* رضا نجاد
لو كان عند الله لبني الإنسان شيء خير من الدين لأرسله إليهم عن طريق الأنبياء بدل الدين. ومن جملة ما يدلّ على أن الله تعالى أرحم الراحمين هو أنه عزوجل لا يحرم الإنسان ـ الذي يجلب لنفسه المصائب ويقترف الآثام بيده ـ من رحمته، وما من أمة إلا وقد أرسل الله إليها نذيراً. فقد قال تعالى: (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير). وما من أمة إلا وقد جاءها معلم أخلاق (ولكل قوم هاد).
أما المودة والرحمة التي تتحقق في ظل الزواج فالمراد منها هو أن الزواج إذا سار على نفس الوتيرة الطيبة المقدسة، والجذابة التي كان عليها من قَبل، فذلك يعني أن الرجل قد نال ما كان يصبو إليه من أمر الزواج، وأن المرأة حصلت فيه على ما كانت تحلم به، وإلا فستشعر المرأة حينذاك بأنها قد فقدت الجوانب الإيجابية التي كانت تستشعرها في الحياة مع والديها، وأخذت تتجرّع حالياً غصص الحياة الزوجية. ويرى الرجل أن الحياة التي كان يحلم بها قد أمست سراباً، وإذا بالزوجة التي كان يأمل منها أن تكون بمثابة الأم قد بدت زوجة أب، ولم تتحقق هناك الأمانة ولم يحصل أي رباط مقدس في هذه الحياة الزوجية.
ومع أن القرآن الكريم يؤكد على أن الله تعالى أرسل الأنبياء مبشرين ومنذرين، يبشرون الأخيار وينذرون الأشرار، ولكنه في الوقت ذاته ينصّ على: (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير). وهذه الآية تشير فقط إلى جانب التخويف والإنذار فقط. وهذا المطلب ينطوي على معنى جدير بالتأمل.
روي عن الإمام علي (ع) أنه قال: ((اللهم إني لم أعبدك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)). ولكن يستدلّ من الدراسات والتحقيقات التي أجريت في هذا المجال أن أكثر الناس المتدينين يعبدون الله خوفاً من ناره، وهناك عدد أقل منهم يعبد الله طمعاً في جنته، ولا يوجد إلا عدد قليل من أمثال الإمام علي، ممن يعبد الله انطلاقاً من كونه أهلاً للعبادة. ويفهم من هذا أن معظم الناس يخافون، ولهذا يجب تقديم النذير على البشير. وعلى كل الأحوال فإن عدم مداراة الزوج بالشكل الصحيح، وعدم رعاية الزوجة كما ينبغي لا مكان لهما إلا في جحيم الحياة الدنيا، وهو مكان لا وجود فيه للمودة والرحمة، ولا ينالهما منه في الآخرة إلا نار الغضب الإلهي.
لا شكّ في أن المرأة المسلمة تلتزم بالأحكام الإسلامية حتى في حياتها الاجتماعية، وهي حتى وإن اضطرتها الظروف إلى مجاراة العادات الاجتماعية السائدة بين الآخرين، فإنها لا تتخلى عن موقفها الإسلامي. والإسلام ثروة تأخذها المرأة معها إلى دار الزوجية، وتشترك مع زوجها المسلم في تكوين أسرة مسلمة، وتحافظ على طابع الاعتدال في المهر وفي سائر القيم الإسلامية كمّاً وكيفاً.
عندما تذهب المرأة المسلمة إلى بيت الزوجية يجب أن لا يتعلق قلبها بزوجها فقط، وإنما يجب أن يتعلق بالإسلام أيضاً. وكذلك الرجل يجب عليه أن ينظر إلى هذه الحقيقة وهي أنه إذا كان من المقدّر أن تكون هناك علاقة مودة ورحمة بينه وبين زوجته، فلابد أن هناك بينه وبين الإسلام علاقة أخرى على غرار هذه العلاقة. وهذه المحبة ليست ذات جانب واحد. لأن المحبة ذات الجانب الواحد لا قيمة لها، بل إن كل مَن يحب الإسلام، فإن الإسلام يحبه أيضاً. وهذه المعادلة ذات الطرفين موجودة في كل مكان، فمن يتوب يتوب الله عليه، ومَن ينصر الله ينصره، ومَن يحبّ الله يحبه الله.
وحتى إذا لم تتحقق بين الرجل والمرأة المودة والرحمة ولم يكن زواجهما من ذلك الطراز الذي يجلب عليهما المودة والرحمة، فإنهما لا يخرجان عن الإطار الإسلامي، لأنهما متزوجان بعقد الإسلامي ولا يفترقان إلا بطريق إسلامي، أما إذا لم تكن العلاقة بين الزوج والزوجة علاقة حسنة، فمعنى ذلك أنهما لا يراعيان أحكام الإسلام، ولا يطبقان تعاليمه في حياتهما، وحتى إذا كان للإسلام في حياتهما ثمة وجود، فلا يعدو أن يكون مزيجاً من تعاليم الإسلام وآرائهما الشخصية.
جاء في القرآن الكريم أن الله تعالى خاطب الرجال بقوله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
أودّ أن ألفت انتباهكم هنا إلى النكات التالية: إن الباري تعالى لم يقل في هذه الآية: آيات لقوم يعبدون، أو لقوم يعملون صالحاً، أو يقاتلون في سبيل الله، أو يتاجرون، بل قال لقوم يعقلون.
إن الأشخاص الذين يستعملون المخدرات لاستجلاب السكينة لأنفسهم يتصفون بروح مبدعة، فهم بعدما يعجزون عن تطبيق إبداعهم في البيئة التي يعيشون فيها، وبعدما يتضح لهم ضعفهم عن مجاراة الأجواء التي يعيشون فيها، ينقلبون إلى أنفسهم، فيتخذون منها خصماً لهم. ولهذا نلاحظ أنهم في الحقيقة لا يحققون لأنفسهم السكينة. نلاحظ أن أرذل القوى الشيطانية تظهر النساء أحياناً بشكل مخدر للرجال. والواعون من أصحاب الفكر فقط يدركون أن تلك القوى إنما تسلب من النساء ـ بواسطة هذه الأساليب ـ مقدرتهنّ في الخَلْق والإبداع. والموضوع الذي يشير إليه القرآن بقوله: (خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها) هو الذي يفهم أصحاب الفكر ما هو المقصود منه، المقصود منه علاقة الرجل والمرأة في إطار الخَلق والإبداع. ويفهم من هنا أن المرأة ـ في رأي القرآن ـ كائن قادر على الإبداع وبناء الحياة.
وصف الله الجنة بأنها موضع للسكينة التي تنال بعد العمل. وهذا المعنى ينسجم إلى حد بعيد مع قول الرسول (ص): ((الجنة تحت أقدام الأمهات)) إذ أن الجنة والمرأة كليهما تُشعران الإنسان بالسكينة، لأن عملهما يصبّ في إطار رضا الله.
يجب أن يكون للرجل موئل يمنحه السكينة، وتلك هي امرأته. وإذا لم يشعر الرجل، ولم تشعر المرأة بالسكينة في المنزل، فإن ذلك المنزل يتحول من جنة إلى جحيم عليهما. ونلاحظ أن القرآن يتحدث ـ بعد ذكر السكينة ـ عن موضوع المودة والرحمة، لأن السكينة تستجلب من ورائها المودة ومن بعدها الرحمة. وهذا على غرار إشارة القرآن الكريم إلى أن منازل الجنة ذات مدارج متفاوتة.
إذا لم يحصل الرجل على السكينة لدى المرأة ـ التي تتصف عادة بالإبداع والخَلْق والمقدرة على تسكين الرجل ـ قد يلجأ إلى المخدرات أو إلى النساء اللائي يتصفن بالمقدرة على تخدير النساء بالرجال والرجال بالنساء.
يشير القرآن الكريم إلى أن الذكر والأنثى خُلقا من جنس واحد لكي تتكوّن بينهما مودة ورحمة. ولم يحصر المودة بالرجل ولا الرحمة بالمرأة، وإنما جعلها مقاسمة بينهما ((بينكم)). فالمودة هي الحبّ الذي يحمله أحدهما تجاه الآخر، ويكون على درجة من الفاعلية بحيث يبقى تأثيره موجوداً أثناء غيابهما وحضورهما، ويكون مبعث سرور لهما عندما يلتقيان، ولا يحمل أحدهما في قلبه للآخر إلا الخير. ويستشف من الأحاديث الشريفة أن هذه المحبة موجودة في القلب وجارية على اللسان، والجانب الكامن منها أقوى وأكثر من الظاهر. وفي مقابل هذه المودة هناك: الشجار والصراع والعداء والبغي والتمرد.
أما كلمة الرحمة التي تعني ـ من قبل الخالق ـ : الفضل والإحسان والكرم، وتعني ـ من قبل الإنسان ـ : الرأفة والعطف، فقد وردت إلى جانب كلمات أخرى في القرآن الكريم مثل (صلوات ورحمة، مغفرة ورحمة، هدى ورحمة، وإماماً ورحمة، ورحمة ورضوان، ورحمة الله وبركاته، شفاء ورحمة، ورأفة ورحمة). وتختلف الرحمة عن المودة في أن الرحمة عندما تحلّ تدفع كلّ الضرّاء والسوء والعذاب والنقمة.
وفي ضوء ما مرَّ ذكره فإن الزواج يعني الربط بين جسمين منفصلين كلياً من أجل أن يحصلا على اللذة والراحة ويشعرا بالاستقرار والسكينة، وهذه السكينة لا تتعدى طبعاً ذلك النوع الحيواني المؤذي. أما إذا كانت هذه العلاقة الجنسية مقرونة بالحب، ينتفي تلقائياً مفهوم الإثم المرتبط في عرفنا بالعلاقات الجنسية. وتصبح المرأة ذات معنى آخر بالنسبة للرجل، ويزداد الكمال الجنسي مع تزايد الجماع، ويتحقق عندئذٍ كلّ ما يطمح الإنسان إلى تحقيقه من خلال الزواج، وهو: المودة والرحمة. وهناك معنىً خفياً يكمن في تقديم القرآن لكلمة المودة على كلمة الرحمة، وذلك لأن المودة بمثابة الوضوء والطهارة والاستعداد، والرحمة بمثابة الصلاة والعروج. وما لم يكن قلبا الرجل والمرأة مليئان بالحب والمودة لبعضهما الآخر سواء في الغياب أو في الحضور، من المستحيل أن يرتبطا بأواصر المنفعة العملية الاجتماعية والأخلاقية، أو ينجحا في تحقيق السعادة المنشودة. ومن هنا فقد اعتبرت الآية الكريمة المذكورة آنفاً الرجل والمرأة متساويين في حصيلة السكينة والمودة والرحمة التي يجنيانها في ظلّ الزواج.
المودة أرض خصبة لإنبات بذور الرحمة، فإذا انعدمت المودة فليس من رحمة. والرحمة تأتي كحصيلة للمودة. والمودة ـ التي هي بمثابة الغرس ـ يجب أن يكون موسمها معلوماً كما هو الحال بالنسبة للفلاّح الذي يعلم متى وأين يبذر البذور، ومتى يسقي كي يحصل على خير جنى.
فإذا عرفت أن المودة تعني المحبة التي تضطرم في القلوب وتكون متبادلة بين الجانبين، أي أن الجانبين يحب أحدهما الآخر، وقد جبل عليها كلاهما بشكل متساوٍ، وهي دائمة لا انقضاء لها، تنبه أيضاً إلى المودة التي وصفها الرسول بأنها الوشيجة بين أهل بيته وبني أمته، وذكر في آية المودة في القربى أنهما يحب أحدهما الآخر.
إذا كان هدف الزواج هو قضاء الشهوة الحيوانية، وإيجاد السكينة بمعناها الحيواني، فهو مجرد علاقة بين أجساد ميتة. بيد أن مراحل المودة والرحمة تأتي كنتيجة لتواصل المبارك بين القلوب، وهي على درجات ومراتب تبدأ من المودة بين الزوج والزوجة حتى تصل إلى المودة بين الرب وعبده الذي يكون قلبه خالياً إلا من حبّ الله. المودة ـ كما سبقت الإشارة ـ تكون ذات جانبين، وهنا تكون بين العبد وربه، والرمة تكون مقرونة بالهداية والرضوان وما شابه ذلك. وهذه الرحمة لها مراتب ودرجات أيضاً تبتدئ من الرحمة بالأسرة وتتدرج إلى مرحلة رحمة للعالمين، ويه مرحلة خاصة بالرسول الكريم. وقد تجلت هذه الرحمة في الغزوات والمعارك، حيث يروى أنه لم يَقتُل في جميع الغزوات والمعارك إلا شخصاً، أو شخصين على بعض الروايات.