وبعد أيام سأل عدي أخته عن النبي’ قائلاً: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟
قالت: أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبياً فالسابق إليه له فضيلة، وأن يكن ملكاً فلن تذلّ في عز اليمن وأنت أنت قال عدي: والله إن هذا للرأي.
فانطلق عدي بن حاتم وقدم على رسول الله في المدينة فدخل عليه وهو في المسجد فسلّم عليه.
فقال’: من الرجل؟ قال: عدي بن حاتم، فنهض رسول الله’ فانطلق به إلى بيته.
وفي الطريق لقيته امرأة ضعيفة كبيرة السن فاستوقفته، فوقف لها يقول عدي راوياً ما حصل: فوالله أنه لعامد بي إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلّمه في حاجتها، فقلت في نفسي والله ما هذا بملك، ثم مضى رسول الله حتى دخل بيته فتناول وسادة من آدم محشوّة ليفاً، فقذفها إليّ قالت: لا بل أنت، فجلست وجلس رسول الله’ بالأرض قلت في نفسي: والله ها هذا بأمر ملك. ثم قال: أيه يا عدي بن حاتم، ألم تك ركوسياً؟ قلت: بلى، قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحلّ لك في دينك، قلت: أجل والله، وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يُجهل ـ ثم قال النبي’: لعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم (المسلمين).
فوالله ليوشكنّ المال يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا الله، ولعله إنما يمنعك من الدخول فيه إنك ترى أنّ الملك والسلطان في غيرهم، وإيم الله يوشك أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت.
ويقول عدي بن حاتم: فأسلمت.
ثم كان يحدث فيما بعد: مضت الثنتان وبقيت الثالثة والله لتكوننّ. قد رأيت القصور البيض من ارض بابل قد فتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئاً حتى تحج وإيم الله لتكوننّ الثالثة ليفيضنّ المال حتى لا يوجد من يأخذه([13]).
وقد أصبح عدي بن حاتم فيما بعد في الطليعة من أصحاب الإمام علي× المخلصين للرسالة، وقد وقف إلى جانبه في محنته والحروب التي خاضها في الجمل وصفين والنهروان، وقد أصيبت إحدى عينيه في الجمل، كما فقد أولاده الثلاثة (طريف، وطارف، وطرفة) شهداء في معارك الحق ضد الباطل.
عن جرير بن عبدالله أن النبي’ دخل بعض بيوته فامتلأ البيت، ودخل جرير فقعد خارج البيت، فأبصره النبي’ فأخذ ثوبه فلفّه فرمى به إليه وقال: إجلس على هذا، فأخذ جرير (الثوب) فوضعه على وجهه وقبّله.
وعن سلمان الفارسي قال: دخلت على رسول الله’ وهو متكئ على وسادة فألقاها إليّ، ثم قال: يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم فيلقي له الوسادة إكراماً له إلا غفر الله له([14]).
وعن الإمام الصادق× قال: إن رسول الله’ أتته أخت له من الرضاعة، فلما أن نظر إليها سرّ بها وبسط رداءه لها فأجلسها عليه، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها ثم قامت فذهبت، ثم جاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل: يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل؟! فقال: لأنها كان أبرّ بأبيها منه([15]).
ويعفو عن ألدّ أعدائه
وفي فتح مكة وقد جاء النبي’ أكثر من عشرة آلاف مقاتل وفتحت مكة أبوابها، وكان النبي، قد عانى ما عانى من قريش فهل فكر النبي’ بالانتقام؟ كلا لقد دخل مكّة في غاية التواضع، ولما سمع هتاف أحد القادة: اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة، أمر بتنحيته وأمر أن يهتف: اليوم ترعى المرحمة.
ولما كسر النبي الأصنام واجه قريش قائلاً: ماذا ترون أني فاعل بكم؟
وماذا تقولون وماذا تظنّون؟
قالوا: نقول: خيراً ونظنّ خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.
هنالك قال النبي’: إني أقول كما قال أخي يوسف: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وعن النبي’ عن الشاعر المعروف كعب بن زهير بن أبي سلمى وطالما هجا النبي فجاءه فدخل عليه وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هذا مقام العائذ بك أنا كعب بن زهير ثم أنشد قصيدته الشهيرة، >بانت سعاد<.
وجاء فيها: نبئت أن رسول الله أوعدني
الوعد عند رسول الله مأمول
فوهبه النبي’: بردته([16]).
ولما ارتداها جاء إعرابي فقال للنبي’ هبني هذه الجبة فخلعها من فوره وأعطاها للإعرابي([17]).
ولما مرض عبدالله هذا عاده النبي’ وقد طلب عبدالله من النبي أن يعطيه قميصه ليضعه مع أكفانه واستجاب النبي’ لذلك ولما مات حضر جنازته واستغفر له وصلى عليه وقدم التعازي لأبنه المؤمن، وقد هزّت هذه المواقف المئات من أتباع ابن أبي ورسخت من إيمانهم برسالة النبي’([18]).
هكذا كان رسول الله
وهذه آداب النبي’ كما جاء في الأخبار: كان’ أحكم الناس وأحلمهم وأشجعهم وأعدلهم وأعطفهم، لم تمس يديه يد امرأة لا تحلّ، وكان أسخى الناس، لا يثبت عند دينار ولا درهم (لا يستقر في بيته ولا يبيت عنده) فإذا بقي عنده شيء وجنه الليل لا يأوي إلى منزله حتى يوصله إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامة فقط، من يسير ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ولا يُسأل شيئاً إلا أعطاه، ثم يعود إلى قوت عامة فيؤثر منه، وربما احتاج قبل انقضاء العام.
وكان يجلس على الأرض وينام عليها ويأكل عليها وكان يخصف النعل ويرقع الثوب، ويفتح الباب، ويطحن مع الخادم إن أعيا.
ولا يتقدمه مطرق (أي أنه أكثر الناس إطراقاً إلى الأرض حياءً) والإطراق السكوت وإرخاء العينين إلى الأرض.
وسُئلت السيدة عائشة ما كان النبي’ يصنع إذا خلا؟
قالت يخيط ثوبه ويخصف نعله ويصنع ما يصنع الرجل في أهله. وعن عمر بن الخطاب قال: إن رجلاً أتى النبي’ وسأله أن يعطيه فقال’ له: ما عندي شيء ولكن ابتع عليّ (أي اشتر ما تحتاج وأنا أسدد فيما بعد) فإذا جائنا شيء قضينا، قال عمر: فقلت: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه!؟
قال: فكره النبي’ مقالة عمر؛ فقال الرجل: انفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً، قال: فتبسم النبي’ وعرف السرور في وجهه.
وعن ابن عباس: أن عمر بن الخطاب دخل على النبي’، وهو على حصير قد أثر في جنبيه، فقال: يا نبي الله لو اتخذت فراشاً؟
فقال النبي’: ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف (حار) فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها.
وعن أبي عبدالله الصادق× قال: أن رسول الله وعد رجلاً إلى الصخرة فقال: أنا لك هاهنا حتى تأتي، فاشتدت الشمس عليه، فقال له أصحابه: يا رسول الله لو أنك تحولت إلى الظل قال’: وعدته هاهنا.
وعن أبي رافع قال: سمعت رسول الله’ يقول: إذا سميتم (أبنائكم) محمداً فلا تقبحوه (قول الرجل لابنه قبحك الله) ولا تجبهوه (أي لا تردّوه عن حاجته) ولا تضربوه بورك بيت فيه محمد ومجلس فيه محمد ورفقة فيها محمد.
وعن ابن عباس: أن رسول الله’ توفي ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود على ثلاثين صاعاً من شعير أخذها رزقاً لعياله.
وكان يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة أو يسميه، فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله، فربما بال الصبي عليه، فيصيح بعض من رآه حين بال فيقول’: لا ترزموا بالصبي! فيدعه حتى يقضي بوله ثم يفرغ له من له من دعائه ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته، ويبلغ سرور أهله فيه، ولا يرون أنه تأذى ببول صبيهم (أي لا يلاحظون عليه أية علامة من علامات الإستياء)، فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعد ذلك.
ودخل رجل المسجد وهو جالس وحده فتزحزح له فقال الرجل: في المكان سعة يا رسول الله فقال’: إن حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس إليه أن يتزحزح له.
عن الإمام الصادق× عن آبائه^: إن رسول الله’ كان يأتي أهل الصفة، وكانوا ضيفان رسول الله’، كانوا هاجروا من أهليهم وأموالهم إلى المدينة، فأسكنهم رسول الله’ صفّة المسجد وهم أربعمئة رجل يسلّم عليهم بالغداة والعشيّ، فأتاهم ذات يوم فمنهم من يخصف نعله ومنهم من يرقع ثوبه، ومنهم من يتفلّى، وكان رسول الله’ يرزقهم مداً مداً من تمر في كل يوم، فقام رجل منهم فقال: يا رسول الله التمر الذي ترزقنا قد أحرق بطوننا، فقال رسول الله’: أما أني لو استطعت أن أطعمكم الدنيا لأطعمتكم، ولكن من عاش منكم بعدي فسيغدى عليه بالجفان ويراح عليه بالجفان، ويغدو أحدكم في قميصه ويروح في أخرى، وتنجدون بيوتكم كما تنجد الكعبة، فقام رجل فقال: يا رسول الله أنا على ذلك الزمان بالأشواق فمتى هو؟ قال’: زمانكم هذا خير من ذلك الزمان، أنكم إن ملأتم بطونكم من الحلال توشكون أن تملؤوها من الحرام([19]).
عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: علمت في غزوة الخندق أن رسول الله’ مقوى (جائع) لما رأيت على بطنه الحجر، فقلت يا رسول الله هلّ لك في الغداء؟ قال’ فما عندك فقلت عناق وصاع من شعير، فقال: تقدم وأصلح ما عندك، قال جابر: فجئت إلى أهلي فأمرتها فطحنت الشعير، وذبحت العنز وسلختها، وامرتها أن تخبز وتطبخ وتشوي فلما فرغت من ذلك جئت إلى رسول الله’، فقلت: بأي وأمي أنت يا رسول الله قد فرغنا، فأحضر مع من أحببت، فقام إلى شفير الخندق ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار أجيبوا جابراً، وكان في الخندق سبعمئة رجل، فخرجوا كلهم، ثم لم يمر بأحد من المهاجرين والأنصار إلا قال: أجيبوا جابراً، قال جابر: فتقدمت وقلت لأهلي: قد والله أتاك رسول الله’ بما لا قبل لك به، فقالت: أعلمته أنت بما عندنا؟ قال: نعم. قالت: فهو أعلم بما أتى، قال جابر، فدخل رسول الله’ فنظر في القدر ثم قال: أغرفي وأبقي، ثم نظر في التنور ثم قال: أخرجي وأبقي، ثم دعا بصحفة فثرد فيها وغرف، فقال: يا جابر أدخل علي عشرة عشرة، فأدخلت عشرة فأكلوا حتى نهلوا وما يرى في القصعة إلا آثار أصبعهم، ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته بالذراع فأكلوه، ثم قال: أدخل عشرة فأدخلتهم حتى أكلوا ونهلوا وما يرى في القصعة إلا آثار أصابعهم، ثم قال علي بالذراع فأكلوا وخرجوا، ثم قال: أدخل علي عشرة فأدخلتهم فأكلوا حتى نهلوا وما يرى في القصعة إلا آثار أصابعهم، ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته. فقلت يا رسول الله كم للشاة. لقد جئتك لقد أتيتك بثلاثة، فقال: أما لو سكت يا جابر لأكل الناس كلهم من الذراع، قال جابر: فأقبلت أدخل عشرة عشرة فيأكلون حتى أكلوا كلهم وبقي والله لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أياماً ([20]).
عن الإمام الصادق× أيتوني بحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب! فقال’: فليأت كل إنسان بما قدر عليه فجاءوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول الله’: هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال’، إياكم والمحقّرات من الذنوب فإن لكل شيء طالباً ألا وأن طالبها يكتب: {ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ}([21]).
وروي أنه سلم عليه غلام دون البلوغ وبش له وتبسم فرحاً بالنبي’ فقال’: يا فتى أتحبني؟ فقال: أي والله يا رسول الله. فقال له’: مثل عينيك؟ فقال: أكثر. فقال’: مثل أبيك؟ قال: أكثر. قال’: مثل أمك؟ فقال: أكثر. فقال’: مثل نفسك؟ فقال: أكثر والله يا رسول الله. فقال’: مثل ربك؟ فقال: الله الله يا رسول الله، ليس هذا لك، ولا لأحد فإنما أحببتك لحب الله. فالتفت النبي إلى من كان معه، وقال هكذا كونوا، أحبوا الله لإحسانه إليكم وإنعامه عليكم .