مفهوم آخر للرجعة
وفي (منتخب البصائر) عن أبي عبد الله عليه السلام قال:إن الذي يلي حساب الناس قبل يوم القيامة الحسين بن علي عليهما السلام فأما يوم القيامة فإنما هو بعث إلى الجنة وبعث إلى النار.
أقول : إعلم أن أيام المجازات على الإعمال ثلاثة (الدنيا) و(البرزخ) و(الآخرة) فأما الإعمال التي لا إيمان معها عن تعمد أو لا إخلاص فجزاؤها في الدنيا بدفع بعض البلايا وأدرار الرزق وكثرة الأموال والأرزاق , وأما الإعمال التي لا إيمان معها عن جهل وما أشبه ذلك من خطب وغفلة فجزاؤها في البرزخ بدفع عذاب القبر أو فتح باب من الجنة إلى القبر فيدخل عليه الروح , وإما الإعمال التي وقعت عن إيمان ومعرفة فجزاؤها في الآخرة وتسمى الإعمال وتوصف بمحلها وتنسب إلى أوقات المجازات عليها0 فالإعمال البرزخية التي يكون المجازات عليها في البرزخ إذا كان من أهل (الرجعة) وقعت المجازات عليها في (الرجعة) لان الرجعة من نوع البرزخ إلا ترى إن المؤمن إذا مات التحقت روحه بجنة الدنيا وان كان كافرا" أو مشركا" أو منافقا" التحقت روحه بنار الدنيا وجنة الدنيا هي الجنتان المد هامتان وهي تخرج في (الرجعة) كما يأتي عند (مسجد الكوفة) 0فإذا كان على المكلف أو له شيء من المجازات البرزخية كان المحاسب عليها هو الحسين عليه السلام وأما ما لا يتعلق بتلك الإعمال البرزخية من الإعمال الأخروية إذا كان حوسب المكلف على الإعمال البرزخية وجوزي عليها في البرزخ وحضر يوم القيامة بحاسب عن الإعمال الأخروية فإذا استحق دخول الجنة أو النار بالإعمال الأخروية بعد المحاسبة عليها وبعث به إلى الجنة أو النار ولم يتوقف دخول ما يستحقه على شيء من الإعمال البرزخية لأنه قد حاسبه الحسين عليه السلام عليها وليس معنى الحديث والله العالم إن جميع حساب الخلائق يقع في (الرجعة) بل المعنى إن الحساب على الإعمال البرزخية يقع في الرجعة ولا يعاد الحساب عليها يوم القيامة فافهم.
أدلة الرجعة :
أورد الحر العاملي في الباب الثاني من كتابه (الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة) اثني عشر دليلاً على صحة الاعتقاد بالرجعة ، وأهم ما استدل به الإمامية على ذلك هو الأحاديث الكثيرة المتواترة عن النبي والأئمة عليهم السلام المروية في الكتب المعتمدة ، وإجماع الطائفة المحقة على ثبوت الرجعة حتى أصبحت من ضروريات مذهب الإمامية عند جميع العلماء المعروفين والمصنفين المشهورين ، كما استدلوا أيضاً بالآيات القرآنية الدالة على وقوع الرجعة في الأمم السابقة ، أو الدالة على وقوعها في المستقبل إما نصاً صريحاً أو بمعونة الأحاديث المعتمدة الواردة في تفسيرها ، وفيما يلي نسوق خمسة أدلة نبدأها بالأدلة القرآنية :
أولاً : وقوعها في الأمم السابقة :
لقد حدّثنا القرآن الكريم بصريح العبارة وبما لا يقبل التأويل أو الحمل عن رجوع أقوام من الأمم السابقة إلى الحياة الدنيا رغم ما عرف وثبت من موتهم وخروجهم من الحياة إلى عالم الموتى ، فإذا جاز حدوثها في الأزمنة الغابرة ، فلم لا يجوز حدوثها مستقبلاً : ( سُنَّةَ اللهِ في الَّذِينَ خَلَوا مِن قَبلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنّةِ اللهِ تَبدِيلاً )(23).
روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن الحسن بن الجهم ، قال : قال المأمون للرضا عليه السلام : يا أبا الحسن ، ما تقول في الرجعة ؟
فقال عليه السلام : « إنّها الحقّ ، قد كانت في الأمم السالفة ونطق بها القرآن ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والفذة بالفذة ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : إذا خرج المهدي من ولدي نزل عيسى بن مريم عليه السلام فصلى خلفه ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : إنَّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً ، فطوبى للغرباء . قيل : يا رسول الله ، ثم يكون ماذا ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: ثم يرجع الحقّ إلى أهله »(24).
وفيما يلي نقرأ ونتأمل الآيات الدالة على إحياء الموتى وحدوث
الرجعة في الأمم السابقة :
إحياء قوم من بني إسرائيل :
قال تعالى : ( ألم تَرَ إلى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيارِهِم وَهُم أُلُوفٌ حَذَرَ المَوتِ فَقَالَ لَهُم اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أحيَاهُم إنَّ اللهَ لذُو فَضلٍ على النَّاسِ وَلَكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَشكُرُونَ )(25) . فجميع الروايات الواردة في تفسير هذه الآية المباركة تدل على أنَّ هؤلاء ماتوا مدة طويلة، ثم أحياهم الله تعالى، فرجعوا إلى الدنيا، وعاشوا مدة طويلة.
قال الشيخ الصدوق : كان هؤلاء سبعين ألف بيت ، وكان يقع فيهم الطاعون كلّ سنة ، فيخرج الأغنياء لقُوّتهم ، ويبقى الفقراء لضعفهم ، فيقلّ الطاعون في الذين يخرجون ، ويكثر في الذين يقيمون ، فيقول الذين يقيمون : لو خرجنا لما أصابنا الطاعون ، ويقول الذين خرجوا ، لو أقمنا لأصابنا كما أصابهم .
فأجمعوا على أن يخرجوا جميعاً من ديارهم إذا كان وقت الطاعون ، فخرجوا بأجمعهم ، فنزلوا على شط البحر ، فلمّا وضعوا رحالهم ناداهم الله : موتوا ، فماتوا جميعاً ، فكنستهم المارّة عن الطريق ، فبقوا بذلك ما شاء الله .
ثم مرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرمي(26)، فقال : لو شئت يا ربِّ لأحييتهم ، فيعمروا بلادك ، ويلدوا عبادك ، ويعبدوك مع من يعبدك ، فأوحى الله تعالى إليه : أفتحبَّ أن أحييهم لك ؟ قال : نعم . فأحياهم الله تعالى وبعثهم معه ، فهؤلاء ماتوا ، ورجعوا إلى الدنيا ، ثم ماتوا بآجالهم(27) .
فهذه رجعة إلى الحياة الدنيا بعد الموت ، وقد سأل حمران بن أعين الإمام أبا جعفر الباقر عليه السلام عن هؤلاء ، قائلاً : أحياهم حتى نظر الناس إليهم ، ثم أماتهم من يومهم ، أو ردّهم إلى الدنيا حتى سكنوا الدور ، وأكلوا الطعام، ونكحوا النساء ؟
قال عليه السلام : « بل ردّهم الله حتى سكنوا الدور ، وأكلوا الطعام ، ونكحوا النساء ، ولبثوا بذلك ما شاء الله ، ثم ماتوا بآجالهم »(28).
إحياء عزير أو أرميا :
قال تعالى : ( أو كالَّذي مرَّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عُرُوشِهَا قال أنَّى يُحيي هذهِ اللهُ بعدَ موتِها فأماتَهُ اللهُ مائةَ عامٍ ثُمَّ بعثهُ قال كم لَبِثتَ قال لَبِثتُ يوماً أو بعضَ يومٍ قال بل لَبِثتَ مائةَ عامٍ فانظُر إلى طعامِكَ وشرابِكَ لم يتسنَّه وانظُر إلى حمارِكَ ولنجعَلَكَ آيةً للنَّاسِ وانظُر إلى العِظَام كيفَ نُنشِزُها ثُمَّ نكسُوها لَحمَاً فلمّا تَبينَ لهُ قال أعلمُ أنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ )(29).
لقد اختلفت الروايات والتفاسير في تحديد هذا الذي مرَّ على قرية ، لكنها متّفقة على أنّه مات مائة سنة ورجع إلى الدنيا وبقي فيها ، ثم مات بأجله ، فهذه رجعة إلى الحياة الدنيا .
قال الطبرسي : الذي مرَّ على قرية هو عزير ، وهو المروي عن أبي عبدا لله عليه السلام وقيل : هو أرميا ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام(30).
وروى العياشي بالإسناد عن إبراهيم بن محمد ، قال : ذكر جماعة من أهل العلم أنَّ ابن الكواء الخارجي قال لأمير المؤمنين علي عليه السلام : يا أمير المؤمنين ، ما ولد أكبر من أبيه من أهل الدنيا ؟
قال عليه السلام : « نعم ، أُولئك ولد عزير ، حيث مرَّ على قرية خربة ، وقد جاء من ضيعة له ، تحته حمار ، ومعه شنّة فيها تين ، وكوز فيه عصير ، فمرَّ على قريةٍ خربةٍ ، فقال : ( أنَّى يُحيي هذهِ اللهُ بعدَ موتِها فأماتَهُ اللهُ مائةَ عامٍ ) فتوالد ولده وتناسلوا ، ثمَّ بعث الله إليه فأحياه في المولد الذي أماته فيه ، فأُولئك وُلده أكبر من أبيهم »(31).
إحياء سبعين رجلاً من قوم موسى عليه السلام:
قال تعالى : ( وإذ قُلتُم يا مُوسى لَنْ نُؤمنَ لكَ حتى نرى اللهَ جَهرَةً فأخَذَتكُم الصَّاعِقَةَ وأنتُم تنظُرُونَ * ثُمَّ بعثناكُم مِنْ بَعدِ موتِكُم لَعَلَكُم تَشكُرُونَ )(32).
هاتان الآيتان تتحدثان عن قصة المختارين من قوم موسى عليه السلام لميقات ربه ، وذلك أنّهم لمّا سمعوا كلام الله تعالى قالوا : لا نصدّق به حتى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا ، فقال موسى عليه السلام : « يا ربِّ ، ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم » فأحياهم الله له ، فرجعوا إلى الدنيا ، فأكلوا وشربوا ، ونكحوا النساء ، وولد لهم الأولاد ، ثم ماتوا بآجالهم(33).
فهذه رجعة أُخرى إلى الحياة الدنيا بعد الموت لسبعين رجلاً من بني إسرائيل ، قال تعالى: (واختارَ موسى قَومَهُ سَبعِينَ رَجُلاً لِميقاتِنَا فَلَمَّا أخَذَتهُم الرَجفةُ قالَ ربِّ لو شِئتَ أهلَكتَهُم مِنْ قَبلُ وإيَّاي أتُهلِكُنا بِما فَعلَ السُّفَهآءُ مِنَّا)(34) .