زيارة القبور.. بدعة أَم سُنّة ؟!
إنّ في زيارة القبور آثاراً: عقائدية، وأخلاقيّة، وتربوية.. فمُشاهدةُ الوادي الصامت الذي يضمّ بين جَنَباته الموتى، وفيهم الغني والفقير، والقويّ والضعيف، وأفواج الناس الذين رحلوا بقطعتَي قماشٍ ليس إلاّ.. إنّ مشاهدةً كهذه تَهزّ القلوب والمشاعر، وتُنبّه المرءَ إلى زوال الدنيا وانقضاء أيّامها وخطورة التعلّق بها، فالإنسان عنها راحل، تاركٌ كلَّ ما حصّل فيها، ثمّ ينتقل إلى عالَم القبر والبرزخ، ينتظر هناك يومَ البعث والقيامة، ثمّ العرض والحساب.. ليرى ما قدّمت يداه ولو كان مثقالَ ذرّةٍ مِن خيرٍ أو شرّ، يَومئذٍ يَصْدُرُ الناسُ أَشتاتاً لِيُرَوا أعمالَهم * فَمَن يَعملْ مِثقالَ ذَرّةٍ خيراً يَرَهُ * ومَن يَعمَلْ مِثقالَ ذرّةٍ شَرّاً يَرَهُ [ سورة الزلزلة:6 ـ 8 ].
* * *
إنّ ذِكر الموت غالباً ما يرتبط بزيارة القبور، حيث العِبرة واليَقَظة، وحيث الانتباهةُ من الغفلة والصحوةُ من الغرور والطيش والتمادي. وإذا كان صاحب القبر إنساناً قريباً من الله تعالى: نبيّاً أو وصيّاً، وليّاً أو عبداً صالحاً، فإنّ الزائر يكسب بزيارته الأجر والفائدة معاً، إذ يَنْشدّ إلى أحبّاء الله، وفي ذلك مقربة من الله عزّجَلّ.
ولهذا جاءت عشرات الأحاديث الشريفة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله تحثّ على زيارة القبور، لأنّ فيها الموعظة والعِبرة.
ـ روى ابن ماجة في ( سننه 113:1 ـ باب ما جاء في زيارة القبور ) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: « زُوروا القبور؛ فإنّها تُذكّركمُ الآخرة ».
ـ وأورد الترمذيّ في ( سننه 274:3 ـ أبواب الجنائز ) عن بُرَيدة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: « كنتُ قد نَهيتُكم عن زيارة القبور، زُوروها؛ فإنّها تُزهِد في الدنيا، وتُذكّر بالآخرة ».. قال الترمذي بعد روايته هذا الحديث: حديث بُرَيدة صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم لا يَرَون بزيارة القبور بأساً.
نعم، أمّا النهي السابق لزيارة القبور إن صحّ، فإنّ أصحاب السِّير ذكروا أنّ بعض المسلمين ممّن كانوا حديثي عهدٍ بالإسلام، كانوا يزورون قبور موتاهم من المشركين، فجاء النهي يقطع قلوبَهم عن التعلّق بهم.
ـ وجاء في ( صحيح مسلم 65:3 ـ باب استئذان النبيّ ربَّه عزّوجلّ في زيارة قبر أُمّه ) أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله زار قبر أُمّه فبكى وأبكى مَن حوله، وقال: « استأذنتُ ربّي في أن أزور قبرها فأذِن لي، فزوروا القبورَ فإنّها تُذكّركمُ الموت ».
ولعلّ هذا من أوضح الأدلّة على أنّ أُمَّ النبيّ صلّى الله عليه وآله آمنة بنت وهب كانت ـ كآبائها وأجدادها ـ مؤمنةً مُوحِّدةً حنيفيّة على دِين جَدّها إبراهيم الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام.
ـ وذكر ابن ماجة في ( سننه 114:1 ) أنّ عائشة قالت: إنّ رسول الله رخّص في زيارة القبور.
ـ أمّا النَّسائيّ، فقد أورد في ( سننه 76:3 ) أنّ عائشة لمّا أرادت زيارةَ قبور البقيع والاستغفارَ لأهلها سألت: كيف أقول يا رسول الله ؟ فأجابها صلّى الله عليه وآله: « قُولي: السلامُ على أهلِ الديار من المؤمنين والمسلمين، يَرحمُ اللهُ المستَقْدِمينَ منّا والمُستأخِرين، وإنّا إن شاء اللهُ بِكُم لاحقُون ». وذكَرَ النصَّ أيضاً مسلمٌ في ( صحيحه 64:3 ـ باب ما يُقال عند دخول القبر ).
* * *
والآن نتساءل: مَن يَكذِّب المحرِّمون لزيارة القبور: أيكذّبون الرواياتِ لتي تسالَمَ عليها المحدِّثون ؟! أم الرواةَ الذين يوثَّقون ؟!
أم آراءَ العلماء الذين بجوازِ زيارة القبور يُفتون ؟!
ـ سُئل أحمد بن حنبل إمامُ المذهب الحنبلي عن تقبيل قبر النبيّ وتقبيل مِنبره، فأجاب: لا بأس. هكذا نقل أحمد بن محمّد المُقري المالكي في كتابه ( فتح المُتعال بصفة التِّعال ).
ثمّ ما هو رأي المحرّمين لزيارة القبور بسيرة الصحابة وقد تواترت أخبارهم أنّهم زاروا المقابر، ثمّ زارهم المسلمون بعد وفاتهم في المقابر ؟! ( يراجع: الرياض النضرة لمحبّ الدين الطبري الشافعي ـ وهو مِن مشاهير علماء السنّة ـ ج 2 ص 54 ).
ثمّ أين الأيدي التي تقبض على المعاول تهمّ بتهديم قبر النبيّ بعد تهديمها لقبور أئمّة البقيع، أين هي عن الأضرحة المشيَّدة على قبور: مالك بن أنس وأبي حنيفة وعبدالقادر الگيلاني، والشافعي، وعشرات العلماء والشخصيّات المعروفة ؟!
نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام