مظاهر قدرة الله في الطبيعة
إن عالم المادة والطبيعة كوحدة مصنوعة هي أحسن وأتمّ وأعمّ برهان لمعرفة الخالق ، وإن في هذه التحولات المادية ، ما يكشف عن الإرادة الحكمية لذلك الناموس الأزلي ، وما يثبت أن شعاع وجوده الخالد هو الذي يمدّ الموجودات بالحياة ، وأن جميع الكائنات إنما تتلقى وجودها وتقدمها وتطورها وتكاملها منه سبحانه .
بإمكاننا أن نسلك لمعرفة الخالق سبيلين أساسيين : أحدهما طريق الدلائل العقلية ، والآخر طريق البراهين الفلسفية ، بهذين السبيلين نستطيع من التوصل إلى تلك الحقيقة المطلقة ، وأن نكمل معرفتنا ونثبت عقيدتنا بها ، لكن طرق الاستدلال معقدة إلى حدّ ما ، وإنما تلذّ للعلماء فقط ، بينما المطالعة في أسرار كتاب الخلقة والموجودات المختلفة ، الكتاب الذي تشهد جميع صفحاته بضرورة مدخلية العقل العالي في خلقته ، مطالعة هذا الكتاب وإن كانت أيضاً برهانية للإيمان بالخالق الحكيم الذي ليس مجموع نظام الكائنات بكل عظمته وسعته إلاّ جزءاً ضئيلاً من مظاهر قدرته ، إلاّ أنها برهان ساذج وبسيط ليس فيه ثقل وتعقيد البراهين الفلسفية ، وهو من ناحية أخرى طريق مفتوح لعامة الناس ، فبإمكان جميع الناس من المفكرين والعلماء والعوام البسطاء أن يفيدوا منه .
بإمكان كل أحد أن يرى ـ حسب رؤيته واستعداده ـ في مظاهر الخلقة آثار التركيب والتوازن والتدبير ، وأن يجد في كل ذرة دليلاً قوياً ثاباً على وجود مبدأ للحياة .
فلو طالع العامل العادي في بدن حيوان لأدرك ـ من النظر إلى أعضاء وخصائص الهيكل العظمي المنظم له وجماله الظاهر ـ أن من المحال أن تتحقق هذه المحاسبات والتقادير والأنظمة الدقيقة بدون مدخلية قدرة كبيرة عالمة ، وأما العالم الفيزيولوجي فإنه يرى آثار العلم والقدرة اللانهائية لتلك الحقيقة المطلقة من طريق إمعان النظر في كيفية أعمال القلب والرئتين والكبد والمعدة ، ووصول الغذاء إلى خلايا جسم ذلك الحيوان .
ومع أن ما يدركه العالم الفيزيولوجي من النظام المعقد ، في بدن الحيوان ، لا يناسب القياس مع ما يتوصل إليه الشخص العادي من مطالعته السطحية الساذجة والبسيطة ، إذ أن الإنسان بعد تسخيره لقمم العلوم وافتتاحه لمغاليق أسرار الطبيعة قد تقدم في معرفة الأنظمة المحيرة خطوات كبرى ، إلاّ أن لكلا هذين نتيجة واحدة من مطالعتهما المختلفة في نوعيتها .
إن العلوم التجريبية لمطالعة الأسرار اللامنتهية لعالم الطبيعة بالإضافة إلى إمكان استفادة كل أحد منها لها ميزة أخرى هي : أن معرفة عجائب الخلقة والنظام الخاص السائد في الطبيعة ، تصل بالإنسان إلى معرفة خالق الطبيعة بالإضافة إلى شطر من صفاته الكمالية ، كالعلم والقدرة اللانهائية له سبحانه .
إن هذا النظام الدقيق الذي هو عبارة عن تقرير العلاقة المناسبة والمعقولة بين أمور مختلفة ، يحكي لنا عن حكمته الواسعة وهدفه في ذلك في الحياة ، في الحيوانات في النباتات ، في الأرضين ، في السماوات والكرات ، في الصخور والبحور والذرات ، علوم وقدرات وبدائع مصنوعات مودعات في صغراهنّ وكبراهنّ على السواء .
إن فرضية أن يكون العالم الماديّ في حالة تكوين نفسي أي أن يكون في حالة مستمرة من صناعة نفسه بنفسه ، إن هذه الفرضية مستحيلة علمياً ، وإن النظرية الماركسية التي تقول : إن العالم المادي في تحول وتطور وتقدم دائم ، إن هذه النظرة تخالف المعطيات العلمية والواقعيات الطبيعية ، إن جميع التحولات والحركات في الجمادات إنما يكون بسبب قوة خارجة أو تبادل داخلي بين أجسام مختلفة ، في عالم النباتات إنما يتحقق النموّ والتوسع والتكاثر بالأمطار وأشعة الشمس والتغذية من التربة ، وكذلك الوضع في عالم الحيوانات بالإضافة إلى حركات إرادية ضرورية ومفيدة .
إن انسجام الأشياء والموجودات مع الجو الخارجي لها في هذه الموارد المذكورة واضح بيّن ، وليس لأيّ موجود أن يعصي على القوانين والمعادلات الرياضية المفروضة عليه حسب الخواص المودعة فيه الآثار المترتبة عليه .
ولما يدركه الإنسان من الواقعيات عن طريق حواسه خصائص مختلفة :
فنحن نحسّ جيداً ـ من هذه الخصائص ـ أن موجودات العالم متغيرة متحولة غير ثابتة ، وأيّ موجود ماديّ إما أن يكون في طول عهد وجوده سائراً نحو التكامل أو إلى الانحطاط ، ولا شيء في عالم الوجود ثابت على حالة واحدة .
ومن خصائص الموجود المحسوس : المحدودية ، إن الموجود المحسوس من أصغر الذرات إلى أكبر المجرات بحاجة إلى الزمان والمكان ، إلاّ أن بعضها يشغل مكاناً أكبر أو زماناً أطول ، وبعضها زماناً أقصر ومكاناً أقل .
ومن خصائص الموجود المحسوس : النسبية في أصل الوجود والكمالات ، وإن ما تنسبه إليه من الصفات كالقدرة والعظمة والجمال والعلم فإنما هي من باب المقارنة والمقايسة بسائر الأشياء .
ومن خصائص الموجود المحسوس أيضاً : التعلق والاشتراط فأيّ موجود نفترضه نجده متعلقاً ومشروطاً بأمور أخرى ، ولهذا فهو محتاج إلى تلك الشروط التي تتعلق به ، ولا تجد شيئاً مادياً في هذا العالم يستند إلى نفسه ويستغني عـن غيره ، فالفقر والحاجة محيط بجميع الموجودات المادية .
إن العقل والفكر الإنساني الذي يعبر حجاب الظواهر وينفذ إلى أعماق بطون الوجود ـ على خلاف الحواس ـ لا يستطيع قبول حصر الوجود في أمور نسبية محدودة متغيرة محتاجة ، بل إن قوة الفكر الإنساني تحسّ جيداً ، ـ إن صحّ التعبير ـ بضرورة وجود حقيقة دائمة مطلقة غنية خلف ظواهر الوجود تكون مستنداً لجميع الوجودات المحدودة ، حقيقة حاضرة في جميع الأزمنة والأمكنة ، وإلاّ فإن العالم بأجمعه لا يستطيع أن يقف على قدميه بنفسه ، بل حتى على اشتمال صفة الوجود .
فالعالم بحاجة إلى حقيقة مستقلة ، غير مقيدة ، وغير معلقة ، وغير مشروطة بغيرها ، هي تمسك بزمام الوجود في جميع الأمور المحدودة والمشروطة والنسبية ، وإن كل شيء يحتاج إلى أن تملأ هذه الحقيقة المطلقة كيانه بالوجود والحياة ، وفي كل موجود ظاهرة من الحياة والعلم والقدرة والحكمة المطلقة لتلك الحقيقة ، وبهذه الظواهر وفي حدودها نستطيع الحصول على معلومات قيمة عن تلك الحقيقة ، ولكل إنسان ذكيّ مستطلع أن يجد الدليل من هذا الطريق على وجود الخالق .
المادة وقوانين الوجود
إن التلازم المتقابل بين المادة وقوانين الوجود ، لا يمكن أن يكون دليلاً على غنى المادة ، بل إن تنوع المنشآت من المادة ، وارتباطها الشديد بعضها ببعض يثبت أن المادة في وجودها ، لابدّ لها من تبعية سنن وقوانين تسلك بها سبيل النظم والانسجام ، فإن الوجود يستند إلى عنصرين أساسيين هما : المادة والنظام ، ولابدّ بينهما من الارتباط الوثيق ، وإن العلم المنسجم والمتوازن إنما هو وليد هذه العلاقة الوثيقة بين المادة والنظام .
إن الذين يرون أن المادة غنية ، ويظنون أنها هي التي وجدت لنفسها هذا النظام والغنى كيف يقبلون أن تكون ذرات الهيدروجين والأوكسجين والالكترون ، والبروتون ، وجدت نفسها بنفسها ثم أصبحت منبعاً لوجود الموجودات الأخرى ، ثم صدّرت لنفسها القوانين التي تحكمها وجميع العالم الماديّ ؟ .
إن المادية ترى أن الموجودات البسيطة الدانية تصبح منابع للوجودات العالية المعقدة ، دون أن تتوجه إلى أن المادة التي تعجز في أوج كمالها أي
في حالة التفـكير العلمي ، عن إيجاد نفسها أو العصيان على قانون من
القوانين الحاكمة عليه ، فهي قطعاً أعجز عن إيجاد نفسها أو النظام الوجودي حال كونها بسيطة دنيئة ، فكيف يمكن القول بأن المادة الدنيئة تخلق
الموجودات العالية ، وأن يكون لها القدرة على إعطاء الحياة لظواهر أكمل ؟ .
وقد تحقق في علم الأنظمة الجديد : أن الأنظمة المركبة من عناصر حية ذات هدف ، أو الأجهزة المنظمة على أساس برنامج معين ، يمكن أن يكون لها تحوّل متكامل ، إلاّ أنه لابدّ لها من إمداد خارجي ولا قدرة لها على تطوير نفسها بنفسها ، وأن مواد العالم ما لم تتصف هي بالإرادة والقدرة والشعور ، فلا قدرة لها على إيجاد وإدارة جهاز منظّم متحرّك متطوّر .
إن قانون حساب الاحتمالات و ( الانتروبي ) يقرر : أن الحركة الجماعية غير المنطقة ، لا يمكن أن تزيد إلاّ تفرقاً وتشتتاً وتقدّماً نحو الهلاك والدمار .
إن قانون الاحتمالات يردّ وجود العالم بالصدفة ، بصورة قاطعة ويرى ذلك من غير المعقول ، وغير الممكن ، إن قانون الاحتمالات الرياضي يؤكد على لزوم قيادة صحيحة للعالم وضرورة برنامج دقيق لإدارته .
إن قانون الاحتمالات يشكل في الواقع صفعة على أفواه القائلين بالصدفة الوجودية ، إذ لو فكرنا في وقوع الصدفة لنظام ساذج بعدد قليل ، لم تكن من غير الممكن ، وإن كانت بعيدة عن الواقع ، ولكنه لا يمكن القول بالوصول إلى صدفة هندسية منظمة تحكي عن انسجام وتوازن متين لهذا النظام العالمي المعقد ، وأن التغييرات الجزئية والساذجة لنظام الوجود لا يمكن أن تكون دليلاً على تغييرات العالم ، وتركيب الذرات فيه لتشكيل هذا التركيب المنسجم المتوازن .
لو كانت الطبيعة في تطوّر وتكامل وتركيب متجدد فلماذا لا تبديى من نفسها اليوم جديداً في التغيير والتطوّر ؟ ولماذا هي متوقفة اليوم عن التحولات الأوتوماتيكية العميقية ؟ .
إن الحوادث الساذجة البسيطة والجزئية منها تؤدي إلى إيجاد صور
محيرة منسجمة ومتناسبة مع أهداف الخلقة ، وهذا بنفسه يدلنا على أن هناك خلف هذه التطوّرات المحيرة قوّة عالمة قادرة هي التي أبدعت هذا النظام المعجب للكائنات ، وهي وراء هذا التطوّر العجيب لعالم الطبيعة ، وهي التيى ترسم هذا النظام للوجود .
إن هذا الانسجام والترابط الوثيق بين الملايين من ظواهر الطبيعة والعلاقة بينها وبين ظاهرة الحياة في الأحياء ، لا يمكن أن يفسر تفسيراً معقولاً إلاّ بصورة واحدة ، هي : أن نفترض لهذاالنظام العظيم خالقاً هو الذي قرر هذه العناصر المختلفة في هذه الكرة الترابية ، بقدرته غير المحدودة واللامنتهية ، ونظم برنامج كل عنصر من هذه العناصر ، وهذه الفرضية تطابق كل ما في ظواهر هذه الطبيعة من ارتباط وانسجام وتوازن .
أما إذا لم نقبل هذه الفرضية ، فهل يمكن لنا أن نحتمل ظهور هذا الانسجام بين أنواع الظواهر البديعة بصورة صدفة غير مستهدفة ؟ وكيف يمكن القول بتساوي هذا الافتراض مع افتراض خالق مستهدف مدبّر عالم مطلق ؟
لو لم يكن وجود لهذا العالم بما فيه من عجائب تحيّر العقول ويعجز العلم البشري عن درك أوضاعه المحيّرة ، وكانت الدنيا تتخلص في موجود ذي خلية واحدة ، حينئذ كان احتمال وجود هذا الموجود الحقير ونظمه صدفة على أساس حساب الاحتمالات طبقاً لمحاسبات ( شارل أوزن كوى ) يعطي رقماً رياضياً لا يقدر الفكر الإنساني على استيعابه .
يقول ( باشميل ) : « أنتم الماديّين تعـترفون بحركات ودوران الشمس ، والأرض وسائر المجموعة الشمسية ، وتعترفون أيضاً بالدقة الرياضية غير المتخللة في هذه الحركات ، وتذعنون ـ كما تزعمون ـ بعدم وجود يد مدبّره خلف هذه الحركات والمتحركات الكبيرة ، والعظيمة ، والدقيقة المحكمة والمنظمة ، فلابدّ لـكم من أن تقولوا بـأن المجموعة
الشمسية هي التي أوجدت نفسها بنفسها وجعلت لها هذا النظام المعقد الذي
تتحرّك هي على أساسه ، ثم هي التي جعلت لنفسها جهاز سيطرة دقيق بحجزها عن الاصطدام أو الانحراف عن مسيرتها وعن عروض مانع أو رادع لها في خلال حركتها بهذه السرعة المذهلة في الفضاء ! أنا شخصياً لا أقبل أن يدعي إنسان هذه الدعوى ، وهو يدّعي لنفسه الحرمة والكرامة » .