عربي
Tuesday 26th of November 2024
0
نفر 0

النبوة العامة

تمهيد
النبوة سفارة بين الله وبين ذوي العقول من عباده؛ لتدبير حياتهم في أمر معاشهم ومعادهم، والنبي هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بإحدى الطرق المعروفة.
والاعتقاد بأن الله سبحانه قد بعث أنبياء ورسلا، لترسيخ التوحيد بين الناس وشجب أي عبادة سواه، يعتبر من عناصر الإيمان الأساسية،ولكي تتضح الصورة أكثر عقدنا مقالتين لبحث النبوة، احدهما في النبوة العامة والأخرى في النبوة الخاصة، وإليك البحث فيهما على الترتيب:

1- معنى النبوّة:
أولاً: المعنى اللغوي: يوجد هنا قولان:
احدهما: إن لفظ النبي مأخوذ من النبأ، بمعنى الخبر، والنبي هو: المخبر عن الله تعالى، وسمى بذلك لأنّ عنده نبأ الغيب بوحي من الله تعالى، قال الراغب الأصفهاني: النبأ (محركة) الخبر، الجمع: أنباء...، والنبي: المخبر عن الله تعالى،... إلى آخر كلامه(1).
ثانيهما: أنه مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة، سمي به لرفعة قدره، قال ابن منظور حكاية عن الفراء: النبي: إن أخذ من النبوة والنباوة، وهي الارتفاع عن الأرض، أي إنّه أشرف على سائر الخلق، فـ...الخ(2).
فالنبي في الإطلاق اللغوي إما أن يكون مأخوذ من النبأ بمعنى الخبر، وإما أن يكون قد اخذ من النبوة بمعنى الرفعة.
ثانياً: المعنى الاصطلاحي: استعمل النبي في اصطلاح علماء الكلام بمعنى الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر وإنّما بواسطة الوحي، أعم من أن يكون له شريعة كنبينا محمد  ، أو ليس له شريعة كنبي الله يحيى (عليه السلام)، وأعم من أن يكون مأمور من الله تعالى بتبليغ الأوامر والنواهي إلى قوم أم لا، قال الشيخ المفيد: النبي هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر(3).
وقال المحقق الحلي: النبي هو البشري المخبر عن الله تعالى بغير واسطة من لبشر(4).
فبقيد الإنسان ( والبشري ) يخرج الملك، وبقيد المخبر عن الله تعالى يخرج المخبر عن غيره تعالى، وبقيد عدم واسطة بشر يخرج الإمام والعالم، فإنهما مخبران عن الله تعالى بواسطة النبي  ، وبما ذكرنا من قيد الوحي يخرج المحدَّث كسيدتنا فاطمة الزهراء  .
والوحي نوع تكليم إلهي تتوقف عليه النبوة، قال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إليكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ)(5). وسيأتي الكلام عنه لاحقاً.

2- الفرق بين النبي والرسول
إن الفرق بين النبي والرسول هو كون الرسول صاحب شريعة بخلاف النبي فإنه أعم من كونه صاحب شريعة أم لا، قال الشيخ المفيد:
النبي هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر، أعم من أن يكون له شريعة كمحمد  ، أو ليس له شريعة كيحيى  ...، والرسول هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة من البشر وله شريعة أما مبتدئة كآدم  أو تكملة لما قبلها كمحمد  (6).
وقريب منه القول بأنّ النبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله تعالى من هداية الناس إلى سعادتهم، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكةً أو عذاباً أو نحو ذلك(7).
ومن جمله الفروق الأخرى التي ذكرت بينهما هي أنّ الرسول وإن كان في وضع اللغة عبارة عن المؤدي عن غيره، لكنه قد صار بعرف الاستعمال عبارة عن المؤدي بغير واسطة من البشر، فيقع هذا الاسم على الملك المؤدي عن الله، وعلى البشري المخصوص باسم النبوة، ولا يقع اسم النبوة إلا على البشر خاصة دون الملك(8).
ثم إنّ الرسل يختلفون في الفضل والمرتبة، قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)(9)، وساداتهم هم أولو العزم، قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)(10)، ومعنى العزم هنا إمّا الصبر لقوله تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)(11)، وإمّا العزم على الوفاء بالميثاق المأخوذ من الأنبياء كما يشير إليه قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)(12)، وإمّا العزم بمعنى العزيمة وهي الحكم والشريعة.
وقد أشارت روايات أهل البيت  إلى هذا المعنى الأخير، ففي الكافي بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله  يقول: سادة النبيين والمرسلين خمسة، وهم أولو العزم من الرسل، وعليهم دارت الرحى: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء(13).
وفيه بإسناده عن سماعة ابن مهران قال: قلت لأبي عبد الله  قول الله عز وجل: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، فقال  : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم، قلتُ: كيف صاروا أولي العزم؟ قال: لأن نوحاً بعث بكتاب وشريعة، وكل من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه، حتى جاء إبراهيم  بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفراً به، فكل نبي جاء بعد إبراهيم  أخذ بشريعة إبراهيم ومنهاجه وبالصحف حتى جاء موسى بالتوراة وشريعته ومنهاجه، وبعزيمة ترك الصحف وكل نبي جاء بعد موسى  أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه حتى جاء المسيح  بالإنجيل، وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه، حتى جاء محمد  فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فهؤلاء أولو العزم من الرسل  (14).

3- فلسفة النبوة
أهم الغايات التي بعث من اجلها الأنبياء والرسل هي عبارة عن هداية البشرية وإرشادها لخالقها وموجدها، وقد انعم الله تعالى على ذرية آدم  بالهداية إلى الحق، وهيأ لهم أسبابها، فبعث فيهم الأنبياء والرسل.
وقد أعطيت الهداية الإلهية مجالاً واسعاً من البحث في الأبحاث الكلامية، فهي عنوان للفعل يدور مدار القصد؛ إذ الهداية في اللغة أما تأتي بمعنى إراءة الطريق، تقول: هديت فلاناً إلى أمر كذا إذا ذكرت له كيفية الوصول إليه أو أريته الطريق الذي ينتهي إليه.
وأمّا تأتي بمعني الإيصال إلى المطلوب، تقول: أخذت بيده وصاحبته في الطريق حتى توصله إلى الغاية المطلوبة.
فلو نظرنا إلى هذه الموارد نجد أن الواقع منها هو أقسام هذه الأفعال من ذكر الطريق وإراءته أو السير مع المُهدى، وأمّا الهداية فهي عنوان للفعل يدور مدار القصد.
وما ينسب إليه تعالى ويسمّى لأجله هادياً – وهو أحد الأسماء الحسنى – من صفات الفعل التي تنتزع من فعله تعالى كالرحمة والرزق ونحوهما.
ثم إن الهداية الإلهية تنقسم إلى نوعين:

الهداية التكوينية:
هي التي تتعلّق بالأمور التكوينية، كهدايته تعالى كل نوع من أنواع المخلوقات إلى كماله الذي خلق لأجله، نحو النواة التي تتكامل لتصبح في النهاية شجرة (نخلة) لا غير، فهداية الله تعالى هي التي أوصلتها إلى هذه الغاية دون غيرها، بل ذلك الغير لا يكون أبداً كما هو شأن التكوينيات. وقوله تعالى: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(15)، يشير إلى هذا النوع من الهداية، وكذا قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)(16).

الهداية التشريعية:
هي التي تتعلّق بالأمور التشريعيّة من الاعتقادات الحقة والأعمال الصالحة التي أمر بها تعالى والمنكرات التي نهى عنها تعالى، فوعد على الأخذ بالصالح جزيل الثواب وزجر وأوعد على المنكر بأليم العذاب.
وهذه الهداية تارة تكون بأرآءة الطريق كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(17)، وتارة تكون بالإيصال إلى المطلوب كما يشير إليه قوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)(18).
وقد أشارت بعض آيات الذكر الحكيم إلى حقيقة هذه الهداية، وأنها عبارة عن انبساط خاص في القلب يعي به القول الحق والعمل الصالح من غير أن يتضيق به، وهي أيضاً عبارة عن تهيؤ مخصوص لا يأبى به التسليم لأمر الله تعالى ولا يتحرج عن حكمه، بمعنى أنه يصبح مهيأ لقبول الحق، قال تعالى: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(19).
ومن أهم خصائص الهداية الإلهية هي أنها تورد المهتدين صراطاً مستقيماً وطريقاً سوياً لا تخلّف فيه ولا اختلاف، وأجزاء هذا الصراط – الذي هو دينه تعالى بما فيه من المعارف والشرائع – لا تناقض بعضها البعض بل هي متوافقة ومتناسقة؛ لأن الجميع يمثل التوحيد الخالص الذي هو حقيقة ثابتة مبنية على الفطرة التي لا تخطأ في حكمها ولا تتبدل في نفسها ومقتضياتها.
والهداة الذين جعلهم الله تعالى لهذا الصراط لا يأنفون بعضهم بعضاً، فالذي يدعو له نبي من أنبياء الله تعالى هو الذي يدعو إليه جميعهم من غير فرق إلاّ من حيث الإجمال والتفصيل، قال تعالى: (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ)(20).

4- ضرورة النبوة
أشار أساطين الفلسفة والكلام إلى عدة براهين في لزوم بعثة الأنبياء، نشير إلى بعضها إجمالاً:
البرهان الأول: بلوغ الإنسانية كمالها اللائق بها
الغاية القصوى في بعثة الأنبياء هي إيصال الإنسان إلى كماله اللائق به وهذه لا تحصل إلاّ بمعرفة الله تعالى والصعود إليه بسلّم العبودية.
وعلى الرغم من أن الإنسان يشارك بقية الموجودات في الهداية التكوينية التي وهبها الله تعالى له، إلاّ أنها غير كافية في إيصاله إلى ما خلق له، ولأجل ذلك أضيف إلى جانب هذه الهداية في الإنسان وسيلة أخرى تنير له الطريق في سيره نحو الله تعالى وحياته الدنيوية وتفي له بحاجاته التي تقصر عنها غرائزه، وهي العقل الذي اختص به الإنسان وتميز به عن سائر المخلوقات.
لكن هذا العقل غير مصون عن الخطأ ولذا احتيج إلى عامل ثالث إلى جانبه يسدده ويأخذ بيده للوصول إلى تلك الغاية، وهذا هو دور الأنبياء والرسل حين يأخذون بيد الإنسان بواسطة المعارف الإلهية والتشريعية ليوصلوه إلى ما خلق لأجله من كماله اللائق به وهو معرفة الله تعالى والوصول إليه تعالى.
ولعل أفضل الشواهد على عجز الإنسان وقصور يده في مجال المعارف الإلهية هو ما نشاهده اليوم من كثير من الأمم من انحطاط وتسافل في هذا الباب على الرغم من تقدمهم في المجالات الصناعية، فتسافلوا حتى عبدوا البقر والحجر.
ووجود نوابغ لديهم استعداد في معرفة الحق لا يعني كونهم معياراً في هذه المعارف، ولا يعني كونهم عارفين بالتوحيد الخالص أو كون الآخرين لديهم هذه القدرة.
وقد أشارت بعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت  لهذا البرهان، فقد روى الكليني (ره) عن هشام بن الحكم عن الإمام الكاظم  قوله: يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة(21).

البرهان الثاني: أحسن النظام
أقام هذا البرهان الشيخ الرئيس في الشفاء لإثبات ضرورة النبوّة، وخلاصته:
إن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنّه لا يحسن معيشته لو أنفرد وحده شخصاً واحداً يتولى تدبير أمره من غير شريك يعاونه على ضروريات حاجته، ولهذا اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات.
فإذن الإنسان يحتاج في بقائه إلى مشاركته، ولا تتم المشاركة إلاّ بمعاملة، كما لابدّ في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له، ولابدّ في المعاملة من سنةٍ وعدلٍ، ولابدّ للسنة والعدل من سانٍّ ومُعدلٍّ.
ولابدّ من أن يكون هذا - السان والمعدل- بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة، ولابدّ أن يكون إنساناً، ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون.
فالحاجة إلى هذا الإنسان الخاص من اجل أن يبقى نوع الإنسان ويتحصل وجوده، هي أشد من الحاجة إلى كثير من الأشياء التي لا ضرورة فيها في البقاء؛ كإنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين وتقعير الأخمص من القدمين وأشياء أخرى.
فلا يجوز أن تكون العناية الإلهية تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه، أعني النبوة والرسالة، التي هي أساسها.
وكذا لا يجوز أن يكون الباري تعالى يعلم ذلك ولا يعلم هذا، ولا يجوز أيضاً أن يكون ما يعلمه في نظام الخير الممكن وجوده، الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير، لا يوجد، بل كيف يجوز أن لا يوجد وما هو متعلق بوجوده مبني على وجوده.
فواجب إذن أن يوجد نبي، وواجب أن يكون إنساناً، وواجب أن تكون له خصوصية ليست لسائر الناس، حتى يستشعر الناس فيه أمراً لا يوجد لهم فيتميز به منهم(22).

البرهان الثالث: قاعدة اللطف
استدلت العدلية من المتكلمين على لزوم بعث الرسل بقاعدة اللطف(23)، قال الشيخ المظفر: قاعدة اللطف توجب أن يبعث الخالق اللطيف بعباده رسله لهداية البشر وأداء الرسالة الإصلاحية، وليكونوا سفراء الله وخلفاءه(24).
وحاصل كلامه: أنّ النبوة لطف، واللطف لازم كماله وصفاته تعالى، فالنبوة لازمة.
وحتى تتضح صغرى القياس، اعني كون النبوة لطف، تجدر الإشارة إلى بيان حاجة الإنسان إلى الرسل والأنبياء:
إن من جملة الغايات من إرسال الرسل هي بلوغ الإنسان إلى درجات السعادة؛ إذن أن الإنسان مركب من نوازع مختلفة بعضها خير وبعضها شرّ، فمن جهة جبل العواطف والغرائز وحب التغلب والاستطالة والاستعلاء على ما سواه والتكالب على الحياة الدنيا وزخرفها. ومن جهة ثانية خلق الله تعالى فيه عقلاً هاديا؛ً يرشده إلى الصلاح غير أنه غير كاف للإطلاع على جميع الحقائق وأسرار الأشياء المحيطة به، والمنبعثة من نفسه، فلا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما ينفعه أو يضره؛ ولهذا احتاج إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح، فلزم أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفاً بهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، حتى يصلوا إلى درجات السعادة القصوى، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  : فبعث فيهم رسله، وتواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويشيروا لهم دفائن العقول(25).
وقد أقام منكروا بعثة الرسل حجج واهية لعل أقواها هي قولهم: إن الرسول أمّا أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها، فإن جاء بما يوافق العقول لم يكن إليه حاجة وإن جاء بما يخالفها وجب ردّ قوله(26).
وجواب هذا الوهم واضح وهو أن القسمة غير حاصرة، فهناك شق ثالث هو إتيانهم بما لا تصل إليه العقول؛ لخروجها عن دائرته(27).

5- عصمة أنبياء الله تعالى
وهي لغة تعني المنع والمنعة والامتناع بالشئ واللجوء إليه، والتمسك والاستمساك والاحتماء به، وملازمته بعد طلبه وتحريه. كل ذلك إباء أو امتناعاً منعة وحفظاً للنفس من الوقوع في المحذور، كالغرق والجوع والمعصية والسقوط من الفرس والراحلة والضياع والابتلاء والفاحشة وغيرها من أفراد الشر التي تؤلم الشخص وتؤذيه.
هذا من طرف الشخص الطالب للعصمة وهو المعصوم أو المعتصم والمستعصم، وأما الشيء العاصم: فهو المدافع والمانع والمحامي والحافظ والموجب لعدم الوقوع في الشر والمحذور الذي يأباه الشخص المعصوم ويلتجأ بسببه إلى المانع والمحامي فيستأبى ويتمسك ويستمسك به طلباً للحماية والوقاية.
والعصمة الاعتصام بالله تعالى وهو اللجوء إلى لطفه سبحانه وتوفيقه، حيث يُهيأ تعالى بلطفه وتوفيقه ما يحفظ الشخص عن الشر وعن الوقوع في المعاصي والفواحش. هذا ما عليه علماء اللغة، قال الفراهيدي: «العصمة: أن يعصمك الله من الشر، أي يدفع عنك، واعتصمت بالله، أي: امتنعت به من الشر. واستعصمت أي أبيت. وأعصمت فلاناً: هيأت له ما يعتصم به. والغريق يعتصم بما تناله يده، أي: يلجأ إليه. والعصمة قلادة، ويجمع على أعصام»(28).
وأما في الاصطلاح فالمشهور عن العدلية أنها لطف لا داعي معه إلى ترك الطاعة ولا إلى ارتكاب المعصيّة مع القدرة عليها(29).
وعند الأشاعرة: أن لا يخلق الله فيهم ذنباً(30)، وقال المحقق الجرجاني في التعريفات: العصمة ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها(31).
وقد اتفقت كلمة المسلمين على جعل عصمة أنبياء الله تعالى كمبدأ وعقيدة من صلب الإسلام، إلاّ أنهم اختلفوا- كما يظهر من خلال كلماتهم- في مفهومها وحدودها ومصداقها.
والحق أن العصمة من حيث المفهوم هي عبارة عن ملكة نفسانية راسخة في النفس، تمنع الإنسان عن المعصية مطلقاً.
وبناءً على هذا التعريف تكون فرعاً ودرجة من درجات التقوى، التي هي من لوازم العلم، لكنها درجة عالية جدّاً، بل أعلى درجات التقوى.
فالإنسان المتقي تمنعه تقواه من ارتكاب الكثير من المعاصي، لكنه قد يصل إلى درجة بحيث لا يفكر إطلاقا في المعصية فضلاً عن ارتكبها، وهذه الدرجة يهبها الله تعالى لخاصة خلقه وفق شرائط وحكمة ربانية اقتضت ذلك.
ثم إن القول بعصمة الأنبياء لا ينافي القول بالاختيار؛ إذ أن عصمتهم  تعني أنهم بلغوا من العلم واليقين حداً لا تنقدح في نفوسهم الدواعي، فضلا عن فعلها، وهذا لا ينافي قدرة الإنسان على المعصية، كما أن الإنسان العادي الشريف معصوم عن بعض الأفعال القبيحة، ككشف العورة أمام الناس في الشارع، مع قدرته على ذلك، لكنه لشدة قبحها في نظره لا ينقدح في نفسه الداعي لفعلها فضلا عن القيام بها.
وقد ذهبت الإمامية كافة إلى أن الأنبياء معصومون عن الصغائر والكبائر، منزهون عن المعاصي، قبل النبوة وبعدها، على سبيل العمد والنسيان، وعن كل رذيلة ومنقصة، وما يدل على الخسة والضعة(32).
وخالف أهل السنة في ذلك، فبعض المعتزلة جوز صدور الكبيرة من الأنبياء قبل البعثة وهو أبو علي الجبائي، ومنهم من لم يجوز ذلك لكنه جوّز عليهم الصغيرة إذا لم تكن منفّرة وهو القاضي عبد الجبار.
وأمّا الأشاعرة فقد قال المحقق القوشجي حكاية عن محققيهم: «المذهب عن محققي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقاً، والصغائر غير الخسيسة عمداً لا سهواً»(33).
وأما قبل البعثة فقال صاحب المواقف عنها: «أن الجمهور لا يمنع أن يصدر عنهم كبيرة»(34).
فهذه هي العصمة من حيث المفهوم والحد، وأمّا من حيث المصداق فعند السنة المعصومون هم الأنبياء لا غير وأمّا عند الإماميّة فهم الأنبياء والأوصياء ومنهم فاطمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

6- عصمة الأنبياء في القرآن
إن عصمة الأنبياء على أقسام، هي:
أولاً: العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي.
ثانياً: العصمة عن الخطأ في التبليغ والرسالة.
ثالثاً: العصمة عن المعصية، وهي ما فيه هتك حرمة العبودية ومخالفة مولوية، ويرجع بالآخرة إلى قول أو فعل ينافي العبودية منافاة ما.
رابعاً: العصمة عن الخطأ في غير باب المعصية وتلقي الوحي والتبليغ، أي في غير باب أخذ الوحي وتبليغه والعمل به، كالخطأ في الأمور الخارجية نظير الأغلاط الواقعة للإنسان في الحواس وإدراكاتها أو الاعتباريات من العلوم، ونظير الخطأ في تشخيص الأمور التكوينية من حيث الصلاح والفساد والنفع والضرر ونحوهما، والكلام عن هذا القسم خارج عن بحثنا.
وقد دلّ القرآن الكريم على عصمة الأنبياء  جميعاً في الجهات الثلاث أعني في تلقي الوحي وتبليغه وعن المعصية، ومن جملة الآيات الدالة على عصمتهم (عليهم السلام): 1- قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)(35)، حيث جعل تعالى كون الرسول مطاعاً غاية للإرسال، وقصر الغاية فيه، وذلك يستدعي بالملازمة البينة تعلّق إرادته تعالى بكل ما يطاع فيه الرسول وهو قوله وفعله؛ لأن كلاً منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ، فلو تحقق من الرسول خطأ في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك إرادة منه تعالى للباطل، والله سبحانه لا يريد إلاّ الحق.
2- قوله تعالى: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(36)، حيث يدل على عصمتهم مطلقاً؛ إذ جميعهم (عليهم السلام) كتب عليهم الهداية، وقد قال تعالى: (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ)(37)، وقال تعالى: (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَد)(38)، فنفى تعالى عن المهتدين بهدايته كل مضل يؤثر فيهم بضلال، فلا يوجد فيهم ضلال، وكل معصية ضلال كما يشير إليه قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إليكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ. عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا)(39)، فعدّ تعالى كل معصية ضلالاً حاصلاً بإضلال الشيطان بعدما عدّها عبادة للشيطان.
فإثبات هدايته تعالى في حق الأنبياء  ، ثم نفي الضلال عمن اهتدى بهداه، ثم عد كلّ معصية ضلالاً، تبرئة منه تعالى لساحة أنبيائه عن صدور المعصية منهم وكذا عن وقوع الخطأ في فهمهم الوحي وإبلاغهم إياه.
3- قوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ)(40)، وهذه الآية من جملة الآيات الدالة على العصمة في تلقي الوحي.
والآية ظاهرة في أنّه تعالى إنّما بعثهم بالتبشير والإنذار وإنزال الكتب- وهذا هو الوحي- ليبينوا للناس الحق في الاعتقاد والحق في العمل.
وبعبارة أخرى: لهداية الناس إلى حق الاعتقاد وحق العمل، وهذا هو غرضه تعالى من بعثهم. والله تعالى لا يضل في فعله ولا يخطئ في شأنه، قال تعالى: (لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى)(41).
فإذا أراد الله تعالى شيئاً فإنما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطأ، وإذا سلك بفعل إلى غاية فلا يضل في سلوكه، وكيف لا وبيده الخلق والأمر وله الملك والحكم، وقد بعث تعالى الأنبياء بالوحي إليهم وتفهيمهم معارف الدين ولابد أن يكون، وأيضاً بعثهم بالرسالة لتبليغها للناس ولابد أن يكون، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)(42)، وقال تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)(43).
وهناك آيات أخرى تدل على عصمتهم  لكن الإشارة إليها توجب الإطالة ولذا نتركها لمجال آخر.

7- طرق التعرف على صدق دعوى النبوة
أ) الإعجاز
المشهور في تعريف المعجزة أنها أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع دعوى النبوة وعدم المعارضة.
فلابد لمدعي النبوة أن يقيم شاهداً على صدق دعواه وأمانته في تبليغه، ولابد أن يكون هذا الشاهد مما يعجز غيره عن الإتيان بمثله، أي أنه لابد أن يكون أمراً خارقاً للعادة ولقوانين الطبيعة المألوفة، وهذا هو المعجز، وهو بهذا المعنى لا يتحقق لأحد إلا بتقدير الله تعالى وعنايته تعالى.
والمتتبع لحياة الأنبياء يجدها مليئة بهذه الشواهد، فقد اقترنت العصا بموسى(عليه السلام)، واقترن إحياء الموتى بعيسى ، واقترن المعجزة الخالدة القران الكريم بنبي الإسلام محمد  .
ومن خلال ما تقدم في تعريف المعجزة يتضح أن الإتيان بما هو خارق للعادة لا يسمى معجزة إلاّ إذا كان مقترناً بدعوى النبوة، وفي حالة صدوره من أحد أولياء الله تعالى بدون دعوى النبوة فإنه يسمّى حينئذٍ كرامة.
ثم إن الإعجاز لا يتحقق إلاّ إذا عجز الناس عن القيام بمعارضة ما أتى به مدعي النبوة، وبناءاً على هذا فإنه ما يقوم به بعض الأطباء والمخترعين من الأمور العجيبة خارج عن إطار الإعجاز وكذا ما يقوم به السحرة والمرتاضون.
وأيضاً لابدّ من مطابقة فعل مدعي النبوة لدعواه حتى يكون الإعجاز دليلاً على صدق النبوة، فلو خالف فعله مدعاه فإنه لا يسمّى معجزاً حتى لو كان خارقاً للعادة، ومن هذا القبيل قضية مسيلمة الكذاب عندما ادعى النبوة وأن آية نبوته أنه إذا تفل في بئر قليلة الماء يكثر ماؤها، فتفل فغار جميع ماؤها.

ب) تنصيص النبي السابق
من جملة الطرق التي تثبت بها صدق مدعي النبوة هو هذا الطريق، أعني نص النبي السابق الثابتة نبوته على نبي لاحق يأتي من بعده، وهذه الحجة لا تقل في دلالتها على حجية المعجزة؛ وذلك لأنّه من جملة شرائط النبوة كما مرّ سابقاً هو العصمة عن الخطأ والزلل والكذب، فلو قال إنه سيأتي نبي بعدي فلابدّ أن يكون الأمر كما أخبر.
ثم إن هناك أموراً تعتبر في دلالة هذا الطريق على صدق من جملتها قطعية الطريق الذي وصلت بواسطة خبر النبي السابق، وأيضاً انطباق الأمارات والسمات بوضوح تام على النبي اللاحق، وإلا فإنه بدون ذلك يكون الطريق عقيماً.
ومن هذا الباب تنصيص النبي عيسى على النبي الخاتم (صلوات الله وسلامه عليهما) قال تعالى: (وَإِذْ قَال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)(44).
وقد آمن كثير من إليهود والنصارى بنبوة النبي الخاتم في حياته وبعد مماته؛ لصراحة التباشير الواردة في العهدين.

ج) جمع القرائن والشواهد
هذا هو الطريق الثالث لمعرفة صدق دعوى النبوة، حيث تجمع الشواهد والقرائن وتضم لبعضها ليحصل يقين بصدق الدعوة.
وهذه القرائن تارة تكون ناظرة إلى شخصية المدعي وأخلاقياته وروحانياته، وتارة أخرى تكون ناظرة إلى مضمون الدعوى، وتارة ثالثة تكون ناظرة إلى الأدوات والوسائل التي يستفيد منها في دعوته من أجل الوصول إلى أهدافه.
وقد استفاد قيصر الروم من هذا الطريق، كما يروي المجلسي ذلك، لمعرفة صدق دعوى النبي الأكرم  ، حيث دخل أبو سفيان وجماعة من قريش إلى الشام تجارا فأحضرهم قيصر الروم، وقال: ليدن مني أقربكم نسبا به، فأتاه أبو سفيان، فقال: أنا سائل عن هذا الرجل الذي يقول إنه نبي، ثم قال لأصحابه: إن كذب فكذبوه، قال أبو سفيان: لولا حيائي أن يأثر أصحابي عني الكذب لأخبرته بخلاف ما هو عليه.
فقال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: ذو نسب.
قال: هل قال هذا القول منكم أحد؟ قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل؟ قلت: لا.
قال: فأشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قلت ضعفاؤهم.
قال: فهل يزيدون أو ينقصون؟ قلت: يزيدون.
قال: فهل ارتد أحد منهم سخطا لدينه، قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟ قلت: لا.
قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف حربكم وحربه؟ قلت: ذو سجال: مرة له، ومرة عليه، قال: هذا آية النبوة.
قال: فما يأمركم؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصوم والعفاف والصدق وأداء الأمانة والوفاء بالعهد، قال: هذه صفة نبي.
وقد كنت أعلم أنه يخرج ولم أظن أنه منكم، فإنه يوشك أن يملك ما تحت قدمي هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقياه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه(45).

8- الوحي الإلهي
الوحي في اللغة يعني الإشارة السريعة، سواء بالكلام الخافت أو الصوت الخالي من التراكيب الكلامية أو الإشارة بالأعضاء - العين أو اليد أو الرأس - أو بالكتابة، قال الراغب الأصفهاني: أصل الوحي الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل أمر وحي، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح، وبالكتابة(46).
وأما في الاصطلاح فتستخدم هذه الكلمة (الوحي) للارتباط الخاص والسريع للأنبياء مع عالم الغيب وذات الخالق المقدسة، وهي بهذا المعنى لا تبتعد كثيراً عن المعنى اللغوي، قال العلامة الطباطبائي:
«الوحي، كما قال الراغب، الإشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بصوت مجرد عن التركيب أو بإشارة ونحوها. والمحصل من موارد استعماله أنه إلقاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد إفهامه، فالإلهام بإلقاء المعنى في فهم الحيوان من طريق الغريزة من الوحي، وكذا ورود المعنى في النفس من طريق الرؤيا أو من طريق الوسوسة أو بالإشارة كل ذلك من الوحي.
وقد استعمل في كلامه تعالى في كل من هذه المعاني كقوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)، وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى)، وقوله: (إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ)، وقوله: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).
ومن الوحي التكليم الإلهي لأنبيائه ورسله، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا).
وقد قرر الأدب الديني في الإسلام ان لا يطلق الوحي على غير ما عند الأنبياء والرسل من التكليم الإلهي»(47).
ثم إن طرق ارتباط الأنبياء بالخالق بواسطة الوحي تكون على أشكال مختلفة، فأحياناً يكون بالإيحاء كما في قوله تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إليه أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)(48).
وأحياناً يكون من وراء حجاب كما في قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)(49)، وخلق الكلام في الشجرة من هذا القبيل.
وأحياناً أخرى يكون بإرسال الرسول كما في قوله تعالى: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ)(50)، وهذا يعتبر الطريق الرئيسي للوحي.
وهناك طريق آخر خاص وهو أثقل أنواع الوحي وهو الوحي بشكل مباشر بين الله تعالى ونبيه (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
ثم إن هذه الطرق لها فروع بحدّ ذاتها، فمثلاً ملك الوحي تارة يقوم بإلقاء الوحي إلى روح النبي وقلبه دون أن يتجسد أمامه، وتارة أخرى يتجسد بصورة إنسان، وتارة ثالثة يتجسد ملك الوحي- جبرائيل  - بصورته التي خلقه الله تعالى عليها، وقد حدث ذلك - كما يروى- مرتين للنبي الكريم  (51).
وقد استعمل الوحي في القرآن الكريم بمعاني عديدة، منها: وحي الرسالة والنبوة، كما في قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إليكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)(52).
ومنها: الوحي بمعنى الإلهام، كما في قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)(53).
ومنها: الوحي بمعنى الإشارة، كما في قوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إليهمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(54).
ومنها: الوحي بمعنى التقدير، كما في قوله تعالى: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا)(55).
ومنها: الوحي بمعنى الأمر كما في قوله تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي)(56).
ومنها: الوحي بمعنى الإخبار، كما في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إليهمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(57).
ويستنتج من خلال ما تقدم سابقاً في الموارد التي استعمل فيها الوحي ومشتقاته أن الوحي الإلهي على نوعين:

أ) الوحي التشريعي:
وهو ما كان ينزل على الأنبياء والرسل ويمثل العلاقة الخاصة بينهم وبين الخالق عز وجل، حيث كانوا يستلمون الأوامر الإلهية والحق والمعارف الربانية من هذا الطريق.

ب) الوحي التكويني:
وحقيقته وجود النواميس التكوينية والغرائز والقابليات والشروط والقوانين التكوينية الخاصة التي أوجدها الخالق في أعماق جميع الكائنات في هذا العالم.
وقد طرحت نظريات مقابل النظرية الإسلامية من أجل تفسير وكشف حقيقة هذا الأمر الغيبي لا نرى ضرورة في طرحها هنا، لكن نقول بشكل مجمل:
إن الوحي الذي يختص به الأنبياء إدراك خاص متميز عن سائر الإدراكات، وأنه ليس من نتاج الحس ولا العقل ولا الغريزة، إنما هو شعور خاص يوجده الله تعالى في الأنبياء، وهو شعور يغاير الشعور الفكري المشترك بين أفراد الإنسان عامة، لا يغلط معه النبي في إدراكه ولا يشتبه ولا يختلجه شك ولا يعترضه ريب في أن الذي يوحي إليه هو الله سبحانه، من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجة، قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ)(58)، فالآية تشير إلى أن الذي يتلقى الوحي من الروح الأمين هو النفس الطاهرة للنبي الكريم  من غير مشاركة الحواس الظاهرة التي تستعمل كأدوات في المدركات الجزئية.
فالوحي نتاج الاتصال بعالم الغيب، ولا يصح تحليله بأدوات المعرفة ولا بأصول ومبتنيات العلوم الحديثة، ومن لم يذعن بعالم الغيب يصعب عليه الإذعان بهذا الإدراك الذي لا صلة له بعالم المادة وقوانينه وأصوله.

والحمد لله رب العالمين
________________________________________
(1) مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص481.
(2) لسان العرب، ابن منظور، ج1، ص162.
(3) النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد، ص34.
(4) المسلك في أصول الدين، المحقق الحلي، ص153.
(5) النساء: 162.
(6) النكت الأعتقادية، الشيخ المفيد: ص34.
(7) الميزان، العلامة الطباطبائي: ج2 ص140.
(8) المسلك في أصول الدين، المحقق الحلي، ص153.
(9) البقرة: 253.
(10) الاحقاف: 35.
(11) الشورى: 43.
(12) طه: 115.
(13) الكافي، الشيخ الكليني: ج1، ص175.
(14) الكافي، الكليني: ج2، ص17– 18.
(15) طه: 50
(16) الاعلى: 3
(17) الإنسان: 3
(18) الاعراف: 176
(19) الزمر: 22- 23
(20) الانعام: 87-88
(21) الكافي، الكليني: ج1، كتاب العقل والجهل: ص16.
(22) انظر: الشفاء، ابن سينا: ص441 – 442.
(23) قاعدة اللطف من القواعد الكلامية ولها دور واسع في مسائل هذا العلم، وقد قبلتها العدلية ورفضتها الأشاعرة، وتعد من فروع القول بالحسن والقبح العقليين، فمن اعترف بهما أخذ بنتائجهما، ومنها لزوم اللطف على الله تعالى، ومن أنكرهما ردّ نتائجهما.
(24) عقائد الإماميّة، الشيخ محمد رضا المظفر، ص48.
(25) نهج البلاغة: ج1، ص23، تحقيق: محمد عبده، نشر: دار المعرفة – بيروت.
(26) نسبت هذه الشبهة للبراهمة، قال العلامة الحلي:
«احتجت البراهمة على انتفاء البعثة بأن الرسول إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها فإن جاء بما يوافق العقول لم يكن إليه حاجة ولا فائدة فيه وإن جاء بما يخالف العقول وجب رد قوله وهذه الشبهة باطلة بما تقدم في أول الفوائد وذلك أن نقول لم لا يجوز أن يأتوا بما يوافق بما يوافق العقول ويكون الفائدة فيه التأكيد لدليل العقل أو نقول لم لا يجوز أن يأتوا بما لا تقتضيه العقول ولا يهتدى إليه وإن لم يكن مخالفا للعقول بمعنى أنه لا يأتوا بما يقتضي العقل نقيضه مثل كثير من الشرائع والعبادات التي لا يهتدي العقل إلى تفصيلها». شرح التجريد، العلامة الحلي، ص 375 ، تحقيق: الزنجاني.
(27) انظر: شرح التجريد، العلامة الحلي، ص 375 ، تحقيق: الزنجاني.
(28) كتاب العين، الفراهيدي، ج1، ص313 – 314، ط2، مؤسسة دار الهجرة.
وقال ابن قتيبة: «وأما عصم بمعنى منع، ومنه العصمة في الدين إنما هو المنع عن المعاصي، وقوله تعالى: (لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، أي: لا مانع، ويقال: قد عصمه الطعام، أي: لا مانع، ويقال: د عصمه الطعام، أي: منعه من الجوع». غريب الحديث، ابن قتيبة: ج1 ص105 – ط1 – دار الكتب العلمية.
وقال الجوهري: «والعصمة: المنع، يقال: عصمه، أي منعه من الجوع. والعصمة الحفظ، يقال: عصمته فانعصم. واعتصمت بالله إذا امتنعت بلطفه عن المعصية. وعم يعصم عصماً: اكتسب. واعصمت فلاناً إذا هيئت له في الرحل أو السرج ما يعتصم به لئلا يسقط، وأعصم إذا تشدّد واستمسك بشيء خوفاً من أن يصرعه فرسه أو راحلته، وكذلك اعتصم به واستعصم به، واعصم الرجل بصاحبه: لزمه». الصحاح، الجوهري: ج5 ص1986، ط4 – دار العلم للملايين، بيروت.
وقال ابن الأثير: والعصمة: المنعة، والعاصم: المانع المحامي، والاعتصام: الإمتساك بالشيء افتعال منه. ومنه شعر أبي طالب: ثمال اليتامى عصمة للأرامل، أي يمنعهم من الضياع والحاجة». النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير: ج3 ص249 – ط4 – مؤسسة إسماعليان – قم.
وقال ابن منظور: «وعصمة الله عبده: أن يعصمه مما يوبقه... واعتصم فلان بالله إذا امتنع به، والعصمة الحفظ. واعتصمت بالله إذا امتنعت بلطفه من المعصية. واعتصم به واستعصم: امتنع وأبى». لسان العرب، ابن منظور: ج12 ص403 – ط1 دار إحياء التراث العربي.
وقال الراغب الأصفهاني: «العصم: الإمساك، والاعتصام الاستمساك، قال تعالى: (لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، أي لاشيء يعصم منه... والاعتصام التمسك بالشيء...، واستعصم: استمسك، كأنه طلب ما يعتصم به من ركوب الفاحشة، قال: «فاستعصم» أي تحرى ما يعصمه...، وعصمة الأنبياء: حفظه إياهم أوّلاً بما خصهم به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية، ثم بالنصرة وبتثبيت الأقدام، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قولبهم وبالتوفيق، قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ». مفردات القرآن الكريم، الراغب الأصفهاني: ص569 – 570 – ط1 دار الشامية – بيروت.
(29) انظر: شرح المقاصد، التفتازاني، ج، ص .
(30) شرح المواقف، الجرجاني: ج، ص.
(31) التعريفات، الشريف الجرجاني: ص.
(32) انظر: دلائل الصدق: ج1، ص.
(33) شرح التجريد للقوشجي: ص464.
(34) المواقف: ص359.
(35) النساء:64
(36) الانعام: 90
(37) الزمر: 66-67
(38) الاسراء: 97
(39) يس: 60-62
(40) البقرة: 213
(41) طه: 52
(42) الطلاق: 3
(43) يوسف: 21
(44) الصف: 6
(45) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج20، ص379 .
(46) مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني: ص515، دفتر نشر الكتاب، ط1.
وعن بعض اللغويين أنّه الكلام الخفي والإعلام بخفاء بطريق من الطرق، قال ابن منظور: «الوحي الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك، يقال: وحيت إليه الكلام وأوحيت. ووحى وحيا وأوحى أيضاً أي كتب...». لسان العرب، ابن منظور: ج15 ص379، دار إحياء التراث العربي، ط1.
وحكى عن الأزهري في بيان معنى الوحي في قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)، قال: الوحي هاهنا إلقاء الله في قلبها، قال: وما بعد هذا يدل، والله أعلم، على أنه وحي من الله على جهة الإعلام...». لسان العرب، ابن منظور: ج15: ص380.
(47) الميزان، العلامة الطباطبائي: ج12، ص292
(48) المؤمنون: 27.
(49) النساء: 165
(50) البقرة: 97.
(51) التوحيد، الشيخ الصدوق، ص 263، تصحيح وتعليق : السيد هاشم الحسيني الطهراني، الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة.
(52) النساء: 163
(53) النحل: 68
(54) مريم: 11
(55) فصلت: 12
(56) المائدة: 111
(57) السجدة: 24
(58) الشعراء: 193

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

البداء والإرادة المُناظرة الخامسة-2
بعض مصادر حديث ( لا فتى إلا علي .... )
تورط الشراح في حديث سفينة
عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عند المذاهب ...
المهدي المنتظر في كلمات محي الدين بن عربي/ ق2
إثبات الأشاعرة لرؤيته تعالى في الآخرة
ما معنى الحديث القائل "الحسود لا يسود"؟ هل هو ...
موقف الفكر الشيعي من الحركات الباطنية
الحديث والاجتهاد والفقه
أنواع العبودية

 
user comment