نبي الإسلام
لقد تقدم الكلام عن ضرورة النبوة في بحث النبوة العامة، وأنه لا بد من وجود إنسان عالم حكيم منزه معصوم، مبعوث من قبل الخالق تعالى إلى خلقه ليكون واسطة في التلقي؛ من أجل أن تكون حكمة إيجاد العالم (وانتظام أمور الخلق معاشاً ومعاداً) تامة، من غير اختصاص ذلك بزمان وقرن معين، وسنقوم بدراسة موضوعية لنبوة الخاتم (صلى الله عليه وآله) كنموذج للنبوة الخاصة، فنقول:
إن نبي زماننا هذا هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، وهو خاتم الأنبياء - كما سيأتي- وقد بعثه الله عز وجل إلى كافة العباد في زمانٍ غلب على أهله الفساد والتوحش، ولا سيما في الجزيرة العربية، ولذلك صار معروفاً بزمان الجاهلية؛ لكثرة جهال أهله، والسفلة من عبّاد الأصنام، ولنعم ما قال الامام علي في بيان حال أهل ذلك العصر:
«وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة، بين مشبه لله بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره»(1).
أخلاقيات العصر الجاهلي
كانت أخلاق أغلب سكان شبه الجزيرة في العصر الجاهلي في غاية الرداءة والدناءة، يقتلون أولادهم خشية إملاق، وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ويقتلون من عشيرة القاتل - الذي قتل واحدا من أفراد قبيلتهم - أي شخص ظفروا به وإن لم يكن هو قاتل ذلك المقتول، وغير ذلك من رذائل الأخلاق والعادات الناشئة عن الجهل والعصبية، يقول أمير المؤمنين في بيان أهل ذلك العصر:
«إنّ الله بعث محمدا نذيرا للعالمين، وأمينا على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار، متنخون بين حجارة خشن وحيات صم، تشربون الكدر وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة»(2).
فدعاهم إلى الإسلام، وهذّبهم عن رذائل الأخلاق، ومساوئ العادات، وعلّمهم العلوم النافعة، والأحكام الشرعية المتقنة، ورغبهم إلى النصح والتودد والإحسان، ونهاهم عن الظلم والفساد والعدوان، وأتعب نفسه الشريفة في إعلاء كلمة التوحيد، وإقامة العدل بينهم، وإنقاذهم من الكفر والشرك والضلالة، وتحمّل أنواع الأذى والصدمات من الجهال والكفار.
الرسول يدعو إلى الإسلام
كان زمان بعثته ساكناً في مكة المعظمة، وكانت عامة أهلها إلاّ من شذ منهم كفاراً مشركين، أو عابدين للأصنام، فلما أظهر (صلى الله عليه وآله) دعوته بينهم، ودعاهم إلى الإسلام، وأمرهم بخلع الأنداد والأصنام، شق ذلك عليهم، واستنكفوا عن إجابة دعوته، و جملة منهم كأبي جهل، وأبي لهب، وأبي سفيان، وأمثالهم من كفار قريش الذين كانوا في نهاية العداوة والبغضاء له (صلى الله عليه وآله).
ولمّا رأوا عدم انصرافه عن دعوته، وشاهدوا إقبال بعض الناس من الرجال والنساء إليه، وإيمانهم به، اتفقوا على مخالفته وتكذيبه، ونسبوا السحر والجنون والكهانة إليه، ومنعوا الناس عن التشرف بمحضره لاستماع مواعظه و تبليغاته وإرشاداته، وعن مشاهدة معجزاته، وإفشاء كراماته، ولم يقصروا عن إيراد أنواع الأذى والصدمات عليه وعلى المؤمنين به، روى البخاري عن ابن عباس قال:
لما نزلت (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) صعد النبي على الصفا، فجعل ينادى يا بنى فهر يا بنى عدى لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال : ارأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت (تبت يدا أبى لهب. وتب ما اغنى عنه ماله وما كسب)(3).
فهكذا كانت ردت فعل قريش للدعوة النبوية.
الهجرة إلى الحبشة
لما رأى رسول الله ما لحق بأصحابه من الأذى جرّاء تصميم قريش على القضاء على دعوته، ولم يقدر على منعهم، ولم يؤمر بعد بالجهاد، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال لهم: إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله عز وجل للمسلمين فرجاً، فهاجر إليها سراً أحد عشر رجلاً، و أربع نسوة، وهذه هي الهجرة الأولى، ثم خرج جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وتتابع المسلمون إليها، فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمراً بن العاص وصاحبه عمارة بن الوليد إلى النجاشي ليردوهم، فلما وردا عليه تكلم عمرو بن العاص وقال: أيّها الملك إن قوما خالفونا في ديننا، وسبوا آلهتنا، وصاروا إليك، فردهم إلينا، فبعث النجاشي إلى جعفر فجاء وقال: أيها الملك سلهم أنحن عبيد لهم؟ فقال: لا بل أحرار، فقال: سلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟ قال: لا مالنا عليكم ديون، قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟ قال عمرو: لا، قال: فما تريدون منا؟ آذيتمونا فخرجنا من دياركم، ثم قال: أيها الملك بعث الله فينا نبياً أمرنا بخلع الأنداد، وترك الاستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة والعدل والإحسان، و إيتاء ذي القربى ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي، فقال النجاشي: بهذا بعث الله عيسى ، ثم قال النجاشي لجعفر: هل تحفظ مما أنزل الله على نبيك شيئا؟ قال: نعم، فقرأ سورة مريم، فلما بلغ قوله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) قال: هذا والله هو الحقّ، فقال عمرو: إنّه مخالف لنا فردّه إلينا، فرفع النجاشي يده و ضرب وجه عمرو، وقال: اسكت. وقال لجعفر وأصحابه: امكثوا فإنكم آمنون(4).
حصار قريش
لقد بالغت قريش في حربها للدعوة الجديدة، وكفاك في هذا المقام خبر الصحيفة الملعونة التي كتبتها قريش في مقاطعة بني هاشم - بعدما رأت أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا، وصار الإسلام يفشو في القبائل- على أن لا يؤاكلوا بني هاشم، ولا يكلموهم، ولا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يحضروا معهم، حتى يدفعوا إليهم محمدا فيقتلونه، وأنهم يد واحدة على محمد يقتلونه غيلة أو صراحا، فالتجأ بنو هاشم إلى الذهاب في شعب أبي طالب (رضي الله عنه)، وكان من دخل مكة من العرب لا يجترئ أن يبيع من بني هاشم شيئا، ومن باع منهم شيئا انتهبوا ماله، ومن رأوه معه طعاما نهوه أن يبيع منهم شيئا فلم يزل هذا حالهم.
وبقوا في الشعب ثلاث سنين، وفي بعض الأخبار أربع سنين، لا يأمنون إلا من موسم إلى موسم، ولا يشترون ولا يبيعون إلا في الموسم، وكان يقوم بمكة موسمان في كل سنة، موسم العمرة في رجب، وموسم الحج في ذي الحجة، فكان إذا اجتمع الناس في المواسم تخرج بنو هاشم من الشعب، فيشترون ويبيعون، ثم لا يجترئ أحد منهم أن يخرج، إلى الموسم الثاني، وأصابهم الجهد والمشقة، ورسول الله مع ذلك لم يكف عن دعوته، ولم يقصر عنها، فيخرج في كل موسم من الشعب، فيدور على قبائل العرب، فيقول لهم: تمنعون جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربي، وثوابكم على الله الجنة، وأبو لهب في أثره يقول: إنه ابن أخي، وهو كذاب ساحر(5).
عام الحزن
كان العام العاشر من بعثة نبي الإسلام من اشد الأعوام التي مرت عليه وعلى دعوته المباركة،وهو العام الذي اسماه بعام الحزن، حيث فقد فيه عمه أبا طالب الذي كان من اشد ناصريه، فطالما كان (صلى الله عليه وآله) يقول: ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب(6).
ولقد كانت حاضرةً بذهن رسول الله مواقف كثيرة لأبي طالب، كذلك اليوم الذي مرّ فيه بنفر من قريش، وقد نحروا جزورا – كانوا يسمونها الفهيرة، ويجعلونها على النصب- فلم يسلم عليهم، فلما انتهى إلى دار الندوة قالوا: يمر بنا يتيم أبي طالب ولم يسلم فأيكم يأتيه فيفسد عليه مصلاه؟ فقال عبد الله بن الزبعري السهمي: أنا أفعل، فأخذ الفرث والدم فانتهى به إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وهو ساجد، فملأ به ثيابه، فانصرف النبي حتى أتى عمه أبا طالب، فقال: يا عم من أنا؟ فقال: ولم يا ابن أخ، فقص عليه القصة، فقال: وأين تركتهم؟ فقال: بالابطح، فنادى في قومه: يا آل عبد المطلب يا آل هاشم يا آل عبد مناف، فأقبلوا إليه من كل مكان ملبين، فقال: كم أنتم؟ فقالوا: نحن أربعون، قال: خذوا سلاحكم، فأخذوا سلاحهم وانطلق بهم حتى انتهى إليهم، فلما رأت قريش أبا طالب أرادت أن تتفرق، فقال لهم: ورب البنية لا يقوم منكم أحد إلا جللته بالسيف، ثم أتى إلى صفاة كانت بالابطح فضربها ثلاث ضربات فقطع منها ثلاثة أنهار، ثم قال: يا محمد أيهم الفاعل بك؟ فأشار النبي إلى عبد الله بن الزبعري السهمي الشاعر، فدعاه أبو طالب فوجا أنفه حتى أدماها، ثم أمر بالفرث والدم فأمر على رؤوس الملا كلهم، ثم قال: يا ابن أخ أرضيت؟ ثم قال: أنت والله أشرفهم حيا وأرفعهم منصبا(7).
ويوم مشوا إلى أبى طالب، وهو طريح الفراش في مرضه الذي أودي بحياته، فكلّموه، وهم أشراف قومه: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب، إنك منّا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك، فادعه، فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكف عنا، ونكف عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه.
فبعث إليه أبو طالب، فجاءه، فقال: يابن أخى، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك، وليأخذوا منك، فقال رسول الله : نعم، كلمة واحدة تعطوينها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم.
فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات، قال : تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه.
فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا، إن أمرك لعجب.
ثم قال بعضهم لبعض: والله إن هذا الرجل ما يعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه(8).
وبعد أشهر قليلة من وفاة أبي طالب توفيت خديجة، الزوجة التي بذلت كل ما عندها، وواسته في جميع الخطوب والنكبات، وكانت تود أن تتحمل عنه كل شيء وان لا يصل إليه مكروه من سفهاء قريش، ولقد صدّقها رسول الله في صدق مشاعرها وقوت إيمانها حينما قال (صلى الله عليه وآله): ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة (9).
فكان يفك من مالها الغارم والعاني، ويحمل الكل، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكان (صلى الله عليه وآله) ينفق منه ما شاء في حياتها ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها(10).
خروج النبي إلى الطائف
لما توفي أبو طالب اشتد البلاء على رسول الله أشد ما كان، فعمد لثقيف بالطائف رجاء أن يؤووه، فوجد ثلاثة نفر منهم هم سادة ثقيف يومئذ، وهم إخوة: عبد ياليل بن عمرو، وحبيب بن عمرو، ومسعود بن عمرو، فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء وما انتهك منه قومه، فقال أحدهم: أسرق أستار الكعبة إن كان الله بعثك بشئ قط.
وقال الاخر: أعجز على الله أن يرسل غيرك؟ وقال الاخر: والله لا أُكلمك بعد مجلسك هذا أبدا، والله لئن كنت رسول الله لأنت أعظم شرفا وحقا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب على الله لأنت شر من أن أكلمك.
وتهزؤوا به ، وأفشوا في قومهم الذي راجعوه به، فقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر بين صفيهم كان لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة- وقد كانوا أعدّوها- حتى أدموا رجليه، فخلص منهم ورجلاه تسيلان الدماء، فعمد إلى حائط من حوائطهم واستظل في ظل حبلة منه وهو مكروب موجع، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله، فلما رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداس وهو نصراني من أهل نينوى معه عنب، فلما جاءه عداس قال له رسول الله : من أي أرض أنت؟ قال: أنا من أهل نينوى، فقال له : من مدينة الرجل الصالح يونس ابن متى؟ فقال له عداس: وما يدريك من يونس بن متى؟ فقال له رسول الله - وكان لا يحقر أحدا أن يبلغه رسالة ربه- أنا رسول الله، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متى.
فلما أخبره بما أوحى الله إليه من شأن يونس بن متى خر عداس ساجدا لله، وجعل يقبل قدميه وهما تسيلان دما.
فلما بصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا، فلما أتاهما قالا له: ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلته بأحد منا؟ قال: هذا رجل صالح أخبرني بشئ عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى.
فضحكا وقالا: لا يفتننك عن نصرانيتك، فإنه رجل خداع، فرجع رسول الله إلى مكة(11).
النبي يعود إلى مكة
رجع رسول الله من الطائف إلى مكة بعد أن رفض أهلها دعوته ، ولما أشرف عليها وهو معتمر، كره أن يدخل مكة وليس له فيها مجير، فنظر إلى رجل من قريش قد كان أسلم سرا، فقال له: ائت الأخنس بن شريق فقل له: إن محمدا يسألك أن تجيره حتى يطوف ويسعى فإنه معتمر.
فاتاه وأدى إليه ما قال رسول الله ، فقال الأخنس: إني لست من قريش، وإنما أنا حليف فيهم، والحليف لا يجير على الصميم، وأخاف أن يخفروا جواري، فيكون ذلك مسبة.
فرجع إلى رسول الله فأخبره، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شعب حراء مختفيا مع زيد فقال له : أذهب إلى مطعم بن عدي فسله أن يجيرني حتى أطوف وأسعى.
فجاء إليه وأخبره فقال: أين محمد؟ فكره أن يخبره بموضعه، فقال: هو قريب، فقال: ائته فقل له: إني قد أجرتك فتعال وطف واسع ما شئت.
فأقبل رسول الله ، وقال مطعم لولده، وأخيه طعيمة بن عدي: خذوا سلاحكم فإني قد أجرت محمدا وكونوا حول الكعبة حتى يطوف ويسعى، وكانوا عشرة فأخذوا السلاح.
وأقبل رسول الله حتى دخل المسجد، ورآه أبو جهل فقال: يا معشر قريش هذا محمد وحده وقد مات ناصره فشأنكم به، فقال له طعيمة بن عدي: يا عم لا تتكلم، فإن أبا وهب قد أجار محمدا، فوقف أبو جهل على مطعم ابن عدي فقال: أبا وهب أمجير أم صابئ؟ قال: بل مجير، قال: إذا لا يخفر جوارك.
فلما فرغ رسول الله من طوافه وسعيه جاء إلى مطعم، فقال: أبا وهب قد أجرت وأحسنت، فرد علي جواري، قال: وما عليك أن تقيم في جواري؟ قال: أكره أن أقيم في جوار مشرك أكثر من يوم(12).
بيعة العقبة الأولى
كانت الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة أهل عز ومنعة في بلادهم، حتى كانت بينهم الحروب التي أفنتهم في أيام لهم، فلما ضرستهم الحرب وألقت بركها عليهم وظنوا أنها الفناء، واجترأت عليهم بنو النضير وقريظة وغيرهم من اليهود، خرج قوم منهم إلى مكة يطلبون قريشا لتقويهم، وعزوا فاشترطوا عليهم شروطا لم يكن لهم فيها مقنع، ثم صاروا إلى الطائف فسألوا ثقيفا فأبطأوا عنهم فانصرفوا.
وقدم نفر منهم إلى مكة، وهم بنو عفراء، يتفاخرون مع أسعد بن زرارة، فلقيهم رسول الله ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال رجل منهم يقال له إياس بن معاذ: يا قوم هذا والله النبي الذي كانت اليهود تعدكم به، فلا يسبقنكم إليه أحد، فأسلموا، وأخذ عليهم رسول الله الإيمان بالله وبرسوله.
ثم انصرفوا فأخبروا قومهم الخبر، وقد كانوا سألوه أن يوجه معهم رجلا من قبله يدعو الناس بكتاب الله، فبعث إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير، فنزل على أسعد بن زرارة وجعل يدعوهم إلى الله عز وجل، ويعلمهم الإسلام، وكان أول من قدم المدينة.
ثم خرج اثنا عشر رجلا منهم إليه فلقوه وهم أصحاب العقبة الأولى فآمنوا بالله وصدقوه، وانصرفوا إلى المدينة وكثر خبره وفشا الإسلام فيها.
فلما كان العام القابل خرج إليه جماعة من الأوس وجماعة من الخزرج فوافى منهم سبعون رجلا وامرأتان فأسلموا وصدقوه، وأخذ رسول الله عليهم بيعة النساء، فسألوه أن يخرج معهم إلى المدينة، وقالوا: إنه لم يصبح قوم في مثل ما نحن فيه من الشر، ولعل الله أن يجمعنا بك ويجمع ذات بيننا فلا يكون أحد أعز منا، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قولا جميلا.
ثم انصرفوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام فكثر حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها ذكر حسن من ذكر رسول الله، وسألوه الخروج معهم وعاهدوه أن ينصروه على القريب والبعيد والأسود والأحمر، فقال العباس بن عبد المطلب- وقد كلن حاضراً-: وإني فداك أبي وأمي آخذ العهد عليهم، فجعل ذلك إليه، وأخذ عليهم العهود والمواثيق أن يمنعوه وأهله مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم وأولادهم، وعلى أن يحاربوا معه الأسود والأحمر، وأن ينصروه على القريب والبعيد، وشرط لهم الوفاء بذلك والجنة(13).
بيعة العقبة الثانية
إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة مع مجموعة من الانصار من المسلمين، أثناء الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، فلما قدموا مكة واعدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) العقبة من أواسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم من كرامته، والنصر لنبيه، وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.
فلما فرغوا من الحج وكانت الليلة التي واعدوا رسول الله فيها ومعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، ولم يكن قد اسلم بعد، فكلموه وقالوا له: يا أبا جابر إنك سيد من سادتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوه إلى الإسلام وأخبروه بميعاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إياهم، فأسلم وشهد معهم العقبة.
واجتمعوا في الشعب ينتظرون رسول الله ، فجاء ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده.
فقالوا له: قد سمعنا ما قلت: فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فتكلم رسول الله فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
فأخذ البراء بن معرور بيده وقال نعم فوالذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.
فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله ، أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم. أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم.
ثم إن رسول الله قال: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس(14).
وبايع رسول الله من بايع من الأوس والخزرج في العقبة الآخرة، وهى بيعة الحرب، بشروط غير الشروط في العقبة الأولى، فانها كانت على بيعة النساء وكانت بيعة العقبة الثانية على حرب الأحمر والأسود، قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله على بيعة الحرب. وكان عبادة أحد النقباء، ومن الاثني عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى(15).
الهجرة إلى المدينة
لما بايع الانصار رسول الله ، أمر أصحابه ممن هو معه بمكة من المسلمين بالهجرة والخروج إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الانصار، وقال : إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها، فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه بالخروج من مكة والهجرة إلى المدينة(16).
فلما اطّلع كفار قريش على بيعة حي من أهل المدينة لرسول الله وانتشار دعوته فيها، شاوروا في أمره، فاتفق رأيهم على التهاجم على بيته (صلى الله عليه وآله) في الليل لقتله، فأخبره الله عز وجل بسوء قصدهم، وأمره بالخروج من بلده إلى المدينة.
وقد خلف علياً على فراشه للقدوم بالفواطم ورد الودائع التي كانت عنده ، وصار إلى الغار فكمن فيه، وأتت قريش فراشه فوجدوا عليا (عليه السلام)، ثم طلبوا الأثر فلم يقعوا عليه، وأعمى الله عليهم المواضع فانصرفوا.
وخرج رسول الله متوجها إلى المدينة، ومر بأم معبد الخزاعية فنزل عندها، ثم نفذ لوجهه حتى قدم المدينة.وكان جميع مقامه بمكة حتى خرج منها إلى المدينة ثلاث عشرة سنة من مبعثه(17).
قدوم رسول الله المدينة
قدم رسول الله المدينة فلما دخلها جاءت الانصار برجالها ونسائها وامسكوا بزمام ناقته، وقالوا: إلينا يا رسول الله، فقال : دعوا الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب، وبعد أن شاهد هذا الاستقبال خرج إليهم فقال: أتحبونني؟ فقالوا: بلى والله يا رسول الله، فقال : أنا والله احبكم ثلاث مرات(18).
ولما نزل بالمدينة، ولم يكن هناك أولئك الأعداء الذين كانوا في مكة المعظمة، وصار جملة من أهل المدينة بفضله تعالى مقبلين إليه، وراغبين إلى استماع مواعظه ونصائحه، وانتشرت دعوته إلى الإسلام في عدة من البلاد، توجهت إليه الوفود، ومن جملتهم نصارى نجران وقائدهم أسقف وهو حبرهم وإمامهم، وله فيهم شرف ومنزلة، وطالت المحاجة بينه وبينهم، وانتهى الأمر إلى المباهلة، وقد حضر مع نفر يسير من أهل بيته، وهم علي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام، فقال الأسقف لأتباعه: إني لأرى وجوها لو سئلوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فانصرفوا عن المباهلة، وقالوا: يا أبا القاسم إنا لا نباهلك، ولكن نصالحك، فصالحهم النبي على إعطاء الجزية فتقبلوا(19).
غزوات النبي
بعد مرور سبعة أشهر من الهجرة إلى المدينة نزل جبرئيل بقوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)(20)، والذي يحمل في طياته الإذن بمجاهدة الكفار والمشركين، فخاض ضدهم سلسلة من المعارك، وكانت بدر الكبرى بداية هذه المعارك وأعظم غزوة غزاها رسول الله ، وأشدها نكاية في المشركين؛ إذ قضت على كبريائهم وخيلائهم، وكانت الفاتحة لقوة المسلمين التي ظهرت فيها البطولات وامتدت بسببها الانتصارات، وقد قتل في هذه المعركة سبعون من رؤوس المشركين، قتل علي نصفهم.
وسماها تعالى يوم الفرقان، وانزل فيها الملائكة لنصرة المسلمين، قال تعالى: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(21). وقال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) (22).
ولما رفع الله عز وجل ذكر نبيه ، وكثر المؤمنون به (صلى الله عليه وآله)، تجهزوا لغزو مكة في السنة التاسعة للهجرة، فتوجه مع جنود وعساكر عظيمة لفتحها، وقد علم أهلها مما بلغهم من أبي سفيان وغيره أن التابعين له لا يتجاوزون عن أمره، ولا يختارون على طاعته شيئا، وكأن نفوسهم موضوعة على أكفهم ليبذلوها في نصرته ونصرة الإسلام، فاستسلموا بأجمعهم، واستقبلوا عساكر الإسلام خاضعين مسلمين، ولم يخرج واحد منهم للقتال، فدخل المسلمون فيها آمنين، ولما دخل مكة، خاطب معانديه من قريش وغيرهم وقال مقولته المشهورة: اذهبوا فأنتم الطلقاء(23)، وعفى عن جرائمهم، وعمّا صدر عنهم قبل ذلك من قبائح أفعالهم وكفرهم.
ثم بعد ذلك انتشرت دعوته في البلاد، وعلت كلمة الإسلام، وكثر المسلمون، واستقرت سلطنتهم على من سواهم، ثم ازدادوا إلى ما شاء الله(24).
وقد ذكر أهل السير أن جميع ما غزا النبي بنفسه ست وعشرون غزوة هي على الترتيب: البواط، العشيرة، بدر الأولى، بدر الكبرى، السويق، ذي إمرة، أحد، نجران، بنو سليم، الأسد، بنو النضير، ذات الرقاع، بدر الآخرة، دومة الجندل، الخندق، بنو قريظة، بنو لحيان، بنو قرد، بنو المصطلق، الحديبية، خيبر، الفتح، حنين، الطايف، تبوك، ويلحق بها بنو قينقاع. وقد قاتل َ في تسعٍ، هي: بدر الكبرى، وأحد، والخندق، وبني قريظة، وبني المصطلق، وبني لحيان، وخيبر، والفتح، وحنين، والطايف. وأما عدد سراياه فست وثلاثون سرية على ما عد في مواضعه(25).
دليل نبوة نبي الإسلام
لما توقف ثبوت نبوة نبي معين على دليل متقن وبرهان قطعي يدل على نبوته كما ذُكر في بحث النبوة العامة، فنقول في هذا المقام: إن الدليل على كون محمد (صلى الله عليه وآله) نبياً ومبعوثاً من الله تعالى إلى الخلق أمور، هي:
1- بشائر الأنبياء السابقين
لقد بشرت الكتب السماوية والأنبياء السابقون بنبينا محمد (صلى الله عليه وآله)، ومع أن أتباعهم حرفوا كتبهم لكي لا يبقى أثر لتلك البشارة، لكن المتأمل فيما بقي منها تنكشف له الحقيقة. ونكتفي منها بنموذجين:
الأول: التوراة
جاء في سفر التثنية: وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم(26).
و«سيناء» محل نزول الوحي على نبي الله موسى، و«سعير» محل بعثة نبي الله عيسى، و «فاران» الذي يتلألأ بنور الله تعالى، هي جبال مكة المكرمة التي تلألأت بنور نبوة الرسول الأكرم .
وجاء في سفر التكوين عن إسماعيل وأمه هاج: وكان الله مع الغلام فكبر. وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران. وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر(27).
ف«فاران» هي مكة التي سكنها إسماعيل وأبناؤه ومن تلألأ من جبل فاران وعن يمينه نار شريعة لهم، هو السراج المنير الذي أرسله الله من جبل حراء ليضيء سماء العالم بنور هداية القرآن، ويحرق الكفر والنفاق بنار غضب القهار، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(28).
وجاء في سفر حيقوق النبي: الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات. والأرض امتلأت من تسبيحه. وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع. وهناك استتار قدرته(29).
فبظهوره حدث ذلك الدوي في العالم من جبال مكة بصوت«سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» وانتشر في العالم ترديد المسلمين في صلواتهم «سبحان ربي العظيم وبحمده، وسبحان ربي الأعلى وبحمده».
الثاني: الإنجيل
جاء في إنجيل يوحنا: إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد(30).
وفي الإصحاح الخامس عشر: ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لي(31).
وقد ورد في النسخة الأصلية اسم النبي الذي وعدهم عيسى بأن ربه سوف يرسله بارقليطا أو بركليتوس وترجمتهما المحمود والأحمد، ولكنّ المترجمين غيروها إلى المعزي.
وهذه الحقيقة ظهرت في إنجيل برنابا: فاعلم يا برنابا إنه لأجل هذا يجب التحفظ وسيبيعني أحد تلاميذي بثلاثين قطعة من نقود. وعليه فإني على يقين من أن من يبيعني يقتل باسمي. لأن الله سيصعدني من الأرض وسيغير منظر الخائن حتى يظنه كل أحد إياي. ومع ذلك فإنه لما يموت شر ميتة أمكث في ذلك العار زمنا طويلا في العالم. ولكن متى جاء محمد رسول الله المقدس تزال عني هذه الوصمة(32).
وقد جاءت البشارة بعنوان «محمد رسول الله» في فصول من هذا الإنجيل:
الأول: فلما انتصب آدم على قدميه رأى في الهواء كتابة تتألق كالشمس نصها " لا إله إلا الله ومحمد رسول الله. ففتح حينئذ آدم فاه وقال: أشكرك أيها الرب. إلهي لأنك تفضلت فخلقتني. ولكن أضرع إليك أن تنبئني ما معنى هذه الكلمات: محمد رسول الله. فأجاب الله مرحبا بك يا عبدي آدم. وإني أقول لك إنك أول إنسان خلقت(33).
الثاني: فلما التفت آدم رأى مكتوبا فوق الباب: لا إله إلا الله محمد رسول الله(34).
الثالث: حينئذ يرحم الله ويرسل رسوله الذي خلق كل الأشياء لأجله. الذي سيأتي من الجنود بقوة وسيبيد الأصنام وعبدة الأصنام. وسينتزع من الشيطان سلطته على البشر. وسيأتي برحمة الله لخلاص الذين يؤمنون به. وسيكون من يؤمن بكلامه مباركا(35).
الرابع: ومع أني لست مستحقا أن أحل سير حدائه. قد نلت نعمة ورحمة من الله لأراه(36).
ويكفي لإثبات بشارات التوراة والإنجيل بنبينا محمد أنه دعا اليهود والنصارى وحكامهم وأحبارهم ورهبانهم وقساوستهم إلى الإسلام، وأعلن رفضه لعقيدة اليهود (عزير ابن الله)، ولعقيدة النصارى (إن الله ثالث ثلاثة)، وأعلن (صلى الله عليه وآله) بكل صراحة بأنه هو الذي بشرت به التوراة والإنجيل، قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ)(37)، وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)(38).
فهل كان يمكنه الإعلان عن هذه الدعوى، وهو غير صادق فيها، أمام أولئك الأعداء الذين كانوا ينتهزون الفرصة للقضاء عليه حتى لا يفقدوا موقعيتهم المادية والمعنوية؟
إن الأحبار والقساوسة وعلماء اليهود والنصارى وسلاطينهم الذين توسلوا بكل الوسائل للوقوف أمامه وبذلوا جميع جهودهم للتصدي له، ورجعوا خائبين مندحرين حتى في الحرب والمباهلة، كيف سكتوا في مقابل هذه الدعوى المدمرة، وعجزوا عن مواجهتها وإبطالها؟
إن هذا السكوت من علماء اليهود والنصارى، وذلك الادعاء الواضح منه (صلى الله عليه وآله) برهان قاطع على ثبوت تلك البشارات في ذلك الزمان.
2- جمع القرائن والشواهد
من الأمور الدالة على نبوة الرسول الأعظم من الطرق التي يستكشف بها صدق دعوى مدعي النبوة، هي الفحص عن القرائن والشواهد الداخلية والخارجية، وأصول هذه القرائن في المقام عبارة عن الأمور التالية:
ألف: سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة
كفى في إشراق سيرته قبل النبوة إنه كان يدعى "الأمين" وكان محل ثقة واعتماد العرب في فض نزاعاتهم، فالتاريخ يروي أنه لولا حنكة الرسول في حادثة وقعت بين العرب في مكة، وإجماعهم على قبول قضائه، لسالت دماؤهم وهلكت نفوسهم، فقد روي في قصة تجديد بناء الكعبة أن البناء لما بلغ إلى موضع الحجر الاسود، تشاجرت قريش في موضعه فقال كل قبيلة: نحن أولى به نحن نضعه، فلما كثر بينهم تراضوا بقضاء من يدخل من باب بني شيبة، فطلع رسول الله فقالوا: هذا الأمين قد جاء، فحكموه فبسط رداءه، وقال بعضهم: كساء طاروني كان له ووضع الحجر فيه، ثم قال: يأتي من كل ربع من قريش رجل، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس والاسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم، وقيس بن عدي من بني سهم، فرفعوه ووضعه النبي في موضعه(39).
ب: الظروف التي فيها نشأ وادعى النبوة
الصورة العامة التي يمكن رسمها عن العرب الجاهليين، إنه كان مجتمعا عاكفاً على عبادة الحجارة والأوثان، وغارقاً في الفساد الأخلاقي، ويظهر هذا في شيوع القمار والزنا، ووأد البنات، وأكل الميتة، وشرب الدم، والغارات الثأرية، وغير ذلك من التقاليد والأعمال السيئة التي نقلها المؤرخون(40).
إن النبي الأكرم وليد هذه البيئة المتدهورة، نشأ وترعرع فيها، وقضى أربعين عاما بينهم، فإذا به قد بعث بأصول وآداب ومعارف، تضاد ما كان سائدا في تلك البيئة، فلو كان في تعاليمه مستمدا من بيئته، لكان قد تأثر بها ولو في بعض هذه التقاليد.
ج: المفاهيم التي تبناها ودعا إليها
جاء الرسول الأعظم بمفاهيم راقية في جميع شؤون الحياة البشرية، ففي مجال المبدأ والمعاد دعا إلى التوحيد، ونبذ الوثنية وتنزيهه سبحانه عن كل نقص وعيب، وقرر أن الموت ليس بمعنى ختم الحياة، وإنما هو نافذة للحياة الأبدية، وأين هذا من مفاهيم الشرك والوثنية التي كانت سائدة في ذلك الزمن، وأين ذلك من قولهم- كما حكاه الله تعالى-: (مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)(41).
وفي حقل الأخلاق والتعاون والتآلف الاجتماعي، زرع في محيط البغضاء والحقد بذور المحبة والمواساة، وجعل أبناء المجتمع الواحد إخوة في الدين وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(42).
وأرسى أركان الإحسان والعدالة الاجتماعية، وحذر عن الفواحش والبغي والعدوان، وأين هذا من الممارسات الأخلاقية القبيحة الرائجة بين العرب في تلك الظروف؟
وفي الحقل الاقتصادي، جاء بأصول ومفاهيم بنى عليها بنيانا محكما من التشريعات الاقتصادية في مختلف أبواب المعاملات، فمن ذلك أنه نادى بحرمة الربا الذي كان الشغل الشاغل في الجزيرة العربية، وإلى هذا أشار جعفر بن أبي طالب- في مقالة ألقاها إلى ملك الحبشة- حيث قال: أيها الملك بعث الله فينا نبيا أمرنا بخلع الأنداد وترك الاستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي(43).
د: الأساليب التي اعتمدها في نشر دعوته
إن منطق النبي الأكرم ومسلكه - كغيره من الأنبياء - هو شق الطريق على نهج الصدق والعدل والتحرز عن التذرع بوسائل غير حقة حتى لو كانت مفيدة ونافعة لأهدافه الشخصية، بل كان يناهضها ليستقيم الناس على جادة الواقع والحق(44).
ه: أثر رسالته في تغيير البيئة التي ظهر فيها
إن الإلمام العابر بأحوال العرب في شبه الجزيرة العربية، يكفي في إثبات أن الثورة العارمة على التقاليد والعادات السائدة هناك آنذاك- في مدة لا تزيد على ثلاث وعشرين سنة، وصنع أمة متحضرة منها، في هذه البرهة الوجيزة من الزمن- أمر يستحيل تحققه عن طريق الأسباب العادية والأساليب المتعارفة، وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أن وراء هذه الثورة، إمدادات غيبية، نصرت الثائر في جميع مواقفه ومقاصده.
وهذا الإمام علي بن أبي طالب يصف وضع العرب الجاهليين في بعض خطبه ويقول: وأنتم معشر العرب على شر دين، وفي شر دار، متنخون بين حجارة خشن وحيات صم، تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة(45).
فهذه الأمة على هذه الحال وهذه الأوصاف، تحولت إلى أمة عالمة أرست قواعد الحضارة الإنسانية في مدة قصيرة، ولم يتحقق ذلك إلا في ظل العنايات الإلهية والإمدادات الغيبية، وإلى هذا أشارت قرة عين الرسول الزهراء البتول في خطبة ألقتها بعد رحلة أبيها في مسجد المدينة حيث قالت: ابتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بابي محمد ظلمها وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم(46).
هذه كانت دراسة إجمالية للدعوة المحمدية، وتبيين القرائن الموجودة فيها، والكل يشهد على أن الداعي كان صادقا في دعوته، محقا في نبوته، وهذا الطريق قابل للبسط والإسهاب ففي وسع المحققين في الحياة النبوية، أن يشقوا هذا الطريق بشكل مسهب، حتى يتجلى صدق دعوته تجلي الشمس في رائعة النهار.
3- ظهور المعجز على يد نبي الإسلام
من الأمور الدالة على نبوة الرسول الأعظم هو ظهور المعجز على يده الكريمة، فلا بدّ لمدعي النبوة أن يقيم شاهدا على صدق دعواه، وأمانته في تبليغه، ولا بد أن يكون هذا الشاهد مما يعجز غيره عن الاتيان بمثله، أي أنه لا بد أن يكون أمرا خارقا للعادة ولقوانين الطبيعة المألوفة، وهذا هو المعجز(47).
والمعجز بهذا المعنى لا يتحقق لأحد إلا بتقدير الله تعالى وعنايته، والمتتبع لحياة الأنبياء يجدها مليئة بهذه الشواهد، فقد اقترنت العصا بموسى ، واقترن إحياء الموتى بعيسى ، ونظائرها كثيرة، وإذا كانت نبوة خاتم الأنبياء قد عززت بالمعجزة الخالدة الكبرى القرآن الكريم، الذي تحدى ولا يزال ويبقى يتحدى الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ)(48).
إذا كان كذلك فليس هو المعجزة الوحيدة له ، بل إن المعاجز قد رافقت حياته الشريفة على امتدادها، فكم حدثتنا الأخبار الصحاح عن نبوع الماء من بين أصابعه المباركة حتى يستقي منه الجيش الكبير ورواحله، وكم وضع يده الكريمة على طعام قليل فأشبع الجمع الكثير، وحادثة الهجرة الشهيرة وخروجه من بين رجال العصابة التي أحاطت بداره عازمة على قتله، ونثره التراب على رؤوسهم وهم لا يبصرون ولا يشعرون به حتى طلع عليهم الصبح(49)، وأشياء كثيرة امتلأت بها كتب السيرة النبوية المفصلة، فكانت المعاجز ترافقه شواهد ودلائل على نبوته(صلى الله عليه وآله)، لكن بلا شك أن القرآن الكريم هو الأصل في تلك المعاجز؛ فإنه دليل النبوة، وعلامة الرسالة.
إتيانه بالكتاب العزيز
من الأمور الدالة على نبوة محمد إتيانه بالكتاب العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلا من حكيم حميد، وإنما فردناه عن غيره من المعجزات، لأنه أقوى دلالة منها على نبوته، ولكونه معجزة باقية له إلى يوم القيامة، والكلام تارة في دلالته، وأخرى في وجه إعجازه:
الأول: وجه الدلالة
بيانه هو أنه ادعى النبوة، وأتى بالقرآن الكريم متحديا به، وطل من قومه وأهل زمانه المعارضة ببيانات مختلفه، وعبارات متفاوتة، وجعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلا على أنه نزل عليه بوحي من الله عز وجل، وأنه (صلى الله عليه وآله) مبعوث من عند ربه، فدعاهم أولا إلى الإتيان بمثل القرآن، ثم وسع عليهم وقنع منهم بأن يأتوا بعشر سور مثل سوره، ثم سهل الأمر عليهم فرضي عنهم بإتيان سورة واحدة من مثله، ثم صرح بعد ذلك بعجزهم، بل عجز الخلق من الإنس والجن على الإتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وواضح أنهم لو كانوا متمكنين من الإتيان بمثله، بل بمثل سورة منه، لأتوا به؛ لأنهم كانوا متهالكين في إبطال أمره ، ويتوسلون بكل حيلة في تكذيبه ورده، ويعادونه أشد المعادات، إذ هو (صلى الله عليه وآله) قام بين أظهرهم، فعاب آلهتم ودينهم، وسفّه أحلامهم، وشتت أمرهم، وفرق جماعتهم، وذم آبائهم وأسلافهم بكفرهم، ودعاهم إلى توحيد الله تعالى وعبادته، وأمرهم بطاعته سبحانه وطاعة نفسه، وهم كانوا مشهورين بغاية العصبية والحمية في حفظ آرائهم السخيفة، وعاداتهم الباطلة، ورسوم أسلافهم الجاهلية، ومعروفين بسفك دمائهم في طريق الفخر والمباهات، والدفاع عن الأحساب والأنساب، فعدم إتيانهم بمثل القرآن بل بمثل سورة قصيرة منه والحال هذه، واشتغالهم بالحرب معه، مع أن فيه هتك الحرم، وإسارة العيال، وتلف النفوس والأموال، دليل قطعي على عجزهم عن المعارضة مع القرآن، وبرهان يقيني على صدقة في دعوى النبوة(50).
الثاني: وجه الإعجاز
وبيانه من خلال الأمور التالية:
أ) حسن تأليفه والتئام كلمه و فصاحته وبلاغته
حسن تأليفه والتئام كلمه و فصاحته وبلاغته بحيث لو وقعت آية منه في كلام فصيح بليغ لكانت ممتازة عنه، متلألئة فيه، كالنجم الزاهر، والبدر اللامع، في غسق الليل، ومن كان له أدنى مهارة في فن الفصاحة والبلاغة، وراجع كلمات الفصحاء من الخطب والأشعار وغيرهما، ثم نظر وتأمل في آيات القرآن العظيم، يرى تفاوتا فاحشا في ذلك بينهما، ويعترف بأن إتيان كلام بهذه المثابة من الفصاحة والبلاغة خارج عن طوق البشر، وكيف لا وقد اعترف رجال الفصاحة، وفرسان البلاغة، في عصره (صلى الله عليه وآله) وبعده، بأن القرآن ليس من سنخ كلام المخلوق(51).
وبعبارة أخرى: لقد بعث الرسول الأكرم في زمان كان الغالب على أهله من العرب، الكلام الفصيح والقول البليغ، وقد جعل الله سبحانه ذلك طبعا وسجية لهم، فكانوا ينشدون الخطب والأشعار الفصيحة البليغة، ويفتخرون بها، ويترفعون بشأنها، يقيمون مجالس المناشدة والمفاخرة، ويختارون كبيرا من ذوي حصافتهم وفصاحتهم، ويجعلونه حكما فيما يختلفون فيه، فينشد الخطباء خطبهم، والشعراء شعرهم، فإذا ثبت عندهم فضل خطبة، أو شعر، أو غيرهما علقوها في الكعبة، ومنها المعلقات السبع المشهورة، فأتاهم النبي بالقرآن الكريم الذي هو بلسان عربي مبين مستدلا به على نبوته، وقال: يا معشر العرب، إن الله عز وجل قد بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتاباً هو آيتي ودليلي على صحة ما أقول، فإن كنتم مرتابين في نبوتي، فإنّ هذا الكتاب الذي أتيتكم به من عند الله تعالى فأتوا بمثله، فإنه قد نزل بلسانكم ولغتكم، وأنتم الفصحاء والبلغاء، واستظهروا في ذلك بأترابكم وأمثالكم، ولم يزل يقرعهم أشد التقريع بما في القرآن العظيم، تارة بقوله عز وجل: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ)(52).
وأخرى بقوله عز من قائل: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(53). وقوله عز اسمه: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(54).
وثالثة بقوله جل شأنه: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ)(55).
ورابعة بقوله تبارك اسمه: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(56).
وهم في كل ذلك ناكصون عن معارضته، مدهشون عن فصاحته وبلاغته، والهون من حلاوته وطلاوته، حيارى في أمره وشأنه، فأيسوا من المعارضة، واضطروا في تكذيبه (صلى الله عليه وآله) ورده وصد الناس عن إجابة دعوته، إلى التشبث بأمور واهية، كالغريق الذي يتشبث بكل حشيش.
فتارة قالوا: إن محمدا تعلم القرآن من بشر، فرد الله عز وجل عليهم بقوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ)(57)، يعني: أن لغة البشر- الذين ينسب إليهم التعليم وأنهم يملون القول عليه بزعم الكفار- أعجمية غير فصيحة، وهذا القرآن قد نزل بلسان عربي مبين، وإذا كان فصحاء العرب وبلغائهم عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن، مع أنه بلسانهم ولغتهم وهم في غاية الفصاحة والبلاغة، فكيف يمكن للأعجمي غير الفصيح أن يأتي بمثله حتى يتعلم منه.
وتارة أخرى قالوا- كما يحكي عنهم ذلك القران الكريم-: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ)(58)، وهو ادعاء مع العجز، إذ لو كان الإتيان بمثله في قدرتهم وتحت سلطتهم وإرادتهم لأتوا به مع تلك التقريعات الشديدة التي منها قوله عز وجل: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(59)، وقوله تعالى: (وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ)(60)، مع أنهم شاؤوا أن يفعلوا.
وتارة ثالثة قالوا - كما جاء ذلك في القرآن الكريم -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)(61) أي: عارضوه باللغو والباطل عند قراءته القرآن، حتى لا يسمع الآخرون كلامه، وهل يتوسل باللغو والباطل في مقام المعارضة والاحتجاج إلا العاجز.
وتارة رابعة قالوا: إنه ساحر، وغير ذلك من الأقوال الفاسدة الكاسدة، كقولهم في حقه : إنه كاهن، أو مجنون، أو شاعر، التي قد أقر شيوخهم ورؤساؤهم في هذه الصناعة ببطلانها واعترف المتقدم منهم والمتأخر بأن كلام محمد (صلى الله عليه وآله) (اعني: القرآن الكريم) ليس هو من كلام الإنس والجن، أو ليس من جنس كلام البشر.
اعتراف فصحاء قريش
اعترف جهابذة الفصاحة والبلاغة من قريش بل وسائر العرب بأن القرآن ليس من جنس كلام المخلوق، وهذه بعض الأمثلة على ذلك:
إذعان الوليد ابن المغيرة
فقد ورد: أن الوليد بن المغيرة، وهو المقدم في قريش فصاحة، وكان يقال له ريحانة قريش، ويقال له الوحيد، أي في الشرف والسؤدد والجاه والرئاسة، اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع، قالوا نقول: كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزة الكاهن ولا سجعه، قالوا فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته، قالوا فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله: رجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا فنقول: ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء و عشيرته، فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره(62).
وورد أيضا: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله ، فقال له: اقرأ علي، فقرأ عليه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (63) فقال: أعد، فأعاد، فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمعذق، وما يقول هذا بشر(64).
وفي رواية: إن النبي لما أنزل عليه: (حم. تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (65) قام إلى المسجد، والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي لاستماعه لقراءته، أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: والله لقد سمعت من محمد (صلى الله عليه وآله) آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة...، وإنه ليعلو وما يعلى، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأن قريش كلهم...، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينا، فقال له: ما لي أراك حزينا يا ابن أخي، قال: هذه قريش يعيبونك على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد، فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال: أتزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط؟ فقالوا: اللهم لا، قال: أتزعمون أنه كاهن، فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك؟ قالوا: اللهم لا، قال: أتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه أنه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: أتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا: اللهم لا، وكان يسمى الصادق الأمين قبل النبوة من صدقه، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكر في نفسه ثم نظر وعبس، فقال: ما هو إلا ساحر، ما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله، وولده ومواليه، فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر(66).
عجز ابن أبي العوجاء وأصحابه
روي عن هشام بن الحكم أنه قال: اجتمع ابن أبي العوجاء وأبو شاكر الديصاني الزنديق وعبد الملك البصري وابن المقفع، عند بيت الله الحرام يستهزؤن بالحاج ويطعنون بالقرآن، فقال ابن أبي العوجاء: تعالوا ننقض كل واحد منا ربع القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع، نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كله، فإن في نقض القرآن إبطال نبوة محمد، وفي إبطال نبوته إبطال الإسلام وإثبات ما نحن فيه، فاتفقوا على ذلك وافترقوا، فلما كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: أما أنا فمفكر منذ افترقنا في هذه الآية: (فلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا)(67) فما أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئا، فشغلتني هذه الآية عن التفكر فيما سواها. فقال عبد الملك: وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(68) ولم أقدر على الإتيان بمثلها. فقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)(69) لم أقدر على الإتيان بمثلها، فقال ابن المقفع: يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(70) لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر على الإتيان بمثلها.
قال هشام بن الحكم: فبيناهم في ذلك، إذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق ، فقال: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(71)، فنظر القوم بعضهم إلى بعض، وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت وصية محمد إلا إلى جعفر بن محمد، والله ما رأيناه قط إلا هبناه، واقشعرت جلودنا لهيبته، ثم تفرقوا مقرين بالعجز(72).
سجود لفصاحة القرآن
حكى أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)(73)، فسجد، وقال: سجدت لفصاحته(74).
وسمع آخر رجلا يقرأ: (فلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا)، فقال: أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام(75).
تسليم لفصاحة القران
حكى الأصمعي أنه سمع جارية تتكلم بعبارة فصيحة وإشارة بليغة وهي خماسية أو سداسية، وهي تقول: استغفر الله من ذنوبي كلها، فقال لها: مم تستغفرين ولم يجر عليك قلم، فقالت: أستغفر الله لذنبي كله - الأبيات، فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك، فقالت: أو يعد هذا فصاحة بعد قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)(76)، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين(77).
كلمة أخيرة في فصاحة القران وبلاغته
إنّ عجز الفصحاء والبلغاء من قريش والعرب بل وسائر الناس عن الإتيان بمثل القران أمر ثابت، وقد اعتراف عظمائهم وكبرائهم بذلك، و تصريحهم بأن القرآن بلغ في الفصاحة والبلاغة إلى حد لن تناله يد المخلوق، معلوم بالنقل المتواتر، وكلماتهم وأقوالهم في هذا الباب مضبوطة في الدفاتر، غاية الأمر أن منهم من جحد الحق عنادا وكبرا كالوليد المتقدم وأضرابه ممن تعامى عن الحق بعد أن أبصر وأدرك، وقد قال تعالى في حق أمثالهم: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(78).
ومنهم من اهتدى به وآمن، كلبيد الشاعر صاحب إحدى المعلقات السبع المشهورة، والنابغة الجعدي، وحسان بن ثابت، وسحبان وائل الذي يضرب به المثل في الفصاحة، وغيرهم من رجال الشعر والأدب.
وأنت إذا نظرت في قوله عز من قائل: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(79)، وقسمت بينه وبين أحسن ما صدر من أئمة الفصاحة في هذا المعنى، وهو قولهم: القتل أنفى للقتل، وتدبرت في الآيات السابقة، وفي قوله عز اسمه في وصف الجنة: (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(80)، وقوله سبحانه: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(81)، وقوله تعالى: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(82) وأشباهها من الآيات، ظهر لك أن كل واحدة منها مع بديع ألفاظها، وحسن تأليفها، وإيجازها، مشتملة على معان كثيرة، وعلوم جمة، بحيث لو شرح ما اندرج فيها لملئت الدواوين من بعض ما استفيد منها، وقطعت بالضرورة أن فصاحة القرآن وبلاغته خارقة للعادة، وأنه كلام الله عز وجل.
ب) نظمه العجيب، وأسلوبه الغريب المؤثر في القلوب
نظمه العجيب، وأسلوبه الغريب المؤثر في القلوب تأثيرا لا يمكن إنكاره لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومن تأمل في أساليب كلام العرب، نثره، ونظمه، وسجعه، ورجزه، وشعره، لم يجد فيها نظما وأسلوبا سنخ نظمه وأسلوبه، وقد حارت فيه عقولهم، وتبلدت أحلامهم، وأثر فيهم تأثيرا بعد أن سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) آياته.
عتبة بن ربيعة ينصت للقران
فقد روي أن أشراف قريش اجتمعوا، وقالوا: ابعثوا إلى محمد (صلى الله عليه وآله) حتى تعدوا فيه، فقالوا: أنظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه و لينظر ماذا يريد، فقالوا: لا نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السعة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك أن تقبل منها بعضها، فقال رسول الله : قل يا أبا الوليد أسمع، فقال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تريد شرفا شرفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئي تراه ولا تسطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطبيب وبذلنا فيه أموالنا حتى يبرئك منه فانه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو لعل هذا الذي يأتي به شعر جاش به صدرك، وإنكم لعمري يا بني عبد المطلب تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد.
حتى إذا سكت عنه ورسول الله يستمع منه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: افعل، فقال رسول الله : (بسم الله الرحمن الرحيم.حم. تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(83) فمضى رسول الله فقرأها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت له وألقى بيده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله للسجدة فسجد فيها، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ؟ فقال: ورائي أني والله قد سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها فيّ، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوا، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فان تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه فقال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم(84).
أبو جهل وأبو سفيان يستمعان القران حتى طلوع الفجر
خرج أبو جهل وأبو سفيان والاخنس بن شريق ذات ليلة يستمعون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يصلى بالليل في بيته، فاخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا، فقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لاوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا حتى إذا كان الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.
فلما أصبح الاخنس أتى ابا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، قال الاخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فاعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبى ياتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه، فقام عنه الاخنس وتركه(85).
الطفيل بن عمر يُسلِم بعد أن سمع القران
روي أن الطفيل بن عمر الدوسي قدم مكة، ورسول الله بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فقالوا له: يا طفيل إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر: يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئا، قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا، ولا أكلمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شئ من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه، قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله قائم يصلي عند الكعبة، قال: فقمت منه قريبا، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلاما حسنا، قال: فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته.
قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمد إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف، لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعته قولا حسنا، فاعرض على أمرك، قال: فعرض عليّ رسول الله الإسلام، وتلا عليّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق(86).
وفد من النصارى يسلمون بعد ان سمعوا القران
روي أنه قدم على رسول الله وهو بمكة، عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله عمّا أرادوا دعاهم رسول الله إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به و صدّقوه (87).
جبير بن مطعم يخشع للقران
روي عن جبير بن مطعم - وكان من حلماء قريش و ساداتهم، وكان يؤخذ عنه النسب- أنه قال: أتيت النبي لأكلمه في أسارى بدر، فوافقته وهو يصلي بأصحابه المغرب أو العشاء، فسمعته وهو يقرأ، وقد خرج صوته من المسجد: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ. مَا لَهُ مِن دَافِعٍ)(88)، قال: فكأنما صدع قلبي(89).
قلب قيس بن نشبه السلمي يلين للقرآن
روي أن قيس بن نشبه السلمي جاء إلى رسول الله بعد الخندق، فقال: إني رسول من وراء قومي، وهم لي مطيعون، وإني سائلك عن مسائل لا يعلمها إلا من يوحى إليه، فسأله عن السماوات السبع وسكانها، وما طعامهم وما شرابهم، فذكر له السماوات السبع والملائكة وعبادتهم، وذكر له الأرض وما فيها، فأسلم ورجع إلى قومه، فقال: يا بني سليم قد سمعت ترجمة الروم وفارس، وأشعار العرب والكهان، ومقاول حمير، وما كلام محمد يشبه شيئا من كلامهم، فأطيعوني في محمد، فإنكم أخواله، فإن ظفر تنتفعوا به، وتسعدوا، وإن تكن الأخرى فإن العرب لا تقدم عليكم، فقد دخلت عليه وقلبي عليه أقسى من الحجر، فما برحت حتى لان بكلامه(90).
ونظائر ما ذكر في التواريخ والسّير كثيرة، وفيما نقلناه كفاية بعد قوله عز من قائل: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(91)، وقوله عز وجل: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(92).
ج) اشتماله على قصص الأنبياء السالفة
اشتماله على قصص الأنبياء السالفة والأمم الماضية، و الشرائع السابقة، مما كان العلم ببعضها دون جميعها في عصره مختصاً بأحبار أهل الكتاب وعلمائهم الذين صرفوا عمرهم في تعلمها، فأوردها على وجهها، وأتى بها على نصها من دون زيادة ونقصان، مع أنه كان أميّاً لم يقرأ كتابا، ولم يخط خطا، ولم يختلف إلى عالم ليتعلم منه، ولا سافر إلى بلد لأجل التعلم، قبل دعوى نبوته، وقد علم بذلك الكفار والمشركون وغيرهم من أهل مكة، لأنه (صلى الله عليه وآله) نشأ بينهم من صغره إلى زمن بعثته، كان بمرأى منهم ومسمع، يعرفون حاله في سفره وحضره.
ولما كان أمره قبل بعثته بهذه المثابة من الوضوح عندهم، رد الله عز وجل قول بعض الجهلة منهم: وهو أن محمدا تعلم هذه القصص وغيرها مما ورد في القرآن من أهل الكتاب، أو اكتتبها من كتبهم، بقوله عز من قائل: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)(93)، وقوله عز اسمه: (قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)(94).
وكان الكفار والمشركون إذا سمعوا منه قصة من أخبار الأنبياء أو الأمم السابقة يرسلون بعضهم إلى علماء اليهود والنصارى يسألونهم عن صحتها، فيجدون الأمر كما أخبر به ، وكثيرا ما كان أهل الكتاب يسألونه عن مثل هذه الأمور، وعما ورد في التوراة والإنجيل والزبور والصحف، فينزل الله سبحانه عليه (صلى الله عليه وآله) من القرآن في جوابهم ما يتلو عليهم، كأخبار الأنبياء مع قومهم وأممهم، وقصة ابني آدم، ونوح وابنه، ويوسف وإخوته، وموسى والخضر، ومريم وعيسى، وذي القرنين، وأصحاب الكهف، وأشباههم، وعن الروح، وما حرم إسرائيل على نفسه، وما حرم على بني إسرائيل من الأنعام، وما كان حلالا عليهم من الطيبات فحرم عليهم ببغيهم، إلى غير ذلك من الموارد التي سألوه تعنتاً واختباراً، وقد بين لهم كثيراً مما ورد في كتبهم وكانوا يخفونه عن الناس، كحكم الرجم، وصفاته (صلى الله عليه وآله) ونعوته وغيرها المذكورة في التوراة، وبشارة عيسى بمجيئه بعده، والتصريح باسمه في الإنجيل، فلم يتمكن أحد منهم مع شدة عنادهم وعداوتهم له، وحرصهم على تكذيبه، أن يردوا شيئا مما أخبر به (صلى الله عليه وآله)، بل أذعنوا بصدقه، واعترف المنصف منهم بصحة نبوته ورسالته، ومن جادله وادعى أن ما أخبر به مخالف لما ورد في كتبهم، دعاه (صلى الله عليه وآله) إلى الإتيان بها و قراءتها، لإقامة حجته وصدق مقالته، كما أمره الله تعالى بقوله عز من قائل: (التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(95)، فبهت ولم يجترئ على الإتيان بها، لما فيه من فضيحته وظهور كذبه.
د) إخباره بالمغيبات
إخباره بالمغيبات التي لا علم لأحد بها إلا بوحي من الله عز وجل، والآيات الدالة على ذلك في القرآن كثيرة، فمنها ما ورد في كشف أسرار الكفار والمنافقين وغيرهم والإخبار عما في ضمائرهم، كقوله تعالى في حق اليهود: (وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُم)(96)، وقوله سبحانه: (وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(97). وقوله عز وجل: (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ)(98).
وقوله عز اسمه في حق المنافقين: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ)(99)، وقوله: (قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ)(100)، وقوله: (وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(101).
هـ) إنبائه عن الأمور المستقبلة
ما أنبأ به عن الأمور المستقبلة التي لم تكن لها في الخارج عين ولا أثر، فوقعت بعد على الوجه الذي أخبر به، كالإخبار بأن أبا لهب يموت على كفره، وبعدم تمكن المخالفين على الإتيان بمثل القرآن بل بمثل سورة منه، وبمغلوبية الكفار مع كثرتهم وقوتهم، وغلبة النبي عليهم مع قلة أصحابه وأعوانه، وبظفر المسلمين على كفار قريش في غزوة بدر، وبعدم تمني اليهود الموت أبدا، مع قولهم بأنه لا يدخل الجنة غيرنا، وبعود النبي إلى مكة، وببقاء ذكره وشرعه إلى يوم القيامة، وغلبة دينه على سائر الأديان، مع سعي مخالفيه على إطفاء نوره، وبغلبة الروم على فارس بعد مغلوبيتهم، وبأخذ المسلمين مغانم كثيرة من الكفار، وبدخول النبي مع أصحابه في المسجد الحرام آمنين، إلى غير ذلك من الموارد.
ي) اشتماله على العلوم والمعارف الربانية
اشتماله على العلوم والمعارف الربانية، كمعرفته تعالى، وتوحيده ونفي الشريك عنه، ومعرفة صفاته الجمالية والجلالية، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والتنبيه على طرق الحجج والاستدلال والرد على فرق أهل الباطل والضلال بأدلة واضحة موجزة، كآيات الآفاق والأنفس، وكقوله سبحانه: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)(102)، وقوله عز وجل في رد من أنكر المعاد، وقال: (مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(103)، وقوله: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) (104)، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك.
وكذا احتواؤه على بيان الأخلاق الكريمة ومحاسن الآداب والشيم المرضية، كأمره بالعدل والإحسان، والتراحم والتعاطف، والأخوة والمواسات، والتآلف والتواضع، والصدق وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد والوعد، وغيرها من الصفات الحميدة، ونهيه عن الظلم والعدوان، والبخل والحسد، والكبر والنفاق، والكذب والغيبة والنميمة والخيانة، وأشباهها من رذائل الأخلاق.
وكذا حثه على الإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد لها، والتجافي عن دار الغرور، والإعلام بمعايبها، وغدرها بأهلها، وسرعة فنائها وزوالها، وما يؤول إليه أمر الراغبين فيها، من الحسرة والوبال، والعذاب والنكال.
وكذا ما فيه من القوانين والأحكام المقررة للعباد معاشا ومعادا - من العبادات والمعاملات والسياسات - المشتملة على المصالح النوعية والشخصية، المتكفلة لحفظ النواميس الإلهية والبشرية على الوجه الأكمل والنظام الأتقن بحيث لو عمل بها على حدودها وموازينها لما وقع فساد في بني آدم، وانتظم أمر العالم، إلى غير ذلك من العلوم التي لم يكن للعرب وغيرهم - قبل نزول القرآن - طريق إلى معرفتها، بل ولا أحد من علماء الأمم يحيط بها، ولم يوجد في كتب الأنبياء السابقين مثله.
أشعة من حياة الرسول الأكرم
دعاؤه لقومه
رغم أنواع الأذى الذي لحقه وأصحابه من قومه، كطرحهم بلالاً تحت حرارة الشمس، ووضع الحجر الثقيل على صدره، وطلبهم منه أن يكفر. أو كتعذيبهم سمية أم عمار العجوز لكي ترجع عن دينها وتكفر، فلم تفعل فقتلوها(105)، وغير ذلك من الموارد التي يطول المقام بذكرها، فمع كل هذا الأذى كان (صلى الله عليه وآله) يدعو لقومه بالهداية والرحمة، ففي بعض الظروف طلب منه بعض أصحابه أن يدعو على قومه، فقال: إنما بعثت رحمة للعالمين(106)، ورفع يديه يدعو لقومه: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
فكان يريد لهم من الله الرحمن بدل العذاب، رحمة لا يتصور فوقها رحمة، وهي نعمة الهداية، وأضاف القوم إلى نفسه بقوله: «قومي» ليصونهم بذلك من عذاب الله، ويكون شافعا لهم عنده تعالى بدلاً من أن يشكوهم إليه، ويعتذر لهم بأنهم لا يعلمون(107).
زهده
وكانت معيشته الزهد والتقشف، فكان طعامه خبز الشعير، وما كان يأكل منه بقدر الشبع. وقد جاءت إليه الصديقة الكبرى - في غزوة الخندق - ومعها كسيرة من خبز، فدفعتها إلى النبي ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ما هذه الكسيرة؟ قالت: قرصا خبزتها للحسن والحسين جئتك منه بهذه الكسيرة، فقال النبي : يا فاطمة أما أنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث(108).
ولم يكن تقشفه ذلك بسبب قلة ذات يده، فقد كانت تصل إليه - في نفس تلك الأيام - الأموال فيقسمها ويهب ويتصدق.
وقد فارق الدنيا وما ترك ديناراً ولا درهماً ولا غلاماً ولا أمةً، ولا شاةً ولا بعيراً، وكانت درعه مرهونة عند يهودي على عشرين صاعا من شعير، اشتراها لقوت عياله(109).
إيثاره
إن مكانة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) معلومة عند الخاصة والعامة، فإن كتب الفريقين مشحونة بفضائلها، كما يأتي، وقد قامت في محرابها حتى تورم قدماها تأسيا بأبيها، وكانت مع استغراقها في عبادة الله تقوم بإدارة بيت ولي الله وتربية أبناء رسول الله، حتى أن النبي دخل ذات يوم على ابنته فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من أجلة الابل، فلما نظر إليها بكى(110).
ذلك الأب الذي كان متمكنا أن يملأ بيت ابنته ذهبا وفضة ويستخدم لها عبيدا وإماء، ولا يرد عن بابه ذا حاجة إلا بقضاء حاجته، أمسك عن استخدام خادمة لسيدة نساء العالمين، التي كانت بضعة منه، ويريبه ما أرابها، في مثل هذه الحاجة الملحة لبنته التي هي أحب الخلق إليه، إيثارا لفقراء أمته على مهجة قلبه. هكذا كانت سيرة الذي بعثه الله لأن يربي أمته بقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)(111).
تعامله وأخلاقه
كان يجلس على الأرض، ويأكل مع العبيد، ويسلم على الصبيان، وكان يأكل أكلة العبد، ويجلس جلسة العبد، وفي يومٍ مرت به امرأة بدوية وكان يأكل وهو جالس على الأرض، فقالت: يا محمد، والله إنك لتأكل أكل العبد، وتجلس جلوسه. فقال لها رسول الله: ويحك أي عبد أعبد مني؟(112).
وكان يرقع ثوبه، ويحلب عنز أهله، ويجيب دعوة الحر والعبد، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويجالس الفقراء، ويأكل مع المساكين، وكان إذا صافحه أحد لم يجر يده من يده حتى يتركها الآخر، ويجلس حيث ينتهي به المجلس، ولا يثبت بصره في وجه أحد، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه.
وأتاه رجل يكلمه فأرعد، فقال له: هون عليك، فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القد(113). وقال خادمه أنس بن مالك: خدمت النبي (صلى الله عليه وآله) تسع سنين، فلم أعلمه قال لي قط: هلا فعلت كذا وكذا؟ ولا عاب عليّ شيئا قط(114).
بينا هو ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم، فأخذت بطرف ثوبه، فقام لها النبي ، فلم تقل شيئا، ولم يقل لها النبي شيئا، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها النبي في الرابعة وهي خلفه، فأخذت هدبة من ثوبه، ثم رجعت فقال لها الناس: فعل الله بك وفعل، حبست رسول الله ثلاث مرات، لا تقولين له شيئا ولا هو يقول لك شيئا ما كانت حاجتك إليه؟ قالت: إن لنا مريضا فأرسلني أهلي لآخذ هدبة من ثوبه، ليستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني، وأكره أن أستأمره في أخذها، فأخذتها(115).
وهذه الحادثة تدل على اهتمامه بكرامة الانسان لأنه (صلى الله عليه وآله) تفطن إلى حاجة الجارية وكراهيتها للسؤال، وقام من مكانه أربع مرات من أجل قضاء حاجتها، ولم يستنطقها لئلا تقع الجارية في ذل السؤال، فالذي يحافظ على حرمة جارية وكرامتها، بهذه الدقة والأدب، إلى أي حد تكون قيمة الانسان وكرامته في نظره؟
وعن عقبة بن علقمة قال: دخلت على علي ، فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته، وكسرة يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين تأكل مثل هذا؟ فقال لي: يا أبا الجنوب [الجنود] إني أدركت رسول الله يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا، فإن أنا لم آخذ بما أخذ به رسول الله خفت أن لا ألحق به(116).
وقيل لعلي بن الحسين - وكان الغاية في العبادة-: أين عبادتك من عبادة جدك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) (117).
وأنى يتيسر شرح فضائله الأخلاقية، وقد خاطبه الله تعالى بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(118).
إن مطالعة يسيرة في حياته وأخلاقه وسجاياه - فقط - تكفي المنصف لأن يؤمن بنبوته (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيراً)(119).
الخاتمية
اتفقت الأمة الإسلامية على أن نبيها محمداً خاتم النبيين، وشريعته خاتمة الشرائع، وكتابه خاتم الكتب السماوية، وقد دل على ذلك القران والسنة والعقل.
الخاتمية في القران
النص الأول: قوله سبحانه: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)(120)، لقد قرئ لفظ الخاتم بوجهين:
الأول: بفتح التاء وعليه قراءة عاصم، ويكون بمعنى الطابع الذي تختم به الرسائل والمواثيق، فكان النبي الأكرم بالنسبة إلى باب النبوة كالطابع، ختم به باب النبوة، وأوصد وأغلق فلا يفتح أبدا.
الثاني: بكسر التاء وعليه يكون اسم فاعل، أي الذي يختم باب النبوة، وعلى كلتا القراءتين فالآية صريحة على أن باب النبوة أو بعث الأنبياء ختم بمجئ النبي الأكرم ، وأنت إذا راجعت التفاسير المؤلفة منذ العصور الأولى إلى يومنا هذا ترى أن عامة المفسرين يفسرونها بما ذكرنا ويصرحون بأن وصفه (صلى الله عليه وآله) وتشبيهه بالخاتم (بالفتح) لأنه كان الرسم الدائر بين العرب هو ختم الرسالات بخاتمهم الذي بين أصابعهم، فكانت خواتيمهم طوابعهم، فكأن النبي الأكرم بين الأنبياء هو الخاتم ختم به باب النبوات،
النص الثاني: قوله سبحانه: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)(121)، فالآية صريحة في أن الغاية من تنزيل القرآن على عبده- النبي الأعظم - كون القرآن نذيرا للعالمين من بدء نزوله إلى يوم يبعثون، من غير فرق بين تفسيرها بالإنس والجن أو الناس أجمع، وإن كان الثاني هو المتعين، فإن العالمين في الذكر الحكيم جاء بهذا المعنى، قال سبحانه حاكيا عن لسان لوط: (قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ. قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ)(122)، فإن المراد من العالمين في كلامهم هم الناس، إذ لا معنى لأن ينهونه عن استضافة الجن والملائكة، ونظيره قوله سبحانه حاكيا عن لسان لوط: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ)(123)، فالمراد من العالمين في كلتا الآيتين هم الناس.
وبذلك يعلم قوة ما روي عن الإمام الصادق من أن العالمين عنى به الناس وجعل كل واحد عالما، ولا يعدل عن ذلك الظاهر إلا بقرينة، وبما أنه لا قرينة على العدول من الظاهر فيكون معنى قوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) أي: نذيرا للناس أجمعهم من يوم نزوله إلى يوم يبعثون.
النص الثالث: قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(124)، ووجه الدلالة على الخاتمية هو أن المراد من الذكر هو القرآن، بقرينة قوله سبحانه: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)(125)، والضمير في (لا يَأْتِيهِ) يرجع إلى الذكر، ومفاد الآية أن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلا من أي جهة من الجهات، فلا يأتيه الباطل بأية صورة متصورة، فلا ينقص منه شئ ولا يزيد عليه شئ، ولا يأتيه كتاب يبطله وينسخه وأن يجعله سدى فهو حق ثابت لا يبدل ولا يغير ولا يترك، ولا يتطرق الباطل في إخباره عمّا مضى ولا في إخباره بما يجئ، فكلها تطابق الواقع.
وحاصل الآية أن القرآن حق لا يداخله الباطل إلى يوم القيامة، فإذا كان حقا مطلقا مصونا عن تسلل البطلان إليه ومتبعا للناس إلى يوم القيامة يجب عند ذلك دوام رسالته وثبات نبوته وخاتمية شريعته.
وهناك نصوص قرآنية أخرى تدل على الخاتمية يطول المقام بذكرها، نتركها لمناسبات أخرى.
الخاتمية في أحاديث خاتم الرسل
قد ورد ذكر الخاتمية على لسان النبي الأكرم تصريحاً أو تلويحاً في أحاديث كثيرة، نذكر قسم منها كالاتي:
الحديث الأول:خرج رسول الله من المدينة إلى غزوة تبوك، وخرج الناس معه، فقال علي : أخرج معك؟ فقال : لا، فبكى علي ، فقال له رسول الله : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي(126).
ويعرف الحديث على لسان المحدثين بحديث المنزلة؛ لأن النبي نزل فيه نفسه منزلة موسى ونزل علياً مكان هارون، وقد أخرجه البخاري في صحيحه في غزوة تبوك، ومسلم في صحيحه في باب فضائل علي ، وابن ماجة في سننه في باب فضائل أصحاب النبي، والحاكم في مستدركه في مناقب علي ، وإمام الحنابلة في مسنده بطرق كثيرة(127). والحديث واضح في دلالته على الخاتمية ولا داعي للبحث عن وجه دلاته عليها.
الحديث الثاني: قال رسول الله : مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون، لولا موضع هذه اللبنة، فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء(128).
الحديث الثالث: قال رسول الله : لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، أنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر، يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي(129).
الحديث الرابع: قال رسول الله : أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر(130).
الحديث الخامس: قال النبي : يا علي أخصمك بالنبوة، فلا نبوة بعدي وتخصم الناس بسبع ولا يجاحدك فيها أحد من قريش، أنت أولهم إيمانا بالله(131).
الحديث السادس: قال رسول الله : إن الرسالة والنبوة قد انقطعت ، فلا رسول بعدي ولا نبي ، ولكن المبشرات رؤيا الرجل المسلم ، وهي جزء من أجزاء النبوة (132).
الحديث السابع: قال رسول الله : أرسلت إلى الناس كافة وبي ختم النبيون(133).
الحديث الثامن: قال النبي : كنت أول الناس في الخلق، وآخرهم في البعث(134).
الحديث التاسع: استأذن العباس بن عبد المطلب النبي في الهجرة فقال له: يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه، فإن الله تعالى يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة، ثم هاجر إلى النبي وشهد معه فتح مكة وانقطعت الهجرة(135).
الحديث العاشر: قال : يكون في أمتي ثلاثون كذابا، كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي(136).
الحديث الحادي عشر: قال رسول الله : فضلت بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون(137).
الحديث الثاني عشر: روى الإمام أبو جعفر الباقر عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: قال النبي : يا أيها الناس إنه لا نبي بعدي، ولا سنة بعد سنتي، فمن ادعى ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه ومن تبعه، فإنه في النار، وهناك أحاديث أخرى يطول المقام بذكرها(138).
الخاتمية في أحاديث أئمة أهل البيت
قد روي عن العترة الطاهرة أحاديث كثيرة في مجال كونه (صلى الله عليه وآله) خاتماً وسوف نقتصر على بعضها:
الحديث الأول: قال الإمام علي : إلى أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) لإنجاز عدته، وإتمام نبوته، مأخوذا على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريما ميلاده(139).
الحديث الثاني: قال الإمام علي : اجعل شريف صلواتك، ونامي بركاتك، على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق(140).
الحديث الثالث: وقال : أرسله على حين فترة من الرسل، وتنازع من الألسن، فقفا به الرسل وختم به الوحي(141).
الحديث الرابع: قال وهو يلي غسل رسول الله وتجهيزه: بأبي أنت وأمي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء، خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء(142)، هذا وقد روي عن غير الإمام علي من العترة الطاهرة ونذكر منهم ما يأتي:
الحديث الخامس: عن فاطمة الزهراء قالت: لما حملت بالحسن وولدته جاء النبي ثم هبط جبرئيل فقال: يا محمد، العلي الأعلى يقرؤك السلام ويقول: علي منك بمنزلة هارون من موسى، ولا نبي بعدك، سم ابنك هذا باسم ابن هارون(143).
الحديث السادس: روي عن الحسن بن علي بن أبي طالب قال: جاء نفر إلى رسول الله فقالوا: يا محمد إنك الذي تزعم أنك رسول الله، وأنك الذي يوحى إليك كما أوحى الله إلى موسى بن عمران؟ فسكت النبي ساعة ثم قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا خاتم النبيين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين(144).
الحديث السابع: عن جابر، عن أبي جعفر قال: قال : لما نزلت هذه الآية: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) قال المسلمون: يا رسول الله ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟ قال: فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : أنا رسول الله إلى الناس أجمعين ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي، يقومون في الناس فيكذبون، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم، واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي وأنا منه برئ(145).
الحديث الثامن: قال الإمام السجاد في بعض أدعيته: صل على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وأهل بيته الطيبين الطاهرين، وأعذنا وأهالينا وإخواننا وجميع المؤمنين والمؤمنات مما استعذنا منه(146).
الحديث التاسع: قال الإمام الباقر في حديث: وقد ختم الله بكتابكم الكتب وختم بنبيكم الأنبياء(147).
الحديث العاشر: قال الإمام الصادق : فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمد فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة(148).
الحديث الحادي عشر: وقال : بعث الله سبحانه أنبياءه ورسله ونبيه محمدا، فأفضل الدين معرفة الرسل وولايتهم، وأخبرك أن الله أحل حلالا وحرم حراما إلى يوم القيامة(149).
الحديث الثاني عشر: روى زرارة قال: سألت أبا عبد الله عن الحرام والحلال فقال: حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجئ غيره(150).
الحديث الثالث عشر: قال الإمام موسى الكاظم : إذا وقفت على قبر رسول الله فقل أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك خاتم النبيين(151).
الحديث الرابع عشر: قال الإمام الرضا في سؤال من سأله: ما بال القرآن، لا يزداد عند النشر والدراسة إلا غضاضة ؟ قال: لأن الله لم ينزله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة(152).
وقبل إغلاق الحديث في هذا الباب لابد من الإشارة إلى أن ختم باب النبوة يستلزم ختم باب الرسالة؛ وذلك لأن الرسالة هي إبلاغ أو تنفيذ ما تحمله الرسول عن طريق الوحي، فإذا انقطع الوحي والاتصال بالمبدأ الأعلى فلا يبقى للرسالة موضوع، وهذا واضح لمن أمعن النظر في الفرق بين النبي والرسول، فالنبي هو الإنسان الموحى إليه بإحدى الطرق المعروفة، والرسول هو الإنسان القائم بالسفارة من الله للتبشير أو لتنفيذ عمل في الخارج أيضا.
الخاتمية وخلود التشريع الإسلامي
إن هاهنا سؤالا يجب علينا الإجابة عنه، وهو أن توسع الحضارة يلزم المجتمع بتنظيم قوانين جديدة تفوق ما كان يحتاج إليها فيما مضى، وبما أن الحضارة والحاجات في حال تزايد وتكامل، فكيف تعالج القوانين المحدودة الواردة في الكتاب والسنة، الحاجات المستحدثة غير المحدودة؟
والجواب: هو أن خلود التشريع الإسلامي وغناه عن كل تشريع مبني على أمور، خلاصتها:
الأول: حجية العقل
ففد دلّ القرآن والسنة على حجية العقل في مجالات خاصة، مما يرجع إليه القضاء فيها، وقد بُيّن مواضع ذلك في كتب أصول الفقه.
فهناك موارد من الأحكام العقلية كاشفة عن أحكام شرعية، كاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، الملازم لعدم ثبوت الحرمة والوجوب إلا بالبيان، واستقلاله بلزوم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهات التحريمية، ولزوم الموافقة القطعية في الشبهات الوجوبية، واستقلاله بإطاعة الأوامر الظاهرية، وغير ذلك، ولعل الجميع يرجع إلى مبدأ واحد وهو استقلال العقل بالحسن والقبح في بعض الأفعال، ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتب أصول الفقه، ومسك الختام قول الإمام موسى بن جعفر وهو يخاطب تلميذه هشام بن الحكم: إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول(153).
الثاني: تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد
يستفاد من القرآن الكريم بجلاء أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد، وبما أن للمصالح والمفاسد درجات ومراتب فقد عقد الفقهاء باباً لتزاحم الأحكام وتصادمها، فيقدمون الأهم على المهم، والأكثر مصلحة على الأقل منه، وقد أعان فتح هذا الباب على حل كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربما يتوهم الجاهل أنها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة(154).
الثالث: تشريع الاجتهاد
إن من مواهب الله تعالى العظيمة على الأمة الإسلامية، تشريع الاجتهاد، وقد كان الاجتهاد مفتوحا بصورته البسيطة بين الصحابة والتابعين، كما أنه لم يزل مفتوحا بين أصحاب الأئمة الطاهرين (155).
وقد جنت بعض الحكومات على المجتمعات الإسلامية حيث أقفلت باب الاجتهاد في أواسط القرن السابع وحرمت الأمة الإسلامية من هذه الموهبة العظيمة، يقول المقريزي: «استمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام، غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه، ولم يول قاض، ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب»(156).
ومن بوادر الخير أن وقف غير واحدٍ من أهل النظر من علماء أهل السنة وقفة موضوعية، وأحسوا بلزوم فتح هذا الباب بعد غلقه قرونا.
الرابع: صلاحيات الحاكم الإسلامي وشؤونه
من الأسباب الباعثة على كون التشريع الإسلامي صالحا لحل المشاكل أنه منح للحاكم الإسلامي كافة الصلاحيات المؤدية إلى حق التصرف المطلق في كل ما يراه ذا صلاحية للأمة، ويتمتع بمثل ما يتمتع به النبي والإمام المعصوم من النفوذ المطلق، إلا ما يعد من خصائصهما، قال المحقق النائيني:
«فوض إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يراه لازما من المقررات، لمصلحة الجماعة وسد حاجاتها في إطار القوانين الإسلامية»(157).
وإذا نجح الحاكم الإسلامي في تأسيس حكومة إسلامية في قطر من أقطار الإسلام، أو في مناطقه كلها، وتوفرت فيه الشرائط والصلاحيات اللازمة، كالعلم الوسيع، والعدل، يجب على المسلمين إطاعته، وله من الحقوق والمناصب والولاية، ما للنبي الأكرم من إعداد القوات العسكرية، ودعمها بالتجنيد، وتعيين الولاة وأخذ الضرائب، وصرفها في محالها، إلى غير ذلك.
وليس معنى ذلك أن الفقهاء والحكام الإسلاميين، مثل النبي والأئمة في جميع الشؤون والمقامات، حتى الفضائل النفسانية، والدرجات المعنوية، فإن ذلك رأي لم يقل به أحد من المسلمين؛ إذ أن البحث إنما هو في الوظائف المخولة إلى الحاكم الإسلامي، والموضوعة على عاتقه، لا في المقامات المعنوية والفضائل النفسانية، فإنهم في هذا المضمار في درجة لا يدرك شأنهم ولا يشق لهم غبار حسب روائع نصوصهم وكلماتهم(158).
الخامس: الأحكام التي لها دور التحديد
من الأسباب الموجبة لانطباق التشريع القرآني على جميع الحضارات، تشريعه لقوانين خاصة، لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته، فهذه القوانين الحاكمة، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كل الأجيال والقرون، يقول سبحانه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(159)، ويقول سبحانه: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(160)، ويقول سبحانه: (إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)(161)، ويقول سبحانه: (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(162).
وما ورد حول النهي عن الضرر من الآيات، كلها تحدد التشريعات القرآنية بحدود الحرج والعسر والضرر، فلولا هذه التحديدات الحاكمة لما كانت الشريعة الإسلامية مماشية لجميع الحضارات البشرية.
السادس: الاعتدال في التشريع
من الأسباب الموجبة لصلاح الإسلام للبقاء والخلود كون تشريعاته مبتنية على أساس الاعتدال، وموافقة للفطرة الإنسانية، فأخذت من الدنيا ما هو لصالح العباد، ومن الآخرة مثله، فكما ندب إلى العبادة، ندب إلى طلب الرزق أيضا، بل ندب إلى ترويح النفس، والتخلية بينها وبين لذاتها بوجه مشروع، قال الإمام علي : للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يرم معاشه، وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل(163).
والحمد لله رب العالمين
________________________________________
(1) بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج89، ص33، ط 2، مؤسسة الوفاء- بيروت- .
(2) نهج البلاغة: ج1، ص66
(3) صحيح البخاري: ج6، ص16.
(4) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج18، ص412.
(5) فتح الباري، ابن حجر، ج7، ص146- 147. ومناقب آل أبي طالب، ابن شهر اشوب: ج1 ص59.
(6) الأعلام، خير الدين الزركلي: ج4، ص166.
(7) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج35، ص125- 126.
(8) انظر: سيرة النبي، ابن هشام الحميري: ج2، ص283.
(9) الأمالي، الشيخ الطوسي: ص468 .
(10) بحار الانوار، المجلسي: ج19، ص63.
(11) إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي: ج1، ص133.
(12) انظر: المصدر نفسه: ص130.
(13) تاريخ اليعقوبي: ج2، ص37-38.
(14) انظر: البداية والنهاية، ابن كثير: ج3، ص192.
(15) مسند احمد: ج5، ص 316.
(16) تاريخ الطبري: ج2، ص97.
(17) تاريخ اليعقوبي: ج2، ص39.
(18) انظر: بحار الأنوار، المجلسي، ج19، ص109- 110.
(19) انظر: الارشاد، الشيخ المفيد: ج1، ص168، تحقيق موسسة ال البيت.
(20) الحج:39.
(21) الانفال: 41.
(22) الانفال: 9.
(23) الكافي: ج3، ص513، دار الكتب الإسلامية.
(24) الكافي: ج3، ص513، دار الكتب الإسلامية.
(25) مناقب ال أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج1، ص161.
(26) التوراة، سفر التثنية، الإصحاح33.
(27) التوراة، سفر التكوين، الإصحاح 21.
(28) التوبة: 73.
(29) التوراة، سفر حيقوق النبي، الإصحاح الثالث.
(30) إنجيل يوحنا، الإصحاح 14.
(31) المصدر نفسه، الإصحاح 15.
(32) إنجيل برنابا، الفصل 112.
(33) إنجيل برنابا، الفصل39 .
(34) إنجيل برنابا، الفصل 14.
(35) إنجيل برنابا، الفصل 96.
(36) إنجيل برنابا، الفصل 91.
(37) الاعراف: 157.
(38) الصف: 6.
(39) الكافي، الشيخ الكليني: ج4، ص218.
(40) انظر: الصحيح من السيرة، جعفر مرتضى: ج2، ص17- 18.
(41) الجاثية: 24.
(42) الحجرات: 10.
(43) بحار الأنوار، المجلسي: ج18، ص413، ط2، مؤسسة الوفاء، بيروت.
(44) أنضر: تفسير قوله تعالى: فاستقم كما أمرت. التبيان، الشيخ الطوسي: ج 6، ص77.
(45) نهج البلاغة، ج1، ص66- 67.
(46) الاحتجاج، الطبرسي: ج1، ص133.
(47) انظر: رسائل المرتضى: ج3، ص18- 19.
(48) هود: 14.
(49) دلائل الامامة، محمد بن جرير الطبري (الشيعي): ص 9 - 10.
(50) انظر: رسائل المرتضى: ج3، ص18- 19.
(51) ستأتي بعض الأمثلة لذالك لاحقاً .
(52) هود: 13- 14.
(53) يونس: 38.
(54) البقرة: 23- 24.
(55) الطور: 33- 34.
(56) الرحمن: 88.
(57) النحل: 103.
(58) الانفال: 31.
(59) البقرة: 24.
(60) الانعام: 91.
(61) فصلت: 26.
(62) سيرة النبي ، ابن هشام: ج1، ص175- 176. وسيرة النبي لابن كثير:ج1، ص499.
(63) النحل: 90.
(64) بحار الانوار، المجلسي، ج17، ص 212.
(65) غافر: 1- 3.
(66) بحار الانوار، المجلسي: ج19، ص168.
(67) يوسف: 80.
(68) الحج: 73.
(69) الانبياء: 22.
(70) هود: 44.
(71) الاسراء: 88.
(72) الاحتجاج، الطبرسي: ج2، ص143.
(73) الحجر: 94- 95.
(74) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض: ج1، ص262.
(75) المصدر نفسه.
(76) القصص: 7.
(77) زاد المسير، ابن الجوزي، ج6، ص88.
(78) النمل: 14.
(79) القرة: 179.
(80) الزخرف: 71.
(81) الاعراف: 31.
(82) العنكبوت: 40.
(83) فصلت: 1- 4.
(84) كنز العمال، المتقي الهندي: ج12، ص398.
(85) الدر المنثور، جلال الدين السيوطي: ج4، ص187.
(86) دلائل النبوة، إسماعيل الأصبهاني: ص212.
(87) تفسير ابن كثير: ج3، ص405.
(88) الطور: 7- 8 .
(89) انظر: مسند احمد: ج4، ص83. .
(90) الاصابة، ابن حجر: ج5، ص381.
(91) الحشر: 21.
(92) الزمر: 23.
(93) العنكبوت: 48.
(94) يونس: 16.
(95) ال عمران: 93.
(96) البقرة: 76.
(97) ال عمران: 72.
(98) ال عمران: 119.
(99) التوبة: 74.
(100) التوبة: 94.
(101) التوبة: 107.
(102) الانبياء: 22.
(103) يس: 78- 79.
(104) يس: 81.
(105) انظر: بحار الانوار، المجلسي: ج18، ص241.
(106) انظر: مناقب أمير المؤمنين، محمد بن سليمان الكوفي: ص 486.
(107) انظر: الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي: ج1، ص164.
(108) مسند زيد بن علي: ص461.
(109) المهذب، ابن البراج: ج2، ص43.
(110) بحار الانوار، المجلسي: ج16، ص143.
(111) الحشر: 9.
(112) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج16، ص 227.
(113) مكارم الاخلاق، الطبرسي: ص16.
(114) المصدر نفسه.
(115) الكافي، الكليني: ج2، ص102
(116) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج16، ص295. وبحار الأنوار، المجلسي: ج41، ص 127.
(117) كتاب الاربعين، الطاهر القمي: ص421.
(118) القلم: 4.
(119) الاحزاب: 46.
(120) الاحزاب: 40.
(121) الفرقان: 1.
(122) الحجر: 68- 70.
(123) الشعراء: 165.
(124) فصلت: 41- 42.
(125) ال عمران: 58.
(126) شرح الاخبار، القاضي النعمان المغربي: ج2، ص210، تحقيق: محمد الحسيني الجلالي، مؤسسة النشر الإسلامي.
(127) انظر: صحيح البخاري: ج5، ص129، باب غزوة تبوك، دار الفكر، بيروت. وصحيح مسلم: ج7، ص120،باب فضائل علي ، دار الفكر، بيروت. وسنن ابن ماجه: ج1، ص43، باب فضائل أصحاب رسول الله ، دار الفكر بيروت. والمستدرك، الحاكم النيسابوري: ج3، ص109، ص133، باب فضائل علي، تحقيق: يوسف المرعشلي، دار المعرفة. ومسند احمد بن حنبل: ج1، ص170- 185، ص331، وج3، ص32، ص338، وج5، ص119، وج6، ص369، ص438، دار صادر، بيروت.
(128) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، فانظر: صحيح البخاري: ج4، ص163- 164، دار الفكر، بيروت. وصحيح مسلم: ج7، ص65، دار الفكر، بيروت. وسنن الترمذي: ج4، ص225، ط2، دار الفكر، بيروت.
(129) الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي: ج3، ص1015، تحقيق ونشر: مؤسسة الامام المهدي(عج) قم. وانظر: بحار الأنوار، المجلسي: ج16، ص129، ط2، مؤسسة الوفاء، بيروت.
(130) كنز العمال، المتقي الهندي: ج11، ص404، تحت رقم31883،مؤسسة الرسالة، بيروت.
(131) بحار الأنوار، المجلسي: ج38، ص10، ط2، مؤسسة الوفاء، بيروت.
(132) الجامع الصغير، جلال الدين السيوطي: ج1، ص306، تحت رقم2000، ط1، دار الفكر، بيروت
(133) الطبقات الكبرى، ابن سعد: ج1، ص192، دار صادر، بيروت.
(134) الجامع الصغير، السيوطي: ج2، ص296، ط1، دار الفكر، بيروت.
(135) مسند أبي يعلى: ج5، ص56، تحت رقم2646، دار المأمون للتراث.
(136) صحيح ابن حيان: ج1، ص221، ط2، مؤسسة الرسالة.
(137) دلائل النبوة، إسماعيل الاصبهاني: ص210، ط1، دار طيبة، الرياض.
(138) الامالي، الشيخ المفيد: ص53، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
(139) نهج البلاغة: ج1، ص24، تحقيق وشرح: محمد عبده، دار المعرفة، بيروت.
(140) المصدر نفسه، ج1، ص 120.
(141) المصدر نفسه: ج2، ص16.
(142) المصدر نفسه: ج2، ص228.
(143) عيون اخبار الرضا ، الصدوق: ج1، ص28، ط1، مؤسسة الأعلمي، بيروت.
(144) الامالي، الصدوق: ص254، ط1، مؤسسة البعثة.
(145) الكافي، الشيخ الكليني: ج1، ص215، ط3، دار الكتب الإسلامية.
(146) الصحيفة السجادية: ص95، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
(147) الكافي، الكليني: ج1، ص177، باب ان الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بامام، ط3، دار الكتب الإسلامية.
(148) المصدر نفسه: ج2، ص17، باب الشرايع.
(149) المصدر نفسه: ج1، ص357، باب ما يفصل به دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة.
(150) المصدر نفسه: ج1، ص58، باب البدع والرأي والمقائيس.
(151) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج10، ص192، ط2، مؤسسة آل البيت.
(152) عيون اخبار الرضا ، الصدوق: ج1، ص93، ط1، مؤسسة الاعلمي، بيروت.
(153) الكليني، الكافي: ج1، ص16، ط3، دار الكتب الإسلامية.
(154) لاطلاع على مسألة تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد انظر: دروس في علم الأصول، الشهيد السيد محمد باقر الصدر: ج1، ص326، ط2، دار الكتاب اللبناني، بيروت.
(155) انظر: أضواء على عقائد الشيعة الامامية، الشيخ السبحاني: ص561.
(156) الخطط المقريزية: ج2، ص344.
(157) تنبيه الأمة وتنزيه الملة، المحقق النائيني: ص97.
(158) انظر: ولاية الفقيه، روح الله الخميني: ص63- 66.
(159) الحج: 78.
(160) البقرة: 173.
(161) الانعام: 119.
(162) النحل: 106.
(163) نهج البلاغة: ج4، ص93، دار المعرفة، بيروت