(( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) {الأنعام / ۱۵۳}
قبل ان نعيش في أجواء الأهداف التي تبنتها الآية لا بأس بالتمهيد بمقدّمة ان الإنسـان ولد على الفطرة وهي تدعوه إلى الخير والحق وتشوقه إلى القيم وتردعه عن المعاصي والإنحرافـات فهي قوة أودعت في الإنسان كي يستعين بها لتحصيل الكمالات المناسبة له كما وأودع في نفس الإنسـان محكمة مصغّرة تسمى بلغة القرآن بالنفس اللوامة (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ {القيامة۱/۲} وتسمى في العـلوم الأدبية والنفسية بالضمير وهي محكمة لا تحتاج إلى شهود بل هي الشاهد والقاضي فقبل إرتكاب الذنب تحذّره وتخوّفه وبعد الإرتكـاب تؤنبه وتلومه لذلك سمّيت باللوامة وهذه من نعم الله الكبيرة على الإنسان وهو المسمى بالهداية الفطرية لكن هذه الفطرة قد تتعرض إلى الضعف والإنحراف عن مسارها بسبب الأهواء والأغراض الدنيوية (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا {الشمس۹/۱۰} فهذه الآية تشير بأن الإنسان ممكن أن يحرفها عن مسارها الطبيعي وتعبّر عنه الآية بالدسّ أي الطم عن معالم الحق وكذلك يمكن أن ينميها ويطوّرها فعبّرت عنها الآية بالتزكية أي النمو. عزيزي القـارئ توجد قوانين كثيرة تحكم الفطرة نتعرض إلى البعض منها:
القانون الأول
۱ـ العلاقة بين الفطرة والعمل الصالح وهي علاقة إيجابية كلما كثر العمل الصالح كلما نمت الفطرة وازدادت كالصلاة والصدقة وبر الوالدين وهذه واحدة من الآثار التي تترتب على الصلاة وهي تنمية الفطرة. ۲ـ العلاقة بين الفطرة والعمل السيء فكلما ارتكب الإنسان الأعمال السيئة بدأت الفطرة بالضمور والدس حتى تنحرف عن مسارها كالسرقة والغيبة والزنا ويمكن القول ان الإكثار من المباحات يولّد غفلة في الفطرة، مثلاً كثرة الجلوس لرؤية برامج التلفاز أو كثرة المزاح مع الأصدقاء وغيرها.
القانون الثاني
إن الفطرة لا تموت وهذا المعنى يمكن أن نستفيده من الآية المباركة التي خاطب بها المولى تعالى موسى (ع) عندما بعثه إلى فرعون (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى {طه۴۳/۴۴} إن فرعون رغم الجرائم التي ارتكبها بحق بني إسرائيل وقتله الأطفال والنساء فإن الآية تتحدث بلسان الرجاء لعلّه يتذكّر أو يخشى.
القانون الثالث
ويمكن القول إنه من أهم القوانين التي تتمتّع بها الفطرة فهي تدعو الناس إلى الحق وتشوّقهم إليه من خلال سبل الحق فهي تشوّق الناس إلى الغاية الصالحة وإلى الطريق الصالح أيضاً. عزيزي القارئ بعد ما عرفنا هذه القوانين التي تتمتع بها الفطرة وأنها ثابتة لا تزول وهي قابلة للضعف وانها تدعو إلى الحق من خلال سبل الحق يمكن تصنيف الناس إلى ثلاث أصناف.
الصنف الأول:
أراد الحق من غير طريق الحق ويمكن تسميته ونذكر لهذا الصنف نموذجين كي يتّضح المعنى:ـ النموذج الأول: وأوضح مثال على هؤلاء هم الخوارج فقد ورد على لسان أمير المؤمنين (ع) في حربه مع معاوية قال: ( ليس من طلب الحقّ فلم يدركه كمن طلب الباطل فأدركه) فإن الخوارج فرقة ضعيفة العقل والدين إنحرفت عن المسار الشرعي وهو القانون الثالث للفطرة رغم رغبتهم للوصول إلى الحق لكن انتهى بهم المطاف إلى قتال إمام الحق أمير المؤمنين (ع) فطلب الحق بمفرده ليس بعاذر ما لم ينضم إليه التبصر في الطريق وان طريق الحق عليه معالم يجب ان تعرف عن طريق العقل والتجارب ومن أوضح معالم طرق الحق أهل البيت (ع).
والنموذج الثاني:
الشيطان إنه رفض السجود لآدم (ع) بدعوى أنه خير منه وهذا فيه ما فيه من الخروج عن أدب العبودية والاعتراض على أمر الله وطلب من المولى ان يأمره بأي أمر آخر فقال له المولى (أعبد من حيث أنا لا من حيث أنت) فالعبادة هدف صالح لكن الطريق إليها ليس أي طريق إلا ان يختاره المعبود.
الصنف الثاني:
هو الذي طلب الباطل وهو (الخاطئ). ونذكر له عدّة نماذج: ـ النموذج الأول: وهذا النمط الثاني من الإنحراف عن الفطرة يصف الله عزوّجل به فرعون وهامان (فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ {القصص/۸} لأنهم كانوا يتصورون أنهم يسلمون بذبح الناس فأرادوا قتل كل طفل يولد لأنه يهدد نظامهم الظالم. النموذج الثاني: زليخا وهي إمرأة العزيز عندما راودت يوسف عن نفسها وطلبت منه المقاربة عن طريق الزنا وهذا العمل خلاف العفة الجنسية التي دعا إليها الأنبياء وقد وصف القرآن عملها بأنها من الخاطئين (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ {يوسف/۲۹} النموذج الثالث: حاول البعض إستغلال هذه القاعدة لتخفيف بعض الأعمال الإجرامية من وطئتها الشديدة على الأمّة كما حصل عندما قتل خالد ابن الوليد الصحابي الجليل مالك بن نويرة وهو مسلم يشهّد الشهادتين وبات بزوجته عروساً ثم رجع إلى المدينة ولقيه الخليفة الثاني فقال له قتلت إمرأ مسلماً ونزوت على زوجته لأرجمنّك بالحجارة فرد عليه الخليفة الأول لا أغمد سيفاً سلّه الله إنه اجتهد فأخطأ هو لم يكن ممن طلب الحق بل طلب الباطل لثارات في الجاهلية وهم من الصنف الثاني من الناس لكن حاولوا إضفاء الشرعية عليه عن طريق الإجتهاد وهل كان مجتهداً؟ وهل الإجتهاد في دماء الناس؟ إن القضية كانت تحتاج إلى تثبّت وليس إجتهاد. النموذج الرابع: شواهد المعاصرة إن التيارات المعاصرة المنحرفة أما تحمل غرض فاسد في واقعها كما حصل البعض حيث يدعو بإظهار المعاصي من أجل ظهور الإمام (ع) وهذا العمل واضح الفساد والبطلان لأن النتائج الصالحة لا يمكن أن تتوقّف على مقدمات فاسدة ولا يمكن أن ننتظر إمام يدعونا إلى إشاعة المعاصي هذا من جهة ومن جهة أخرى من أذن لهم أن يأمروا بعصيان الله؟ ألهم حق التشريع؟ وهل الإمام المهدي (ع) يحتاج إلى أن نخالف أوامر المولى حتى يظهر إن دعوته كدعوة آبائه (ع) هي الإصلاح فكيف يجترأ على هذا المقام الشامخ وندعو إلى إظهار المعاصي حتى نعجّل بالظهور! والبعض الآخر يدّعي النيابة الخاصّة وهذا الأمر مرفوض بنص الروايات التي وردت عن الأئمة (ع) من ادعى الرؤيا فقد كذب والمقصود منها هو إدعاء الوكالة عن الإمام لا الرؤيا المجرّدة لأن الأئمة (ع) وضعوا بأيدينا منهج واضح يخضع للإختبار والعقل ولم يترك الأمر غامضاً وخفياً حتى يسود المجتمع الهرج والمرج. والبعض الآخر يدعو إلى التخلي عن فكرة المرجعية وهذا إنحراف آخر عن المنهج الذي رسمه الأئمة (ع) في عصر الغيبة لأنهم أوضحوا إن العلماء هم الذين يقودون الطائفة إلى شاطئ الأمان بإشراف الإمام (ع).
الصنف الثالث :
والذي طلب الحقّ هم الذين طلبوا الحق من خلال سبيل الحق وهي الفئة المؤمنة الصابرة التي لازمت خط الأئمة (ع) والعلماء من بعدهم وبقيت مضحية في كثير من الأحيان يتعرّض المؤمنون للإبتلاء على مستوى الغرض وكذلك على مستوى الطريق فالطريق وصفه القرآن بأنه ذات الشوكة أي طريق مليء بالصعاب يحتاج إلى تحمل وصبر كبيرين.
الإبتلاء في الغرض
في زمن خلافة الإمام علي (ع) أرادوا منه أن يوزّع الثروات بين المسلمين كما كانت في العهود السابقة على أساس التمييز لكن الإمام رفض ذلك واعتبره مخلاً بالعدل وان بيت المسلمين حقّ مشترك لجميع المسلمين. والبعض الآخر طلب منه إبقاء معاوية في منصبه على الشام كما فعل الخليفة الثاني فرفض الإمام (ع) ذلك وعد ذلك أمر فيه فساد للدين. والخلاصة الذي لم تتضح له رؤية الهدف ولم يتعايش مع المبادئ في العمل لا يفهم مثل هذه الأمور وهذه إحدى الأزمات التي كان يعيشها أمير المؤمنين (ع) مع مجتمعه.
الإبتلاء في الوسيلة
الطرق إلى الحق واضحة كالحق وحاشى للمولى أن يجعل طرق الحق مظلمة أو خفية ولكن أصحاب الأغراض والأطماع هم الذين يوهمون ويظللون الناس ففي زمن الإمام الحسن (ع) كان رأيه قتال معاوية في بادئ الأمر حتى رأى الخذلان في وجه الأمة بعد ذلك انتقل إلى الصلح لتحقيق مصالح عليا للدين وما ان حصل الصلح حتى انتعض منه جزء من مجتمعه واعتقدوا به تنازل عن الحق وظهوراً لأهل الجور في الحقيقة هؤلاء لم يفهمو الطريق وفشلوا في هذا اللون من الإبتلاء وأن رافق الصلح تنازل عن السلطة السياسية ولكن كان ممهّداً لإظهار هؤلاء على حقيقتهم الخبيثة وتمهيد المقدّمات لفنائهم وللكلام مقام آخر ان الدرس الذي نستفيده من هذه الآية ان لا نفرض على المشرع الطريق من عندنا وبحسب أذواقنا وأهوائنا وإدراكاتنا المحدودة بل مقتضى العبودية الخضوع لله عزّوجل على مستوى الغرض والهدف وعلى مستوى الطريق. اللهم اجعلنا ممن سمع كلامك وامتثل اللهم أجعلنا على الطريق الحق الموصل إلى رضوانك وهم محمد وآل محمد صلوات الله عليهم اللهم اجعلنا في الدنيا من أتباعهم وفي الآخرة ممن ينالون شرف لقائهم والحمد لله رب العالمين.