سعي الإمام العسكري في إثبات ولادة الإمام المهدي
كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كآبائه الكرام ، عَلَماً لا يخفى ، وإماماً لا يجهله أحد . فكان أُستاذ العلماء ، وقدوة العابدين ، وزعيم الدِّين والسياسة ، يُشار إليه بالبَنان ، وتهفو إليه النفوس بالحبّ والولاء.
وعلى رغم الإرهاب العبّاسي ، والمعاداة السياسيّة لأهل البيت (عليهم السلام) ، وملاحقة السلطة له ولأصحابه ، وزجّهم في المحابس والسجون ، رغم كلّ هذا فإنّ خلفاء عصره لم يستطيعوا إخفاء شخصيته ، أو تحجيم دوره السياسي والعلمي ، ومكانته الاجتماعيّة ، ففرض نفسه على حكّام عصره وخصومه.
وقد كان للإمام العسكري دور مهم في قضية الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف) ، وإظهاره للناس واثبات ولادته ، مع حرصه الكبير على كتمان أمره ؛ خوفاً عليه من طواغيت عصره .
وقد سعى الإمام بمختلف الوسائل والطرق ، وبحرص دائم على قضية إثبات ولادة ووجود الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه) ، فاتّخذ جملة إجراءات:
* إكثار العقائق (العقيقة) عن الإمام المهدي (عليه السلام):
من أهم هذه الإجراءات ـ هذا الموضوع مهم بارتباطه في موضوع الغيبة الصغرى ، لأنَّنا لمّا نتكلّم عن موضوع الغيبة لا بد أن نعرف أنّ هذا الغائب (صلوات الله وسلامه عليه) مولود موجود ـ بل أوّل إجراء اتّخذه الإمام العسكري (سلام الله عليه) فيما تفيد الروايات : أنّه أكثر من العقائق عن الإمام المهدي (عليه السلام) ، وهذه من خواصه أنَّه لم يُعق عن مولود على الإطلاق كما عُقّ عن الإمام صاحب الأمر (عليه السلام) ، حتّى ورد في رواياتنا: أنَّه عُقّ عنه ثلاثمئة عقيقة (1) ، بل أمَرَ الإمام العسكري (عليه السلام) عثمان بن سعيد أن يشتري كذا ألف رطل ـ الرطل قرابة ثلث كيلو غرام ـ من اللحم ، وممّا شاكل ويوزّعه على الفقراء (2) .
والشيء الملفت للنظر أنّ الإمام نوّع وعدّد الأماكن ، مثلاً : كتب إلى خواصّه في قم أن يعقّوا (3) ، وأن يقولوا للناس : إنَّ هذه العقيقة بمناسبة ولادة المولود الجديد للإمام العسكري (عليه السلام) ، وأنّه محمد . وهكذا ـ مثلاً ـ كتب إلى خواصه في بغداد وفي سامراء .
هذه عناية من الإمام (سلام الله عليه) ، كثرة العقائق وإخبار الناس بمناسبة هذه العقائق ومَن ذبحت عنه هذه العقيقة مثلاً ، هذا كلّه إجراء أوّل أراد منه الإمام (سلام الله عليه) عملية إعلامية : بأنّ هذا الإمام الثاني عشر المنتظر (صلوات الله وسلامه عليه) قد وُلِد ، وقد تشرَّفت البشرية والعالم بإشراق نور وجهه المقدَّس .
* مَن رأى الإمام المهدي (عليه السلام) :
الإجراء الثاني الذي حرص الإمام (عليه السلام) عليه هو : أنّه كان يحضر مجاميع من خواصّه وشيعته ، وكان يعرِّفهم على ولده الإمام المهدي (سلام الله عليه) .
وهذا ظاهر من جملة روايات ـ مثلاً ـ في " إكمال الدين " للشيخ الصدوق (أعلى الله مقامه) ، عن أبي غانم الخادم : أنّ الإمام العسكري (عليه السلام) أخرج ولده محمداً (عليه السلام) في الثالث من مولده وعرضه على أصحابه ، قائلاً : (هذا صاحبكم من بعدي ، وخليفتي عليكم ، وهو القائم الذي تمتدّ إليه الأعناق بالانتظار ، فإذا امتلأت الأرض ظلماً وجوراً خرج فيملاها قسطاً وعدلاً) (4) .
وهكذا الرواية السابقة التي رواها شيخ الطائفة (أعلى الله مقامه) في كتاب " الغيبة " ، والتي قرأتها على مسامعكم : أنّ الإمام أطلع أربعين ـ تقريباً ـ من خواص أصحابه على ولده (سلام الله عليه) .
وهنالك أشخاص آخرون أيضاً لا بعنوان مجاميع ، بل بعنوان أشخاص منفردين أيضاً أطلعهم الإمام (سلام الله عليه) .
هذا غير إطلاع مَن في البيت بمناسبة قضية الولادة ، مثل : نسيم الخادمة ، وحكيمة ، وأم أبي محمد العسكري ، كما جاء في الرواية التي يرويها الشيخ الصدوق (أعلى الله مقامه) ، رواية جليلة ومهمة جداً :
دخل أحدهم على السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليهما السلام) ، وسألها عمّا تأتم به من الحجج ؟ فعدّت الأئمة (سلام الله عليه) إلى أن وصلت إلى الإمام العسكري (عليه السلام) ، فقالت بعده : والحجة بن الحسن بن عليّ ، فقال لها السائل : سيدتي أتقولين ذلك عن خبر أو معاينة؟ ـ يعني هذا الحجة بن الحسن رأيتيه أم سمعتي به ؟ ـ قالت: بل هي معاينة ، قلت : فلمَن يفزع الناس اليوم ، والحال أنّ الناس لم يعاينوه؟ قالت : ارجعوا إلى أمّ أبي محمد ـ يعني أم الإمام العسكري (سلام الله عليه) ، لاحظوا هذه القضية السائل يقول ـ قلت لها: بمَن اقتدى الإمام العسكري (عليه السلام) في وصيته لأم أبي محمد ، إذاً كان الإمام هو ابنه محمد الحجة ابن الحسن (سلام الله عليه) .
يعني كان الإمام (سلام الله عليه) للتغطية على ولده ، وللحفاظ على ولده في بعض المجالات ، كان يحيل في الظاهر بعض القضايا على أم أبي محمد ، يعني أم الإمام العسكري (سلام الله عليه) ، كيف كان يحيل عليها ؟ لاحظوا الجواب في غاية الأهمية :
قالت (عليها السلام) : اقتدى في ذلك بجدّي الحسين بن علي شهيد الطف (صلوات الله وسلامه عليه) ، حيث أوصى في الظاهر بأخته العقيلة زينب (عليها السلام) ، وفي الواقع أنّ الإمامة لولده زين العابدين (عليه السلام) ، وذلك حفاظاً على ولده زين العابدين ، فكان ما يخرج من زينب من علم ربما نُسِبَ لزينب (عليها السلام) ، وهو في الواقع لعلي بن الحسين (عليهما السلام) (5) .
كانت ظروف تقية ، بحيث إنّ الراوي إذا روى ، كان يخاف أن يقول : حدثني علي ، أو روى فلان عن فلان عن علي ، كثيراً ما كان يقول مثلاً : حدَّثني أبو زينب ، أو روى فلان عن فلان عن أبي زينب ، ويعني بأبي زينب أمير المؤمنين (سلام الله عليه) .
فالخلاصة ، أم أبي محمد العسكري رأت الإمام ، نسيم الخادمة ، حكيمة ، كذلك أحمد بن إسحاق الأشعري في قضية طويلة أيضاً يرويها الشيخ الصدوق (6) ، ويعقوب بن منقوش ، مضافاً للعدد الذي ذكرته .
فالإجراء الأول قضية الإعلام والعقائق ، والإجراء الثاني قضية عرضه على الناس ... .
فإذن الإمام (سلام الله عليه) في واقع الأمر غيبته كانت غيبة بعد ثبوت مولد ، بعد ثبوت وجود ، وأنّ الإمام (سلام الله عليه) كان يتعامل مع تلك القواعد عن طريق توقيعاته المقدّسة التي كان ينقلها أولئك السفراء .
ـــــــــــــــــــــ
* اقتباس قسم المقالات في شبكة الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي، المصدر : " الإمام المهدي (عليه السلام) من المهد إلى اللحد " ، السيد محمد كاظم القزويني .
1 ـ كمال الدين : 431 ، ح 6.
2 ـ راجع : الإمام المهدي (عليه السلام) من المهد إلى اللحد.
3 ـ كمال الدين : 431 ، ح 8.
4 ـ كمال الدين : 501 ، ح 27 ، الغيبة للطوسي: 230 ، ح 196.
5 ـ كمال الدين : 454 ، ح 21.