طرق إثبات النبوة
من المسائل الاساسية في فصل النبوة هي كيف يثبت للناس صدق دعوى الأنبياء الحقيقيين وكذب المدعين الكاذبين؟
لا شك في أن الشخص الضال والمرتكب للمعاصي التي يدرك العقل أيضا قبحها لا يمكن الإعتماد عليه، والثقة به وتصديقه، ويمكن بذلك إثبات كذبه في إدعائه النبوة، فيما لو اشترطنا العصمة في الأنبياء وخاصة إذا كان يدعو إلى أمور مخالفة للعقل والفطرة الإنسانية، أو وجد تناقض في اقواله وأحاديثه، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، ربما تكون الحياة السابقة النظيفة للنبي، وسيرته الحسنة، باعثة على حصول الاطمئنان بصدقه عند الأفراد المنصفين، وخاصة إذا شهد العقل بصحة محتويات دعوته، وكذلك من الممكن أن تثبت نبوة شخص بتبشير نبي آخر، وإخباره عنه، وتعريفه به بحيث لا يبقى أي شك أو ترديد للباحثين عن الحقيقة بأنه نبي. ولكن لو لم تتوفر بين الناس القرائن والشواهد والمؤشرات المؤدية إلى الإطمئنان، ولم تصل إليهم بشارة نبي آخر، فهنا تفرض الحاجة وجود طريق آخر لإثبات النبوة، وقد جعل الله تعالى لحكمته البالغة هذا الطريق، وجهز الأنبياء بمعاجز هي علامات وآيات على صدق دعواهم، ومن هنا سميت بـ "الآيات"1.
والحاصل: إنه يمكن إثبات صدق الأنبياء الحقيقيين في دعواهم، من خلال ثلاث طرق:
1- من طريق القرائن والمؤشرات والشواهد المؤدية إلى الإطمئنان، أمثال الصدق والأمانة والإستقامة وعدم الإنحراف عن مسير الحق والعدالة طوال حياتهم. ولكن هذا الطريق لا يتحقق إلا في الأنبياء الذين عاشوا سنوات طويلة بين الناس، وكانت سيرتهم معروفة عندهم. أما النبي الذي بعث بالرسالة في بدايات شبابه، وقبل أن يتعرف الناس على شخصيته وسيرته، فلا يمكن التعرف على صحة دعواه وصدقه من طريق هذه المؤشرات والدلائل.
2- أن يعرفه ويبشر به نبي سابق أو معاصر، ويختص هذا الطريق أيضا في الناس الذين عرفوا نبيا آخر، واطلعوا على بشارته ودعمه وتأييده، وبطبيعة الحال لا مجال لمثل هذا الطريق في النبي الأول.
3- عن طريق إظهار المعجزة التي يمكن أن يكون أثرها أكثر إتساعا وشمولية، ومن هنا نحاول البحث حول هذا الطريق.
تعريف المعجزة
المعجزة عبارة عن الأمر الخارق للعادة، تظهر من مدعي النبوة بإرادة الله، وتكون دليلا على صدق دعواه.
والملاحظ في هذا التعريف أنه يشتمل على عناصر ثلاثة:
أ- وجود بعض الظواهر الخارقة للعادة، والتي لا يمكن أن توجد من خلال الأسباب والعلل العادية.
ب- ظهور بعض هذه الأمور الخارقة للعادة، من الأنبياء بالإرادة الإلهية، وبإذن خاص من الله تعالى.
ج- إن مثل هذا الأمر الخارق للعادة، يمكن أن يكون دليلا على صدق دعوى النبي، وفي هذه الحالة يصطلح عليه بـ"المعجزة".
والآن نحاول توضيح هذه العناصر الثلاثة التي تضمنها التعريف:
الأمور الخارقة للعادة
إن الظواهر الكونية إنما توجد غالبا نتيجة أسباب وعلل يمكن التعريف عليها من خلال التجارب المختلفة، أمثال أكثر الظواهر الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والنفسية. ولكن هناك حالات نادرة تتحقق فيها هذه الظواهر بصورة أخرى، حيث لا يمكن التعرف على جميع أسبابها وعللها من خلال التجارب الحسية. وهناك بعض الشواهد تدل على وجود عوامل من نوع آخر أثرت في تكوين هذه الظواهر، كالأعمال الغريبة والمدهشة التي يقوم بها المرتاضون، ويشهد الخبراء والمتخصصون في مختلف العلوم بأن مثل هذه الأعمال لا تتم وفق قوانين العلوم المادية والتجريبية، ويطلق على مثل الأمور بـ"الأمور الخارقة للعادة".
خوارق العادة الإلهية
يمكن تقسيم الأمور الخارقة للعادة بصورة عامة إلى قسمين:
الأول: الأمور التي لا تكون أسبابها وعللها عادية، ولكن أسبابها غير العادية في مقدور البشر وتحت إختيارهم، ويمكن التوصل إليها من خلال بعض التدريبات والدروس والتعليمات الخاصة، أمثال أعمال المرتاضين. الثاني: الأعمال الخارقة للعادة والتي لا تتم إلا بإذن إلهي خاص، ولا تكون في متناول أولئك الأفراد الذين لا علاقة لهم بالله تعالى، ومن هنا فلها ميزتان:
إحداهما: أنها غير قابلة للتعليم والتعلم.
والأخرى: أنها لا تخضع لتأثير قوة أخرى أرقى وأقوى منها، ولا يمكن لأي عامل آخر أن يقهرها.
ومثل هذه الخوارق للعادة مختصة بعباد الله المصطفين والمنتجبين، ولا يمكن أن تكون في متناول أيدي الضالين والعابثين، ولكنها لا تختص بالأنبياء، بل ربما زود بها بعض أولياء الله، ولذلك لا يصطلح عليها كلها في علم الكلام بـ(المعجزة)، والمعروف أن يطلق على مثل هذه الأعمال في حالة صدورها من غير الأنبياء (الكرامة)، كما أن العلوم الالهية غير العادية لا تختص (بوحي النبوة) وحين يزود بعضهم بمثل هذه العلوم، يطلق عليها (الالهام) أو (التحديث).
ومن خلال ذلك تعرفنا على الطريق لمعرفة هذين النوعين من خوارق العادات (الإلهية، وغير الإلهية)، فإذا كان الاتيان بالخارق للعادة قابلا للتعليم أو التعلم، أو يمكن لعامل آخر أن يمنع من حدوثه أو إستمراره، وإبطال تأثيره، فلا يكون هذا العمل من قبيل خارق العادة الإلهي، ويمكن أن يعتبر ضلال فرد، وفساد معتقداته وأخلاقه مؤشرا آخر على عدم إرتباطه بالله تعالى، وعلى كون أعماله شيطانية أو نفسانية.
وتجدر الاشارة هنا إلى ملاحظة أخرى وهي أنه يمكن لنا ان نعتبر الله هو الفاعل لهذه الأعمال الإلهية الخارقة للعادة (بالاضافة لفاعليته بالنسبة لكل المخلوقات ومنها الظواهر العادية)، وذلك بملاحظة إناطة تحققها بإذن خاص منه تعالى "﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَة مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنّ َ اللّهَ يُضِلّ ُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾(الرعد:27)". ويمكن أيضاً أن ننسبها إلى الوسائط أمثال الملائكة والأنبياء بملاحظة دورهم فيها كوسطاء أو فاعلين قريبين، كما نسب القرآن الكريم لعيسى عليه السلام إحياء الموتى، وشفاء المرضى، وخلق الطير "﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنّ َ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(آل عمران:49)". ولا تعارض بين هاتين النسبتين، لأن الفاعلية الإلهية في طول فاعلية العباد.
ميزة معجزات الأنبياء
العنصر الثالث في تعريف المعجزة، أن معجزات الأنبياء آية ودليل على صدق دعواهم، ومن هنا إنما يطلق في علم الكلام مصطلح (المعجزة) على الأمر الخارق للعادة، حين يصدر دليلا على نبوة النبي، اضافة إلى إستناده إلى الإذن الإلهي الخاص، وبقليل من التعميم والتوسع في مفهومه يصبح شاملا الأمور الخارقة للعادة أيضا والتي تصدر دليلا على صدق دعوى الإمامة، ولذلك يختص مصطلح (الكرامة) بسائر الخوارق الإلهية للعادة، والتي تصدر من أولياء الله، مقابل خوارق العادات التي تستند إلى القوى الشيطانية والنفسانية، أمثال: السحر، والكهانة، وأعمال المرتاضين. ومثل هذه الأعمال كما أنها قابلة للتعليم والتعلم، كذلك يمكن قهرها بقوة أرقى واقوى منها، والغالب أنه يمكن أن نثبت عدم إنتسابها إلى الله من طريق سوء وانحطاط أخلاق أصحابها وفساد معتقداتهم.
والملاحظة التي يلزم التوجه إليها هنا هي أن معجزات الأنبياء إنما تثبت بصورة مباشرة صدقهم في دعوى النبوة، أما صحة محتوى الرسالة ولزوم الإطاعة للتعاليم والأوامر التي يبلغونها، فإنها تثبت بصورة غير مباشرة، وبتعبير آخر: تثبت نبوة الأنبياء عليه السلام بالدليل العقلي، أما محتويات رسالاتهم فتثبت بالدليل التعبدي.
*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص126-130.
1- لقد استخدمت لفظة (الآيات) في موارد أخرى، منها علامات العلم والقدرة والحكمة الإلهية في ظواهر الوجود سواء كانت عادية أو غير عادية.
source : http://almaaref.org