القائلون بالاختيار
أصحاب هذا القول يقولون : إن الإنسان يشعر بالحرية في العمل بنفسه بصورة تلقائية ( أتوماتيكية ) ـ إن صحّ التعبير ـ فله أن يصمم وفق هواه ، وأن يقدم وفقاً لإرادته وميوله على أيّ عمل مصيرىّ بالنسبة إليه أو إلى غيره ، وأن وجود القوانين التي تشعر الإنسان بالمسؤولية أمامها ، وندم الإنسان على بعض أعماله ، والعقوبات المقدرة في القوانين للمجرمين ، وما قام به البشر من الأعمال التي غيرت مسيرة التأريخ الطويلة ، وما قدمه الإنسان من العلوم والتكنولوجيا ، كل ذلك دليل على حرية الإنسان في أعماله .
وكذلك فإن مسألة التكليف وبعث الرسل ، وعرض البرام الإلهية على البشر ، وتعيين المعاد ، كل ذلك مبنيّ على حرية واختيار الإنسان في القيام بأعماله وأفعاله .
إذلا معنى لأن يكلّف الله العباد ، بل يجبرهم على أعمالهم ثم هو يثيبهم أو يعاقبهم عليها .
فليس من العدل أن يسيرنا الخالق بقدرته وإرادته في أيّ مسير تقضيه إرادته ومشيئته ثم هو يعاقبنا على سلوك صادر منا بلا اختيار ولا إرادة .
لو كانت أعمال العباد في الحقيقة أفعالاً لله سبحانه للزم أن تكون
جميع المفاسد والظلامات من فعله تعالى ، في حين أنه منزّه عن أيّ نوع من الظلم والباطل ، بل لو لم يكن لنا اختيار في أفعالنا لكان أصل التكليف ظلماً وخلافاً للعدل ، ولم يكن لوم على الظالمين والجبارين ، ولم يكن أصحاب العدل يستحقون أيّ حمد أو ثناء أو تحسين ، إذ لا معنى للمسؤولية إلاّ في حدود الإمكانات والطاقات .
إن الإنسان لا يستحق اللوم ولا التقدير والثناء إلاّ حينما يكون حراً في تصميماته وأعماله ، وإلاّ فلا لوم ولا تحسين .
وقد أفرطت هذه الفرقة بشأن حرية الإنسان إفراطا حسبت معه الإنسان مختاراً اختياراً مطلقاً وبلا منازع ، وكأنها زعمت عجز الله سبحانه وتعالى عن إصدار أوامره فيما يتعلق بإرادة خلقه ، وأن قدرة الله لا تتعلق بأفعال الإنسان الاختيارية .
إن ما يقوله هؤلاء مبنيّ على أساس أنه سبحانه أسس العالم وظواهره على أساس نظام طبيعيّ وأنهى عمله بذلك ، فما يحدث من الحوادث بعد ذلك لا علاقة له بصورة مباشرة بالله تعالى ، وأفعال البشر هي إحدى ظواهر عالم الوجود المتحررة عن مباشرة مشيئة الله الواحد بصورة تامة ، فلا مباشرة له فيها قطّ .
هذه هي خلاصة ما تقوله هذه الفرقة .
إن الذي يقول بأن ما يوجد ظواهر الطبيعة هي نواميس الطبيعة وإرادة الإنسان ، وأن دوران العالم وأعمال البشر لا علاقة لها بالله تعالى ، إن هذا ينست التأثير في الكون في الحقيقة إلى مركز آخر هو نفس المخلوقات فيجعلها شريكة مع الله تعالى في الخالقية ، وهو بذلك يتقبل وجود خالق آخر في قبال الخالق العليم القدير ، ويقول بالاستقلال لذوات الموجودات أما ذات الله تعالى ، من حيث يشعر أو لا يشعر .
إن القول بالحرية التامة لأيّ موجود من الموجودات سواء كان إنساناً أو
غير بشر مستلزم للعقيدة بمشاركة ذلك الموجود مع الله تعالى في الفاعلية والاستقلال .
وهذا لا ريب نوع من أنواع الثنوية حيث يبعد العبد عن قمة التوحيد إلى هوة الشرك ، إذا أن نتيجة قبول هذه الفكرة أن نسلب عن الله اختياره في أوامره بالنسبة إلى نظام الوجود ، ونحسب الإنسان صاحب حكومة مطلقة لا تعارض ، وليس لأيّ موحد أن يتقبل هذه الخالقية للإنسان حتى ولو كانت في إطار أعمال البشر خاصة ، بل على كل موحد ـ في نفس الوقت الذي يقول فيه بالعلل والأسباب الطبيعية ـ أن يرى الله هو المؤثر الحقيقي في الحوادث والظواهر ، وأنه إذا أراد أن يذهب بأثر إرادة الإنسان في أفعاله لفعل.
وكما أنه لا استقلال لذوات الموجودات كذلك لا استقلال لها في السببية والتأثير ، وهذا هو ما يصطلح عليه بالتوحيد الأفعالي .
وذلك يعني أن ندرك أن نظام الوجود بما فيه من سنن وعلل هو من عمل الله تعالى ، وهو نابع من إرادته سبحانه ، وأن حقيقة وجود أي عامل وتأثيره إنما هو منه عزّوجل .
وعلى هذا ما لا يلازم التوحيد الأفعالي أن ننكر نظام الأسباب لعالم الوجود ، وأن نقول بأن كل أثر إنما هو من الله مباشرة وبلا واسطة في ذلك ، وأن لا نعير للعوامل أية أهمية كانت أم لم تكن ، ولكن تصور تأثير الله في الموجودات كنسبة الفنان إلى الفنّ أو كمبدع لوحة بالنسبة إليها حيث تحتاج اللوحة في وجودها إلى الفنان ، ولكن اللوحة حيث تتم تستمرّ روعتها وجمالها حتى لو مات الفنان ، إن هذا التصور بالنسبة إلى الله لا شكّ أنه من الشرك ولا يلائم التوحيد .
إن من ينكر دور الخالق في ظواهر وأعمال الإنسان يقول بتحديد قدرة الخالق بحدود الطبيعة واختيار البشر ، وهذا كلام مردود لدى العقل والمنطق ، إذ هو مستلزم لإنكار عمومية قدرته من ناحية ، وهو من ناحية
أخرى يولد إحساس الغنى عن ذات الخالق لدى المخلوق ، وهو إحساس ينتهي بالإنسان إلى الطغيان والفساد ، في حين أن التسليم المطلق للخالق والتعلق به ، والتوكّل عليه لا الأثر التام في شخصية وأخلاق الإنسان وسلوكه وروحياته ، وحيث لا أمر عنده سوى أمر الله فلا سلطة للهوى ولا لأحد من الخلق عليه .
إن القرآن الكريم ينفي كل شرك في مديرية العالم لأيّ من الخلق مع الخالق فيقول :
( وقل الحمد لله الذي لم يتّخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليّ من الذلّ وكبره تكبيراً )(1) .
وقد صرّح القرآن الكريم في آيات كثيرة بقدرة الله المطلقة فيقول مثلاً :
( لله ملك السموات والأرض وما فيهنّ وهو على كل شيء قدير )(2) .
( وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً )(3) .
إن موجودات العالم بحاجة إلى الله في بقائها ، كما كانت كذلك في حدوثها تماماً ، ولا بدّ للوجود من استفاضة فيوضات الوجود من قبله سبحانه ، وإلاّ لا تفرط هذا النظام الموجود ، إذ أن ما يصدر من قوى العالم ليس إلاّ صادراً عن خالقية الله وفاعليته تعالى ، ولا بد لماهية الموجودات من التعلّق بإرادة الله ، وعلى هذا فلا استقلال لها ذاتاً ، تماماً كالمصابيح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء : الآية 111 .
2 سورة المائدة : الآية 120 .
3 سورة فاطر : الآية 44 .
الكهربائية التي لابدّ لها من استمداد البرق من المولد الكهربائي في البداية والبقاء .
والقرآن الكريم يصرّح بكل تأكيد يقول :
( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد )(1) .
فالحقائق كلها نابعة من إرادته تعالى وهي متعلقة به سبحانه ، وكل ظاهرة فهي تستمد وجودها منه دائماً وأبداً ، ونظام الوجود كلّه يدور حول محور واحد فقط . قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
والله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد »(2) .
لو لم يكن الله يفيض علينا حرية الإِرادة والإِمكانات والقوى والحياة ، في كل لحظة لما كنا قادرين على أيّ عمل ، فإن إرادته التامة قد تعلقت بأن نفعل نحن أفعالنا الإِرادية باختيارنا ونؤدّي ما أودعه فينا من دور ذلك الخالق القدير ، وقد شاء أن يصنع الإِنسان مستقبله الحسن أو السيّي بتشخيصه وإرادته بنفسه .
إذن فأفعالنا الإِرادية ترتبط بنا من ناحية ، وبالله من ناحية أخرى ، إذ نحن نستطيع أن نعمل بفضل الذخائر التي جعلها الله تحت اختيارنا في سبيل البناء والاختيار المناسب واللاثق أو في سبيل الفساد والباطل وأن نحقق ما نريد ، وإن كان ذلك في إطار معين من قبله تعالى ، وبعبارة أخرى نقول :
إن القوة من الله والإِفادة منها منا .
افترضوا إنساناً يحمل قلباً صناعياً هو تحت اختيارنا عن طريق سلك يتصل بالقوة الكهربائية ، وبإمكاننا أن نوقف علميات هذا الإنسان ذي القلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر : الآية 15 .
2 أصول الكافي ج 1 ، ص 160 .
الصناعي في أيّ لحظة شئنا ، والذي يمكنه من كل ما يقوم به هو هذا السلك الذي نقوم نحن بوصله ما شئنا ، ونمهله ليقوم بما يريد ، فلو عمل عملاً صالحاً أو شيئاً كان ذلك بإرادته ، فإن كيفية الإِفادة من القوة المعطاة له تتعلق به ولا علاقة لنا بها .
كذلك كل طاقتنا من الله سبحانه وتعالى ، حيث يستطيع أن يسلبنا قوانا ، إلا أنه قرر أن تكون كيفية الإِفادة من هذه القوى تحت اختيارنا بصورة تامة نسبياً .
وهذا هو ما يقول به أصحاب مدرسة الاعتدال ، وسنوضح ذلك في الفصل الآتي .