ثم إن الاقتناع بمبدأ الحركة التكاملية التاريخية في عين الاعتراف بحرية الإنسان واختياره في تحديد مرتبته في هذه المجموعة اللامتناهية من كلمات الله ومخلوقاته, يتطلب منا دراسة الفترات التاريخية التي مرت وتمر بالمجتمع البشري للتعرف على حكمة غيبة المهدي(عج).
فتقول: إن تقسيم التاريخ إلى مراحله وأطواره يتنوع بتنوع المعايير التي نختارها للتعريف بالإنسان ومجتمعه. حيث يمكن إجراء التقسيم باعتماد مبدأ السياسة والإرادة, فتنقسم المراحل في كل شعب بين الأفراد والعوائل المالكة التي حكمت على رقاب الناس، أو اعتماد مبدأ الاقتصاد, ويأتي الحديث عن الاشتراكية الأولى والرقية والإقطاعية والرأسمالية والشيوعية في التقسيم الماركسي, أو اعتماد مبدأ الثقافات والحضارات التي تذكرنا بالحضارات الصينية والمصرية واليونانية والروسية والفارسية والغربية.
لكن الثقافة الإسلامية والشيعية التي نفتخر بها ترسم لنا أدوار التاريخ بنحو مختلف تماماً, وتعتمد على مبدأ الشرايع السماوية التي ترى أن جوهر الارتقاء يكمن في العبادة كآلية للتقريب إلى الله أي الكمال المطلق.
نلاحظ هنا أن الدين يستخدم دائماً في القرآن بلفظه المفرد: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)، (وَمَن يبْتَغِ غَيرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يقْبَلَ مِنْهُ). والاختلاف لا يتعرض لجوهر الدين الذي يبقى واحداً منذ اللحظة الأولى لتاريخ البشر ومجيء آدم كأول إنسان وأول نبي، حتى نهاية التاريخ وانطواء الدنيا، بل يتعرض للشرايع التي تبرمج حياة الإنسان في شؤونه وعلاقاته المتشابكة: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)[10]، مما يعني أن الدين حقيقة واحدة, لكنها مشككة تتظاهر في الشرايع المختلفة التي ليست إلاّ حلقات مرتبطة بعضها بالبعض أشد ارتباط. فالطفرة مستحيلة سواء في عالم التكوين أو نظام التشريع.
في هذه القراءة يمكننا تقسيم الأدوار التاريخية إلى دورتين رئيسيتين:
الدورة الأولى: فترة النبوة وإرسال الرسل وإنزال الكتب, وتبدأ بآدم(ع) وتنتهي بخاتم الأنبياء(ص).
في هذه المرحلة تأتي الشرايع الإلهية واحدة بعد أخرى, وكل شريعة تنسخ ما سبقها. وتلغي مفعولها وتقدم نموذجاً جديداً يواكب مع مستجدات الحضارة البشرية مع الاحتفاظ بجوهر الدين الواحد.
الدورة الثانية: هي دورة الولاية التي اعتبرنا باطن النبوة, وهي تبدأ بولاية الإمام علي بن أبي طالب(ع), وتستمر إلى آخر نشأة الدنيا. وبانتهائها تنطوي السموات والأرض, ويستعد الإنسان للبدء بحياة الخلد.
الدورة الثانية أيضاً تنقسم إلى فترة قصيرة جداً تتوزع بين ولاية الأئمة الأحد عشر، وتليها مرحلة ولاية خاتم الأنبياء، التي تنقسم بين الغيبة الصغرى والكبرى والثورة العالمية.
في قراءة سريعة عن ركائز هاتين الدورتين, أرى أن دورة النبوة تمتاز بصفتين أساسيتين: الأولى: حضور الإنسان الكامل أي النبي بين حين وآخر بين الناس, ليقدم لهم أسوة حسنة تتجسد فيها القيم الإلهية, وتتبلور هذه القيم في شخصيته وأنماط علاقته بالناس وحياتهم الفردية والاجتماعية . والثانية: الإعجاز المقرون بالتحدي كآية بينة لإثبات مصداقية نبوءة النبي و علاقته بمنبع القدرة المطلقة. هذه المعجزات عادة أمور تخرق النظام الإعدادي الحاكم على مسار المادة في الطبيعة, كناقة تظهر من تفجر جبل, وإلقاء عصاً تصبح ثعباناً مرعباً, والتحدث مع النمل والطير, وتسخير الرياح, وتسبيح الحصا في كف النبي, وشفاء الأكمه والأبرص, وإحياء الموتى. وهي عادة تنسجم مع معطيات العقلية البشرية الآخذة بالتطور والارتقاء من نبي إلى نبي آخر.
هذه الخطوات, تمهد لمرحلة هامة من بلوغ الفكر والعقل واكتساب أهلية لتلقّي معجزة خالدة لا تكون خرقاً لنظام الطبيعة والجسم, بل تكون خرقاً لحجب الفكر ومطبات العقل. وهي تتجلى في الكلام واللغة التي هي آية الفكر. هذا المنعطف, يطوي دورة النبوة التي تشبه دورة الطفولة وحياة ما قبل البلوغ, والتي يحتاج فيها البشر إلى رعاية إلهية محسوسة تتمثل بحضور النبي في الشارع وبين الناس وبيده معجزة تثبت لتلك العقلية علاقة النبي برب السماء.
هذا المجتمع في دورة الولاية يصل إلى مستوى من البلوغ الفكري لا يحتاج فيه إلى نبيّ مدجج بمعجزة طبيعية تثبت صدقه. لكنه في دورة انتقالية ولو قصيرة يحتاج إلى حضور إنسان كامل كالنبي وهو إمام معصوم يقدم نموذجاً عملياً لإمكانية تحقيق المثل والقيم على صعيد الواقع.
هذه الفترة القصيرة تمتاز بحضور الإنسان الكامل في الشارع وبين الناس، لكن عنصر الإعجاز المقرون بالتحدي يغيب عن الساحة ليصبح التعقل والتدبر بديلاً عنه. طبعاً لا نقصد بالبلوغ الفكري والتعقل أن الإنسان يستغنى عن الوحي والإعجاز. كلاّ. بل المقصود أن القرآن باعتباره المعجزة الخالدة الأخيرة يؤكد على إعجازه لا عبر اختراقٍ في نظام الطبيعة, بل عبر مناشدة العقول ومخاطبة الأفكار بالدعوة إلى التعقل والتدبر في آياته المعجزة التي رغم ثباتها بألفاظها واستحالة أي تغير في كلمة واحدة منها, لكنها تواكب كل المتغيرات والمستجدات التي ستطرؤ على الآفاق والأنفس بل تتنبؤ بها قبل حدوثها.
صحيح أن بعض الكرامات تظهر بأيدي الأئمة(ع) بعد غياب عنصر الإعجاز المقرون بالتحدي, لكنها هي أيضاً تخف شيئاً فشيئاً من إمام سابق إلى إمام لاحق.
اللافت للنظر أن العنصر الأول أي حضور الإمام المعصوم الذي يفسر القرآن بقوله وفعله وتقريره, هو أيضاً يتقلص تدريجياً في الأئمة الستة الأواخر. فبعدما يعمل الإمام الصادق على بلورة صياغة شبه كاملة للمذهب الشيعي في فقهه وأصولهو كلامه وتفسيره في مدرسته العلمية الرائعة, نواجه ابتعاد الإمام الكاظم(ع) عن الجمهور في فترة السجن، وإقصاء الإمام الرضا(ع) عن وطنه والرقابة المشددة عليه رغم تعيّنه لولاية العهد في طوس, وخفة حضور الإمام الجواد(ع) الذي دام عمره خمساً وعشرين سنه والذي يعقبه الإمام علي والإمام الحسن العسكريين8 الذين أمضيا معظم عمرهما الشريف في معسكر الخلافة العباسية الغاصبة.
هذا الغياب التدريجي لأئمتنا الأطهار(ع), يأتي حسب رأيي في سياق التمهيد للغيبة الصغرى والغيبة الكبرى للحجة الثاني عشر. أفضّل هنا، وقبل تقديم قراءتي عن سر الغيبة وحكمتها, أن نلقي نظرة عابرة على ترتب الغيبتين الصغرى والكبرى:
الحكمة الأساسية من إيجاد الغيبة الصغرى كما يقول الشهيد السيد محمد الصدر:
هو التمهيد الذهني لوجود الغيبة الكبرى في الناس. إذ لو بدأ المهدي(عج) بالغيبة المطلقة فجأة وبدون إنذار وإرهاص لما أمكن إثبات وجوده في التاريخ، فتنقطع حجة الله على عباده.[11]
ويلتقي معه الشهيد محمد باقر الصدر بقوله:
إن القواعد الشعبية للإمامة الشيعية كانت على الاتصال بالإمام في كل عصر، والتفاعل معه والرجوع إليه في حل المشاكل المتنوعة. فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأة، وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية سببت هذه الغيبة المفاجأة الإحساس بفراغ دفعي هائل, قد يعصف بالكيان كله ويشتت شمله. فكان لا بد من تمهيد لهذه الغيبة, لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج, وتكيّف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها.[12]
وكما كانت الغيبة الصغرى تمهيداً لتكيّف الناس مع ظروف الغيبة الكبرى, فكذلك سلسلة الأحداث التي تتعاقب في الغيبة الكبرى ليست إلاّ حلقات توطئ الأمور لظهور خاتم الأولياء.
من هذه الأحداث:"النهضة الخمينية التي برهنت عملياً على إمكانية إقامة الدولة الإسلامية العادلة في العصر الحاضر، المواكبة لتطوراته والمستجيبة لمتطلباته. ومجرد قيادة مثل هذه النهضة يمثل تمهيداً للثورة المهدوية، حيث يتضمن التعريف بهوية المصلح الكبير على الصعيد الإسلامي والعالمي. وإلى هذا الأثر تشير الأحاديث الشريفة عندما تقول بعد حديثها عن حركة الموطئة:"فعند ذلك يتمنى الناس المهدي ويطلبونه". قال رسول الله(ص):
يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي سلطانه.[13]
نلاحظ كيف أن التخطيط الإلهي يرتب حلقات تاريخ المجتمع البشري ويمهد للحلقات اللاحقة عبر الحلقات السابقة. كأنّ هذه الدورات الزمنية المترتبة تشبه الترتب المكاني في الكواكب والمجرات, حيث لا حلقة مفقودة فيها, وتشبه (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَينِ ينقَلِبْ إِلَيكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ).
وفي نظرة عابرة وكما يقول السيد محمد الصدر: "نستطيع أن نلاحظ كيف أن خط الأنبياء الطويل والأعداد الكبيرة منهم إنما كان باعتبار التقديم والتمهيد للغرض الكبير، باعتبار أن البشرية حين أول وجودها كانت قاصرة عن فهم تفاصيل العدل الكامل. فلم يكن في الإمكان إيجاد المجتمع العادل الكامل الموعود في ربوعها لأول وهلة، بل كان لابد أن تسير البشرية تدريجياً إلى أن تصل إلى المستوى اللائق الذي يؤهلها لفهم العدل الكامل الذي يريد الله تطبيقه في اليوم الموعود".[14] وهو يرى أن الغرض الإلهي لدورة النبوة تمهيد الناس عبر الأنبياء, والغرض من دورة الولاية تمهيد الناس عبر الأئمة الأولياء لتطبيق العدل الكامل في اليوم الموعود بواسطة خاتم الأولياء.
الاعتراف بسرد الأحداث التاريخية حسب التخطيط الالهي لاستكمال الانسان, يتطلب منا دراسة غيبة الإمام المنتظر, وتحديد مكانة هذه الفترة في حلقات الاستكمال.
أول ما يخطر بالبال في هذا المجال هو أن محدودية عدد الأئمة الأطهار باثنى عشر إماماً حسب نصوصنا المتواترة تتطلب قبول استمرار ولاية المهدي(عج) منذ تسلمها بعد استشهاد أبيه حتى تحقيق ثورته. وافتراض أن يموت ثم يحييه الله تعالى يتنافي مع ضرورة استكماله التدريجي المواكب لتطورات المجتمع الإنساني في تكامل ما بعد العصمة. هذا التكامل التدريجي حقيقة عامة تشمل الأولياء والأنبياء بما فيهم نبي الإسلام المكرم(ص) الذي )دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى(.