عربي
Tuesday 26th of November 2024
0
نفر 0

حقيقة الانتظار وآثار فهمه السليم

حقيقة الانتظار وآثار فهمه السليم

حقيقة الانتظار وآثار فهمه السليم (*)

الشيخ محمّد الأسدي

 مقدّمة :

لم تكن مسألة انتظار المصلح من مبتكرات مذهب التشيّع ومختصّاته ، بل وليس من مختصّات الإسلام ؛ وإنّما هي سُنّة إلهيّة جَرَتْ في جميع الأديان السماوية . فقد اقتضتْ الإرادة الإلهيّة أنْ تكون هذه السُّنّة جارية في جميع الرسالات ؛ لِمَا في ذلك من مصلحة عظيمة ، ولذلك فإنّ الرسل والأنبياء (عليهم السّلام) كانوا دائماً يبشّرون بما يأتي بعدهم من أنبياء ورسل وديانات ، وتصدر منهم الأحاديث والتوصيات في ضرورة اتّباع الديانة القادمة , وتكون هذه التوصيات بمثابة الدعاية لتلك الديانة المرتقّبة أو النبي المنتظر ، والتي سوف تترك أثرها الكبير على الخطّين المتنازعين في هذه الأرض ؛ خطّ الله تعالى وخطّ الشيطان ، خطّ الهدى وخطّ الضلال ، خطّ الحقّ وخطّ الباطل .

فإنّها من جهة تبعث الأمل في نفوس أصحاب الحقّ وتجعلهم على استعداد تام لاستقبال المصلِح القادم , والتفاعل مع دعوته ؛ الأمر الذي يهيّئ له الأرضيّة الصالحة لنجاح دعوته المقدّسة ، ومن جهة أخرى فإنّ مثل هذه الأخبار التي تطمئنّ لها نفوسُ الصالحين ؛ لصدورها عن منبع الحكمة والحقّ واليقين عن الله تعالى وأوليائه ، وتجزع منها نفوس الطالحين ، وتزرع في قلوبهم الرعب والهزيمة ، خصوصاً إذا تركّزتْ في نفوسهم أنّ المصلح المرتقب سوف يكون على يده انهيار عروشهم الواهية ، المبنيّة على مجموعة من الأوهام والخزعبلات التي يصوّرها الظالمون على أنّها حقائق ثابتة .

فوجود مثل حالة الرعب هذه سوف يكون لها الأثر الكبير في انتصار المصلح القادم ؛ لأنّ ذلك يعني أنّ العدو المقابل يعيش حالة الانهزام مقدّماً ، ممّا سيؤدّي إلى تحقيق النصر بأقلّ جهود وأقصر وقت ؛ لأنّ العدو يعين على نفسه بخوفه , ويساعد في تحقيق هزيمته .

والذي يريد أنْ يقطع بأنّ مسألة انتظار المصلح سُنّة إلهيّة جُعِلَتْ لِمَا فيها من مصالح عظيمة ، لا يحتاج إلاّ مراجعة بسيطة لكتب تاريخ الديانات السماويّة ليرى كيف خاف فرعون من موسى (عليه السّلام) قبل ولادته بسنين ، وماذا ترتّب من آثار على التبشير بالمسيح عيسى بن مريم (عليه السّلام) ، ثمّ العهد المسيحي وما شهده من حملة تبشير واسعة جدّاً بنبوّة النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) كما صرّح القران الكريم بذلك ؛ حيث قال تعالى : ( .. وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ .. )(1) .

ومن ذلك نقطع بوجود هذه السُّنّة في الأديان التي سبقتْ الدين الإسلامي الحنيف ، ولم يتخلف الإسلام عن جريان هذه السُّنّة الإلهية ؛ فقد صرّحت النصوصُ الكثيرة وأشارتْ الأُخرى إلى وجود هذه السُّنّة ، وذلك بالتبشير المستمر بأنّ ختام هذا الأمر بعد زمن قد يطول وقد يقصر سيكون على يد المصلح العالمي إمام الزمان المهدي الموعود (عجّل الله فرجه الشريف) .

إذاً نحن ننتظر ومعتقدون بأنّ هذا الأمر لا بدّ أنْ يأتي يومه الموعود ، ولكن لنا أنْ نتساءل : ما هي حقيقة الانتظار ؟

الانتظار معنىً وحقيقةً :

مهما تحدّثنا لنْ نفي بالغرض ؛ وذلك لضعف البنان وبساطة البيان من جهة ، ولعظمة الموضوع وتعدّد أبعاده من جهة أُخرى ، ولكن ما لا يُدْرَك كلُّه لا يُتْرَك جُلُّه .

نحن في هذه الفترة الراهنة نواجه تحدّيات كبرى وهجومات خطيرة تستهدف الإسلام ومبادئه ، وبالخصوص النيل من عقائد المؤمنين ؛ بإثارة الشبهات الفكرية والعقائدية . ومِن أكبر حملات الكفر العالمي على العقائد الحملةُ الموجّهة للنيل من عقيدة الانتظار ؛ لِمَا تحمله هذه العقيدة من قدرة على تعبئة الجماهير المؤمنة ضد الكفر وأهله .

ومِن تلك الحملات ما جرى من كتابات لأقلام مأجورة نالتْ مِن حرمة الساحة المقدّسة للإمام المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ، فمنها ما جاء في كتابات أحمد الكاتب ، ومنها ما جاء في نشرة ( موج ) التي نشرت في جامعة طهران ، وقد تصدّى العلماء لهذه الحملة بقوّة .

فنحن إذاً نعيش هذه الأيّام فرحة ميلاد الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ، نودّ أنْ نبيّن جانب من مسؤولية الإنسان المؤمن في هذه المرحلة الحسّاسة من حياة الاُمّة ، فعلينا أوّلاً أنْ نحدّد محتوى الانتظار ؛ لكي نتسلّح بسلاح الإيمان الواعي لمواجهة الحملة الشرسة التي تريد سَلْب عقيدة الانتظار من نفوس المؤمنين بسلب عقيدة المنتظر (عليه السّلام) أو الانتقاص منها ، فنقول :

الانتظار لغةً واصطلاحاً :

في اللغة يُقال : انتظره ، كأنّه ينظر إلى الوقت الذي يأتي فيه .

ويُقال : انتظره : ترقّبه ـ توقّعه(2) .

إذاً الانتظار في اللغة يعني الترقب والتوقع لأمر مستقبلي الوقوع .

أمّا اصطلاحاً : فقد عُرّف الانتظار بأنّه : التوقع الدائم لتنفيذ الغرض الإلهي الكبير ، وحصول اليوم الموعود الذي تعيش فيه البشرية العدل الكامل ، بقيادة وإشراف الإمام المهدي (عليه السّلام)(3) .

حقيقة الانتظار :

وممّا يستحقّ الإشارة إليه في هذا المضمار أنّ الانتظار واقع بين حالتي السلب والإيجاب ، ولكلّ حالة من هاتين أهلها ومروّجوها وإنْ كان شياع وانتشار السلب أقلّ بكثير من الإيجاب ، فما هما هاتان الحالتان ؟ ومع مَن يجب أنْ نتخندق ؟

وللجواب على السؤالَين معاً نتحدّث عن كلا الاتجاهين ـ الذي يتبنّى الحالة السلبية ، والذي يتبنّى الحالة الايجابية ـ بشيء من التفصيل .

* أوّلاً : الاتّجاه السلبي :

وأصحاب هذا الاتجاه يرون أنْ ننتظر الإمام (عليه السّلام) نياماً راغدين ، تدغدغ أسماعنا أصوات الموسيقى الناعمة ، وعليه ـ هو بأبي وأُمّي ـ أنْ يأتي لنا بالنصر على صهوة جواده إلى حيث نغطّ في أعماق النوم القاتل ، والسبات الشامل ، وحين ذاك ننتفض من غفوتنا لِنَنْعم بحلاوة النصر الإلهي للدولة المهدويّة ؛ إشباعاً منّا لغريزة الحرية والانعتاق من نير الظلم والظالمين ، وبقية الغرائز الأخرى .

ويرى أصحاب هذا الاتّجاه السلبي عدم جواز أو ـ على الأقل ـ عدم جدوى العمل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمن الغيبة ؛ لأنّ ذلك يعتبر عند بعضهم ممّا يسبّب تأخير الظهور ؛ لأنّه (عليه السّلام) لا يظهر إلاّ عندما تُمْلأ الأرض ظلماً وجوراً ، مستفيدين ذلك بزعمهم من الروايات التي تقول : إنّ الفرج يأتي بعد تحقّق ذلك في أرجاء المعمورة ، ومِن هنا لا بدّ أنْ نسكت على ظلم الظالم ، وفسق الفاجر ، واستهتار المستهتر بدماء ومقدّرات الاُمّة ؛ لكي يعمّ الظلم ؛ لأنّهم يعتبرون ذلك مقدّمة لظهور الإمام (عليه السّلام) .

ومِن الواضح أنّ ردّ مثل هذا القول ، وإثبات بطلان هذا الفهم للانتظار لا يحتاج إلى كثير مؤنة ، فإنّه يكفي في ردّه عدم توافقه مع أحكام الكتاب المبين ، وشريعة سيّد المرسلين (صلّى الله عليه وآله) ، القاضية بوجوب أنْ يكون المؤمن عاملاً فعّالاً ، بالخصوص في وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولإتمام الحجّة نشير إلى نقطة واحدة من نقاط الخلل في هذا الاتجاه وهي :

إنّ هذا الاتّجاه بنى فكرته على أساس غير سليم في فهم الروايات التي تحدّثتْ عن انتشار الظلم في آخر الزمان ؛ وذلك أنّهم فهموا منها أنْ يعيش الإنسان السلبية في التعامل مع الأحداث ، وأنْ ينزوي بعيداً عن مواجهة الظلم والظالمين ، وعن أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

بينما أنّ المتدبّر في هذه الأخبار لا يصل إلى ما وصل إليه أصحاب هذا الاتّجاه ، بل يقطع بأنّ الروايات جاءت لتخبرنا أنّ الأوضاع العامّة للبشرية إبّان ظهور الإمام (عليه السّلام) سوف تكون عبارة عن مصاديق صارخة للظلم والجور ، وهذه الأوضاع ليس بمثابة الشرط في تحقّق الظهور ، بمعنى أنّ عدمها يعني عدم الظهور ، بل على العكس ، فإنّ غياب الإمام (عليه السّلام) كان بسبب انتشار الجور وقلّة الأنصار ، وظهوره يحتاج إلى وجود النخبة الخيّرة وتوفّرها على الوعي المناسب لمرحلة تطبيق الشريعة تطبيقاً تامّاً وشاملاً في جميع أرجاء المعمورة .

وبذلك فإنّ الروايات التي استفاد منها أصحاب هذا الاتّجاه فهمهم للانتظار لا تدلّ على أكثر من الإخبار عن الأوضاع العامّة لحالة الناس في آخر الزمان ، والتي هي علامات تدلّ على قرب اليوم الموعود . وتفاؤل المؤمن بذلك لا يعني رضاه بالباطل وسكوته عنه ، بل هو ناشئ من صحّة تطابق الأخبار مع الواقع الدال على أنّ الفرج بات قريباً ، فلا تنافي بين عملنا لأداء التكليف ووجود مثل هذه الأخبار ما دامتْ هي عبارة عن إخبارات بالمستقبل تبيّن الحالة العامّة للبشريّة .

ولمزيد من الإيضاح في هذه النقطة نذكر ما بيّنه السيّد محمّد الصدر (قدّس سرّه) في مناقشته لهذا الفهم السلبي ، فإنّه بعد أنْ يذكر أنّ الفتن المذكورة في الروايات والتي تدعو المؤمن أنْ يتجنّبها معناها الكفر والانحراف ، يقول : إنّ هناك أطروحتين لفهم هذه الروايات ، وهما :

الاُطروحة الأُولى :

إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يشير إلى زمان مستقبل بالنسبة إلى عصره ، تَحْدث فيه الفتن ، وينصح المسلمين بالانصراف عنها والانعزال عن تيّارها ، والقعود عن العمل معها أو ضدّها ، بل اللازم هو اللجوء إلى ملجأ أو الخروج إلى البوادي والأطراف ؛ هرباً من التدخّل في الفتنة .

وإذا صحّتْ هذه الاُطروحة تكون الأخبار موافِقة للقواعد التي عرفناها عند وجوب العزلة ، ومخالِفة لها عند وجوب العمل والجهاد ؛ حيث نرى هذه الأخبار تأمر بالعزلة على كلّ حال .

الاُطروحة الثانية :

إنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) يشير إلى الفتن نفسها ، بقوله : ستكون فتن . لا أنّه يشير إلى الزمان الذي تقع فيه كما هو الوجه الأوّل في الاُطروحة ؛ فإنّه لا ذِكْر للزمان في هذه الروايات أصلاً ، فيكون المراد : أنّ القاعد عن تأجيج الفتن وإثارتها والمشاركة فيها خير من القائم ، والقائم خير من الساعي ، فإنّ المشاركة فيها كلّما كانت أقل كان أفضل . ومعه يكون مضمونها صحيحاً ومطابقاً للقواعد ؛ فإنّ المشاركة في الفتنة مستلزم للانحراف والفساد لا محالة ، وهو ممّا لا يرضاه النبي (صلّى الله عليه وآله) لأُمّته ، وينصح بالتجنّب عنه .

وهذا في غاية الوضوح ، ومعه تخرج هذه الروايات عن كونها آمرة بالعزلة ، وإنّما هي تأمر بالانعزال عن الفتن لا عن العمل ضدّها ، بل قد يقال : إنّ فيها دلالة على جواز العمل ضدّ الفتن , بل وجوبه ، فإنّ هذا العمل قد يكون هو الملجأ الوحيد للتخلّص من الفتن ، وقد أمر (صلّى الله عليه وآله) أنّ : ( مَنْ وَجَدَ فِيْهَا مَلْجَأً فَلْيَعذْ بِهِ ) .

بعد هذا يبيّن السيّد محمّد الصدر (قدّس سرّه) المقصود من الملجأ والمهرب ، فيقول : إنّ الملجأ لا ينبغي أنْ نفهم منه خصوص المكان المنزوي أو البعيد ، بل نفهم منه كلّ منقِذٍ من الفتنة وما هو مُبْعِد عنها ، ومن المعلوم أنّ الارتباط بأهل الحقّ واتّخاذ العمل الإسلامي خيرُ ملجأ(4) . انتهى كلامه (رحمه الله) .

إذاً تبيّن لنا بهذا الموجز ضعف وخواء هذا الفهم السلبي للانتظار ، وكونه مبنيّاً على فهم أصحابه الخاطئ لروايات الفتن ، وكون آخر الزمان ينتشر فيه الظلم والفساد والجَور .

* ثانياً : الاتّجاه الإيجابي :

وأصحاب هذا الاتّجاه يرون الانتظار داعياً وعاملاً مساعداً باعثاً على الحيويّة والنشاط في العمل الإسلامي ؛ لذلك جعل الانتظار من أفضل الأعمال كما جاء في الحديث النبوي : ( أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي انْتِظَارُ الفَرَج )(5) .

ولكن كيف يمكن أنْ نجعل الانتظار أمراً إيجابياً ؟ وهذا يحتاج أنْ نلفت الأنظار إلى أنّ الإنسان الذي يكون على موعد مع أحد ، وافرض أنّ هذا الأحد ذو مقام وشأنيّة عنده وعند المجتمع ، أَلَيْسَ مِن الجدير بالطَرَفِ الذي يَنتظر أنْ يتهيّأ لاستقبال مَن يُنتظَر , كلّما أحسّ بقرب الموعد تكون استعداداته أكثر جدِّيّة ، ومِن المعيب عليه أنْ يأتي صاحبه إليه وهو لم يستعد ، بل يغطّ في نوم عميق ؟

ونحن على موعد للقاء الإمام (عليه السّلام) ، ولا نشكّ في أنّنا سوف نلاقي ذلك اليوم الموعود ؛ لأنّه وعد الله تعالى والله لا يخلف الميعاد ، كما أنّنا ندّعي الشوق لذلك اللقاء ، إذا كان كذلك أَلاَ يجدر بنا ويجب علينا أنْ نكون على أُهبة الاستعداد ؟! أَلَمْ يغب الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) منذ (1164 سنة) ، ومِن أسباب غيبته انتشار الظلم وقلّة الأنصار ؟ فهل من المعقول أنْ يخرج الإمام (عليه السّلام) مع انتشار الظلم وقسوة الظالمين وأنصاره نيام ؟

هل يمكن أنْ يأتي ـ روحي فداه ـ ليفتح العالم بأجمعه ولا زال بغير ناصر ولا معين ؟ إذا كان الحديث عن الإمكان والقدرة الإلهية وإيجاد المعجزة فقط ، فلماذا لم يجرِ الله المعجزة ويخسف الأرض بالظالمين لحدّ الآن ، وقدرة الله تعالى هي هي في أيّ زمان ومكان ، وهو القادر المطلق ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(6) ؟

نعم ، إنّ الله تعالى قادر , إلاّ أنّه أبى أنْ يجري الاُمور إلاّ بأسبابها . وللمعجزة ظروفها الخاصّة ، ومن الأسباب الطبيعية التي تساعد القائد على الوصول لهدفه وغايته أنْ تكون معه أُمّة تَعِي المسؤولية ، ومعبّأة لتحمّلها ، وكذلك طائعة لقائدها أطوع من بَنَانِهِ .

ولأجل أنْ نكون كذلك لا بدّ من العمل الجادّ لتوعية أبناء الاُمّة حتّى تعرف الاُمّة قدر مسؤوليّتها تِجاه قائدها المنتظر (عليه السّلام) ، وتعرف أَهمّية دورها في التغيير العالمي فلا تحتقر نفسها .

ولا بدّ من العمل المستمرّ لإزالة العقبات التي تكتنف طريق إيصال الاُمّة إلى هذا المستوى . وكلّ خطوات العمل بدءاً بإصلاح النفس وتوعية الاُمّة ، ووَضْع برامج العمل والمواجهة مع الظالمين والمستكبرين ، مروراً بمراحل التنفيذ والتي طالما غطّتها المصاعب والمتاعب هي طور من أطوار الانتظار الايجابي .

إذاً أصحاب هذا الاتّجاه يرون أنّ الانتظار الحقيقي إنّما هو المقرون بالعمل ، وأنّ نفس مفهوم الانتظار يدعو بأنْ يكون المنتظر إنساناً فعّالاً في الحياة وفي جميع المجالات .

وممّا لا شكّ فيه أنّ لهذا الفهم السليم للانتظار آثاراً إيجابية عظيمة ، على الفرد والمجتمع وفي مختلف مجالات الحياة .

آثار الفهم السليم لحقيقة الانتظار :

لعقائد الإنسان ظاهر وباطن ، ولا يكون المؤمن مؤمناً حقيقياً ما لم يحمل العقيدة ظاهراً وباطناً ، ومعرفة الظاهر أمر سهل ، ولكنّ الجانب المهم هو أنْ تكون العقيدة راسخة عند هذا الإنسان باطناً ، ويمكن معرفة ذلك من انعكاس عقائده على سلوكه العام ، فأنّ المُتَدَيِّن يكون الطابع العام لسلوكه موافقاً لعقيدته ، وتظهر آثار اعتقاده على حياته بشكل بيّن وواضح .

وانتظار ظهور الإمام (عليه السّلام) من الاُمور العقائدية المهمّة والتي عمل النبي والأئمّة (عليه وعليهم السّلام) على ترسيخها في نفوس أبناء المجتمع ، فمَن اعتقد بهذه الحقيقة وفهمها الفهم السليم لا بدّ وأنْ تظهر عليه آثارها كنتائج عملية يسطّرها في الواقع الحياتي اليومي . ونحن نحاول أنْ نشير إلى بعض هذه الآثار المتوخّى تحققها فيمن عاش الانتظار عقيدةً ، وفهمه فهماً سليماً ؛ لنميّز المنتظر الحقيقي من غيره أوّلاً ، وثانياً ليتّضح أنّ الإيمان بظهور الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) ليس أمراً لا فائدة من وراءه ، بل الخير كلّه فيه .

وهذه الآثار يمكن أنْ نبيّنها في المحاور التالية :

* الأوّل : الآثار الشخصية :

الفرد هو اللَبِنَة الأولى في بناء المجتمع الإنساني ، فبناؤه بناءً سليماً يعني بناء المجتمع السليم ؛ لذلك أكّد الإسلام كثيراً على الاهتمام ببناء الفرد طفلاً ويافعاً , وكهلاً وشيخاً ، وجعل للعقيدة الأثر الأكبر في بنائه .

ومن مفردات العقيدة التي تؤثّر في بناء الفرد والمجتمع عقيدةُ انتظار الإمام المهدي (عليه السّلام) ؛ فإنّها سوف تترك آثاراً جمّة على هذا الكيان الشخصي ، منها :

1 ـ إنّ الاعتقاد بضرورة ظهور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) المبني على الأدلّة القاطعة بمعرفته وتشخيصه (روحي فداه) ، يُخْرِج المعتقد قبل الظهور وبعده من الحيرة والضلال .

2 ـ إنّ الفهم الصحيح للانتظار يزرع في النفس الاستعداد الكامل لتطبيق الاُطروحة الإلهية العادلة والكاملة عليه كواحد من البشر على أقلّ تقدير ، إنْ لم يكن من الدعاة إليها والمضحّين في سبيلها .

وهذا يتطلّب منه أنْ يكون عادلاً في سلوكه وتعامله مع الآخرين ؛ لتعتاد نفسه على العدالة ، فلا ينفر منها إذا ما جاء أوان تطبيقها العام التام على يد الإمام (عليه السّلام) ؛ لأنّ المنتظِر للإمام (عليه السّلام) منتظر للعدل والحق ، والنفس ذات الأفق الضيّق لا تستطيع تحمّل الحق ؛ لذلك ورد عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) قوله المشهور : ( مَا تَرَكَ لِي الحَقّ مِنْ صَدِيْقٍ )(7) .

فإذا علم المؤمن أنّه ينتظر دولة الحقّ والعدالة فسوف يعمل على ممارسة الحقّ لجهتَين : الأولى : أداءً للتكليف ، والثانية : لتعتاد نفسه على الانصياع للحق ، فلا تستوحش منه ، بل يكون الإنسان من المستبشرين به ، الطالبين لتحقيقه . إذاً الانتظار السليم يخلق الإنسان العادل في المجتمع الذي يحافظ على حرمة الآخرين وحقوقهم .

3 ـ الالتزام الكامل بتطبيق الأحكام الإلهية السارية في كلّ عصر على سائر علاقات الفرد وأفعاله وأقواله ، حتّى يكون متّبعاً للحقّ والهدى الصحيح ، فيكتسب الإرادة القوية والإخلاص الحقيقي الذي يؤهّله للتشرّف بتحمّل طرف من مسؤوليّات اليوم الموعود ، وعليه فلا بدّ أنْ يعمل على تزكية نفسه من الرذائل وتحليتها بالفضائل .

وفي ذلك ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السّلام) حيث قال : ( مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكُوْنَ مِنْ أَصْحَابِ القَائِمِ ، فَلْيَنْتَظِرْ , وَلْيَعْمَلْ بِالوَرَعِ وَمَحَاسِنِ الأَخْلاَقِ وَهُوَ مُنْتَظِرٌ ، فَإنْ مَاتَ وَقَامَ القَائِمُ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ مِن الأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ أَدْرَكَهُ ، فَجِدُّوا وَانْتَظِرُوا , هَنِيْئَاً لَكُمْ أَيَّتُهَا العِصَابَة المَرْحُوْمَة )(8) .

ويترتّب على ذلك أنْ يكون الإنسان من الذين يجلبون الخير إلى الاُمّة الإسلامية عامّة ، بل والبشرية جمعاء ؛ باعتبار أنّ إعداد نفسه إعداداً صالحاً يشارك في تهيئة شرط اليوم الموعود بمقدار تكليفه وقدرته ، وإيجاد شرط الظهور خيرٌ عامٌّ للبشرية جميعاً .

4 ـ إنّ الفرد بمساهمته في توفير شرط الظهور ( وهو وجود النخبة الصالحة القادرة على تحمّل المسؤوليّات ) يساهم في إرضاء الإمام (عليه السّلام) وجلب راحته ؛ وذلك بزيادة المؤمنين وقلّة العاصين ، والمشاركة الحقيقية في الإعداد للهدف الكبير .

هذه بعض الاُمور التي يتركها الفهم السليم لحقيقة الانتظار على الفرد ، والتي تجعل منه عنصراً فعّالاً ومؤثّراً في المجتمع ، فتنفعه دنياً وآخرة ، فالإنسان المنتظِر إذاً إنساناً صالحاً وعاملاً لِمَا فيه خير البشريّة .

* الثاني : الآثار الاجتماعيّة :

ممّا لا شكّ فيه أنّ صلاح الفرد وتأثير فهم الانتظار على سلوكه ينعكس بالنتيجة على المجتمع ككل ، فإذا صلح الأفراد صَلُحَ المجتمع ، وانتشار هذا الفهم الايجابي تكون له ثمار اجتماعيّة مهمّة ، منها :

1 ـ لا شكّ أنّ الاُمّة مجموعة أفراد ، فإذا كانت الأفراد بالصورة التي تقدّمتْ سوف تكون هذه الاُمّة أُمّة قويّة مرتبطة بمصدر القوّة الحقيقي ، ومِن خلال تفاعل أفرادها سوف تعيش هذه الاُمّة بصورة راقية اجتماعياً ؛ لأنّ صورة المجتمع سوف تكون مأخوذة من خصوصيات أفراده الذي يغلب عليهم طابع حب الخير والانشداد للكمال والنور والسعي في تحصيله ، فسيكون مجتمعاً نورانيّاً قائماً على توفير السعادة والرُّقِيّ ، ويسعى كلُّ فرد فيه إلى خدمة مجتمعه ومعاونة الأفراد الآخرين للوصول إلى غايتهم في المشروع الاجتماعي الأكمل .

مِن هنا يظهر أنّ الانتظار الحقيقي يغذّي الاُمّة بالطاقة لبلوغ أهدافها ، ووصول المجتمع إلى سلوك اجتماعي أرقى يؤهّلهم لقبول النظرية الإلهية الكاملة .

2 ـ تكاتف المجتمع وتوحّده ورصّ صفوفه أمر مهمّ في عملية التغيير المرتَقَبَة ، فإنّ المجتمع المتفكّك والذي تنخره الخلافات ، وتعبث فيه الأهواء ، مجتمع خاوٍ لا يستطيع دَفْع الذباب عن أنفه ، فكيف بإقامة الدولة العالمية الكبرى ؟! فالمنتظِرون يجب أنْ يتّصفوا بالتكاتف والتحابّ فيما بينهم ؛ ولأهمِّيّة هذا التكاتف في عملية التغيير يعمل الأعداء ليل نهار من أجل القضاء على أيّ تكاتف يمكن أنْ يحصل بين المسلمين .

3 ـ العمل الجادّ بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا الأمر مِن أهمّ العوامل المؤثّرة في صلاح المجتمع ؛ فالإنسان الصالح لا بدّ أنْ يدعو للصلاح ، والاُمّة الصالحة أيضاً لا بدّ أنْ تدعو الأُمم للصلاح : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )(9) ، مع مراعاة شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المبيَّنة في كتب الفقه .

4 ـ السعي الدائم للظلم والظالمين بالإمكانيات المتوفّرة وحسب القدرة الآنيّة ، ليكون مستعدّاً للتضحية من أجل إقامة العدل متى ما أعلن قيامها ؛ لأنّ مَن يعتاد الراحة والدعة والاستسلام لا يمكنه التحرّك إذا اقْتَضَتْ الضرورة .

5 ـ ومن فوائد الإيمان الصادق بالإمام (عليه السّلام) والفهم السليم لانتظاره على الاُمّة ، شعورُ أبناءها بالعزّة والكرامة والاطمئنان النفسي ، بأنّ الكافرين والفاسقين مهما أتوا مِن قوّة وعاثوا في الأرض فساداً فإنّ العاقبة للمتّقين ، وسوف يذهب الزَّبَد جُفَاء ، ويمكث في الأرض ما ينفع أهلها في النَشْأَتَيْنِ وعداً إلهيّاً غير مكذوب .

وهذا الشعور من أهمّ خصائص الانتظار ؛ لأنّ المهدي (عليه السّلام) هو القوّة الغيبيّة المدّخرة لإصلاح العالم ، فَمَن ارتبط به فسوف يستمدّ القوّة من إمامه الذي تجلّتْ له حقيقة الذِكْر : ( لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم ) حقيقةً ، فصار هو المصداق الذي تجلّتْ فيه القوّة الإلهية ؛ لذلك نجده (عليه السّلام) يصف نفسه في بعض فقرات دعاء الندبة بالمعدّ لقطع دابر الظلمة ، والمنتظر لإقامة الأمْتِ والعِوَج ، والمرتجى لإزالة الجوَر والعدوان ، والمدّخر لتجديد الفرائض والسُنَن ، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تَنمّ عن قوّته (عليه السّلام) الملائِمة للمهمّة التي اختاره لها ربّ العزة والجلال .

فالفرد إذا ارتبط بهذه القوّة معنويّاً سوف يستشعر القوّة حقيقة ، فتتحوّل هذه القوّة إلى طاقة تحرك مفاصل حياته وتنقله من عالم الضعف نتيجة الضغوطات التي يتعرّض لها سياسية أو اقتصادية أو غيرها ، إلى عالم القوّة والفاعلية ، فيكون عنصراً مؤثّراً في تهيئة لوازم الخريطة الإلهيّة لمستقبل العالم ، والاُمّة التي يكون أفرادها من هذا النوع تعيش القوّة والعزّة والكرامة والصمود أمام الضغوطات ، لتخرج من جميع الامتحانات مرفوعة الرأس .

6 ـ ومن النتائج العظيمة لهذا الفهم السليم لحقيقة الانتظار الشعور بالمسؤولية تجاه بعضنا البعض ، وتجاه الهدف الذي سيظهر الإمام من أجله ، وهذا الشعور يدعونا قطعاً إلى التفاهم والتشاور لمعرفة صحّة خطواتنا وكيفية الرُّقِي بها إلى المستوى المطلوب ؛ الأمر الذي يوفّر للمجتمع وحدة الكلمة ورصّ الصفوف من جهة ، ودقّة الحسابات في التعامل مع المتغيرات من جهة أخرى ، ممّا يعود على الاُمّة بتوفير النظم في جميع مجالات حياة المؤمنين ، ويتصرّفون ضمن الحدود المطلوبة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة وغير ذلك .

* الثالث : الآثار الاقتصادية :

إنّ للانتظار الإيجابي الحقيقي خصوصية أُخرى عجيبة , وهي أنّه يعطي للفرد والمجتمع رؤية فريدة من نوعها تتقوّم في أنّ النظر يكون أوّلاً إلى المصلحة العامّة للمجتمع ، وتحقيقها من خلال تضافر جهود الأفراد المخلِصة . ويترتّب على ذلك تربية الفرد على نكران الذات , وبذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق الهدف والحصول على القوّة الاقتصادية للأُمّة ؛ لأنّ هذه الاُمّة سوف تكون مهمّتها مستقبَلاً مهمّة كبيرة جدّاً في إصلاح العالم ونشر العدل .

وهذا المشروع يجب أنْ يُدعم مادّيّاً ، وتتوفّر عناصر القوّة كالتسلّح والتقنية الحديثة ، وكل ذلك يحتاج بطبيعة الحال إلى القدرة الاقتصادية . والاُمّة التي ترى أنّ رُقِيّها الاقتصادي يؤهّلها إلى خدمة هدف إمامها الموعود (عليه السّلام) تندفع إلى سدّ ثغراتها الاقتصادية أوّلاً ، وثانياً تسعى إلى أنْ يعيش الفرد فيها قوّة اقتصادية من خلال القضاء على الفقر والتخلّف الاقتصادي ، فيكون الفهم السليم بذلك دافعاً على العمل والحيوية في مجال الاقتصاد أيضاً .

وهذه جولة سريعة في النتائج التي تترتّب على الفهم الصحيح للانتظار ، ومنها نتوصّل إلى حقيقة الغاية والهدف من الاعتقاد بالغيبة والانتظار . فبالإضافة إلى التسليم لله وأوليائه ، فإنّ الهدف خَلْق الفرد الناجح والاُمّة الفاعلة الحيّة المتحرّكة بنجاح على كل الأصعدة . فعقيدة الانتظار ليست عقيدة تخدير واسترخاء ، بل هي عقيدة عمل ونشاط وحيوية إيجابية تصنع الروح العالية عند أبناء الاُمّة ، وتتجاوز بهم حدود الذات والأنانية إلى حدود الاُمّة والجماعة .

وختاماً نتوجّه إلى المولى الجليل سبحانه وتعالى ليمنّ علينا بالتوفيق لأنْ نكون من الذين فهموا وعملوا وأخلصوا ، وأنْ يكتبنا من الممهّدين للظهور المقدّس للإمام (عليه السّلام) ، وأنْ لا يحرمنا رؤيته والفوز بصحبته وشفاعته ، إنّه أرحم الراحمين .

ــــــــــــــــــــ

(*) اقتباس وتنسيق قسم المقالات ، في شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السّلام) للتراث والفكر الإسلامي ، والبحث دراسة منشورة للمؤلّف ضمن مجموعة كتب حول الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ، في موقع مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السّلام) .

1 ـ الصف : الآية : 6 . [ الشبكة ]

2 ـ المنجد في اللغة : ص 817 ، مادّة نظر .

3 ـ تاريخ الغيبة الكبرى : للسيّد محمّد الصدر ( قدّس سرّه ) : ص 261 .

4 ـ نفس المصدر : ص 337 ـ 338 .

5 ـ بحار الأنوار : ج 25 ، ص 122 .

6 ـ المائدة : الآية : 120 . [ الشبكة ]

7 ـ الدر المنثور : السيوطي : 293 . [ الشبكة ]

8 ـ بحار الأنوار : ج25 ، ص 145 .

9 ـ آل عمران : الآية : 104 . [ الشبكة ]

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ماذا يحب الرجل في المرأه ..
دعوة للتكامل مع الاحتفاظ بخصوصية الآخر
خصائص الأسرة المسلمة
هل يعاني الشباب حقاً من مشكلة؟
إصدار كتاب "كربلاء كما شاهدت
اعتصام “زينبيات صمود” ومسيرات “أنات الإنتصار” ...
الواصلية
الإمام الخميني (ره) أحيا الإسلام وبث روح المقاومة ...
الشيخ محمد حسن النجفي المعروف بالشيخ صاحب ...
اليك عشر طرق للنوم الهاديء

 
user comment