عربي
Friday 15th of November 2024
0
نفر 0

القائلون بالاختيار

القائلون بالاختيار

أصحاب هذا القول يقولون : إن الإنسان يشعر بالحرية في العمل بنفسه بصورة تلقائية ( أتوماتيكية ) ـ إن صحّ التعبير ـ فله أن يصمم وفق هواه ، وأن يقدم وفقاً لإرادته وميوله على أيّ عمل مصيرىّ بالنسبة إليه أو إلى غيره ، وأن وجود القوانين التي تشعر الإنسان بالمسؤولية أمامها ، وندم الإنسان على بعض أعماله ، والعقوبات المقدرة في القوانين للمجرمين ، وما قام به البشر من الأعمال التي غيرت مسيرة التأريخ الطويلة ، وما قدمه الإنسان من العلوم والتكنولوجيا ، كل ذلك دليل على حرية الإنسان في أعماله .

وكذلك فإن مسألة التكليف وبعث الرسل ، وعرض البرام الإلهية على البشر ، وتعيين المعاد ، كل ذلك مبنيّ على حرية واختيار الإنسان في القيام بأعماله وأفعاله .

إذلا معنى لأن يكلّف الله العباد ، بل يجبرهم على أعمالهم ثم هو يثيبهم أو يعاقبهم عليها .

فليس من العدل أن يسيرنا الخالق بقدرته وإرادته في أيّ مسير تقضيه إرادته ومشيئته ثم هو يعاقبنا على سلوك صادر منا بلا اختيار ولا إرادة .

لو كانت أعمال العباد في الحقيقة أفعالاً لله سبحانه للزم أن تكون

جميع المفاسد والظلامات من فعله تعالى ، في حين أنه منزّه عن أيّ نوع من الظلم والباطل ، بل لو لم يكن لنا اختيار في أفعالنا لكان أصل التكليف ظلماً وخلافاً للعدل ، ولم يكن لوم على الظالمين والجبارين ، ولم يكن أصحاب العدل يستحقون أيّ حمد أو ثناء أو تحسين ، إذ لا معنى للمسؤولية إلاّ في حدود الإمكانات والطاقات .

إن الإنسان لا يستحق اللوم ولا التقدير والثناء إلاّ حينما يكون حراً في تصميماته وأعماله ، وإلاّ فلا لوم ولا تحسين .

وقد أفرطت هذه الفرقة بشأن حرية الإنسان إفراطا حسبت معه الإنسان مختاراً اختياراً مطلقاً وبلا منازع ، وكأنها زعمت عجز الله سبحانه وتعالى عن إصدار أوامره فيما يتعلق بإرادة خلقه ، وأن قدرة الله لا تتعلق بأفعال الإنسان الاختيارية .

إن ما يقوله هؤلاء مبنيّ على أساس أنه سبحانه أسس العالم وظواهره على أساس نظام طبيعيّ وأنهى عمله بذلك ، فما يحدث من الحوادث بعد ذلك لا علاقة له بصورة مباشرة بالله تعالى ، وأفعال البشر هي إحدى ظواهر عالم الوجود المتحررة عن مباشرة مشيئة الله الواحد بصورة تامة ، فلا مباشرة له فيها قطّ .

هذه هي خلاصة ما تقوله هذه الفرقة .

إن الذي يقول بأن ما يوجد ظواهر الطبيعة هي نواميس الطبيعة وإرادة الإنسان ، وأن دوران العالم وأعمال البشر لا علاقة لها بالله تعالى ، إن هذا ينست التأثير في الكون في الحقيقة إلى مركز آخر هو نفس المخلوقات فيجعلها شريكة مع الله تعالى في الخالقية ، وهو بذلك يتقبل وجود خالق آخر في قبال الخالق العليم القدير ، ويقول بالاستقلال لذوات الموجودات أما ذات الله تعالى ، من حيث يشعر أو لا يشعر .

إن القول بالحرية التامة لأيّ موجود من الموجودات سواء كان إنساناً أو

غير بشر مستلزم للعقيدة بمشاركة ذلك الموجود مع الله تعالى في الفاعلية والاستقلال .

وهذا لا ريب نوع من أنواع الثنوية حيث يبعد العبد عن قمة التوحيد إلى هوة الشرك ، إذا أن نتيجة قبول هذه الفكرة أن نسلب عن الله اختياره في أوامره بالنسبة إلى نظام الوجود ، ونحسب الإنسان صاحب حكومة مطلقة لا تعارض ، وليس لأيّ موحد أن يتقبل هذه الخالقية للإنسان حتى ولو كانت في إطار أعمال البشر خاصة ، بل على كل موحد ـ في نفس الوقت الذي يقول فيه بالعلل والأسباب الطبيعية ـ أن يرى الله هو المؤثر الحقيقي في الحوادث والظواهر ، وأنه إذا أراد أن يذهب بأثر إرادة الإنسان في أفعاله لفعل.

وكما أنه لا استقلال لذوات الموجودات كذلك لا استقلال لها في السببية والتأثير ، وهذا هو ما يصطلح عليه بالتوحيد الأفعالي .

وذلك يعني أن ندرك أن نظام الوجود بما فيه من سنن وعلل هو من عمل الله تعالى ، وهو نابع من إرادته سبحانه ، وأن حقيقة وجود أي عامل وتأثيره إنما هو منه عزّوجل .

وعلى هذا ما لا يلازم التوحيد الأفعالي أن ننكر نظام الأسباب لعالم الوجود ، وأن نقول بأن كل أثر إنما هو من الله مباشرة وبلا واسطة في ذلك ، وأن لا نعير للعوامل أية أهمية كانت أم لم تكن ، ولكن تصور تأثير الله في الموجودات كنسبة الفنان إلى الفنّ أو كمبدع لوحة بالنسبة إليها حيث تحتاج اللوحة في وجودها إلى الفنان ، ولكن اللوحة حيث تتم تستمرّ روعتها وجمالها حتى لو مات الفنان ، إن هذا التصور بالنسبة إلى الله لا شكّ أنه من الشرك ولا يلائم التوحيد .

إن من ينكر دور الخالق في ظواهر وأعمال الإنسان يقول بتحديد قدرة الخالق بحدود الطبيعة واختيار البشر ، وهذا كلام مردود لدى العقل والمنطق ، إذ هو مستلزم لإنكار عمومية قدرته من ناحية ، وهو من ناحية

أخرى يولد إحساس الغنى عن ذات الخالق لدى المخلوق ، وهو إحساس ينتهي بالإنسان إلى الطغيان والفساد ، في حين أن التسليم المطلق للخالق والتعلق به ، والتوكّل عليه لا الأثر التام في شخصية وأخلاق الإنسان وسلوكه وروحياته ، وحيث لا أمر عنده سوى أمر الله فلا سلطة للهوى ولا لأحد من الخلق عليه .

إن القرآن الكريم ينفي كل شرك في مديرية العالم لأيّ من الخلق مع الخالق فيقول :

( وقل الحمد لله الذي لم يتّخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليّ من الذلّ وكبره تكبيراً )(1) .

وقد صرّح القرآن الكريم في آيات كثيرة بقدرة الله المطلقة فيقول مثلاً :

( لله ملك السموات والأرض وما فيهنّ وهو على كل شيء قدير )(2) .

( وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً )(3) .

إن موجودات العالم بحاجة إلى الله في بقائها ، كما كانت كذلك في حدوثها تماماً ، ولا بدّ للوجود من استفاضة فيوضات الوجود من قبله سبحانه ، وإلاّ لا تفرط هذا النظام الموجود ، إذ أن ما يصدر من قوى العالم ليس إلاّ صادراً عن خالقية الله وفاعليته تعالى ، ولا بد لماهية الموجودات من التعلّق بإرادة الله ، وعلى هذا فلا استقلال لها ذاتاً ، تماماً كالمصابيح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سورة الإسراء : الآية 111 .

2 سورة المائدة : الآية 120 .

3 سورة فاطر : الآية 44 .

 

الكهربائية التي لابدّ لها من استمداد البرق من المولد الكهربائي في البداية والبقاء .

والقرآن الكريم يصرّح بكل تأكيد يقول :

( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد )(1) .

فالحقائق كلها نابعة من إرادته تعالى وهي متعلقة به سبحانه ، وكل ظاهرة فهي تستمد وجودها منه دائماً وأبداً ، ونظام الوجود كلّه يدور حول محور واحد فقط . قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :

والله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد »(2) .

لو لم يكن الله يفيض علينا حرية الإِرادة والإِمكانات والقوى والحياة ، في كل لحظة لما كنا قادرين على أيّ عمل ، فإن إرادته التامة قد تعلقت بأن نفعل نحن أفعالنا الإِرادية باختيارنا ونؤدّي ما أودعه فينا من دور ذلك الخالق القدير ، وقد شاء أن يصنع الإِنسان مستقبله الحسن أو السيّي بتشخيصه وإرادته بنفسه .

إذن فأفعالنا الإِرادية ترتبط بنا من ناحية ، وبالله من ناحية أخرى ، إذ نحن نستطيع أن نعمل بفضل الذخائر التي جعلها الله تحت اختيارنا في سبيل البناء والاختيار المناسب واللاثق أو في سبيل الفساد والباطل وأن نحقق ما نريد ، وإن كان ذلك في إطار معين من قبله تعالى ، وبعبارة أخرى نقول :

إن القوة من الله والإِفادة منها منا .

افترضوا إنساناً يحمل قلباً صناعياً هو تحت اختيارنا عن طريق سلك يتصل بالقوة الكهربائية ، وبإمكاننا أن نوقف علميات هذا الإنسان ذي القلب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سورة فاطر : الآية 15 .

2 أصول الكافي ج 1 ، ص 160 .

 

الصناعي في أيّ لحظة شئنا ، والذي يمكنه من كل ما يقوم به هو هذا السلك الذي نقوم نحن بوصله ما شئنا ، ونمهله ليقوم بما يريد ، فلو عمل عملاً صالحاً أو شيئاً كان ذلك بإرادته ، فإن كيفية الإِفادة من القوة المعطاة له تتعلق به ولا علاقة لنا بها .

كذلك كل طاقتنا من الله سبحانه وتعالى ، حيث يستطيع أن يسلبنا قوانا ، إلا أنه قرر أن تكون كيفية الإِفادة من هذه القوى تحت اختيارنا بصورة تامة نسبياً .

وهذا هو ما يقول به أصحاب مدرسة الاعتدال ، وسنوضح ذلك في الفصل الآتي .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

التجسيم عند ابن تيمية وأتباعه ق (9)
الجبر والاختيار
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف والذكريات ...
الجبر والتفويض المُناظرة السابعة
ذكرى فاجعة هدم قبور أئمة الهدى(ع) في البقيع من قبل ...
تاريخ السنة والشيعة
وحدة الولایة
النقطة الثانية حقيقة الوجوب والاستحباب او ...
قبسات من نهج البلاغة - الخامس
أشراط الساعة و أهوالها

 
user comment