مناظرة الدكتور التيجاني مع أحد العلماء
قلت لاحد علمائنا : إذا كان معاوية قتل الابرياء وهتك الاعراض وتحكمون بأنّه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد.
وإذا كان يزيد قتل أبناء الرسول وأباح المدينة (1) لجيشه وتحكمون بأنّه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد ، حتى قال بعضكم : « قُتل الحسين بسيف جدّه » (2) لتبرير فعل يزيد.
فلماذا لا أجتهد أنا في البحث ، وهو ما يجرّني للشك في الصحابة وتعرية البعض منهم وهذا لا يقاس بالنسبة للقتل الذي فعله معاوية وابنه يزيد في العترة الطاهرة ، فإن أصبت فلي أجران وإن أخطأت فلي أجر « واحد » ، على أنّ انتقاصي لبعض الصحابة لا أريد منه السبّ والشتم واللّعن ، وإنّما أريد الوصول إلى الحقيقة لمعرفة الفرقة الناجية من بين الفرق الضّالة.
وهذا واجبي وواجب كل مسلم ، والله سبحانه يعلم السرائر وما تخفي الصدور.
أجابني العالم قائلاً : يا بني لقد أُغلق باب الاجتهاد من زمان.
فقلت : ومن أغلقه ؟
قال : الائمة الاربعة.
فقلت متحرّرا : الحمد لله إذ لم يكن الله هو الذي أغلقه ولا رسول الله ولا الخلفاء الراشدون الذين « أمرنا بالاقتداء بهم » فليس عليّ حرج إذا اجتهدت كما اجتهدوا.
فقال : لا يمكنك الاجتهاد إلاّ إذا عرفت سبعة عشر علما ، منها علم التفسير واللّغة والنحو والصرف والبلاغة والاحاديث والتاريخ وغيرذلك.
وقاطعته قائلاً : أنا لن أجتهد لابيّن للناس أحكام القرآن والسنّة أو لاكون صاحب مذهب في الاسلام ، كلا ، ولكن لاعرف من على الحق ومن على الباطل ، ولمعرفة إن كان الامام عليّ على الحق ، أو معاوية مثلاً ، ولا يتطلّب ذلك الاحاطة بسبعة عشر علما ، ويكفي أن أدرس حياة كل منهما وما فعلاه حتى أتبيّن الحقيقة.
قال : وما يهمّك أن تعرف ذلك : ( تلك أُمَّةٌ قد خَلت لها ما كسبت ولكُم ما كسبتُم ولا تُسألونُ عمَا كانوا يعملُونَ ) (3).
قلت : أتقرأ « ولا تسألون » بفتح التّاء أم بضمّها ؟
قال : تُسألون بالضمّ.
قلت : الحمد لله لو كانت بالفتح لامتنع البحث ، وما دامت بالضم فمعناها أنّ الله سبحانه سوف لن يحاسبنا عمّا فعلوا وذلك كقوله تعالى :
( كل نفس بمـا كسبت رهينـة ) (4) ، و ( وأن لـيس للانسـان إلاّ مـا سعى ) (5).
وقد حثّنا القرآن الكريم على استطلاع أخبار الامم السابقة ولنستخلص منها العبرة ، وقد حكى الله لنا عن فرعون وهامان ونمرود وقارون وعن الانبياء السابقين وشعوبهم ، لا للتسلية ولكن ليعرفنا الحق من الباطل.
أمّا قولك : « وما يهمني من هذا البحث » ؟
فأجيب عليه بقولي : يهمني :
أولاً : لكي أعرف وليَّ الله فأواليه ، وأعرف عدوَّ الله فأعاديه ، وهذا ما طلبه مني القرآن بل أوجبه عليَّ.
ثانيا : يهمّني أن أعرف كيف أعبد الله وأتقرّب إليه بالفرائض التي افترضها وكما يريدها هو جلّ وعلا ، لا كما يريدها مالك أو أبو حنيفة أوغيرهم من المجتهدين لانّي وجدت مالكا يقول بكراهة البسملة في الصّلاة (6) بينما يقول أبو حنيفة بوجوبها (7) ، ويقول غيره ببطلان الصلاة بدونها !
وبما أنّ الصلاة هي عمود الدّين إنْ قُبِلت قُبل ما سواها وإن رُدّت ردّ ما سواها ، فلا أريد أن تكون صلاتي باطلة ، كما أنّ الشيعة يقولون بمسح الرجلين في الوضوء ويقول السنّة بغسلهما بينما نقرأ في القرآن ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ) (8) وهي صريحة في المسح ، فيكف تريد يا سيدي أن يقبل المسلم العاقل قول هذا ويردّ قول ذاك بدون بحث ودليل.
قال : بإمكانك أن تأخذ من كلّ مذهب ما يعجبك لانها مذاهب إسلامية وكلّهم من رسول الله ملتمس.
قلت : أخاف أن أكون ممن قال الله فيهم : ( أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ) (9).
يا سيدي أنا لا أعتقد بأنّ المذاهب كلّها على حق ما دام الواحد منهم يبيح الشيء ويحرّمه الاخر ، فلا يمكن أن يكون الشيء حراما وحلالاً في آن واحد والرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لم يتناقض في أحكامه لانّه « وحي من القرآن » ، ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) (10).
وبما أنّ المذاهب الاربعة فيها اختلاف كثير فليست من عند الله ولا من عند رسوله لانّ الرسول لا يناقض القرآن.
ولما رأى الشيخ العالم كلامي منطقيّا وحجتي مقبولة.
قال : أنصحك لوجه الله تعالى مهما شككت فلا تشك في الخلفاء الراشدين ، فهم أعمدة الاسلام الاربعة إذا هدّمت عمودا منها سقط البناء !!
قلت : استغفر الله يا سيدي فأين رسول الله إذن إذا كان هؤلاء هم أعمدة الاسلام ؟
أجاب : رسول الله هو ذاك البناء ! هو الاسلام كلّه.
ابتسمت من هذا التحليل وقلت : استغفر الله مرة أخرى يا سيدي الشيخ فأنت تقول من حيث لا تشعر : بأنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لم يكن ليستقيم إلاّ بهؤلاء الاربعة بينما يقول الله تعالى : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيدا ) (11).
فقد أرسل محمدا بالرسالة ولم يشركه فيها أحدا من هؤلاء الاربعة ولا من غيرهم ، وقد قال الله تعالى في هذا الصّدد : ( كما أرسلنافيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون ) (12).
قال : هذا ما تعلّمناه نحن من مشايخنا وأئمتنا ، ولم نكن نحن في جيلنا نناقش ولا نجادل العلمأ مثلكم اليوم الجيل الجديد أصبحتم تشكّون في كل شيء وتشكّكون في الدين ، وهذه من علامات الساعة فقد قال ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : لن تقوم الساعة إلاّ على شرار الخلق (13).
فقلت : يا سيدي لماذا هذا التهويل ، أعوذ بالله أن أشكّ في الدين أو أشكك فيه ، فقد آمنت بالله وحده لا شريك له وملائكته وكتبه ورسله ،
وآمنت بأنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله وهو أفضل الانبيأ والمرسلين وخاتمهم وأنا من المسلمين ، فكيف تتّهمني بهذا ؟
قال : أتهمك بأكثر من هذا لانّك تشكك في سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وقد قال ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : لو وزن إيمان أمّتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر (14).
وقال في حقّ سيدنا عمر : عرضت عليّ أمتي وهي ترتدي قمصا لم تبلغ الثدي وعرض عليّ عمر وهو يجرّ قميصه ، قالوا : ما أوّلته يارسول الله ؟ قال : الدين (15).
وتأتي أنت اليوم في القرن الرابع عشر لتشكك في عدالة الصحابة وبالخصوص أبي بكر وعمر ، ألم تعلم بأنّ أهل العراق هم أهل الشقاق ، هم أهل الكفر والنفاق !!
ماذا أقول لهذا العالم المدّعي العلم الذي أخذته العزّة بالاثم ، فتحوّل من الجدال بالتي هي أحسن إلى التهريج والافتراء وبثّ الاشاعات أمام مجموعة من الناس المعجبين به والذين احمرّت أعينهم وانتفخت أوداجهم ولاحظت في وجوههم الشر.
فما كان منّي إلاّ أن أسرعت إلى البيت وأتيتهم بكتاب الموطأ للامام مالك وصحيح البخاري ، وقلت : يا سيدي إنّ الذي بعثني على هذا الشك هو رسول الله نفسه ، وفتحت كتاب الموطأ وفيه روى مالك أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال لشهداء أحد : هؤلاء أشهدعليهم ، فقال أبو بكر الصديق : ألسنا يا رسول الله إخوانهم أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي! فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال : « إنّنا لكائنون بعدك (16).
ثم فتحت صحيح البخاري وفيه : دخل عمر بن الخطاب على حفصة وعندها أسماء بنت عميس فقال ـ حين رآها ـ : من هذه ؟ قالت :
أسماء بنت عميس ، قال عمر : الحبشية هذه ، البحرية هذه ، قالت أسماء : نعم ، قال : سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول الله منكم، فغضبت وقالت : كلا والله ، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنّا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله ، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ونحن كنّا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك للنبي أسأله والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه ، فلمّا جاء النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قالت : يا نبي الله ، عمر قال: كذا وكذا.
قال : فما قلت له. قالت : كذا وكذا.
قال : ليس بأحقّ بي منكم ، وله ولاصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان ، قالت : فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينةيأتونني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم ما في أنفسهم ممّا قال لهم النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ (17).
وبعد ما قرأ الشيخ العالم والحاضرون معه الاحاديث تغيّرت وجوههم وبدأوا ينظرون بعضهم إلى بعض ينتظرون ردّ العالم الذي صدم فما كان منه إلاّ أن رفع حاجبيه علامة التعجّب وقال : ( وقل ربّ زدني علما ) (18).
فقلت : إذا كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ هو أوّل من شكّ في أبي بكر ولم يشهد عليه لانّه لا يدري ماذا سوف يحدث من بعده ، وإذا كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لم يقرّ بتفضيل عمر بن الخطّاب على أسماء بنت عميس بل فضّلها عليه ، فمن حقّي أن أشك وأن لا أفضّل أحدا حتى أتبيّن وأعرف الحقيقة ومن المعلوم أنّ هذين الحديثين يناقضان كل الاحاديث الواردة في فضل أبي بكر وعمرويبطلانها ، لانّهما أقرب إلى الواقع المعقول من أحاديث الفضائل المزعومة.
قال الحاضرون : وكيف ذلك ؟
قلت : إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لم يشهد على أبي بكر ، وقال له إنّني لا أدري ماذا تحدثون بعدي ! فهذا معقول جدا وقد قرّر ذلك القرآن الكريم والتاريخ يشهد أنّهم بدّلوا بعده ولذلك بكى أبو بكر ، وقد بدّل وأغضب فاطمة الزهراء بنت الرسول ، وقد بدّل حتى ندم قبل وفاته (19) وتمنى أن لا يكون بشرا.
أمّا الحديث الذي يقول : لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر (20) ، فهو باطل وغير معقول ، ولا يمكن أن يكون رجل قضى أربعين سنة من عمره يشرك بالله ويعبد الاصنام أرجح إيمانا من أمّة محمّد بأسرها ، وفيها أولياء الله الصالحين والشهداء والائمة الذين قضوا أعمارهم كلّها جهادا في سبيل الله ، ثم أين أبو بكر من هذا الحديث ؟ لو كان صحيحا لما كان في آخر حياته يتمنى أن لا يكون بشرا.
ولو كان إيمانه يفوق إيمان الامة ما كانت سيدة النساء فاطمة بنت الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، تغضب عليه وتدعو الله عليه في كل صلاه تصلّيها (21).
ولم يرد العالم بشيء ، ولكنّ بعض المجالسين قالوا : لقد بعث والله هذا الحديث الشك فينا ، عند ذلك تكلم العالم ليقول لي : أهذا ما تريده ؟
لقد شككت هؤلاء في دينهم !!
وكفاني أحدهم الردّ عليه ، إذ قال : كلا ، إنّ الحق معه ، نحن لم نقرأ في حياتنا كتابا كاملاً ، واتّبعناكم واقتدينا بكم في ثقة عمياء بدون نقاش ، وقد تبيّن لنا الان أنّ ما يقوله الحاج صحيح ، فمن واجبنا أن نقرأ ونبحث !!
ووافقه على رأيه بعض الحاضرين ، وكان ذلك انتصارا للحق والحقيقة ، ولم يكن انتصارا بالقوة والقهر ولكنّه انتصار العقل والحجّةوالبرهان ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) (22).
ذلك ما دفعني وشجّعني على الدخول في البحث وفتح الباب على مصراعيه فدخلته باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله ، راجيا منه سبحانه وتعالى التوفيق والهداية فهو الذي وعد بهداية كلّ باحث عن الحقّ وهو لا يخلف وعده (23).
____________
(1) تقدمت تخريجاته.
(2) حياة الامام الحسين ـ عليه السلام ـ للقرشي ج3 ص403 ، العواصم من القواصم لابن العربي ص232 بما معناه.
(3) سورة البقرة : الاية 134.
(4) سورة المدثر : الاية 38.
(5) سورة النجم : الاية 39.
(6) الفقه على المذاهب الاربعة للجزري ج1 257.
(7) الفقه على المذاهب الاربعة ج1 ص257 ، الفقه الاسلامي وأدلته ج1 ص646.
(8) سورة المائدة : الاية 6.
(9) سورة الجاثية : الاية 23.
(10) سورة النساء : الاية 82.
(11) سورة الفتح : الاية 28.
(12) سورة البقرة : الاية 151.
(13) مسند أحمد بن حنبل ج1 ص394 ، صحيح مسلم ج4 ص2268 ح131 ـ ( 2949 ) ، المعجم الكبير للطبراني ج10ص127 ح10097 ، شرح السنّة للبغوي ج15 ص90 ح4286 ، كنز العمال ج14 ص112 ح38436.
(14) فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل ج2 ص418 ح653 ، شعب الايمان للبيهقي ج1 ص69 ح36 ، كشف الخفاء للعجلوني ج2 ص216 ح2130 ، إتحاف السادة المتقين للزبيدي ج1 ص323.
والحديث حكم بضعفه وذلك لضعف راويه وهو عبدالله بن عبد العزيز بن أبي روّاد لانه يحدّث عن أبيه ، عن نافع عن ابن عمر بأحاديث لايتابعه أحد عليها. قال ذلك ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال ج4 ص1518 ، وقال عنه العقيلي يحدّث عن أبيه ، أحاديثه مناكيرغير محفوظة ، ليس ممن يقيم الحديث الضعفاء الكبير ج2 ص279 ترجمة رقم : 842 ، وفي ميزان الاعتدال قال ابو حاتم وغيره :
أحاديثه منكرة ، وقال ابن الجنيد : لا يساوي فلسا ج2 ص455.
(15) مسند أحمد بن حنبل ج3 ص86 ، صحيح البخاري ج5 ص15 ، صحيح مسلم ج4 ص1859 ح15 ـ ( 2390 ) ، الرياض النضرة ج2 ص304.
(16) الموطأ لمالك ج2 ص461 ح32 ، المغازي للواقدي ج1 ص310.
(17) صحيح البخاري ج5 ص175 ، صحيح مسلم ج4 ص1946 ح2503 ، حلية الاولياء ج2 ص74 ، دلائل النبوة للبيهقي ج4 ص244 ، البداية والنهاية لابن كثير ج4 ص206.
(18) سورة طه : الاية 114.
(19) تقدمت تخريجاته.
(20) تقدمت تخريجاته.
(21) تقدمت تخريجاته.
(22) سورة البقرة : الاية 111.
(23) كتاب ثم اهتديت للدكتور التيجاني ص149.