دولة بقية الله^
في القرآن الكريم آيات عديدة تشير إلى العصر المضيء الذي ينتظر البشرية ومن ذلك قوله تعالى:
{وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}([1]).
والروايات في ذلك مستفيضة جداً حول أن دولة الحق هي آخر الدول وهي آخر المطاف في حركة الإنسانية.
وهذه النبوءة لا يقتصر ذكرها والتبشير بها على القرآن الكريم، إنما هي نبوءة ورد وبشرت بها كتب السماء ومنها زبور سيدنا داود× قال سبحانه وتعالى:
{وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ}([3]).
وفي هذه الآية الكريمة بشارة واضحة وإشارة صريحة إلى أن المستقبل المشرق هو نهاية المطاف في حركة التاريخ، حيث تكون السيادة الكاملة للإنسان الصالح، وحينئذ تزاح وإلى الأمد ظلمات الظلم وحروب العدوان وشرور الإنسان؛ ومفردة الميراث تعني انتهاء دور الأشرار ونهايتهم حيث يرث الأرض الصالحون من عباد الله.
ونجد هذه الآية يتكرر ذكرها في المزمور (37) من زبور داود× فهناك بشائر بما ينتظر الإنسان الصالح من مستقبل شرق:
>لا تبتئس من الشريرين([4]) .
إنهم كالأدغال تقطع بسرعة([5]) على الله توكل وابتهج (3،4) واطمئن إليه وانتظر ...<([6]).
ثم يستمر المزمور قائلاً: > (9) لأن الشريرين ينقطعون واما المتوكلين فهم من سيرثون الأرض (10).
مدّة وينعدم الشرير كلما تبحث عنه لا تجده (11) أما المتواضعون الذين يرثون الأرض فهم مبتهجون لكثرتهم وسلامتهم (12) الشرير على خلاف الصادق أفكاره مذمومة ويعض على نواجذه (13) الله يسخر منه؛ لأن يرى يومه قادماً (14) الشريرين شهروا سيوفهم وسددوا سهامهم ليصيبوا المظلوم والمسكين وسوف تتكسر أقواسهم (16) صديقون قليلون أفضل جداً من شريرين كثيرين وأن الله هو ركن الصديقين (18) الله يعلم أيام الصالحين وميراثهم سيكون أبدياً (19) لن يكونوا في زمان بلا خجل.
وفي أيام القحط سيشبعون (20) لكن الأشرار سيهلكون. وأعداء الله مثل شحوم الحملان فانون، بل هم مثل دخان مبدد (22)؛ لأن المتبركين بالله سيرثون الأرض، أما لعنائه فسينقطع دابرهم (29) الصديقون الوارثون للأرض أبداً يسكنون فيها (34) ألجأ إلى الله وألزم طريقه سيورثك الأرض العالية وسترى ذلك عند انقطع الأشرار (38) أما العاصون فمستأصلون وعاقبة الشريرين الانقطاع.
مناقب أهل البيت كما يرويها العارفون
كثيرون هم الذين كتبوا وألفوا في أهل البيت^ من فلاسفة وحكماء ومتكلمين ومحدثين ومؤرخين وفقهاء وأدباء، فلا تجد من هؤلاء وأولئك من تحدث أو كتب وألف عن عظماء التاريخ الإسلامي وشخصياته ألا هو يقف بإجلال أمام رموز أهل البيت^ وشخصياتهم الربانية.
غير أن العرفاء هم أكثر الناس حديثاً وأكثرهم وعياً لمنزلة أهل البيت^،وكيف لا وهم المؤهلون أكثر من غيرهم في الغوص في مكنونات علومهم وطوايا شخصياتهم وما تنطوي عليه وجوداتهم من أسرار وأسرار.
من أجل ذلك رأيت أن أفرد فصلاً مستقلاً في ما قالوا وكتبوا عن أهل البيت^. جدير ذكره أن معظم ما سيرد في هذا الفصل مختص بالعرفاء من أهل السنة لسببين:
الأول: أن منزلة أهل البيت وما قيل فيهم^ لا يقتصر على اتباعهم وشيعتهم، بل أن هناك من المذاهب الإسلامية الأخرى من شاركهم في ذلك، فهناك من علماء السنة وعرفائهم خاصّة من عشق أهل البيت وانبهر بمجدهم الأخلاقي والإنساني.
الثاني: أن مقالاتهم في أهل البيت تنطوي على حقائق جديرة بالتأمل وتؤكد أن ما ذكر عن أهل البيت من كرامات ومناقب ليس من نسج الخيال، وإنما هي حقائق ساطعة تؤكد فضلهم وإنها جزء لا ينفك من المسلمات التاريخية؛ هذه الحقائق التي ظلت تقاوم العواصف الهوجاء من سموم المحرّفين والوضاعين.
ولقد أراد كثيرون أن يعصفوا بهذه الحقائق ليكون مآلها مقبرة من مقابر التاريخ المندثرة والدراسة لكن حقيقة أهل البيت ظلت قوية تستعصي على كل المأجورين ووعاظ السلاطين.
وما سنذكره في هذا الفصل إنما هو غيض من فيض مما قاله أولئك العرفاء.
أبو الفضل الميبدي والخواجة عبدالله الأنصاري
يروي أبو بكر النقاش عن إمام المسلمين علي المرتضى أنه سئل من قبل جهودي (يهودي) قائلاً: أسألك عن آية في كتابكم أشكلت علي فمن أجابني على ذلك وفسرها لي أسلمت.
قال الإمام: وأية آية؟ قال: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}([7]) فإن كنتم على الصراط المستقيم فلم الشك ولم تطلبون من الله ذلك فإن كان عندكم الحق فعمّ تبحثون؟
قال الإمام أن قوماً من أنبياء الله وأوليائه سبقونا إلى الجنة وبلغوا السعادة الأبدية، ونحن نسأل من الله عز وجل أن يهدينا إلى ما هداهم إليه وأن يرزقنا الطاعة التي رزقها إياهم وبلغوا بها الجنّة؛ وأسلم الرجل([8]).
وروي أن علياء المرتضى دخل الدار فرأى فاطمة والحسن والحسين يبكون فسأل: ما يبكيكم يا قرة العين؟
قالت فاطمة: الجوع وقد مضى عليهما يوماً لم يأكلا شيئاً، وكان قدر على النار فقال علي: وما في القدر؟ قالت فاطمة: لا شيء سوى الماء أعللهما به.
فحزن علي وكان عليه رداء فخلعه وانطلق به إلى السوق فباعه بستة دراهم واشترى بها طعاماً، فإذا بسائل ينادي: >من يقرض الله
يجده مليّاً وفيّاً< فما كان من علي إلا أن يعطيه الطعام كلّه وأخبر
فاطمة بما فعل. فقالت فاطمة: وفقك الله يا أبا الحسن ولم تزل في خير.
وذهب علي إلى مسجد رسول الله يصلّي فرأى أعرابياً ينادي على ناقة وقال لعلي: يا أبا الحسن ابتع مني هذه الناقة فقال علي: لا أملك ثمنها فقال الإعرابي: بعتك إياها إلى أن تصيب غنيمة أو يخرج عطاؤك من بيت المال، فاشترى علي الناقة بستين درهماً وساقها، فجاء إعرابي آخر وقال: أتبيعني الناقة؟ قال، نعم، بكم؟ قال: بمئة وعشرين درهماً قال: بعتك إياها، فباعها وعاد إلى البيت وأخبر فاطمة ثم ذهب في طلب الأعرابي.
فرآه المصطفى وسأله: يا علي إلى أين؟ فأخبره علي بكل ما جرى، فسرّ رسول الله بذلك وهنأه وقال: يا علي: إن ذلك الأعرابي الذي باعك الناقة هو جبرائيل، وإن الذي اشتراها منك ميكائيل، وتلك الناقة من نوق الجنّة، وذلك القرض الذي أقرضته الله وقد قال عزّ وجلّ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}([9])([10]).
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً}([11]).
وقد نزلت فيه حق علي كانت عنده أربعة دراهم، ولم يكن لعياله شيء غيرها فتصدّق بدرهم في الليل وتصدّق بالآخر في النهار وتصدق بالثالث سرّاً وتصدّق بالرابع علانية فامتدحه الله عزّ وجلّ وأنزل فيه قوله تعالى([12]).
أصحاب المباهلة خمسة؛ المصطفى والزهراء والمرتضى والحسن والحسين لما خرجوا إلى البريّة فنشر النبي رداءه عليهم وقال:
>اللهم هؤلاء أهل بيتي<.
فهبط الأمين جبرائيل فقال: يا محمد وأنا من أهلك<
فال رسول الله’: > يا جبرائيل وأنت منّا<.
وعاد جبرائيل إلى السماء يباهي ويفتخر قائلاً: من مثلي؟
وأنا في السماء طاووس الملائكة وفي الأرض من أهل بيت محمد’<([13]).
علي المرتضى ابن عم المصطفى زوج سيدة القيامة فاطمة الزهراء، الذي هو حارس الخلافة معزّ الأولياء، صنو العصمة والنبوّة، معدن العلم والحكمة، ومن كان الإخلاص والصدق واليقين، والتوكل والتقوى والورع شعاره ودثاره، وهو حيدر الكرار، صاحب ذي الفقار، سيد المهاجرين والأنصار.
ومن قال له المصطفى في يوم خيبر:
«لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله<.
فتشوق كل الصحابة إلى رؤية من يتسلم راية الإسلام وراية النصر >لا إله إلا الله< ترى من سيكون ذلك الصدّيق؟
فلما طلع الصبح قال النبي’: أين علي؟ قيل: يا رسول الله هو يشتكي عينيه.
فأرسل وراءه فلما جاء وضع لسانه المبارك في عينيه فشفيتا واستزاد نوراً في بصره وسلمه النبي’ راية النصر والفتح([14]).
ويروى أن الحسين بن علي رأى إنساناً فقال له: ابن من تكون فقال: أنا فلان بن فلان فقال الحسين يا حيّاك الله أنا من مدّة أطلبك فقد رأيت في كتاب أبي أن لأبيك دراهم على أبي فأنا أقضي ذمته الآن بدفعها إليك فأعطاه دراهم بهذه الذريعة([15]).
وفي قصّة زواج فاطمة الزهراء÷ أن المصطفى جاء إلى المسجد يوماً وفي يده غصن ريحان فقال لسلمان: يا سلمان انطلق فادع لي علياً، فانطلق سلمان إلى علي وقال له: أجب رسول الله فقال علي: يا سلمان كيف رأيت رسول الله قال: يا علي: تركته مسروراً غاية السرور منطلق الأسارير كالبدر التمام والشمعة المضيئة، فجاء علي إلى المصطفى فلما رآه أعطاه غصن الريحان وكان زكي الرائحة، قال: يا رسول الله ما هذه الرائحة الزكية؟ قال: يا علي أنه مما نثرته الحوريات في الجنة في زواج ابنتي فاطمة، قال: مع من يا رسول الله؟ قال: معك يا علي، فأني كنت جالساً في المسجد فجاء ملاك لم أر في مثل أوصافه فقال أسمي محمود ومقامي في السماء الدنيا، فكنت في المقام المعلوم لي وقد مضى ثلثا الليل لما سمعت نداءً من أطياف السماوات: يا ملائكة الله المقربين ويا أيها الروحانيون والكروبيون اجتمعوا في السماء الرابعة فلما اجتمعوا ومعهم سكان المقعد الصدق، وأهل الفراديس العلى في جنات عدن، جاء النداء يا مقربي الحضرة والملك أقرأوا: سورة {هَلْ أَتى عَلَى الإِْنْسانِ}.
وحينئذ جاء الأمر إلى شجرة طوبى أن أنثري الجنان على زواج فاطمة الزهراء من علي المرتضى.
فاهتزت طوبى ونثرت في الجنان الجواهر واللؤلؤ والحلل، ثم جاء الأمر أن يصنعوا منبراً من اللؤلؤ تحت شجرة طوبى.
فارتقى أحد الملائكة المنبر ومجّد الله وسبّحه وصلّى على الأنبياء، وحينئذ جاء النداء من الجبار الله ذي الجلال القادر على الكمال: يا جبرئيل ويا ميكائل أنتما الشاهدان على معرفة فاطمة وأنا الله ولي فاطمة ويا كروبيين ويا روحاني السماء أشهدوا على أني زوجت فاطمة الزهراء من علي المرتضى.
فبشر حبيبي وأخبروه بهذا العقد في السماء فأتمم هذا العقد في الأرض.
فدعا المصطفى المهاجرين والأنصار وقال لعلي: هكذا كان الحكم في السماء وأني زوجتك فاطمة على أربعمئة درهم أفتقبل؟ قال علي: يا رسول الله قبلت، قال رسول الله: بارك الله فيكما([16]).
وقال ابن عباس: دعاني علي في ليلة من الليالي وكانت ليلة مقمرة فقال لي: ما تفسير الألف من الحمد؟
قلت: أنك لأعلم مني.
فحدثني عن ذلك ساعة من الليل ثم حدثني عن تفسير اللام ساعة أخرى ومثل ذلك عن تفسير الحاء والدال، فما فرغ من حديثه حتى انفلقت عمود الفجر الصادق من المشرق فقال علي:لو شئت لأوقرت سبعين بصراً يقول ابن عباس: أن علمي في علم علي كالغدير الصغير في البحر([17]).