان بقوله سبحانه في محكم آياته:
(ثُمّ اسْتَوَى إِلَى السّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) فصلت / 11.
ولعلنا نفهم من فكرة الانفجار العظيم وحيثياتها بعضاً من مغزى الآية الكريمة: (أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّ السّماوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) الأنبياء / 30، بحيث يخاطب سبحانه المعاندين والقاسية قلوبهم داعياً إياهم للتدبر والتفكر في كيفية إجراء النشأة والخلق الذي يتوضح بدقة مع وضوح المسار العلمي ونتائجه الهائلة المتآخية مع البيان القرآني الرائع، فتكون كل المقدمات والشروحات العلمية الباحثة في الانفجار وتفاصيله الممتدة عبر ملايين وملايين السنين صوراً حية لعملية فتق المادة وفصل حالة الصلب عن حالة الغاز فيها، وتكون بذلك صوراً إعجازية قرآنية من بين كلمات الله التامة التي لا تحصى.
الكون المتمدد:
ومنذ لحظة الانفجار الأولى لا يزال الكون يتمدد بسرعة ثابتة وبوتيرة عالية وفي كل الاتجاهات، وصارت اليوم مسألة التمدد الكوني حقيقة من حقائق العلم الثابتة التي لا يرقى إليها الشك.
بدايات ذلك كانت مع العالِم (أدوين هابل) عام 1924 عندما اكتشف أن أربعين مجرة متناثرة في الكون تبتعد عنا بسرعة واحدة وفي كل الاتجاهات، ثم تبين لاحقاً أن المجرات كلها وبدون استثناء تتنافر وتبتعد عن بعضها البعض، الأمر الذي يعني انطلاقها كلها من نقطة واحدة تتوزع اشلاؤها في الأرجاء مبتعدة عن حالة التكاثف التي ظهرت منذ البداية.
استدل الفيزيائيون على ذلك أيضاً من خلال الشعاع الخفي الذي سبق ذكره، كونه قد بدأ متدفقاً من نقطة واحدة ومنذ لحظة أصلية هي لحظة بدء الكون وفي كل الاتجاهات، مؤكداً لنا أن الكون كله آخذ في التمدد والانتشار شأنه في ذلك شأن الشعاع الخفي المعتبر كجزء من عناصر الكون المتحركة فيه ومعه.
الدليل الآخر استُمد من دراسة الضوء الواصل إلينا من المجرات والقائم على ظاهرة (دوپلر) والتي مفادها:
أن طول الموجة الكهرطيسية المرسلة من مصدر ما متحرك وغير ثابت، يكون بالنسبة للمراقب الثابت مائلاً إما للتمدد أو للتقلص حسب مقدار السرعة واتجاهها.
وبنتيجة تحليل ضوء المجرات، لاحظ (هابل) أن الضوء يميل بشكل واضح إلى اللون الأحمر أي إلى الموجات الطويلة، بمعنى أن المجرات تسبب من خلال حركتها الابتعادية عنا تمدداً في الموجة لتصل مائلة إلى الطيف الأحمر... والنتيجة إذاً أن المجرات تتحرك متباعدة هاربة من بعضها البعض إلى مرحلة قد تحددها الطاقة الكامنة في داخل الكون بحيث لو بقيت كافية لاستمر الكون في التمدد ولو قلّت لتوقف التمدد وعاد الكون لينكمش من جديد بتأثير قوى التجاذب الهائلة فيه، واصلاً بذلك لمرحلة الصفر تماماً مثلما انطلق منفجراً...
استناداً إلى المصداقية والجزم بنتائج التمدد الكوني، وانطلاقاً من مستوى اليقين الذي بلغته، نستطيع، بنقلة إلى الأجواء القرآنية المجيدة أن نفهم الآية الكريمة:
(وَالسّماءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ) الذاريات / 40.
جاعلة بذلك أشد حقائق العلم حداثة وثباتاً تفسيرات مباشرة لآيات الله الإعجازية في كتابه الشريف، التي قدمها سبحانه لكي يعقل بها أولو الألباب ودعاهم للتسليم لإرادته ونهجه، بحيث تصبح مثلاً من أمثلة عديدة ترشدهم وتدلهم على الأسلم في التفكير قبل الانطلاق والعمل، وفي ذلك قال تعالى:
(وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) الكهف / 54.
ومع تكامل شروط العلم التجريبي مع شروط معرفة الله سبحانه، ربما نفقه ونعي بعضاً من طيات معاني الآية الكريمة: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) الزمر / 9.
النجوم على مسرح التوازن الكوني:
في أغوار الكون النائية تحصل أحداث بالغة الهول والعظمة، لا تشعر بها سوى المراصد ووسائل المراقبة المتطورة ولا يسترها عن عين الإنسان سوى بعد المسافة الخارجة عن أطر التصور والخيال، وترتبط أهمية الأحداث هذه، على بعدها عنا، بمقدار تأثيرها على مسألة التوازن الكوني، وتأتي ولادة النجوم وموتها على رأس القائمة...
تعتبر الفوارق العظمى في الحرارة بين نقطتين داخل فضاء الكون أساساً لإيجاد سيول جارفة مما يسمى (بالسديم الكوني)، الذي يحوي المكونات الأساسية للمادة (بروتون، الكترون، ميزون، كوارك...)، تماماً على النحو نفسه الذي تسبب فيه فوارق الحرارة بين مكانين على سطح الأرض في تحريك الرياح من المناطق الباردة باتجاه المناطق الساخنة.
ومع الزمن يشكل تراكم السيل السديمي تجمعاً مادياً ثقيلاً ذا حركة دورانية عالية السرعة والطاقة يكون بها في أول مراحل ولادة النجم...
ومع الحركة العشوائية، تكثر التصادمات العنيفة بين محتويات السديم وترتفع بفعل ذلك درجة الحرارة إلى عشرة ملايين، ثم تتشكل مع الضغط الرهيب نوى غاز الهليوم، ويأخذ النجم المتشكل باللمعان والتوهج من جراء الحرارة النووية الآتية من أحشائه، على النحو الذي نراه فيه برجاً متألقاً يقبع زاوية من زوايا الفضاء البعيد، مسجلاً روعة من الروائع المخطوطة على صفحات الكتاب الكوني، يقول فيها صانع الحكمة والروعة تعالى: (تَبَارَكَ الّذِي جَعَلَ فِي السّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً) الفرقان / 61.
وتسجّل الحرارة مرة جديدة ارتفاعها لتصل إلى مليارات الدرجات، لتصبح مضرة بتماسك النجم، وتمزق بتأثيرها الشديد القوى النووية للذرات المتشكلة من هيدروجين وهليوم وسواها، وتحدث بذلك انفجاراً نووياً هائلاً يندثر فيه النجم ويتبدد في الفضاء ككتلة متفجرة (سوبر نوفا Supernova) بطاقة توازي مئة مليون شمس كشمسنا نحن، ويخلّف في الفضاء ما يسمى بالغبار الكوني الذي يكون حجر الأساس لظهور الكواكب، إضافة إلى عناصر أكثر رقياً كأوكسجين وآزوت وغيرها من المواد اللازمة للحياة، ويتقدم دور الأوكسجين على غيره من خلال قدرته على التفاعل مع سائر المعادن ليؤلف بذلك، أول أنواع الجزيئات في الكون...
وتتجلى اللطائف الإلهية في أن الشمس المجاورة لنا واللازمة لحياتنا على سطح الكوكب الأرضي، تقترب من مرحلة الانفجار، بل إن نهايتها محكومة بالانطفاء وخروج المادة المكونة لها على شكل دائري اندثاري، ويقدر علماء الفلك أن ذلك لن يحصل قبل مضي خمسة مليارات سنة.
إنها باختصار الحلقة التي تسير بها النجوم من حياة وموت وتجدد ولادة، تمهد من خلالها لإيجاد الظروف المناسبة لانطلاقة الحياة داخل الكون عبر ما تخلّفه في الفضاء الرحب من مواد ومركبات وجزيئات أساسية. وتلك الانفجارات رغم صورتها العبثية في أغوار السماء ظاهراً، إنما هي عقدة من عقد خيط التوازن الكوني لا تخرج بأي من مراحلها عن أطره وقوانينه، وتتحلى، إضافة إلى ما تملك من سحر وروعة وتألق يبهر الأبصار والأفئدة، بانضباط تام وتجانس تتماثل فيه قوانينها مع القوانين نفسها التي تنبينا عنها الذرة وسائر العوالم المتناهية في الصغر، مما يؤكد على تكامل الخلق وتناسقه حيثما جال العقل والفؤاد، فيحمل بذلك رسالة هامة أخرى من رسائل التوحيد للأصل والصانع، تذكّر الناس كافة بمسؤولياتهم تجاه قضية الوجود والدور والهدف من خلق العباد والجماد، ليكون الجواب من خلال الآية الكريمة:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات / 56.
الحياة على الأرض:
يعتبر شرطا الحرارة (المناخ) والماء أساسيَّين لتوفر الحياة على سطح كوكب ما، والمقصود بالحرارة هو النسبة الدقيقة التي يتحملها جسم الإنسان لتكفل استمراريته، بحيث لو قلّت أو كَثُرت لأدت إلى الهلاك وانقراض الأنواع الحية كافة.
ومما لا شك فيه أن الحرارة على الأرض تتأتى من مصدرين اثنين:
الأول: من جراء التصادمات الرهيبة لمختلف مكونات الأرض التي حدثت في طور الولادة حيث كانت الأرض مجرد سائل خليط من معادن وأملاح وشوائب تجمعت بتأثير الدوران السريع حول نفسها، ثم تشكلت القشرة الأرضية وبردت بينما استمر العمق بالغليان معبراً عن نفسه أحياناً من خلال الزلازل والبراكين.
الثاني: هو خاصية النشاط الإشعاعي (Radioactivity) لبعض المواد المشعة الموجودة في باطن الأرض.
هذا بالطبع، إضافة إلى الحرارة الآتية من خارج الأرض وتحديداً من الشمس التي تؤمّن الشروط الهائلة والمتضافرة سوياً لحركة الأحياء على كوكبنا.
أما الماء فأول مرحلة تواجد فيها داخل الكون كانت على شكل طبقات جليدية غلفت حبيبات الغبار الكوني التائه في فضاء ما بين الكواكب وتجمع حول القشرة الأرضية أثناء تشكل الطبقة الغازية وهطل المطر ظهرت المحيطات والأنهار...
وقد يتوقف الإنسان ملياً أمام ظاهرتي الحرارة والمياه المتوفرين بدقة وإحكام فقط على سطح الأرض دون غيرها من الكواكب، وهما المسؤولان عن عناصر الحياة الأخرى كالرياح والضغط وتوزع النسب الكيميائية في الغاز والصلب، وكذلك تعاقب الفصول والليل والنهار، إضافة إلى ملايين وملايين الشروط التي لم تتواجد قط في كوكب آخر في أرجاء الكون الفسيح، وحده المشتري (Jupiter) يمتلك خواصاً كثيرة مشابهة لخواص الأرض من غلاف جوي وحرارة إنما لا حياة فيه البتة.
أما الماء، فلسنا بحاجة لتبيان ضرورته فمنه صار كل شيء حي لكنه وليد قصة تحولات طويلة وتفاعلات ساقتها اليد الإلهية عبر رحلة معقدة من نواحي الكون المتعددة وجمعتها على الأرض، ومن خلال الماء أراد الله تعالى للبشرية أن تكون فكانت.
وقد يتعجب القارئ لو ذكرنا أنه وعلى المستوى الكوني، يعتبر الماء الذي نستسهل دوماً التصرف به مادة في غاية الندرة ويذهب العلماء أحياناً إلى القول إنه أغلى وأثمن من الذهب الذي قد نستغني عنه، فيما تنطلق بالماء ومعه صور الحياة وألوان التوازن فيها كافة وتتوقف بدونه...
ثمة سؤال هنا يفرض نفس، أليس وجود الماء مجمّعاً من زوايا الكون ومحبوساً على الأرض آية بليغة تخاطب العقول والألباب لتتجه بها إلى الأصل المتجلي في عظيم وجوده؟
ألا يحمل تحول الماء من طبقات تغلّف الغبار الكوني التائه في فراغ الفضاء وتأمينه لبني الإنسان دعوة مستمرة له للارتباط بالله والسير وفق أوامره وإرادته؟
إن إرادة الله شاءت أن يسير ابن آدم محتاجاً إلى الماء من دون أن يقدر على الاستغناء عنه والاتيان بالبديل، فكيف إذاً يحق لمن لا يقدر على الخروج عن القانون الإلهي ولمن يحتاج دوماً إلى الرحمة والرفق في كل لحظة وطرفة عين أن يستغني عن النظام الإلهي على مستوى القضايا الكبرى وينفرد لكي يحكم ويلتزم بغير ما أنزل الله سبحانه؟...
تجدر الإشارة إلى أنه وللآن ما زال السؤال الرباني للآدميين حول إعجاز الماء دون جواب:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَعِينٍ) الملك / 30.
ختام:
تلك كانت المحطات الأساسية في تاريخ الكون منذ نشأته وصولاً إلى مرحلة وجود الأحياء على سطح الأرض، لمسنا فيها بوضوح الرقابة والعناية الإلهية ترفد الكون بعناصر الضبط والتوازن التي لا تلبث أن تكون لطائف رحيمة للخلق.
وبقدر ما يتعمق العقل البشري في شق عباب أسرار الله في خلقه، وبقدر ما تعظم ميادين التأمل فثم سحر الخلق وروعته، يحدث عن وجه الله وبديعه، فينهر أعماق الوجدان الإنساني ويناديه باستمرار لأن ينتظم مع حركة الكون العبادية الارتقائية، وليتناغم مع سائر المخلوقات تحقيقاً لهدف تكاملي يحمل روح الحق والعدل والنظام كما تحملها الآيات والقوانين الإلهية، ذلك هو الهدف الأهم...
(فَأَيْنََما تُوَلّوْا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة / 115.
(الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ) آل عمران / 191.
ـــــــــــ
اعتمدتُ للموضوع المراجع التالية:
1 ـ علم الفلك، لين نيكلسون، ترجمة د. علي الأشهر، معهد الإنماء العربي.
2 ـ مجلات العلم والحياة عامي 92 ـ 93 .
3 ـ ما بعد اينشتاين، كاكو وترينر، ترجمة د. فوق العادة، منشورات أكاديميا 1991 .
4 ـ Patience dans I'azur, Hupert Reeves, seuil, Paris, 1988.