حينما نفتح أعيننا ونشاهد مناظر الوجود فإنّ أوّل ما نشاهده هو أنفسنا, ثم الأمور الوجودية المحيطة بنا التي نتصل بها من طريق قوانا العاملة.
فالنفس وقواها, وأعمال هذه القوى, هي الحلقة الأولى من حلقات مدركاتنا، لكن الشيء الذي نشاهده وندركه أيضاً هو ارتباط أنفسنا وقوانا وأفعالنا بالغير، يعني لا نرى أنفسنا إلا مرتبطة بغيرها وكذلك قوانا وأفعالنا، وهذا دليل على الفقر والحاجة.
أذن فالحاجة هي أول وأقدم ما يشاهده الإنسان في نفسه وقواه وأفعاله, وعند ذلك يقضي بوجود موجود يقوم بحاجته وسدّ فقره وخلّته, وإليه ينتهي كل شيء, وهو الله سبحانه وتعالى، ولعل الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(1) فيها إشارة ودلالة على ذلك.
وليس لدينا مصادر تاريخيّة تنبئنا عن تاريخ بدء ظهور القول بالربوبيّة بين الأفراد البشريّة، وقد عجز التاريخ عن العثور على بدء مثل هذا القول، لكن الذي عُثر عليه هو أن مثل هذا الفكر كان مصاحب للإنسانية منذ أقدم العصور التي مرت على هذا النوع.
إنّ الاعتقاد بقوى عالية, هي وراء مستوى الطبيعة, والقول بالربوبية كان مصاحب للإنسان في مسيرته وان اختلف عليه المصداق في أحيانٍ كثيرة(2). والإذعان بوجود ذات ينتهي إليها أمر كلّ شيء من لوازم الفطرة الإنسانية، ولا يحيد عنه إلا من انحرف عن إلهام فطرته، لشبهة عرضت له؛ كمن يضطر نفسه على الاعتياد بالسم، وطبيعته تحذره, بإلهامها، وهو يستحسن ما ابتلي به.
قال الشيخ المفيد (رض): « ان الله تعالى فطر جميع الخلق على التوحيد، وذلك قوله تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)، وقال الصادق في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ) قال: حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه.(3)
دليل ثبوت الصفات لله تعالى:
إنّ الباحث عن المعارف الإلهية لا بدَّ أن يذعن بوجوب انتهاء كلّ شيء إليه تعالى، وكينونته ووجوده منه تعالى، فهو مالك كلّ شيء؛ إذ لو لم يكن كذلك لم يستطع أن يفيضها على الغير، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ثمّ انّ حقائق بعض هذه الأشياء مبنيّة على الحاجة, مخبرة عن فقرها ونقصها. والباري تعالى منزه عن كلّ نقص وحاجة، لأنه تعالى الموجود الذي يرجع إليه كل شيء في رفع حاجته، فله الملك على الإطلاق، فهو تعالى يملك ما وجدناه في الوجود من صفات كمال, كالحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والرزق والرحمة والعزة و...
فهو تعالى حي، قادر، عليم، سميع، بصير...؛ لانّ في نفيها إثبات النقص, ولا سبيل للنقص إليه تعالى.
وهو تعالى رزاق، رحيم، عزيز، محي ومميت، ومبدء ومعيد وباعث و...؛ لانّ الرزق والرحمة والإحياء والإماتة والإبداء والإعادة والبعث و... له تعالى.
وهو تعالى السبوح، القدوس، العلي، الكبير، المتعال...، ونعني بها نفي كلّ نعت عدمي وكلّ صفة نقص عنه تعالى.
فهذا من جملة الطرق التي سلكت لإثبات الصفات والأسماء له تعالى، وهو على وضوحه وبساطته لكن له شواهد كثيرة من القرآن الكريم وبالخصوص الآيات الكريمة التي أثبتت الملك له تعالى على الإطلاق، كقوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء)(4)، وقوله تعالى: (وَلَهُ الْمُلْكُ)(5) وقوله تعالى: (وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)(6) والآيات الأخرى التي تماثلها.
حدود صفاته تعالى
لقد أشرنا سابقاً إلى أن الباري تعالى منفيّة عنه كلّ جهات النقص والحاجة. وهذه الجهات تقابل الكمال، كالموت والفقر والذلة والعجز والجهل ونحو ذلك، ومن الواضح أن هذه الأمور ـ وهي في نفسها سلبيّة ـ ترجع إلى إثبات الكمال؛ فانّ في نفي الفقر إثبات الغنى، وفي نفي الذلة والعجز والجهل إثبات العزة والقدرة والعلم وهكذا.
وأمّا صفات الكمال التي نثبتها له سبحانه كالحياة والقدرة والعلم و...، فانّا نثبتها بالإذعان بملكه جميع الكمالات المثبتة في دار الوجود، غير أنا ننفي عنه تعالى جهات الحاجة والنقص التي تلازم هذه الصفات بحسب وجودها في مصاديقها؛ فالعلم في الإنسان مثلاً هو إحاطة حضورية بالمعلوم من طريق انتزاع الصورة وأخذها بقوى بدنية في الخارج، والذي يليق بساحته تعالى أصل معنى الاحاطة الحضوريّة، وأمّا كونه من طريق أخذ الصورة، المحوج إلى وجود المعلوم في الخارج قبلاً وإلى آلات بدنية مادية مثلاً، فهو من النقص الذي يجب تنزيهه تعالى منه، وبالجملة نثبت له أصل المعنى الثبوتي ونسلب عنه خصوصية المصداق المؤدية إلى النقص والحاجة(7).
ثمّ لما كنا نفينا عنه كل نقص وحاجة، ومن النقص أنْ يكون الشيء محدوداً بحد منتهياً بوجوده إلى نهاية؛ فان الشيء لا يحد نفسه, وإنما يحده غيره الذي يقهره بضرب الحد والنهاية له، ولذلك نفينا عنه كلّ حدّ ونهاية، فليس سبحانه محدوداً في ذاته بشيء ولا في صفاته بشيء، وقد قال تعالى: (وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(8)، فله تعالى الوحدة التي تقهر كلّ شيء من قبله فتحيط به(9).
ولا تنثلم هذه الوحدة بما قضينا سابقا من أنّ صفاته تعالى عين ذاته وكلّ صفة عين الصفة الأخرى؛ إذ التمايز ليس إلا بحسب المفهوم، ولو كان علمه غير قدرته مثلاً، وكلّ منهما غير ذاته كما فينا معاشر الإنسان مثلاً، لكان كل منهما يحدّ الآخر والآخر ينتهي إليه فكان محدود بحد ومتناه، فكان مركب، وكل مركب فقير ومحتاج إلى أجزائه، تعالى عن ذلك وتقدس. وهذه صفة أحديته تعالى ولا ينقسم من جهة من الجهات ولا يتكثر في خارج ولا في ذهن(10).
وبالجملة صفاته الذاتية عين ذاته؛ إذ لولا ذلك للزم إمّا خلوه تعالى عن هذه الكمالات في مقام الذات وإمّا التعدد والتركيب.
وبهذا يظهر فساد القول بإنّ معاني صفاته تعالى ترجع إلى النفي، رعاية لتنـزيهه عن صفات خلقه، فمعنى العلم والقدرة والحياة هو عدم الجهل والعجز والموت وكذا في سائر الصفات العليا.(11)
ونظيره في الفساد القول بكون صفاته تعالى زائدة على ذاته, أو نفي الصفات واثبات آثارها وغير ذلك مما قيل في الصفات.(12)
فكل ذلك مدفوع بما تقدم من كيفيّة سلوكنا الفطري، ولزوم كثير من المفاسد كخلوه تعالى في مقام الذات عن هذه الكمال، ولزوم التركيب والتعدد، ولتفصيل البحث في بطلانها محل آخر.
انقسامات الصفة بوجه كلي
تنقسم صفاته تعالى إلى قسمين، هما:
الصفات الثبوتية: وهي التي تفيد معنى ثبوتياً كالعلم والحياة، وهي مشتملة على معنى الكمال.(13)
الصفات السلبية: وهي التي تفيد معنى السلب، كالسبّوح والقدّوس.(14)
وتنقسم صفاته تعالى باعتبار آخر إلى قسمين أيضاً، هما:
الصفات الذاتيّة: وهي الصفات المنتزعة من مقام الذات الإلهية بالالتفات إلى كمال وجودي، وهي عين الذات ليست بزائدة عليها، كالحياة والقدرة والعلم.(15)
الصفات الفعليّة: وهي الصفات المنتزعة من مقام الفعل الإلهي، ينتزعها العقل بعد المقارنة بين الذات الإلهية ومخلوقاتها مع الأخذ بعين الاعتبار لوناً من ألوان العلاقة الوجوديّة، كالخالقيّة والرازقيّة، وهي زائدة على الذات.(16)
وتنقسم صفاته تعالى باعتبار آخر إلى قسمين أيضاً، هما:
الصفات النفسيّة: وهي الصفات التي لا إضافة في معناها إلى الخارج عن مقام الذات، كالحياة.(17)
الصفات الإضافية: وهي الصفات التي لها إضافة إلى الخارج، فإذا كانت معنى نفسياً ذا إضافة، كالصنع والخلق، سمّيت بالصفات النفسية ذات الإضافة، وإذا كانت معنى إضافياً محضاً، كالخالقية والرازقة، سمّيت بالصفات الإضافية المحضة.(18)
الصفة والاسم
إنّ الاسم هو الدال على الذات مأخوذة بوصف, وأمّا الصفة فتدل على معنى من المعاني يتلبس به الذات، أعم من العينيّة والغيريّة.
فالحياة والعلم صفتان، والحي والعالم اسمان، وإذا كان اللفظ لا شأن له إلاّ الدلالة على المعنى وانكشافه به فحقيقة الصفة والاسم هو الذي يكشف عنه لفظ الصفة والاسم، فحقيقة الحياة المدلول عليها بلفظ الحياة هي الصفة الإلهية وهي عين الذات، وحقيقة الذات بحياتها التي هي عينها هو الاسم الإلهي, وبهذا النظر يعود الحي والحياة اسمين للاسم والصفة، وان كانا ـ حسب النظر المتقدّم ـ نفس الاسم ونفس الصفة.
لقد أشرنا سابقاً إلى أن سلوكنا الفطري ومشاهدتنا لما في الكون من صفات الكمال، يقودنا إلى أنّ الله تعالى متصف بها ومالك لها, وهو تعالى الذي أفاضها علينا. وما نشاهده من صفات النقص والحاجة فالله تعالى منزه عنها ومتصف بما يقابلها من صفة الكمال, وبها يرفع تعالى عنا النقص والحاجة, فمشاهدة العلم والقدرة مثلاً في هذا الكون تهدينا إلى اليقين بان له تعالى علماً وقدرة يفيض بهما ما يفيضه من العلم والقدرة، ومشاهدة الجهل والعجز في الوجود تهديانا إلى أن الباري تعالى منزه عنهما ومتصف بما يقابلهما من العلم والقدرة, اللذين بهما ترفع حاجتنا من العلم والقدرة، وهكذا في سائر الموارد.
وبهذا يتضح أن الخلق وخصوصيات الوجود التي في الأشياء ترتبط إلى ذاته المتعالية_باعتبارٍ_من طريق صفاته الكريمة، أي ان الصفات وسائط بين الذات وبين مصنوعاته، فالعلم والقدرة والرزق و... التي عندنا بالترتيب تفيض عنه تعالى بما انّه عالم وقادر ورازق و...، وجهلنا يرتفع بعلمه، وعجزنا بقدرته، وذلتنا بعزته، وفقرنا بغناه، وذنوبنا بعفوه ومغفرته.
وبعبارة أخرى: إنّ الله تعالى يقهرنا بقهره، ويحدنا بلا محدوديته، وينهينا بلا نهايته، ويضعنا برفعته، ويذلنا بعزته، ويحكم فيما بما يشاء بمُلكه، ويتصرف فينا كيف يشاء بـمِلكه.
والشاهد على ذلك الفطرة الصافيّة، فإن من يسأل الله تعالى لا يقول: يا مميت يا مذل يا منتقم يا ذا البطش أغنني وشافني و...، بل يدعوه بأسمائه: الغني والعزيز والقادر مثلاً، فيقول: يا محيي يا معز يا شافي يا معافي يا رؤوف يا رحيم ارحمني واشفني و... ولعلّ تذييل آيات الذكر الحكيم بما يناسب مضامين متونها من الأسماء الإلهية, وتعليل ما يفرغه من الحقائق بذكر الاسم والاسمين من الأسماء الإلهية بحسب ما يستدعيه المورد، شاهد على ذلك أيضاً(19).
الأسماء الإلهية:
استعمل القرآن الكريم الأسماء الإلهية في تقرير مقاصده، ولعلّه الكتاب السماوي الوحيد الذي استعمل ذلك.
وقد أشرنا فيما مضى أنّا ننتسب ـ باعتبارٍ ـ إليه تعالى بواسطة صفاته وأسمائه، وننتسب إلى أسمائه وصفاته بواسطة آثارها المنتشرة في أقطار عالمنا المشهود، فآثار الجمال والجلال في هذا العالم هي التي تربطنا بأسماء جماله وجلاله من حياة وعلم وقدرة وعزة وعظمة وكبرياء.
ثم الأسماء تنسبنا إلى الذات المتعالية التي تعتمد عليها قاطبة أجزاء العالم في استقلالها. وهذه الآثار التي عندنا من ناحية أسمائه تعالى مختلفة في أنفسها سعةً وضيقاً بإزاء ما في مفاهيمها من العموم والخصوص.
إن الأسماء الإلهية بينها سعة وضيق وعموم وخصوص على الترتيب الذي بين آثارها الموجودة في عالمنا، فمنها خاصة ومنها عامة، وخصوصها وعمومها باعتبار خصوص حقائقها الكاشفة عنها آثارها وعمومها. والنسب التي بين مفاهيم الأسماء الإلهية تكشف عن كيفية النسب التي بين حقائقها؛ فالعلم اسم خاص بالنسبة إلى الحي، وعام بالنسبة إلى السميع والبصير والشهيد اللطيف الخبير، والرازق خاص بالنسبة إلى الرحمن، وعام بالنسبة إلى الشافي الناصر الهادي، وهكذا بقية الأسماء لها خصوص وعموم باختلاف اللحاظات إلى نفسها والى غيرها.
إن للأسماء الإلهية عرضاً عريضاً تنتهي من تحت إلى اسم أو أسماء خاصة لا يدخل تحتها اسم آخر، ثمّ تأخذ في السعة والعموم، ففوق كلّ اسم ما هو أوسع منه وأعم حتى تنتهي إلى اسم الله الأكبر الذي يسع وحده جميع حقائق الأسماء وتدخل تحته شتات الحقائق برمتها، وهو الذي يسمى ـ في الغالب ـ بالاسم الأعظم.
وكلّما كان الاسم الإلهي اعم كانت آثاره في العالم أوسع، والبركات النازلة منه أكبر وأتم, لما أن الآثار للأسماء الإلهية. وقد اشرنا فيما مضى لذلك، فما في الاسم الإلهي من حال العموم والخصوص يحاذيه بعينه أثره، فالاسم الأعظم ينتهي إليه كلّ أثر، ويخضع له كل أمر(20).
الاسم الأعظم:
شاع بين الناس ان الاسم الأعظم اسم لفظي من أسماء الله تعالى، وإذا دُعي به استجيب، ولا يشذ من أثره شيء. غير انهم لما لم يجدوا من بين الأسماء الإلهية من له هذه الخاصّية والسمة مالوا إلى الاعتقاد بأنه مؤلف من حروف مجهولة تأليفاً مجهولاً لنا، بحيث لو عثرنا عليه لأخضعنا لأرادتنا كلّ شيء.
وقد زعم أهل العزائم والدعوات ان للاسم الأعظم لفظاً يدل عليه بطبعه لا بالوضع اللغوي، غير أنّ حروفه وتأليفها تختلف باختلاف الحوائج والمطالب.
ولعل بعض الروايات فيها إشعار بذلك؛ كما ورد في ان «بسم الله الرحمن الرحيم» اقرب إلى اسم الله الأعظم من بياض العين إلى سوادها.
وما ورد انه في آية الكرسي وأول سورة آل عمران، وما ورد أن حروفه متفرقة في سورة الحمد يعرفها الإمام وإذا شاء ألفها ودعا بها فاستجيب له.
وما ورد في ان آصف بن برخيا وزير سليمان دعا بما عنده من حروف اسم الله الأعظم فاحضر عرش ملكة سبأ عند نبي الله سليمان في أقل من طرفة عين.
وما ورد في ان الاسم الأعظم على ثلاث وسبعين حرفاً قسم الله بين أنبيائه اثنين وسبعين منها، واستأثر منها عنده في علم الغيب، إلى غير ذلك من الروايات المشعرة بأن لأسم الله الأعظم تأليفاً لفظياً.
غير أن البحث الحقيقي عن العلّة والمعلول وخواصها يدفع ذلك كلّه؛ إذ أنّ التأثير الحقيقي يدور مدار وجود الأشياء في قوته وضعفه والمسانخة بين المؤثر والمتأثر، والاسم اللفظي إذا اعتبرنا من جهة خصوص لفظة كان مجموعة أصوات مسموعة هي من الكيفيات العرضيّة، وإذا اعتبر من جهة معناه المتصور كان صورة ذهنيّة لا أثر لها من حيث نفسها في شيء البتة. ومن المحال ان يكون صوت أوجدناه من طريق الحنجرة أو صورة خيالية نصورها في أذهاننا بحيث يقهر بوجوده وجود كلّ شيء، ويتصرف فيما نريده على ما نريده، فيقلب السماء أرضاً ويحول الدنيا إلى الآخرة وبالعكس وهكذا، وهو في نفسه معلول لأرادتنا!!!.
إنّ الأسماء الإلهية، وخصوصاً اسم الله الأعظم، وان كانت مؤثرة في الكون ووسائط وأسباب لنـزول الفيض من الذات المتعالية في هذا العالم المشهود، لكنها لما تؤثر بحقائقها، لا بالألفاظ الدالة في لغة كذا عليها ولا بمعانيها المفهومة من ألفاظها المتصورة في الأذهان، ومعنى ذلك أنّ الله تعالى هو الفاعل الموجد لكل شيء بما له من الصفة الكريمة المناسبة له التي يحويها الاسم المناسب، لا أنّ التأثير للفظ أو الصورة المفهومة في الذهن أو حقيقة أخرى غير الذات المتعالية.
إنّ الله سبحانه وعد إجابة دعوة من دعاه، كما في قوله تعالى: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)(21)، غير أن هذا يتوقف على دعاء وطلب حقيقي، وأن يكون الدعاء والطلب منه تعالى لا من غيره، فمن انقطع عن كلّ سبب واتصل بربه لحاجة من حوائجه فقد اتصل بحقيقة الاسم المناسب لحاجته فيؤثر الاسم بحقيقته ويستجاب له.
وهذه هي حقيقة الدعاء بالاسم, فعلى حسب حال الاسم الذي انقطع إليه الداعي يكون حال التأثير خصوصاً وعموماً، ولو كان هذا الاسم هو الاسم الأعظم انقاد لحقيقته كل شيء واستجيب للداعي به دعاؤه على الإطلاق. وما ورد من الروايات والأدعية في هذا الباب يمكن حملها على هذا المعنى, دون الاسم اللفظي أو مفهومه.
وأمّا ما ورد من الروايات في تعليمه تعالى نبياً من أنبيائه أو عبداً من عباده, اسماً من أسمائه أو شيئاً من الاسم الأعظم، فمعناه انه تعالى يفتح له طريق الانقطاع إليه تعالى باسمه ذلك في دعائه ومسألته، فان كان هناك اسم لفظي وله معنى مفهوم فإنما ذلك لأجل أنّ الألفاظ ومعانيها وسائل وأسباب تحفظ بها الحقائق نوعاً من الحفظ.(22)
عدد الأسماء الحسنى:
إنّ ظاهر الآيات الكريمة كقوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى)(23) وقوله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)(24)، وقوله تعالى: (لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(25) ونظيرها من الآيات، عدم حصر الأسماء الإلهية بعدد معين، بل إنّ كل اسم في الوجود هو أحسن الأسماء في معناها فهو له تعالى، وأما التعيين (اعني تعيين الأسماء الإلهية وتحديدها بعدد معين وأسماء محددة) فلا دليل عليه في الآيات الكريمة؛ فلا تتحدد أسماؤه الحسنى بعدد محدود.
ثمّ إن ظاهر قوله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى)، وقوله تعالى: (لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى)، هو أن معاني هذه الأسماء له تعالى حقيقة وعلى نحو الأصالة، ولغيره تعالى بالتبع، فهو تعالى المالك لها حقيقة، وليس لغيره إلا ما ملكه الله من ذلك، وهو مع ذلك مالك لما ملكه غيره لم يخرج عن ملكه بالتمليك، فله تعالى حقيقة العلم مثلاً وليس لغيره منه إلا ما وهبه له وهو تعالى مع ذلك لم يخرج من ملكه وسلطانه.
وأيضاً ما يطلق عليه تعالى وعلى غيره من الأسماء والأوصاف فهو على نحو الاشتراك المعنوي, ومن الشاهد عليه ما ورد من أسمائه تعالى بصيغة افعل التفضيل؛ كالأعلى والأكرم، فان صيغة التفضيل تدل بظاهرها على اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى. وكذا ما ورد بنحو الإضافة؛ كخير الرازقين وخير الحاكمين واحسن الخالقين، لظهوره في الاشتراك.
وقد ورد في القرآن الكريم مائة وسبعة وعشرون (127) اسماً من الأسماء الإلهية، هي: الإله، الأحد، الأول، الآخر، الأعلى، الأكرم، الأعلم، ارحم الراحمين، احكم الحاكمين، احسن الخالقين، أهل التقوى، أهل المغفرة، الأقرب، الابقى، البارئ، الباطن، البديع، البر، البصير، التواب، الجبار، الجامع، الحكيم، الحليم، الحي، الحق، الحميد، الحسيب، الحفيظ، الحفي، الخبير، الخالق، الخلاق، الخير، خير الماكرين، خير الوارثين، خير الراحمين، خير المنـزلين، ذو العرش، ذو الطول، ذو الانتقام، ذو الفضل العظيم، ذو الرحمة، ذو القوة، ذو الجلال والإكرام، ذو المعارج، الرحمن، الرحيم، الرؤوف، الرب، رفيع الدرجات، الرزاق، الرقيب، السميع، السلام، سريع الحساب، سريع العقاب، الشهيد، الشاكر، الشكور، شديد العقاب، شديد المحال، الصمد، الظاهر، العليم، العزيز، العفو، العلي، العظيم، علام الغيوب، عالم الغيب والشهادة، الغني، الغفور، الغالب، غافر الذنب، الغفار، فالق الاصباح، فالق الحب والنوى، الفاطر، الفتاح، القوي، القدوس، القيوم، القاهر، القهار، القريب، القادر، القدير، قابل التوب، القائم على كلّ نفس بما كسبت، الكبير، الكريم، الكافي، اللطيف، الملك، المؤمن، المهيمن، المتكبر، المصور، المجيد، المجيب، المبين، المولى، المحيط، المقيت، المتعال، المحيي، المتين، المقتدر، المستعان، المبدئ، مالك الملك، النصير، النور، الوهاب، الواحد، الولي، الوالي، الواسع، الوكيل، الودود، الهادي.
هل أسماء الله تعالى توقيفية؟
المراد من توقيقفية صفاته وأسمائه تعالى هو الاقتصار على ما ورد منها في القران والسنة, وقد وقع خلاف شديد بين علماء المسلمين في ذلك, قال الشيخ السبحاني:
نقل غير واحد من المتكلمين والمفسرين أن أسماءه تعالى وصفاته توقيفية، وجوزوا إطلاق كل ما ورد في الكتاب والأحاديث الصحيحة دعاء أو وصفا له وإخبارا عنه، ومنعوا كل ما لم يرد فيهما، وسموا ذلك إلحادا في أسمائه. وعلى ذلك منع جمهور أهل السنة كل ما لم يأذن به الشارع مطلقا, وجوز المعتزلة ما صح معناه ودل الدليل على اتصافه به ولم يوهم إطلاقه نقصا, وقد مال إلى قول المعتزلة بعض الاشاعرة، كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وتوقف إمام الحرمين الجويني(26).
والقول الذي نميل له وندين به هو عدم توقيفية صفاته وأسمائه وتجويز تسميته تعالى بكل ما يدل على الكمال أو يُـنـزه عن النقص والعيب؛ إذ ليس هناك دليل من ظاهر الآيات الكريمة على توقيفيّة أسماء الله تعالى، بل على العكس إذ ظاهر بعض الآيات الكريمة يدل على عدم توقيفيتها.
وأمّا ما استدل به على توقيفيتها من قوله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ)، فمبني على كون اللام للعهد ـ في قوله الأسماء الحسنى ـ، وان يكون المراد بالإلحاد التعدي إلى غير ما ورد من أسمائه من طريق السمع، وكلا الأمرين محل تأمل.
وأما المروي عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) من: أن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة، أو ما يقرب من هذا اللفظ، فلا دلالة فيه على التوقيف.(27)
________________________________________
(1) سورة فاطر، الآية 15.
(2) راجع كتاب «الله خالق الكون» للشيخ جعفر الهادي.
(3) الاعتقادات, الشيخ المفيد, ص36.
(4) سورة آل عمران، الآية 26.
(5) سورة الانعام، الآية 73.
(6) سورة الإسراء، الآية 111.
(7) انظر، عقائد الامامية، محمد رضا المظفر، ص38 ـ 39.
(8) سورة الرعد، الآية 16.
(9) انظر : التوحيد، الصدوق، ص33.
(10) انظر: لب الاثر في الجبر والقدر، محاضرات السيد الخميني للسبحاني، ص11.
(11) انظر: شرح احقاق الحق، السيد المرعشي، ج1، ص253 ـ 254.
(12) انظر: إلى المجمع العالمي بدمشق، شرف الدين، ص121.
(13) انظر: عقائد الاماميّة، محمد رضا المظفر، ص39.
(14) انظر: المصدر نفسه.
(15) انظر: تصحيح اعتقادات الامامية، الشيخ المفيد، ص40.
(16) انظر: المصدر نفسه.
(17) انظر: الالهيات، السبحاني، ص85.
(18) انظر: المصدر نفسه.
(19) انظر: الحكمة المتعالية، صدر الدين، ج2، ص296 ـ 297.
(20) انظر: أسرار الآيات، صدر الدين الشيرازي، ص40.
(21) سورة البقرة، الآية 186.
(22) انظر: اسرار الآيات، صدر الدين الشيرازي ص43.
(23) سورة طه، الآية 8.
(24) سورة الاعراف، الآية 180.
(25) سورة الحشر، الآية 24.
(26) محاظرات في الإلهيات, الشيخ السبحاني, ص 87.
(27) انظر: تعليقة العلامة حسن حسن زاده آملي على شرح المنظومة للحكيم السبزواري، ج4، ص275.