وقد رويت أخبار أكثر من ذلك وبطرق مختلفة تؤكد أن الموعود مشخصا لا مجرد فكرة في الرؤوس كما رأينا في الأدب اليوتوبي ورأينا لها نظائر عند من اختزل القضية والشخص في مشروع فكرة.
وأما من حيث المكان، فالأخبار تكاثرت في تعيينه ليس فقط في الاقليم أو البلدة فقط بل حددت حتى موطء قدمه الأول حين الخروج ومكان صلاته وظهوره. ففي«الأربعون حديثاً لأبي نعيم» الحديث السابع قال:
روى باسناده عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يخرج المهديّ في قرية يقال لها كريمة. وثمة روايات تتحدث عن خروجه بين الركن والمقام مما لا يخفى على مطلع على أحوال عصر الظهور.
تتجلى ضمانة الوحي في مجمل النبوءات التي زخرت بها التعاليم وحثت على الاعتقاد بها بوصفها وعد الله الذي لا يخلف الميعاد. وما تعبيرنا بالنبوءة في المقام إلا جريا على المتداول. وإلا فهي حقائق المستقبل التي ذكرتها المصادر الدينية الكبرى. إضافة إلى أنها عينت لها تاريخا مجملا متصلا بأشراط محتومة كما عينت لها جغرافيا مشهودة.
تظل دولة الطوبا مستحيلة التحقق بلا ضمانات. حيث لم يعد بها من تنزل وعده منزلة المحتوم. ولا تعينت جغرافيتها التي ستشهد نشأتها الأولى إلا في خيال الحالمين. إنها محض تعبير عن أحلام. لكنها أحلام تؤكد بأن ثمة حتمية لا مفر منها. أن تبلغ الأمم رشدها الحقيقي و تتكامل فكرة العدالة لتستصدر نموذجها الكامل بقيادة الإنسان الكامل.
ثم إنها بما هي تعبير عن تصميمات أيديولوجية وثقافية خاصة بالحالم وبيئته الثقافية لا يمكن أن تكون بالضرورة كونية وفيها إسعاد كل البشر. بينما ليس في دولة الموعود ما يتعذر تحقيقه. وليس لها من خصوصيات إلا قصة الدين كما يطرحها تحدي الإلحاد. وهذا سينحل بمجرد أن يدرك العالم أن الدين ضرورة وواقع أكثر الحقائق برهانية وقوة في زمن الموعود.فالدين كان ولا يزال وسيظل الظاهرة الأبرز في تاريخ النوع. فإذا تحقق ذلك لم يعد في مظاهر دولته العادلة ما يجعل الحليم حيران. بل يصبح الإلحاد شذوذا وتفاهة وانحطاطا. فلن تزعج دولته يهوديا أدرك تعاليم موسى ولا مسيحيا أدرك تعاليم عيسى، حيث كان من المفترض أن يشهد الأنبياء على صدق دولة الموعود ، ليؤكدوا لاتباعهم أنها هي نفسها دولة الوعد الموسوي والعيسوي. لكن عودة المسيح نفسها هي الدليل الكافي لذلك ، حيث وجود المسيح الذي شكل عقدة مفصلية في الانتقال النبوي من الموسوية إلى العيسوية ، سيثبت ذلك بضمانة قوة الموعود نفسه ويجعل الأبدال والأتباع من مختلف الأقوام . حيث من بني إسرائيل من سيدخل دولة الموعود وينصرونها؛ اعني الأمتين اليهودية والمسيحية. دولة الموعود تؤكد أن الأشرار الذين سيواجهون دولة الموعود هم أشرار الخلق ممن كان يتأسلم أو يتهود أو يتمسح ، مما يعني أنها دولة الإنسان التي ستعيد وضع خريطة الطريق لتوزيع أمثل لقيمة الإيمان، فهي دولة الابتلاء الكبير. فخصومها قد يكونوا يهودا أو مسيحيين أو حتى مسلمين وغير دينيين، كما ان أتباعها سيكونون مسلمين ويهود ومسيحيين، إنها ليست قضية مسلمين فقط بل هي قضية العالم أجمع!
ففي رواية عن الإمام الباقر (ع):" فإذا اجتمع عنده عشرة آلاف رجل ، فلا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد ممن يعبد غير الله تعالى إلا آمن به وصدقه"[6].
أما من جهة الحروب ومظاهر العنف المقدس الذي تحدثنا عنه الأخبار، فهو لا شك عارض ستقوم به البشرية نفسها مع ظهور النموذج وتحققه على الأرض بقيادة الإمام المهدي ـ عج ـ. بمعنى أن الحرب سوف تكون موقف الشعوب والأمم من عدوها الذي يبغي لها الاستمرار تحت وطأة الجور، وليس ذلك خيارا للإمام إلا من حيث هو الحل الأخير الذي ستفرضه أقلية قليلة من البشر، تريد أن يتأبد الشر في العالم حيث كتب الله أن للعدل المطلق دولة موعودة هي حجته على أن عالم الخلق قادر أن يظفر بتلك العدالة التي جاء من أجلها الرسل ودعا إليها صلاح الأمم دون أن تتحقق. إن عنوان الحرب أو السيف الذي وصفت به دولة الموعود ، هو من باب التغليب لأمر اختص به الموعود دون سائر خواص الخلق من الأنبياء والأولياء[7]؛ أعني تنفيذه للحكم الواقعي في مقام القضاء[8]. فالعدالة المطلقة تقتضي أن لا يأخذ بالظاهر فيما هو يعلم الواقع. وأن لا يحكم بالبينات والأيمان فيما هو يدرك من أمر الجاني في حاق الواقع ما خفي عن الأنام. إن سائر الأنبياء والأوصياء كانوا على علم بما يفعل الخلق، ولكنهم لم يكونوا مأمورين بتنفيذ الأحكام على وفق ما يعلمون . وبذلك فقط تتحقق العدالة المطلقة ليس لأن الموعود سيحكم في مقام التقاضي بالعلم فقط ، بل إن سيفه سيلحق كل من أتى جريمة حتى يدخل في قلوب الجناة الرعب ، فلا يجرأ أحد على الإقدام على أية جريمة. إنه الردع والقانون يتنزل في موارده دونما شطط ولا إخطاء الجاني.
عن الإمام الصادق (ع):" إذا قام قائم آل محمد (ع) حكم بين الناس بحكم داود ، لا يحتاج إلى بينة ، يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه ويخبر كل قوم بما استنبطوه"[9].
ليس سيف الإمام المهدي سيفا جبارا إلا من حيث هو تعبير عن جلال البارئ تعالي ، ولكن لا ننسى قيمة الجمال لدولة الموعود التي بها ستصبح الأرض مسرحا لكبرى قيم العدالة والحق والخير، فتعتدل بها السياسة والمعاش ، ويشذ فيها الباطل والجور والشطط. إن سيف المهدي قوة لا شطط فيها. سيف العدالة لا يحرفه عن مهمته نزوة عصم منها . فهو مأمور تجري حركته بعين الله، لأنه وعد الله ووليه الذي احتفظ به لهذه المهمة العظيمة وسدد خطوه ، حتى كان له وليا وناصرا ودليلا وعينا.
يومها ستدرك الأمم قاطبة أي سيف هذا الذي يمتشقه أسد الله الموعود. ذلك لأنها ستشهد لأول مرة بعد تاريخ مرير من الجور أنه سيف في خدمة الحق و العدالة. لن يتطلع أحد إلى نموذج آخر بعد ذلك ، لأن النموذج الأخير سيعلم الأمم أن فرصتهم الأخيرة هي ها هنا في ظل حكومة الموعود.
وكما جاء عن الإمام الباقر(ع):" دولتنا آخر الدول ولم يبق أهل بيت إلا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء. وهو قول الله عز وجل: والعاقبة للمتقين"[10].
المهدوية وحتمية الطريق الثالث
يوقفنا تاريخ الفكر السياسي على ضربين من المخارج الرئيسية للاستبداد ونظام السلطان العاري. ولم يشهد تاريخ الفكر السياسي من مخرج حقيقي سوى منظورين سرعان ما استتب الأمر لأحدهما بعد أن أصبح الأول هو نفسه موضوعا للاستهجان والامتعاض. ونقصد بذلك مفهوم المستبد العادل ومفهوم الديمقراطية. وحتى وإن كانت معظم النظم السياسية المعاصرة لا زالت تدين لفكرة الاستبداد ، فإن الديمقراطيات هي نفسها باتت تستنجد بسلطة المستبد حتى يرعاها ، مما جعلها غاية في ذاتها وليست وسيلة لتحقيق العدل وتأمين الحقوق . إن فكرة المستبد العادل ما هي إلا مخرج من كل أشكال الطغيان العاري الذي عرفته البشرية ووسم تاريخها بالعنف والعبودية والانحطاط. ومشكلة المستبد العادل في حكومة الموعود لا موضوع لها ، لأن حكومته جاءت لتتجاوز معضلة أقصى ما بلغته البشرية في نظمها السياسية، أعني الديمقراطيات. فهي متجاوزة لنموذج المستبد العادل برتبتين، ما دامت هي متجاوزة لما كان متجاوزا لها ، أي النظام الديمقراطي. ولعل الشبهة في المقام ، أن حكومة الموعود يحكمها شخص واحد. وهذه الشبهة تخطئ مناط قيام النماذج والنظم السياسية وفلسفتها. لأن الديمقراطية نفسها لم تكن هدفا في ذاتها إلا بالقدر الذي تمكننا من بلوغ أفضل اختيار حر للحاكم. ليست الديمقراطية في نهاية المطاف وبكل المخارج التي لحقتها من أجل التقليص من صلاحيات الحاكم الفرد ، مثل الانتخاب الدوري والفصل بين السلطات ، إلا بحثا عن حكم العادل. وليس الانتخاب الحر نفسه هدفا في ذاته ، بل من حيث هو طريق لاختيار الأفضل. فإذا كان الطريق إلى معرفة الأفضل غير هذا النموذج ، فإنه المطلوب ، لأنه الغاية. بل اختيار الأعدل هو قيمة القيم. إن مفهوم العدالة يتناقض مع الاستبداد بمعناه السياسي. فالعدالة في ظل هذا النموذج هي مصلحة المستبد بما هو أقوى وليست العدالة المطلقة التي تتحرك في الاجتماع السياسي الموعود على أساس العدالة والعلم والمهمة الرسالية. بل ليست أحكامها جزافية ولا أحكاما مزاجية بل هي تنفيذا أمثل لقانون أمثل. وقد جاءت الديمقراطية لتعيد الاعتبار إلى حق الشعب في اختيار نموذجه وحكم نفسه بنفسه عبر آليات وهيئات تمثيلية تمارس الحكم والرقابة حتى تحاصر تشكل الاستبداد بالسلطة ولا حتى الاستبداد بسلطة من السلط المفصول بينها. لكن الجدل الذي شهدته ولا تزال المجتمعات حول نواقص الديمقراطية وفشلها بالارتقاء بالإنسان وحماية قيمه ، بل كونها أصبحت وسيلة لتدمير القيم الجماعية بفعل تغول سلطة الفرد وفوضى الحريات وانهيار مفهوم الأسرة وما شابه، هو نفسه أصبح طريقا لا يقل ضراوة عن سابقيه، طريقا لأشكال جديدة من الطغيان والتدمير الممنهج لقيم الإنسان. إن الديمقراطيات اليوم في البلدان المتقدمة لا تخلوا من هذا النوع من الاستبداد الناعم الذي يجعل السلطة لا تفلت من أيدي بارونات المال والمتنفذين وأعوانهم. يلعب المال والمصالح الشخصية والفئوية دورا حاسما في اللعبة الديمقراطية. فالأمر كما يبدو تحول من نظم تفرض نفسها بالباطل والاستبداد القائم على القوة إلى نظم تسمح باللعبة السياسية، على شرط أن تكون لعبة بين أقوياء مسلحين بالمال والنفوذ وبين أشخاص منزوعي السلاح والقوة . لعبة يدرك الجميع أن مآلها الوحيد هو استبداد مقنع بالسلطة. إن دولة الموعود لا هي استبداد شخصي لأن مفهوم التشخصن أبعد من أن يكون سمة للإنسان الكامل المنزه عن الأنا . وكذلك هي أبعد من أن تجعل مصائر الخلق متوقفة على لعبة الديمقراطيات التي أوجدت أشكالا أخرى من الجور البنيوي، لا طريق للخلاص منه إلا مع قيام دولة الموعود. إن هذه الأخيرة هي إعلان صريح عن نهاية عصر المستبد العادل وعصر الديمقراطية ، لأن عنوانيهما سينتفيان لا محالة بعد تحقق النموذج الأكبر؛ حكومة الإنسان الكامل. أعني حكومة تلتقي عندها مقاصد الخالق والمخلوق. يكون الاستبداد فيها ليس ذاتيا بل موضوعيا كما هي جملة الحتميات الطبيعية الأخرى. وإن الموعود سيحكم الناس في طريق العدل بقوة الحتميات الطبيعية . فإذا تحقق خروج الانسان الكامل وظهر، انتفى موضوع المستبد العادل كما لم يعد للديمقراطية موضوعا. فاختيار الأصلح مع وجود الإنسان الكامل ، لن تكون حينئذ إلا وقاحة من الأشرار الذين سيكابرون رغم الصيحة ـ الإعلامية ـ التي ستجعل الموعود معروفا لدى العالم، لا يجهل استحقاقه أحد[11]. ولا شك أن الانتخاب الطبيعي في المقام هو العمدة التي ينتفي معها موضوع الاختيار الحر. ليست الديمقراطية هي النظام الأمثل والأخير بل هي أفضل من سواها مما في يد البشر. لكنها كانت دائما تأكيدا على تلك الحقيقة التي يتعين أن لا يمارس النسيان في حقها؛ هي كونها تقر بأن لا ضامن للعدالة في غياب نظام النبوة والانسان الكامل. وبأن دولة الموعود هي وحدها النظام الذي يحمل خصائص دولة النبوة والانسان الكامل المفقود.
هل هي دولة أم قومة
يتطلب الأمر عودا إلى المعجم السياسي للوقوف على مفهوم الدولة بمدلوله المعاصر. وحتما إننا ندرك أن الدولة لم تبرح حياة الاجتماع الإنساني منذ عرف الأشكال الأولى للتنظيم والإدارة العقلانية لجماعة بشرية ما. لكن هذا لا يمنع من القول أن مفهوم الدولة الحديثة برسم التعريف الويبري الشهير لا يغدو أن يكون إلا كما ذكرنا؛ التدبير العقلاني ، حيث لا يسعنا تمييزه عن أي دولة في تاريخ النوع سوى بهذا الشمول والعمق والنضج العقلاني كما شهده تاريخنا الحديث. لذا كان الأمر سيكون صعبا لا بل متعذرا أن تقوم دولة الموعود في شروط تاريخية غير الشروط التي ينعم بها تاريخنا الحديث والمعاصر. إن الدولة بمعناها اللغوي تحيل أيضا إلى الجولة. ودولة الموعود هي خاتمة الجولات ، وبالتالي خاتمة الدول. وهي منتهى التدبير العقلاني الذي لا يدع مجالا للاحتمالات الكبرى، لأن نضج البشرية بهذا النموذج سوف يتعدى كل أشكال النضج التي وسم بها تاريخنا الحديث منذ قررها كانط مجيبا عن سؤال "ما معنى التنوير".
إننا ندرك أن معضلة الاجتماع السياسي والذي فجر إشكاليات الفكر السياسي والاقتصادي ، هو الندرة. فلو أننا سلطنا الضوء على كبرى نظريات الاقتصاد السياسي والعلوم السياسية والفكر السياسي ، سنقف على تلك الحقيقة التي لا زالت تؤرق العقول: لدينا دائما في أي اجتماع سياسي أو جغرافيا سياسية عددا محدودا من المناصب والموارد والامتيازات. وحيث أصبح من الصعوبة بمكان تأمين الحقوق برسم الرفاهية لكل الشعب، إلا على أساس التوزيع الظالم للثروة وبالتالي النفوذ، فإننا سنجدنا دائما أمام ذلك المبدأ الأساسي والطبيعي الذي توارى بمخاتلة وراء مفهوم العقد الاجتماعي والديمقراطية ؛ أعني مبدأ القوة الذي هو العامل الوحيد الذي لا نزال نفسر به كل أشكال الاجتماع السياسي بما في ذلك الشكل الذي ينتمي إلى دولة الرفاهية. وجود القوة الفئوية ووجود الندرة عاملان أساسيان في هذا الانسداد السياسي الأعظم.
تزعم دولة الموعود بأنها ستنطلق من هذين العاملين في تحقيق نموذجها. إنها من جهة تتحدث عن القوة، ولكن وحيث يتعذر غياب القوة فإن دولة الموعود تتحدث عن تمركز عادل للقوة. إن قوة المهدي لا تستمد فقط من القدرة على التغلب بوسائط بالغة الإعجاز. بل هي ارتقاء في الأسباب والسنن. لعل أهم مصدر لقوة المهدي هي قناعة الشعوب بقيمة النموذج الأمثل الذي سيجعلهم بعد يأس جماعي مرير يقفون على معنى جديد ومطلق للعدالة الاجتماعية. إن الإلحاد لا يملك كل هذه الخاصية من اليقين والقوة حتى يصمد أمام الحجة الكبرى للموعود أو يملك حتى من المصالح حينئذ ما يغري به دنيا البشر. فالمهدي سينمي دنيا البشر حتى يصل إلى كل ذي حق حقه، فلا مجال للابتزاز والمساومة باسم الدين. بل لا مجال أن يتعرى الإنسان من قيمه النبيلة ليكسب رهان المصلحة المشروعة. فدولة المهدي ستجعل المعاش متماهيا مع القيم. بل ستجعل غداء الإنسان قيما كبرى بعد أن يتشبع بحقوقه المادية ويدرك أنها لا تفرض عليه كل هذا الحرص والخوف من فوات الفرص. إن واحدة من مصاديق القوة المهدوية ، امتلاكه الحجة الكبرى. فلا يظل صاحب دين في غمرة الشبه. فالناس هم أنفسهم سيثورون في وجه من عارض المهدي.
فعن أمير المؤمنين:" إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشا فخسف به بالبيداء، وبلغ ذلك أهل الشام قالوا لخليفتهم: قد خرج المهدي فبايعه وأدخل في طاعته وإلا قتلناك، فيرسل إليه بالبيعة. ويسير المهدي حتى ينزل بيت المقدس وتنقل إليه الخزائن وتدخل العرب والعجم وأهل الحرب والروم وغيرهم في طاعته من غير قتال حتى تبنى المساجد بالقسطنطينية وما دونها"[12].
ولا ندري كيف سيتخلف عن دولته اليهود والنصارى وقد استخرج التوراة والإنجيل وأوضح أنه موعود العالم جميعا. بل كيف يظل الغرب المسيحي بعيدا عن هذه الدولة وقد تزامن ذلك مع نزول المسيح(ع). حيث لنزوله مغزى عميق. فهو أكبر شاهد على شرعية الموعود، لما يصلي وراءه ويبايعه.
عن عبد الله بن عباس، قال رسول الله ـ ص ـ :" والذي بعثني بالحق بشيرا لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي فينزل عيسى ابن مريم فيصلي خلفه"[13].
كل الأحداث والوقائع التي ستجري تباعا وتزامنا مع ظهور المهدي ، تجعل قناعة الناس بدولته أكبر، وتفقد قوى الباطل شعبيتها المزيفة. لأن الناس ترفض بطبيعتها أهل الباطل، وهي لا تنقاد إليهم إلا إذا أجبروها على ذلك الشكل من الاستعباد بقوة البطش والابتزاز. فإذا تحولت سلطة السيف إلى المهدي ولم يعد في أيديهم ما يصلح للابتزاز ، تحول الناس طوعا إلى حكومة العادل وتركوا الباطل بلا رجعة. فتكون الأغلبية خيرة، لأن الأغلبية بإنسانيتها خيرة، وكذلك الأغلبية برسم التهميش والفقر والاستضعاف ستدرك قيمة العدالة الموعودة. وتدرك أيضا أن دولة المهدي سوف تحتكر العنف العالمي على أساس مشروع العدالة الإنسانية. هذا بالإضافة إلى عدالة الإمام التي تضمنها عصمته بوصفها أعلى مدارك العدالة. فلا عدالة فوق عدالة المعصوم. بل إن قومة المهدي لن تكون إلا بعد أن يصبح الناس مؤهلين لاستيعاب أزمتهم وانحطاطهم فتتجه أفئدتهم لنموذج آخر جديد وحاسم. وهذا يتحقق على خلفية تفاقم خيبات الأمل وانسدادات الفكر السياسي وبداية التطلع إلى طريق ثالث حتمي لكنه مستحيل في ما بين يد البشر من مقدمات مضادة. فحينما تملأ حكومة المهدي ثغرات النظم السياسية سيدرك العالم أنه الأعدل لا محالة. بل سيدركون متأسفين أنهم كانوا ظالمين لأنفسهم أو كانوا مخدوعين عبر تاريخ من الجهل والطغيان والانحطاط السياسي. إن حكومة المهدي قد تستوعب كل إيجابيات نموذج المستبد العادل وكل إيجابيات الديمقراطية ، لكنها ستتجاوز كل ثغراتهما. ومن هنا كان لا بد للناس أن يجربوا إيجابيات المستبد العادل والديمقراطيات وأيضا يقفوا على ثغراتهما ليدركوا قيمة حكومة المهدي. فقوة دولة الموعود هي قوة نموذجه. ورعب المهدي هو ضد حراس ثغرات نموذج المستبد العادل وثغرات الديمقراطية التي هي سبب بؤس الإنسان وعامل تدمير للعدالة الإنسانية. ليس فقط أن دولة المهدي هي تجاوز للنظم السياسية الوضعية، بل هي تجاوز للتطبيقات الفاسدة للنظم الدينية وثورة على التحريفية. فهي نموذج مستقبلي وليست نموذجا سلفويا.
ففي غيبة النعمان ذكر رواية التيملي، قال: حدثنى أخواي محمد وأحمد ابنا الحسن، عن أبيهما، عن ثعلبة بن ميمون، وعن جميع الكناسي جميعا عن أبي بصير، عن كامل، عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال: " إن قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمر جديد كما دعا إليه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإن الاسلام بدا غريبا وسيعود غريبا كما بدا، فطوبى للغرباء ".
وكذلك، أخبرنا عبدالواحد بن عبدالله بن يونس قال: حدثنا محمد بن جعفر القرشى، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، قال: حدثنا محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنه قال: " الاسلام بدا غريبا، وسيعود غ؟؟؟ ا كما بدا فطوبى للغرباء، فقلت: اشرح لي هذا أصلحك الله، فقال: [مما] يستأنف ا؟؟ اعي منا دعاء جديدا كما دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله) "[14].