عربي
Wednesday 27th of November 2024
0
نفر 0

إيمان أبي طالب عليه السلام

إيمان أبي طالب عليه السلام



إنّ من يملك مسكة من العقل إذا عُرض عليه ما يوافق العقل والمنطق, ويرى بالإضافة إلى ذلك من الأدلة والبراهين التي تفوق حدّ الإحصاء, مؤيدةً وداعمة ذلك الأمر الذي دُعي إليه, وموحّدة كل باب يفضي إلى الشك والريب, فالنتيجة الطبيعية لذلك العاقل هي الإيمان والتصديق بذلك الأمر الذي عرض عليه, بل إنّ من لم يكتمل عقله إذا واجه كل تلك البراهين والإشارات والعلامات, فإنه سوف يؤمن بها, ومن هنا آمن الكثير من الناس بنبوة الرسول الأعظم  صلي الله عليه وآله   مع أنّهم لم يشهدوا إلاّ جزءاً صغيراً من دلالات نبوة النبيّ  صلي الله عليه وآله  , بل إنّ بعضهم لم يشهد النبيّ إطلاقاً, ولم يره حتى في المنام, ومع ذلك آمن به ويفّديه بما يملك بعد أن يملك قلبه النبيّ  صلي الله عليه وآله  , فكيف بك بمن عاش مع النبي منذ اليوم الأول لولادته وحتى آخر لحظة من حياته, ولمدّة تربوا على الأربعين عاماً, وهو يرى في كل يوم من الكمالات والكرامات والمعاجز ما يبهر العقول ويأسر القلوب, ففي كل آن من آنات النبيّ وفي كل حركة وسكنة ونفس من الأنفاس تدلّ على أنّه ليس كباقي البشر .. .

نعم, شهد الناس بعض معاجزه, ولكنّهم لم يشهدوا ما شاهد أبو طالب عمّه وكافله, فإنّه ليشاهد في كل ما يبرهن على أنّ ابن أخيه هو أكمل صورة لخلق الله عزّ وجلّ, منذ خلق آدم حتى تقوم الساعة, فهو ذلك الإنسان الملكوتي, الذي لا يرقى إليه طير وينحدر عنه السيل.

فهو لم يؤمن به فقط, بل دافع أشدّ الدفاع وبذل في سبيل الإسلام الغالي والنفيس, ولم يدافع عن ابن أخيه النبيّ فقط حتى يقال أنّه يذبّ عن رحمه؛ بل دافع عن الذين لا يرتبطون معه بصلة سوى أنّهم من المسلمين والمؤمنين بنبوة النبي  صلي الله عليه وآله  , وهذا ما سيمرّ علينا في طيات البحث إن شاء الله تعالى.

 
بعض الأدلة على إيمان أبي طالب:

إنّ من يريد التعرّف على شخصيّة ما, أو على عقيدته وطراز تفكيره, بصورة حياديّة وبعيدة عن التطرف, فانّ له طرقاً ثلاثة للتوصل بموضوعية إلى حقيقة عقيدة ذلك الشخص وهي:

1ـ دراسة مواقفه وتصرفاته في المجتمع.

2ـ أقواله وآثاره العلمية.

3ـ رأي أصدقائه وأقربائه وأهل بيته غير المغرضين.

 

مواقفه:

1- لما رأى ولده علياً عليه السلام في يوم الرسالة البكر, وهو يصلّي خلف الرسول  صلي الله عليه وآله  , وقد اختفيا حذراً من المشركين, وإذ أجاب عليّ أباه على سؤاله : ( يا أبت, آمنت بالله وبرسول الله, وصدقته بما جاء به, وصليت معه لله واتبعته) فماذا كان جواب الأب لابنه الذي هو أول من يجب عليه أن يبذل له النصيحة ويأخذ بيده نحو الطريق الأفضل والعقيدة الصحيحة, أجابه أبو طالب بقوله: ( أما أنه لا يدعوك إلا إلى خير فألزمه)([1]).

إنّها كلمة تدلّ على إيمان واطمئنان لا يتزعزع بنبوة النبيّ  صلي الله عليه وآله   وإلاّ ماله والدعاية والتبليغ لأمر لا يؤمن به, وتثبيت فلذة كبده عليه, مع أنّه لو كان كافراً بما جاء به النبيّ ولم يكن مصدّقا,ً لأمر ابنه بالتخلي عنه وأن لا يلزمه.

2- وإنّه ليرى الرسول ـ مرّة أخرى ـ وهو يصلّي وعلي عن يمينه, فيأمر جعفراً ابنه أن يلتحق بأخيه, وأن يأتم بابن أخيه, فيقول له: ( صل جناح ابن عمك, فصلّ عن يساره)([2]).

ثم ينشد هذه الأبيات:
إنّ   علياً   وجعفراً   ثقتي           عند ملم   الزمان  والنواب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما           أخي  لأمّي من  بينهم وأبي
والله   لا    أخذل النبيّّ ولا           يخذله من بنيّّ ذو حسب([3])

إنه لقسم عظيم ( والله لا أخذل النبيّ) وقد برّ أبو طالب بذلك القسم, وكذلك بنوه, فلم يخذله ولم يخذلوه.

3_ وها هو ـ بأبي وأمي ـ يقف بوجه قريش بأجمعها لما جاءت إليه قائله: (يا أبا طالب, إنّ لك سّناً وشرفاً ومنزلة فينا, وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا, وإنّا والله لا نصبر على هذا, من شتم آبائنا, وتسفيه أحلامنا, وعيب آلهتنا حتى تكفّه عنّا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين).

اسمع ماذا قال مؤمن آل أبي طالب:

( اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت, فو الله لا أسلمك لشيء أبد)

ثم هتف منشداً هذه الأبيات:
والله  لن  يصلوا  إليك  بجمعهم           حتى  أوسد في التراب دفينا
فا صدع بأمر ما عليك غضاضة           وابشر بذلك وقرّ منك عيونا
ودعوتني  وعلمت  أنك ناصحي           ولقد  صدقت  وكنت ثم أمينا
ولقد   علمت  بأن   دين   محمد           من خير أديان البرية دينا([4])

وليس لنا أن نمرّ بهذه الأبيات مرور الكرام دون تأمل ونظرة فاحصة تدلنا وبكل وضوح إلى عمق إيمان أبي طالب برسالة النبي صلي الله عليه وآله  .

4- افتقد أبو طالب ابن أخيه ـ ذات يوم ـ وبحث عنه فلم يجده, فثار به القلق, وعصف به الخوف, ولاسيّما وقد وصل إلى سمعه بأنّ قريشاً تنوي اغتيال محمد لتجتث الدعوة من جذورها.

فدعا فتيان هاشم والمطلّب, وأمر كلاً منهم أن يخبئ تحت ثيابه سلاحاً ماضي الحدّ, لا يخون عند الضراب .. وأمرهم أن يقف كل واحد منهم عند زعيم من رجال قريش, وجعل بينه وبينهم إشارة .. فإن هو يئس من وجود محمد  صلي الله عليه وآله   فإنّ دمه لا يمضي هدراً, وليس يعدل دمه دم هؤلاء العتاة كلهم... .

فعليهم ـ إن نفذ القضاء في محمد ـ أن يأتوا على هؤلاء في لحظة واحدة, وكل ذهب نحو غايته, وذهب أبو طالب يبحث عن ابن أخيه .. وإذا وجدوه في خير, ولم تمتد له يدٌ بسوء, أخذ بيده فوقف به على رؤوس الملأ من قريش صارخاً بهم:

( يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به ..؟ )

فقصّ عليهم عزمه, وأمر فتيانه أن يكشفوا لهم عن سلاحهم المخبوء, ليتحداهم ويدلهم على مدى قوته, وقال لهم.

( والله, لو قتلتموه ما أبقيت منكم أحداً حتى نتفانى نحن وانتم)([5]) .

5- بينما الرسول ـ في أحد أيامه ـ يناجي ربّه ويصلي له ركعات, شاءت قريش أن تسخر منه, وعهدت بهذه المهمة إلى عبد الله بن الزبعري, وقام هذا بها نشيطاً, وقد أخذ فرثاً ودم جزورٍ, فجاءه ـ وهو ساجدـ فلطخّه بذلك .. فاندفع النبيّ  صلي الله عليه وآله   نحو أبي طالب محزون القلب, يشكوا إليه ألم السخرية والاستهزاء .. فجاء أبو طالب مغضباً واضعاً سيفه على عاتقه, وحاول بعضهم الهروب لما رأوه, فصاح بهم أبو طالب:

( والله لئن قام رجل جللته بسيفي)

فلصقوا بالأرض ولم يبدو حراكاً, فدنا منهم والتفت إلى ابن أخيه:

( يا بني من الفاعل بك هذا؟)

فدلّه الرسول  صلي الله عليه وآله   على ابن الزبعري, وأدناه إليه. فوجّ أنفه, ثم مرّ بالدم والفرث على القوم ولطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم, وأغلظ لهم القول, وكال لهم الإهانة, ثم التفت إلى ابن أخيه وقال:

( يا بن أخي أرضيت؟ ... أنت والله, أشرفهم حسباً وأرفعهم منصباً ... يا معشر قريش! من شاء منكم أن يتحرك فليفعل ... أنا الذي تعرفوني)([6]).

ثم أنشد هذه الأبيات:
أنت    النبيُّ     محمد           قرمٌ     أغرُّ      مسود
لمسودّين         أكارمٍ           طابوا    وطاب   المولد
أنّى  تضام    ولم أمت           وأنا الشجاع العربد([7])
وبطاحُ  مكة   لا يرى           فيها     نجيعٌ    أسود
وبنو    أبيك     كأنهم           أُسدُ      العرين   توقد
ولقد    عهدتك   صادقاً           في   القول   لا  تتزيّد
ما زلت تنطق بالصواب           وأنت  طفل    أمرد([8])

 هل يوجد اعتراف أصرح وأبلغ من قوله: (أنت النبي محمد) , وما هو الفرق بين قوله هذا وبين من يقول: (أشهد أنّ محمد رسول الله).

إنّ الحق ينادي بأعلى صوته: أن لا فرق, فكلاهما إقرار بنبوة محمد صلي الله عليه وآله  .

6- لم يدافع أبو طالب عن الرسول وحده؛ بل دافع عن المؤمنين به أيضاً, وهذا ما يؤكد إيمانه العميق بالدين الإسلامي الحنيف, فقد انتصر لكثير من المسلمين الذين كانت قريش تحاربهم بشتى الوسائل ...

فقد عذبت فيمن عذبت من المسلمين, أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي, ولم ير غير أبي طالب مفزعاً يلجأ إليه, فراح يستجير به, فأجاره أبو طالب, فلمّا سمعت مخزوم بذلك, ألفت وفداً من رجالها, وجاء ذلك الوفد أبا طالب وقال له:

(يا أبا طالب, هبك منعت منّا ابن أخيك محمداً .. فما بالك ولصاحبنا تمنعه منا؟)

فأجابه أبو طالب:

(إنه استجار بي وهو ابن أختي([9]) وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي) فترتفع الأصوات والصخب والجدل واللغط, فيخشى الوفد الفتنة, ويخاف وخيم العاقبة, فيعود فارغ اليد, مغلوباً على أمره, فاشل المسعى([10]).

وثار كذلك لعثمان بن مضعون, وانتصر له لما عذبته قريش([11]).

فإن كان أبو طالب كافراً بما جاء به محمد  صلي الله عليه وآله   فلماذا كل هذه الثورة والفورة والانتفاضة والنصرة لمن آمن برسول الله, ألم يكن الأحرى به أن يروّعهم عن هذا الدين الكاذب الذي لا يؤمن به حتى يتخلصوا من كل ذلك العذاب والإهانة؟ أليس نصر هؤلاء يزدهم إصراراً وعزيمة على الثبات على دين النبي  صلي الله عليه وآله  .

7- لم يكن أبو طالب مدافعاً عن النبي فحسب, بل كان داعية إسلامية من الطراز الأول, ولم يدع أي فرصة تتاح له إلا واستغلها أيما استغلال للتبليغ والدعاية ونشر الدين الإسلامي, حتى أنه دعى أبا لهب في مناسبة إلى الدين الإسلامي وإلى نصرة الرسول الأكرم في أبيات من الشعر.

ودعى فيمن دعى إلى الإسلام ملك الحبشة, لمّا هاجر المسلمون إليها بقيادة ابنه جعفر, فبعث إليه أبو طالب بأبيات من الشعر يحضّه فيها على إكرام جعفر والمسلمين, وأن لا يصغي لقول الزور الذي يلفقه الأفاك الأثيم ابن العاص.

وما أن تصل تلك الأبيات إلى مسامع النجاشي ـ ملك الحبشة ـ حتى يزيد في إكرام جعفر ومن معه من المسلمين, ولمّا علم ذلك أبو طالب بعث إليه أبياتاً من الشعر يدعوه فيها للإسلام:
اتعلم ملك الحبش أنّ محمداً           نبي    كموسى   والمسيح ابن مريم
أتى بهدى مثل الذي أتيا به           فكل   بأمر الله   يهدي      ويعصم
وإنّكَم تتلونه  في    كتابكم           بصدق حديث  لا حديث    المبرجم
وإنك ما تأتيك منا عصابةٌ           بفضلك     إلاّ    عاودوا   بالتكرّم
فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا           فإنّ طريق الحق ليس بمظلم([12])

8ـ ومن جملة الأدلة القاطعة على إيمان أبي طالب  عليه السلام  هي أمره ولده بالمبيت في فراش النبي صلي الله عليه وآله   في حصار الشعب, وكان يقول له ولده علي  عليه السلام  : (يا أبت إني مقتول) فيقول أبو طالب:

أصبرن يا بنيَّ فالصبر أحجى
قد بذلناك والبلاء شديد
لفداء الأغر ذي الحسب الثاقب
 إن تصبك المنون فالنبل تُبرى
كل حيًّ وإن  تملّى بعمر
    

 
    

كل حيّ مصيرهُ لشُعوب
لفداء الحبيب وابن الحبيب
والباع والكريم النجيب
فمصيب منها وغير مصيب
آخذٌ من مذاقها بنصيب

فيجيبه ولده علي:

أتأمرني بالصبر في نصر أحمد
ولكنني أحببت أن ترى نصرتي
سأسعى لوجه الله في نصر أحمد
    

 
    

ووالله ما قلت الذي قلت جازعاً
وتعلم إني لم أزل لك طائعاً
نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعاً([13])

9- مضى على حصار الشعب عامان ـ وفي قول آخر ثلاثةـ فأوحى الله إلى نبيه بما سلّط على الصحيفة الظالمة, فقد أكلت الأرضة جميع ما تحمله الصحيفة من الظلم والقطيعة, ولم تبق على شيء منها سوى اسم الله عزّ وجلّ, وأخبر النبي صلي الله عليه وآله   عمه بهذا النبأ المشرق, فقال له أبو طالب: (أربك أخبرك بهذه..؟)

فلما كان جواب الرسول إيجابّياً, أردف شيخ الأبطح: (والثواقب ما كذبتني قط)

فخرج أبو طالب من الشعب مع نفر من بني هاشم والمطلب, حتى أتوا إلى المسجد الحرام, فلما رأتهم قريش ساورها الظن بأنهم جاؤوا ليسلموا إليها محمداً  صلي الله عليه وآله   فهتف أبو طالب فيهم:

(يا معشر قريش, جرت بيننا وبينكم أمور لم تذكر في صحيفتكم, فأتوا بها لعله أن يكون بينكم صلح)

وما أن جاؤوا بالصحيفة, قال:

(قد آن لكم أن ترجعوا عمّا أحدثتم علينا وعلى أنفسكم ... أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم .. إنّ ابن أخي أخبرني ولم يكذبني قط: إنّ الله قد بعث على صحيفتكم دابة فلم تترك فيها إلاّ اسم الله فقط, فإن كان كما يقول فأفيقوا عما انتم عليه, فو الله لا نسلّمه حتى نموت من عند آخرنا, وإن كان باطلاً دفعناه إليكم فقتلتم أو استحييتم .. ).

وإذ رضوا بذلك وفتحوا الصحيفة, فإذا هي آية دامغة لباطلهم([14]).

وإنّا لنجد في كل كلمة من كلمات أبي طالب ما يدل على عمق إيمانه ورسوخ عقيدته, فهاهو يصرّح بعقيدته بأعلى صوته: (إن كان كما يقول فأفيقوا عما انتم عليه) (وإن كان باطلاً دفعناه إليكم فقتلتم).

فلم يجزم بهذه المساومة أو قل المباهلة لو لم يكن على يقين بالنتيجة التي ما خلطها الشك ابداً ولم يدخل قلبه الخوف أو يساوره.

10- ويحتضر أبو طالب فيوصي, وبماذا يوصي؟ لو لم يكن لأبي طالب أي دليل على إيمانه طوال حياته فإن هذه الوصية دليل صارخ على عمق إيمانه ودينه ومذهبه, فكل حرف من حروفها تدلّ على أنه مؤمن أعظم الإيمان, وإليك شذرات من وصيته:

(يا معشر قريش ... إني أوصيكم بمحمد خيراً, فإنه الأمين في قريش, والصدّيق في العرب, وقد جاءنا بأمر, قَبِلَه الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن ... كونوا له ولاة ولحزبه حماة ... والله لا يسلك أحد سبيله إلاّ رشد, ولا يأخذ أحد بهدية إلاّ سعد ... ولو كان لنفسي مدة وفي أجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز ولدافعت عنه الدواهي..)([15]).

 

أقواله وآثاره:

1- روي عن علي  عليه السلام أنه قال: (قال لي أبي : الزم ابن عمك فإنك تسلم به من كل بأس آجلٍ وعاجل, ثم قال لي:

إن الوثيقة في لزوم محمد
    

 
    

فاشدد بصحبته عليٌّ يديك)([16])

أي كافر هذا الذي يؤمن بالآخرة ...!!؟

2- وها هو يأمر أخاه ـ أبا يعلي ـ ويدعوه لإظهار دين الله, قال:

فصبراً أبا يعلي على دين أحمد
وحط من أتى بالحق من عند ربه
فقد سرّني إذ قلت إنك مؤمن
وناد قريشاً بالذي قد أتيته
    

 
    

وكن مظهراً للدين وفقّت صابرا
بصدق وعزم لا تكن حمزُ كافرا
فكن لرسول الله في الله ناصرا
جهاراً وقل ما كان أحمد سامرا

إنّه لداعية إسلامية يقتنص الفرص لينشر الدين الجديد, وإنه يستر بسماع قوله أخيه: إنه مؤمن ... ويدعوه لنصره الدين والذب عنه.

3- ومن أشعاره التي تدل على إيمانه, ما أنشده لما انتصر لعثمان بن مضعون حين عذبته قريش:

امِن تذكّر دهرٍ غير مأمون
أم من تذكّر أقوام ذوي سفه
ومرهفاتٍ كان الملح خالطها
أو تؤمنوا بكتابٍ منزلٍ عجب
    

 
    

أصبحت مكتئباً تبكي كمحزون
يغشون بالظلم من يدعوا إلى الدين
يشفي بها الداء من هام المجانين
على نبي كموسى أو كذي النون([17])

4- قال في أحد أبياته مخاطباً النجاشي ـ ملك الحبشةـ :

ألا ليت شعري كيف في الناس جعفرُ
    

 
    

وعمروٌ وأعداء النبيَّ الأقارب([18])

ونترك التعليق على هذا البيت للقارىء المنصف.

5- وقال في حصار الشعب الظالم:

يرجون منّا خطة دون نيلها
يرجون أن نسخى بقتل محمد
كذبتهم وبيت اللهِ حتى تفلّقوا
وتقطع أرحام وتنسى حليلة
على ما مضى من مقتكم وعقوقكم
 وظلم نبيًّ جاء يدعوا إلى الهدى
فلا تحسبونا مسلّميه فمثلُه
    

 
    

ضرابٌ وطعن بالوشيج المقوّم
ولم تختضب سمرُ العوالي من الدم
جماجم تُلقى بالحطيم وزمزم
حليلاً ويُغشى محرمٌ بعد بعد محرم
وغشيناكم في أمركم كلّ مأثم
 وأمرٍٍ أتى من عند ذي العرش قيّم
 إذا كان في قوم فليس بمسلم([19])

6- وقال أيضاً في ذلك الحصار:

ألا أبلغا عنّي على ذات بينها
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمداً
وإنّ عليه في العباد محبةً
    

 
    

لوّياً وخصّا من لؤيّ بني كعب
نبياً كموسى خطّ في أول الكتب
ولا حيف في من خصّه الله بالحبّ([20])

7- ومن شعره أيضاً:

ألا أنّ خير الناس نفساً ووالداً
نبيّ إلا له والكريم بأصله
    

 
    

إذا عدّ سادات البرية أحمد
وأخلاقه وهو الرشيد المؤيد([21])

8- وقال:

أوصي بنصر نبي الخير أربعةً
وحمزة الأسدُ المخشي صولتهُ
كونوا فداءً لكم أمي وما ولدت
    

 
    

ابني علياً وعمَّ الخير عباسا
وجعفراً إن تذودا دونه الناسا
في نصر أحمد دون الناس أتراسا([22])

أقوال أقربائه فيه:

من جملة الأدلة على إيمان أبي طالب هي أقوال المقربين منه, والذين يعرفونه أكثر من غيرهم, ومن تلك الأقوال على سبيل المثال لا الحصر:

1- روي عن النبي  صلي الله عليه وآله  أنه قال لأمير المؤمنين علي  عليه السلام عند وفاة أبي طالب: (اذهب فاغسله وكفّنه وواره ـ غفر الله له ورحمه)([23])

ولا يخلو الأمر هنا من حالتين, فإما عصيان النبي ـ وحاشاه ـ لأحكام الله التي جاء هو بها, وأمّا إيمان أبي طالب.

فقد أمر النبي بغسله, ولا يجوز للمسلم أن يغسل كافراً, إلا أن يشككوا في إسلام علي بن أبي طالب  عليه السلام  ـ وأنّى لهم ذلك .

وقد استغفر له الرسول ثانياً وقد نهى الله في كثير من آيات القرآن الاستغفار والمودة للمشركين.

2- سار رسول الله  صلي الله عليه وآله   خلف جنازته, حتى إذا ألحد, قال:

(أما والله لأ ستغفرنّ لك ولأشفعنّ فيك شفاعة يعجب لها الثقلان)([24])

لنفرض أنّ أبا طالب ـ واستغفر الله ـ لم يكن مؤمناً, فشفع له الرسول وأدخله الجنة, فإنّ هذه الشفاعة ليست بالتي يتعجب منها الثقلان, فلا بد أن تكون تلك الشفاعة فوق دخول الجنة؛ لكي يتعجب لها الثقلان.

3- وهذا علي أمير المؤمنين  عليه السلام يصلّي ويترحم عليه في أبيات له:

أبا طالب عصمة المستجير
لقد هدّ فقدك أهل الحفاظ
ولقّاك ربك رضوانه
    

 
    

وغيث المحول ونور الظلم
فصلى عليك وليُّ النعم
فقد كنت للمصطفى خير عم([25])

4- وقال في الرحبة لما قال له رجل: أبوك معذب في النار:

(مه فضّ الله فاك, والذي بعث محمداً بالحق نبياً لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعّه الله .. أأبي معذب في النار وابنه قسيم الجنة والنار, إنّ نور أبي طالب ـ يوم القيامةـ ليطفئ أنوار الخلائق إلا خمسة أنوار)([26])

5- وقال أمير المؤمنين عليه السلام :

(كان ـ والله ـ أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب مؤمناً مسلماً يكتم إيمانه مخافةً على بني هاشم أن تنابذها قريش)([27])

6- وروي عن حفيده الإمام زين العابدين  عليه السلام  لما قال له أحدهم: يزعمون أن أبا طالب كافر, أنّه قال :

(وا عجباً كل العجب أيطعنون على أبي طالب, أو على رسول الله وقد نهاه الله تعالى أن يقرّ مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن, ولا يشك أحد إنّ فاطمة بنت أسد من المؤمنات السابقات, فإنّها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب)([28])

7- وقال حفيده الإمام محمد بن علي الباقر  عليه السلام :

(لو وضع إيمان أبي طالب في كفةٍ ميزان وإيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه .. ألم تعلموا أنّ أمير المؤمنين علياً كان يأمر أن يحجَّ عن عبد الله وآمنة وأبي طالب في حياته ـ أي في حياة علي ـ ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم)([29])

8- يسأل الإمام الصادق عليه السلام : (يا يونس, ما يقول الناس في أبي طالب, يجيب يونس: هو في ضحضاح من نار يغلي منها أم رأسه! فيقول الإمام:

(كذب أعداء الله إنّ أبا طالب من رفقاء النبييّن والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيق)([30])

9- ويقول فيه حفيده الإمام الكاظم  عليه السلام :( إنه وصي من الأوصياء) لمّا سأله أحدهما من حال أبي طالب, فقال:

(أقرّ بالنبي وبما جاء به ودفع إليه الوصاي)([31])

10ـ وكتب أبان بن محمد إلى الإمام علي بن موسى الرضا  عليه السلام : (جعلت فداك, إنّي قد شككت في إسلام أبي طالب. فكتب إليه الإمام: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}, إنّك إن لم تقرّ بإيمان أبي طالب كان مصيرك الى النار) ([32]).

11- وهذا الإمام الحسن بن علي العسكري  عليه السلام يقول في حديث طويل عن آبائه الأطهار:

(إنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى الرسول: إني قد أيدتك بشيعتين: شيعة تنصرك سرّاً وشيعة تنصرك علانية, فأما التي تنصرك سراً, فسيدهم وأفضلهم عمك أبو طالب, وإما التي تنصرك علانية, فسيدهم وأفضلهم ابنه علي بن أبي طالب عليه السلام .. وانّ أبا طالب كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه)([33])

فهذه هي أقواله, وهذه هي أفعاله, وهذه أقوال أهل البيت D فيه, الذين لا يمكن حمل أقوالهم تلك على حميّة النسب بعد ما جاء القرآن بطهارتهم:

{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }([34])

 

الكاتب : الشيخ أحمد الفتلاوي


 

([1]) سيرة ابن هشام, ج1 ص264. تاريخ الطبري, ج2 ص58. شرح النهج ج3 ص305.

([2])  السيرة الحلبية, ج1 ص304. شرح النهج, ج3 ص272 الإصابة ج4 ص116. البحار, ج6 ص444 و403.

([3])  شرح نهج, لابن أبي الحديد, ج3 ص273 و314. ديوان أبي طالب, ص11.

([4])  شرح النهج, ج3 ص305. الغدير, ج7 ص334, 363.

([5])  راجع: إسناد هذه الحادثة في كتاب الغدير, ج7 ص349, 252.

([6]) الغدير ج7 ص 359

([7]) العربد: الشديد من كل شيء, ذكر الأفاعي.

([8]) شرح النهج, ج3 ص315. ديوان أبي طالب, ص12.

([9])  لأن أم أبي طالب مخزومية.

([10])  شرح النهج, ج3 ص306. سيرة ابن هشام, ج2 ص10.

([11])  شرح النهج, ج3 ص313. الغدير, ج7 ص35.

([12]) إيمان أبي طالب, ص38 ـ 39.

([13])  شرح النهج, ج3 ص310. الغدير,ج3ص358.

([14])  سيرة ابن هشام, ج2ص 160. الكامل في التاريخ, ج2ص 71. السيرة الحلبية,ج 1 ص381. الغدير, ج7 ص364.

([15])  أسند مؤلف الغدير هذه الوصية إلى هذه المصادر: الروض الأنف, ج1:ص209. المواهب, ج1ص72. تاريخ الخميس, ج1ص339. ثمرات الأوراق, ج2 ص9. بلوغ الأرب, ج1 ص327. السيرة الحلبية, ج1ص 375. وغيرها, راجع الغدير, ج7 ص367.

([16])  شرح النهج, ج3 ص314.

([17])  شرح النهج ج3 ص313. ديوان أبي طالب ص9, الغدير ج7 ص335.

([18])  سيرة ابن هشام ج1 ص357. شرح النهج ج2 ص314.

([19])  شرح النهج ج3 ص312. الغديرج7 ص333.

([20])  سيرة ابن هشام, ج1 ص377. شرح النهج ج3 ص313. الغدير ج7 ص333.

([21])  سيرة ابن هشام ج2 ص17.

([22])  الغدير ج7 ص342 و 401.

([23])  ذكر ذلك في السيرة النبوية, ج1 ص84, مروياً عن أبي داود, والنسائي, وابن الجارود, وابن خزيمة, وذكر ذلك الغدير ج3 ص99 وج7 ص373 عن طبقات ابن سعد والواقدي وابن عساكر والبيهقي وسبط ابن الجوزي والبرزنجي وغيرهم.

([24])  شرح النهج 3: 314. البحار 6: 529و 544. الغدير 7: 374 و387. تذكرة الخواص: 10.

([25])  تذكرة الخواص, ص12. الغدير, ج3 ص99 وج7 ص379 و389.

([26]) تذكرة الخواص, ص12. الغدير, ج3, ص99 وج7 ص379 و 389.

([27])  المصدر نفسه, ج7 ص389.

([28])  شرح النهج ج3 ص312. الغدير, ج7 ص381 و390 و391.

([29])  المصدر نفسه, ج3 ص311. الغدير, ج7 ص381 و391.

([30])  الغدير ج7 ص394 مسنداً لعدة مصادر.

([31])  الغدير, ج7 ص381 و396 مسنداً لمصادر عدّة. شرح النهج ج3 ص311.

([32])  المصدر نفسه.

([33])  الغدير ج7 ص368 مسنداً لعدة مصادر.

([34]) الأحزاب: 33.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مقام علي الأكبر (ع) في كلمات الأئمة (عليهم السلام)
وقفوهم إنهم مسئولون
مكانة السيدة المعصومة (عليها السلام):
يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا
ملامح شخصية الإمام جعفر الصادق عليه السلام
أحاديث في الخشية من الله (عزّ وجلّ)
أقوال علماء أهل السنة في اختصاص آية التطهير ...
فاطمة هي فاطمة.. وما أدراك ما فاطمة
معرفة فاطمة عليها السلام
علي مع الحق - علي مع القرآن - شبهة وجوابها - خلاصة ...

 
user comment