عن عائشة قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشئ لا ادرى ما هو فأغضباه فلعنهما وسبهما...
صحيح مسلم - مسلم النيسابوري - ج 8 - ص 24
( حدثنا ) زهير بن حرب حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشئ لا ادرى ما هو فأغضباه فلعنهما وسبهما فلما خرجا قلت يا رسول الله من أصاب من الخير شيئا ما اصابه هذان قال وما ذاك قالت قلت لعنتهما وسببتهما قال أوما علمت ما شارطت عليه ربى قلت اللهم إنما انا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا
نقول :
اللعن رفض وإدانة : وسواء ثبت لدينا : أن النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) قد لعن رعلا وذكوانا ، وبني لحيان ، ومضر إلخ . أم لا ، فإن لعنه لبعض الناس ، ثابت لا ريب فيه . وليس ذلك لأجل أن اللعن سلاح العاجز ، الذي لا يجد حيلة للتعبير عن مشاعره الثائرة إلا ذلك ، إذ أنه ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن لينطلق في مواقفه كلها من حالة انفعالية طاغية ، ومن إندفاع عاطفي غير مسؤول ، بهدف التنفيس عن حقد دفين ، وانسياقا مع إنفعالات طائشة .
وإنما يريد ( صلى الله عليه وآله ) أن يلقن الناس جميعا عن طريق الشعور واللاشعور ويؤدبهم ، ويعلمهم : أن الاعتداء على الأبرياء ، والغدر ، والخيانة ، ونقض المواثيق والذمم ، وكذلك جميع أشكال الانحراف وأنحائه .
إن كل ذلك مرفوض جملة وتفصيلا ، ولا بد من تربية الوجدان على الاحساس بقبحه ورذالته ليصبح النفور منه ، والابتعاد عنه بصورة عفوية حالة طبيعية ، وواقعية ذات جذور ممتدة في أعماق الانسان ، وفي صميم ذاته .
ولا بد من الاعلان بإدانة الانحراف ، انطلاقا من المثل والقيم الإلهية ، بأسلوب اللعن ، الذي هو طلب البعد عن ساحة القدسي الإلهي .
فاللعن إذن أسلوب تربوي بناء ، وليس موقفا سلبيا عاجزا ولا مهينا . ولأجل ذلك نجد القرآن الكريم لا يزال يؤكد على لزوم التبري من أعداء الله ، والتولي لأوليائه ، ويعلن الله سبحانه بلعن فئات كثيرة ، كالكاذبين والظالمين ، والبراءة منهم . بل ويشير إلى وجود لاعنين آخرين ، حيث قال سبحانه وهو يتحدث عن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى : * ( أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) * ( 1 ) .
وبعد ما تقدم ، فلا يمكن لنا أن نصدق ، أنه ( صلى الله عليه وآله ) قد لعن أحدا لا يستحق اللعن . وإلا ، لكان ( صلى الله عليه وآله ) ليس فقط لا ينطلق في تعامله ومواقفه من موقع المسؤولية والانصاف . وإنما من موقع العاطفة والطيش والانفعال ، وحاشاه .
وذلك لو صح لوجدنا أنفسنا مضطرين لطرح التساؤلات الجدية حول عصمته ( صلى الله عليه وآله ) . لا سيما إذا كان لعنا لاحد المؤمنين ، فإن لعن المؤمن كقتله ، أو لاعن المسلم كقاتله ، كما روي عنه ( صلى الله عليه وآله ) نفسه ( 2 ) .
ومن هنا فلابد من رفض وعدم التصديق بالحديث الذي يقول : إن رجلين كلماه ( صلى الله عليه وآله ) ، فأغضباه ، فلعنهما وسبهما ، فلما خرجا سألته عائشة عن ذلك . فقال لها : أما علمت ما شارطت عليه ربي ؟ ! قلت : اللهم إنما أنا بشر ، فأي المسلمين لعنته ، أو سببته ، فاجعله له زكاة وأجرا . زاد في لفظ آخر : أو جلدته . وفي لفظ ثالث : إنما أنا بشر ، أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب البشر إلخ . . . وثمة نصوص أخرى ، فلتراجع في مصادرها ( 3 ) .
نعم لا بد لنا من رفض أمثال هذه الأحاديث ، المزعومة لأنها تعني لنا :
1 - الطعن في عصمته ( صلى الله عليه وآله ) .
2 - لقد كان على المسلمين والحالة هذه أن يتعرضوا له ( صلى الله عليه وآله ) ليلعنهم ويسبهم لتنزل عليهم الرحمات وتعمهم البركات ، وكان يجب أن نراهم يتسابقون لذلك ، ويحتالون له بلطائف الحيل ، أم يعقل أن يكونوا قد زهدوا جميعا بالاجر والثواب ؟ !
3 - لقد كان ينبغي أن يعتز الملعونون كأبي سفيان ومعاوية والحكم ومروان بهذه اللعنات ، ويباهوا بها ويتفاخروا ، ويعدوها من مآثرهم . ولكان من القبيح جدا أن يعيرهم بها المسلمون ، ويتخذوها وسيلة للطعن عليهم ، فلم يكن يصح من علي ولا من عائشة ، ولا من أبي ذر ، ولا من سائر صحابة أمير المؤمنين تسجيل هذا الطعن على خصومهم في مختلف الموارد والمناسبات .
4 - تصويره عليه وعلى آله الصلاة والسلام أنه إنسان طائش ، يثور لأسباب تافهة ، فيعصف ويعربد ويتفوه بما لا يليق ، ثم يتراجع ، ويهدأ ، ويحاول إزالة الآثار السيئة لتصرفاته الصبيانية ، ويلتمس لها المبررات .
5 - ولا ندري أية قيمة تبقى للأحاديث التي تصر وتؤكد على أنه ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن لعانا ، ولا سبابا ( 4 ) .
6 - كما أنه لا يبقى معنى للحديث الذي يقول : إنه ( صلى الله عليه وآله ) ، قال : ( اللهم وما صليت من صلاة ، فعلى من صليت ، وما لعنت من لعنة ، فعلى من لعنت ) ( 5 ) .
7 - وكيف نفسر أيضا قوله ( صلى الله عليه وآله ) : ( من لعن شيئا ليس له أهل رجعت اللعنة عليه ) ( 6 ) .
السر الخفي : والذي نفهمه : هو أن ثمة يدا تحاول التلاعب ، وتعمل على اغتيال الحقيقة وتشويهها ، بهدف تمييع مواقفه ، وافراغها من زخمها ، وإبطال آثارها . تلك المواقف ، التي لعن فيها ( صلى الله عليه وآله ) بعض الشخصيات التي يهمهم أمرها ، ويحترمونها ، فعز عليهم ذلك ، وآثروا أن يتلاعبوا بحديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، بل ورجحوا الطعن في توازنه ( ص ) ، وحكمته ، ويقينه ، ومتانة شخصيته ، وحتى في عصمته ، في سبيل حفظ أولئك الذين يحترمونهم ويقدسونهم من أن تمس شخصياتهم بأي سوء أو هوان . وليس قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن معاوية لا أشبع الله بطنه ( 7 ) .
ثم لعنه ( صلى الله عليه وآله ) للحكم بن أبي العاص ، وما ولد ( 8 ) .
ولعنه الذين سبقوه إلى الماء في تبوك ( 9 ) .
والشجرة الملعونة في القرآن يعني بني أمية ( 10 ) .
وإخباره ( صلى الله عليه وآله ) أن الله سبحانه قد أمره بأن يلعن قريشا مرتين ، فلعنهم ( صلى الله عليه وآله ) ( 11 ) . إلى غير ذلك من موارد لهج فيها ( صلى الله عليه وآله ) بلعن أولئك لذين يعزون عليهم .
نعم ليس كل ذلك إلا الجرح الذي لا يندمل ، والمصيبة التي لا عزاء لها إلا يضرب وإهانة شخص الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ولو عن طريق التزوير الرخيص .
والكذب الصراح حتى على الله ورسوله ، والعياذ بالله . ولا ندري بعد هذه الأكاذيب والأباطيل كيف يفسرون لعنه ( صلى الله عليه وآله ) لأولئك الذين تلبسوا ببعض العناوين الساقطة والمرفوضة إسلاميا كلعنه للمحتكر ، وشارب الخمر ، وساقيها وغيرهما ، وآكل الربا ، والذي يلبس لباس المرأة ، والرجلة من النساء ، ومن قطع السدر ، والنائحة ، والمستمعة ، ومن هو مثل البهيمة ، والواشمة ، والمستوشمة ، ومن جلس وسط الحلقة ، ومن غير منار الأرض . إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه .
ويمكن مراجعة مادة ( لعن ) في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ، وكتاب الترغيب والترهيب ، وأي كتاب حديثي آخر .
فإن الذي ذكرناه ما هو إلا غيض من فيض ، وقطرة من بحر ، وقد أتى العلامة الأميني رحمه الله تعالى ، في كتابه القيم ( الغدير ) بشواهد كثيرة ومتنوعة لكثير مما يدخل في سياق ما ذكرناه ، فليراجعه من أراد .
____________________________
( 1 ) البقرة : 159 .
( 2 ) راجع : صحيح البخاري ج 4 ص 38 وسنن الدارمي ج 2 ص 192 وصحيح مسلم ج 1 ص 73 والجامع الصحيح للترمذي ج 5 ص 22 ومسند أحمد ج ص 33 .
( 3 ) صحيح مسلم ج 8 ص 24 و 25 و 26 و 27 وسنن الدارمي ج 2 ص 315 ومسند أحمد ج 2 ص 317 و 390 و 449 و 488 و 493 و 496 و ج 3 ص 33 و 391 و 400 و ج 5 ص 437 و 439 و ج 6 ص 45 والبداية والنهاية ج 8 ص 119 والغدير ج 8 ص 89 عنه و 252 عن صحيح مسلم وعن صحيح البخاري ج 4 ص 71 كتاب الدعوات .
( 4 ) راجع : صحيح مسلم ج 8 ص 24 ودلائل الصدق ج 1 ص 416 عنه وراجع : الغدير ج 11 ص 91 و ج 8 ص 252 وصحيح البخاري ج 4 ص 38 و 37 .
( 5 ) مسند أحمد ج 5 ص 191 .
( 6 ) المعجم الصغير ج 2 ص 70 .
( 7 ) صحيح مسلم ج 8 ص 27 والبداية والنهاية ج 8 ص 119 والغدير ج 11 ص 88 عنهما وعن أحمد والحاكم وغيرهم وليراجع كلام ابن كثير الذي ذكر أن معاوية قد انتفع بهذه الدعوة في دنياه واخراه ! ! .
( 8 ) مسند أحمد ج 4 ص 5 وقد ذكر العلامة الأميني أحاديث لعن الرسول للحكم بن أبي العاص وما ولد في كتابه القيم الغدير ج 8 ص 243 - 250 عن عشرات المصادر المعتمدة لدي إخواننا أهل السنة ، فنحن نحيل القارئ عليه ، ونطلب منه الرجوع إليه .
( 9 ) صحيح مسلم ج 8 ص 123 ومسند أحمد ج 5 ص 454 و 391 .
( 10 ) تفسير العياشي ج 3 ص 297 و 298 وتفسير القمي ج 2 ص 21 ومجمع البيان ج 6 ص 434 وتفسير البرهان ج 2 ص 424 عمن تقدم ، عن الثعلبي ، وفضيلة الحسين . وراجع : الدر المنثور ج 4 ص 191 عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر والغدير ج 8 ص 248 - 250 عن عشرات المصادر فليراجع إليه من أراد .
( 11 ) مسند أحمد ج 4 ص 387 وزاد : وأمرني أن أصلي عليهم ، فصليت عليهم مرتين . .