المدخل إلى عقيدة الشيعه الإمامية في ولادة الإمام المهدي عليه السلام وغيبته
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)
بين أيدينا ثلاث قضايا، يتلو بعضها بعضاً:
القضية الأولى:
الانقلاب الكوني الشامل الذي يشير إليه القرآن في أكثر من موقع:
يقول تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)
ويقـــول تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُــها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).ويتم هذا الانقلاب عندما يتحكّم المستكبرون في حياة الناس ويستضعفون عباد الله ويسلبون الناس قيمهم وعقولهم وضمائرهم، وتصل البشرية إلى طريق مسدود، عندئذ تتدخل الإرادة الإلهية وتنقل القوة والسلطان من أيدي الظالمين المستكبرين إلى أيدي الصالحين المستضعفين.
وقد تكرر هذا الانقلاب الكوني في التاريخ، ومن ذلك ما حدث في تاريخ بني إسرائيل عندما استكبر فرعون وأفسد في الأرض.
يقول تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
وهذه هي الحتمية الأولى، وهي انقلاب القوة من المستكبرين إلى المستضعفين الصالحين، وهو انقلاب شامل في القيم والمواقع والقوة والسيادة، وهي سنن الله الحتمية.
القضية الثانية:
أن الذي يقود هذا الانقلاب الكوني الشامل هو المهدي من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد وردت في ذلك روايات صحيحة بلغت حدّ التواتر.
وهذه هي القضية الثانية التي يقرّرها الحديث النبوي، ويتّفق عليها المسلمون.
كما أن القضية الأولى ثابتة بحكم القرآن الشريف وليس في هذا شكّ ولا ذلك.
وقد بلغت أحاديث المهدي عليه السلام حدّاً لا يمكن التشكيك فيها، ولسنا نريد أن ندخل هذا البحث ولا البحث السابق عليه.
القضية الثالثة:
أن المهدي المنتظر عليه السلام الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي عليهم السلام ، ولد سنة 255 هـ. بسامراء، ثم حجبه الله تعالى عن أعين الناس، وهو الذي يرسله الله حين يشاء لإنقاذ الناس من الظلم، وإزالة الشرك من على وجه الأرض، وتقرير التوحيد وعبودية الإنسان لله، وتحكيم شريعة الله وحدوده في حياة الناس. وهو الذي يقود هذا الانقلاب الكوني الشامل الواسع، في انتقال القوة من الطبقة المترفة المستكبرة الفاسدة إلى الطبقة الصالحة المستضعفة (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ).
وقد تواترت الروايات عن أهل البيت عليهم السلام بأن المهدي المنتظر عليه السلام الذي بشّر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو محمد بن الحسن العسكري، وهو الثاني عشر من أهل البيت عليهم السلام .
وحديثنا اليوم يتركّز حول هذه النقطة بالذات.
ومخاطبنا في هذا الحديث هم الذين يؤمنون بحجّية حديث أهل البيت عليهم السلام ، ويبحثون عن أدلة كافية وواضحة وصريحة في الإثبات العلمي لعقيدة الإمامية في تشخيص المهدي المنتظر من آل محمد عليه السلام .
فإن الاختلاف بين الشيعة الإمامية وبين سائر الفرق الإسلامية ليس في أصل قضية(المهدوية)، فإنّ المسلمين مجمعون ـ إلاّ من شذّ منهم ـ في الإيمان بأن الله تعالى ادّخر المهدي عليه السلام من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإنقاذ البشرية وللانقلاب الكوني الكبير في حياة الناس... ليس في ذلك شكّ، والروايات النبوية في ذلك صحيحة ومتواترة، وإنّما الخلاف بين الشيعة الإمامية وغيرهم من المسلمين في التشخيص والتعيين فقط.
فإن الشيعة الإمامية يذهبون قولا واحداً إلى أن الإمام المهدي المنتظر عليه السلام هو محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي المولود سنة 255هـ. بسامراء، وقد غيّبه الله تعالى لحكمة يعرفها، وهو الذي ادّخره الله تعالى لنجاة البشرية، وبشّر به الأنبياء والكتب الإلهية من قبل، بينما يذهب الآخرون إلى أن المهدي الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يولد بعد، أو ولد ولا نعرف عن اسمه شيئاً.
والأدلة التي نستدلّ بها على إثبات عقيدة الإمامية في تشخيص وتعيين الإمام المهدي المنتظر عليه السلام على طائفتين، الطائفة الأولى: هي الروايات العامة التي لا تخصّ الإمام عليه السلام إلاّ أنها تنطبق بصورة قهرية على عقيدة الإمامية في المهدي عليه السلام ، ولا نعرف توجيهاً ولا تفسيراً لها إذا أسقطنا من حسابنا عقيدة الإمامية في هذا الموضوع، وهذه الروايات صحيحة بالتأكيد، وبعضها يبلغ حد التواتر في المصادر الإمامية من ناحية رجال السند في مختلف طبقاته، ولا مجال للمناقشة فيها من حيث الإسناد.
والإيمان بصحّة هذه الأحاديث يؤدي إلى الإثبات العلمي لعقيدة الإمامية في تشخيص وتعيين الإمام المنتظر عليه السلام ، وذلك بسبب تطابقها أولاً مع ما هو المعروف عند الإمامية ـ كما سوف نرى ذلك إن شاء الله ـ ولانتفاء حالة أخرى تصلح أن تكون مصداقاً وتفسيراً لهذه الأحاديث ثانياً.
ونتيجة هاتين النقطتين (المطابقة والانحصار) هي التطبيق القهري لهذه الأحاديث على عقيدة الإمامية في تشخيص الإمام المهدي عليه السلام . وإليك هذه الأحاديث:
1ـ حديث الثقلين:
وأوّل حديث نعتمده في هذا المجال حديث الثقلين، الذي صحّ واستفاضت وتواترت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأجمع على تصحيحه المحدّثون من كل الفرق الإسلامية، وليس من علماء المسلمين ممن يحترم من علمه يشكّ في صحّة هذا الحديث وصدوره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ويكفي أن يكون من رواة هذا الحديث مسلم في الصحيح، والترمـذي والدارمـــي فــي السنـن، وأحمد بن حنبل في مواضع عديدة وكثيرة من المسند، والنسائي في الخصائص، والحاكم في المستدرك، وأبو داود وابن ماجة في السنن، وغيرهم ممّا لا يمكن إحصاؤهم في هذا المقال... وطرقه في كتب الإمامية أكثر من أن تُحصى في هذه الوجيزة.
ولفظ الحديث، كما في أغلب هذه المصادر:
(أيّها الناس إنّما أنا بشر أوشك أن أُدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، وهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم).
والحديث صريح في:
1ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يترك من بعده خليفتين هما القرآن وأهل بيته لهداية الأمة.
2ـ وأنّهما باقيان لن يفترقا عن بعض إلى يوم القيامة.
3ـ وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر وقال أن التمسّك بهما يعصم الأُمة من الضلال، ومعنى التمسّك هو الاتّباع والطاعة. وهذا هو معنى (الحجّة) وليس للحجّة معنى غير الاتّباع والطاعة.
وإذا ضممنا النقطة الأولى (إنّي تارك فيكم الثقلين) إلى النقطة الثانية (وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض)، استنتجنا أصلا هاماً، وهو وجود حجّة وإمام من أهل البيت عليهم السلام في كلّ زمان لا يفترق عن كتاب الله قط.
يقول ابن حجر في (الصواعق): (وفي أحاديث الحثّ على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض، كما يأتي، ويشهد لذلك الخبر السابق: في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي).(1)
ولا شكّ في دلالة الحديث على بقاء حجّة من أهل البيت إماماً للناس...
وليس لهذا الحديث تفسير أو تطبيق غير ما يعتقده الإمامية من وجود الإمام المهدي عليه السلام وحياته وبقائه وعصمته وإمامته على المسلمين.
وإذا أسقطنا هذا الأمر عن الاعتبار، لم نجد تطبيقاً وتفسيراً له قط في هذه القرون من حياة المسلمين. فليس في المسلمين اليوم ـ ولا قبل اليوم ـ من يدّعي أنه أعلم الناس، وأن على الناس أن يتّبعوه ولا يتقدّموه، وأن يتعلّموا منه ولا يعلّموه، كما في نصّ الحديث الشريف الذي لا يختلف فيه من يُعبأ بقوله ورأيه من علماء المسلمين.