عربي
Monday 25th of November 2024
0
نفر 0

الولاية باطن النبوة

الولاية باطن النبوة

الحقيقة الغيبية المقدسة عن تعينات الأسماء والصفات أرادت أن تخرج من كتم العماء, وأحبت أن ترى نفسها في مرائى الأسماء والصفات. فتجلّت على الاسم الأعظم الذي يستجمع فيه كل الأسماء والأوصاف, وتمظهرت في الحقيقة المحمدية التي تعم جميع مراتب المخلوقات والظهورات. هذا التقابل بين حضرة الغيب وحضرة الكون الجامع, أدى بدوره إلى ظهور بقية الأسماء والصفات واحدة تلو أخرى، فبرز الغيب المغيّب مرة في الاسم "الظاهر", وتحقق في سلسلة الأنبياء, وأخرى في الاسم "الباطن", وتجلى في سلسلة الأولياء.

هكذا أصبحت النبوة ساحة لظهور الأشياء، لا في النبوة التشريعية التي من شأنها إظهار ما في الغيب بسرد الوحي والألفاظ فحسب, بل وأيضاً في النبوة التكوينية التي من شأنها إظهار ما في باطن هذا العالم من الحقائق والأسرار. وهكذا أصبحت الولاية ساحة لبطون الأشياء. إذ إن لكل شيء ظهراً ولظهره بطناً, مثل القرآن الذي هو نسخة صادقة عن كل مراتب الوجود, وبالأحرى كل مراتب الظهور. والنسخة طبق الأصل. فأصبح للقرآن ظهر, ولظهره بطن, ولبطنه بطن إلى سبعين بطناً. فأصبحت النبوة في عالمي التكوين والتشريع مجلى الظهور, والولاية موطن البطون. وتسنّى لنا أن نقول:
إن الولاية سر النبوة وباطنها.
وإذا كان يتحتم على النبوة في عالم الناسوت أن تنتشر في آفاق الجغرافيا, وتتوزع في أعماق التاريخ بدءً من أبينا آدم عليه السلام، الذي ابتدأ به سير الإنسان في سكة الزمان, مروراً بالأنبياء والمرسلين الذين أخذوا بيد البشرية, وساروا بها على درب الهداية خطوة خطوة, ومهدّوا الأرواح والأنفس لأعظم حدث ومنعطف في تاريخ الإنسانية, تمثل في نزول القرآن على قلب خاتم الأنبياء، فكذلك تحتم على الولاية أن تنتشر في عالم الناسوت بين فترات التاريخ, بدءً من الولاية العلوية, ومروراً بالحجج الطاهرة الذين فسروا القرآن وحققوا محكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه ومطلقه ومقيده, وقدّموا في سلوكهم وتعاملهم تفسيراً حياً له, وفجروا في القرآن اثنتي عشرة عيناً حتى يعلم كل أناس مشربهم, ويتهيأوا لأعظم حدث يتحقق به القسط الذي نادى به جميع الأنبياء والمرسلين.

وإذا كان محمد(ص) خاتم الأنبياء, وبه اكتمل الدين في التنظير للشريعة الأسمى وبروز مظاهره, وتمت النعمة الإلهية على صعيد النظر والفكر والأيديولوجيا, فسميّه والملقب بلقبه: الحجة بن الحسن(عج) خاتم الأولياء, وبه يكتمل الدين في تطبيق الشريعة الحقة وبروز أسرارها وكنوزها عبر العدالة الإلهية العالمية.

"فدائرة الولاية هي باطن دائرة النبوة. وهي في كامل التماثل مع دائرة النبوة, لأن النبوة من جانبها ليست غير ظاهر هذه الولاية … وكما أن دائرة النبوة قد وجدت كمالها وتمامها في خاتم الأنبياء، كذلك دائرة الولاية تجد مقامها في خاتم الأولياء".[2]

ورغم أن أقوال شراح فصوص الحكم تضارب بشأن خاتم الأولياء, حيث أن الشيخ الجندي رأى ختم الولاية في شخص الشيخ الأكبر ابن عربي, وأفاد القيصري أن ابن عربي يصرّح في كلماته بأن عيسى هو خاتم الأولياء, لكن ابن عربي نفسه يقول إن ختم الولاية يخصّ سر الأنبياء وإمام العالمين علياً(ع), لأن علياً كان أقرب الناس إلى رسول الله. هذا بحسب الرتبة. وأما بحسب الزمان, فالخاتم المطلق عنده هو المهدي المنتظر. وعيسى وإن كان بحسب الظاهر والزمان خاتماً للولاية العامة، أما بحسب المعنى فهو مختوم بالختم المحمدي أي المهدي عليه السلام، لأن ولاية عيسى تكون من لمعات الولاية المهدوية, وهي حسنة من حسنات الإمام المنتظر".[3]

كذلك يرى ابن عربي في الفصوص أن:"الفتوح الربانية ثلاثة: الأول عبارة عن الفتح القريب, وهو المشار إليه بقوله: (نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ). والثاني هو الفتح المبين. وهو المشار إليه بقوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا). وأعلى الفتوح هو الفتح المطلق المشار إليه بقوله: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ). ونصر الله العزيز لا يتحقق إلاّ بوجود المهدي(عج), لأن هذا الفتح وإن ظهر بعض آثاره, لكن الظهور التام يحصل بوجود المهدي، ولذا قال ابن عربي أن النصر العزيز من مختصاته(عج).

والمقصود بالخاتم كما يقول الشيخ العارف عبد الرزاق القاساني: "هو الذي يقطع المقامات بأسرها ويبلغ نهاية الكمال. والبالغ إلى نهاية الكمال واحد لا يقبل التعدد. وخاتم النبوة هو الذي ختم الله به النبوة, ولا يكون إلاّ واحداَ وهو نبينا(ص). وكذلك خاتم الولاية على الإطلاق. وهو أيضاً لا يتعدد. وهو الذي يبلغ به صلاح الدنيا والآخرة ونهاية الكمال, ويختّل بموته النظام. وهو المهدي الموعود عليه السلام الخاتم لجميع مراتب الولاية ودرجات الإلهية".[4]

ننتقل الآن من هذه المقدمة إلى نتيجة أساسية تتفرع من اعتبار الولاية سراً وباطناً للنبوة, واعتبار خاتمية الولاية سراً وباطناً لخاتمية النبوة. هذه النتيجة هي: الاعتراف بأن زمن المهدي(عج) وفترة إمامته هي فترة بلوغ الإنسان وفترة تطبيق الشريعة الكاملة الحقة، التي لم تتحقق في زمن الأنبياء، مما يدفعنا نحو دراسة مراحل تطور واستكمال المجتمع البشري, ليتسنى لنا المجال بعد ذلك في الحديث عن سرّ غيبة المهدي(عج), ودور هذه الغيبة في مسار تكامل الإنسان.

إن القرآن الكريم في قراءة الشهيد المطهري; "يؤكد على شخصية التاريخ وواقعيته، كما يؤكد على الاتجاه الارتقائي والتكاملي للمجتمع. والمعارك البشرية تتجه على مر التاريخ بالتدريج نحو اتخاذ صفة أيديولوجية، ويتجه الإنسان بالتدريج نحو التكامل في قيمة الإنسانية، أي يقترب من الإنسان المتعالي ومن المجتمع المثالي. وستكون نهاية المسيرة الإنسانية إقامة حكومة العدل وحكومة سيادة القيم الإنسانية، أو بالتعبير الإسلامي: "حكومة المهدي".[5]

ويلتقي الشهيد المطهري مع تويمبي في أن:

انحطاط الحضارات أمر لا يمكن رفضه، لكن تاريخ البشرية يسير نحو مسيرة تكاملة.[6]

هذا الاعتراف بمبدأ الاتجاه الإرتقائي والحركة التكاملية كاتجاه عام للمجتمع البشري في صناعة تاريخه, يتفق أيضاً مع تفسير الحكمة المتعالية الصدرائية لواقع الحركة في قوس الصعود. فالحركة في هذه المدرسة الفلسفية العرفانية تفسّر وتعرّف بالخروج التدريجي للأشياء من القوة إلى الفعل. وحيث أن نسبة القوة إلى الفعل هي نسبة النقص إلى الكمال، ويستحيل عقلياً الرجوع من الفعل إلى القوة، فكل الحركات والتبدلات في عالم الناسوت وفي قوس الصعود تتم بالخروج من النقص إلى الكمال، بما فيها التطورات التي تحصل في المجتمع البشري على الصعيدين الفردي والاجتماعي، وخاصة مع ملاحظة أن النفس الإنسانية جسمانية الحدوث وروحانية البقاء، فهي أيضاً تتّبع نفس النظام. والأهم من هذا, ملاحظة الآيات القرآنية الجمة التي تؤكد على رجوع الأمور والأشياء كلها إلى الله: (وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) و(وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ), مما يرفض إمكانية الحركة القهقرية والتراجع عن الاستكمال في الدنيا وحتى في الآخرة: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ).

إن الاقتناع بهذه الرؤية الكونية يترسخ في فكرة المهدوية التي على قول الشهيد المطهري: "تنطوي على نظرة تفاؤلية تجاه المسيرة العامة للنظام الطبيعي وتجاه مسيرة التاريخ، وتبعث الأمل بالمستقبل، وتزيل كل النظريات التشاؤمية بالنسبة لما تنتظره في آخر تطلعاتها … والقرآن الكريم يرفض بشدة النظرة العبثية إلى التاريخ، ويشدّد على وجود قواعد ثابتة دائمة لمسيرة الأمم والجماعات، فيقول: (فَهَلْ ينظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)[7].[8]

من هذه الآراء العبثية, ما نقرأه من "رسل" في كتابه:"في الآفاق الجديدة": "ثمة أفراد ـ منهم اينشتاين ـ يزعمون أنه من المحتمل جداً أن يكون الإنسان قد طوى دورة حياته، وسيستطيع خلال السنوات القليلة القادمة أن يبيد نفسه بما يتمتع به من مهارة عملية فائقة".[9]

طبعاً, لا نقصد بالحركة التكاملية التاريخية فكرة الحتمية التاريخية التي بناها بعض التيارات الفلسفية المادية كالماركسية, والتي لا تدع أي مجال لمبدأ الحرية والاختيار للإنسان.صحيح أن الإنسان مسيّر لمستقبل سيكون أفضل من الحاضر والماضي. لكن له الخيار أن يكون في داخله نفساً تستجمع جميع أسماء الله, من منطلق: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا), فيصبح خليفة "الله" في أرضه, وينال مقال العبودية التي كنهها الربوبية، وله الخيار في تفتيت هذا الاستجماع وتبني التفرق المذكور في الآية الشريفة: (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).

والآية الشريفة (وَإِن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيرَكُمْ), وكذلك: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ), تدلان على اختيار الإنسان في عين حتمية تحقق الإرادة الإلهية بشأن استكمال الإنسان فرداً وجماعة.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

المهدي والحسين عليه السلام الدور والتجلي
سيرة الإمام المهدي المنتظر(عجل الله فرجه)
أتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
كيف يكون الإنتظار للإمام المهدي عليه السلام
المدخل إلى عقيدة الشيعه الإمامية في ولادة الإمام ...
لإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) في الإنجيل
انقطاع النیابة فی الغیبة الکبرى
الانتظار بين السلب والايجاب
عالمية الاعتقاد بالمهدي
متى يظهر الامام ؟

 
user comment