يعتبر کتاب التوراة المصدر الأساسي للديانة اليهودية ، ويسمونه بأسفار موسى ويسمونه أيضاً بالعهد القديم ، الذي تمثل منه التوراة خمسة أسفار ، والذي يقسم إلى ثلاثة أقسام وهي : القسم التاريخي ، وقسم الشعر والأناشيد والحکمة ، وقسم تنبؤات الأنبياء ، ويحتوي على 39 سفراً ، والسفر يتألف من إصحاحات ، وکل إصحاح يتألف من آيات ، فمثلاً سفر التثنية / الإصحاح الحادى عشر / الآية الثامنة ، تمييزاً لها عن العهد الجديد ، الذي يتألف من 27 سفرا ، الذي يرتضيه المسيحيون.
ولا يشک أحد في أصلهما ؛ باعتبار أنهما مما أنزله الله تبارک وتعالى على موسى وعيسى ، لقوله تعالى : ( وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ ) ولقوله تعالى : ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ، ولقوله تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ) ، وغيرها من الآيات الواردة في هذا الصدد.
ولکنّ الذي حصل بعد رحيل أصحابها مما يؤسف له ، فلم تبق هذه الکتب على ما جاء فيها ، بل حرفت بواسطة بعض الأيادي ، فَفُقِدَ وغُيِرَ وبُدِلَ الکثير منها ، فلم تعد بعد ذلک مورداً للاطمئنان والاعتماد عليها ، وقد کتبت هذه الأسفار على مدى يربو على تسعة قرون ، وبلغات مختلفة اعتماداً علي التراث المنقول شفهياً ، کما بين ذلک المفکر الفرنسي الدکتور موريس بوکاي في دراسته للکتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ، فيقول : ( إنها صححت وأکملت أکثرية هذه الأسفار بسبب أحداث حدثت ، أو بسبب ضرورات خاصة ، وفي عصور متباعدة أحياناً ... ). (1)
وکما لا يخفى أن تاريخ الأديان أشار إلى وجود نسختين من کتاب التوراة ، إحداهما مکتوبة باللغة العبرية ، والأخرى مکتوبة باللغة السومرية ، ويوجد بينهما اختلاف جوهري بالنسبة لمسألة المعاد والبعث والجزاء ، وقد قال عنهما الدکتور السقا : ( قد وجدنا التوراة التي بأيدي السومريين تختلف في بعض الآيات عن التوراة التي بأيدي العبرانيين ، ومن الآيات فيها النص على يوم القياة ، فهو في التوراة السامرية صريح للغاية ، وهو في التوراة العبرية يحتمل معنيين ، إما الجزاء في الدنيا ، وإما الجزاء في الآخرة ).
ثم أنه ذکر النص الذي اختلف فيه بينهما ، وهو في التوراة العبرية هکذا جاء : ( أليس مکنوزاً عندي مختوماً عليه في خزائني ، لي النقمة والجزاء في وقت تزل أقدامهم ). (2)
وأما النص الوارد في النسخة السومرية فهو : ( أليس عندي مجموعاً مختوماً في خزائني إلى يوم الانتقام والمکافأة ، وقت تزل أقدامهم ، إذ قريب يوم تعنتهم وتسرع المستعدات إليهم ، إذ يدين الله قومه ، وعن عبيده يصفح ، إذ يري إن زلت اليد ، وانقرض المحاصر والمطلق ، ويقولون أين آلهتهم القوية التي استضلوا بها ، التي شحوم ذبائحهم يأکلون ويشربون خمر سکبهم ، تقوم وتعينکم وتکون سترة ، انظروا الآن إنني أنا هو إلهه أنا أميت وأحيي ، أمرضت وأنا أشفي وليس من يدي مخلص ).
وقد نقل الدکتور حسن ظاظا عن صاحب التفسير القويم بأن فسر الانتقام المکافأة الوارد ذکرها في النص المتقدم ب « النقمة والجزاء » الدنيوي ، فقال : ( تعني أنا المنتقم والمجازي لا سواي ، يقول الرب ، ويقوله في نسخة السومريين لأنه مکتوب : لي النقمة وأنا أجازي بقول الرب في وقت تزل أقدامهم ، وزلة القدم هنا استعارة للخطأ ). (3)
وفيه أن هذا التفسير راجع لنظر وفهم صاحب التفسير المذکور ، وليس هو بحجة علي اليهود ، ولکن ذکرناه هنا للدلالة على أنّ النص الوارد في النسخة العبرانية ليس بصريح في المعاد ويوم القيامة ، کما عليه النص في النسخة السومرية ، ولذا جعل هذا الأمر صاحب التفسير يحمله على المعاد الدنيوي ، بينما يرى اليهود السومريون أن قوله : « الانتقام والمکافأة » يدل بصراحة على قيام الناس من القبور للقاء الله ، فيجزيهم على أعمالهم التي عملوها في الحياة الدنيا ، کما نقل ذلک الدکتور أحمد السقا.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن تکامل الفلسفة الدينية کان في القرون الوسطى مع آثار موسى بن ميمون ( 1135 م ـ 1204 م ) ، ويعتبر هذا الرجل حکيم مدينة القاهرة والمرجع الفقهي لليهود ، وقد حظى باحترام جميع اليهود المنتشرين في الأرض ، وذلک لتبحره العميق في المعارف الدينية اليهودية ، وقد نقل لنا الدکتور ظاظا عن موسى بن ميمون إنه يقول : ( أنا أومن أيماناً کاملاً بقيامة الموتي ، في الوقت الذي تنبعث فيه بذلک إرادة الخالق تبارک وتعالى ذکره الآن ، وإلى أبد الآبدين ) ، (4) ويعده الدکتور شختر أنسب فرد دوّن عقائد اليهود ، وکيف کان فإن کلام موسى بن ميمون حول القيامة لم يکن واضحاً بالشکل المطلوب ، إلا أنّه يعتقد بالقيامة والآخرة ويعتبرها من أصول الدين ، ويعد المنکر لها خارجاً عن دين اليهود ، وعندما طلب منه معاصره « حسداي هلوي » أن يوضح له هذه العقيدة ، فأنه أجابه : بأنه لا طريق لمعرفتها بالعقل ، بل طريقها الوحيد هو الإيمان بها ، وقد کتب فيها رسالة خاصة يوضح فيها هذه العقيدة ، طالما کان يکرر قوله بأنه لا تضاد بين عدم بقاء النفس مع مسألة الإيمان بالآخرة لا يمکن إثباتها بالدليل العقلي في الوقت الذي اعتبرها من الأصول الأساسية للديانة اليهودية. (5)
لو سلمنا بدلالة ظاهر ما وجدناه من نصوص توراتية على الحساب والأجزاء ، فإنه لا يتناسب والبعثة النبوية لموسى عليه السلام ، سواء کان على ما نزل في الألواح أو غيرها هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لا يتوافق مع ما نعتقده نحن المسلمون من غرض الدعوة والبعثة النبوية ، باعتبار أن موضوع الآخرة من أهم المواضع الأصولية لکل ديانة إلهية ؛ لما لها من دور مهم بالنسبة إلى باقي الأصول الأخرى وکذلک دورها الکبير في بناء شخصية إنسانية متکاملة ، ودورها البارز في تحقيق الالتزام بالتکاليف الشرعية المنوطة من قبل الله تعالى ، والشاهد على ذلک ما ورد في القرآن الکريم ، کقوله تعالى : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) کذلک قوله تعالى في حکاية لسان السحرة الذين آمنوا بدين ورسالة موسى ) :
( قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَىٰ * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ ).
ويمکن أن يقال : إن خفاء مثل هذه الحقيقة الأساسية في واحدة من الرسالات السماوية ، دليل واضح لا يقبل الشک والترديد في تدخل اليد البشرية في صياغة عبارات التوراة التي کتبت بعد موسى عليه السلام ومما لحقها من التحريف والتغيير والتبديل في حقيقتها على أساس ما يوافق شهواتهم ونزواتهم وميولاتهم ورغباتهم النفسية ، وإلاّ کيف يمکن لنا أن نقبل رسالة سماوية تنسب الزنا وارتکاب الموبقات التي يستقبحها عوام الناس فضلا عن علمائها وأنبيائها ، کما جاء في بعض نصوصها المکتوبة کالنص التاسع عشر من سفر التکوين الذي ينسب فعل الزنا للنبي لوط ) ، ثم أنّ السيد الخوئي بعد ما نقل مجموعة من النصوص المذکورة في کتاب التوراة من سفر التکوين ، ومنها ما جاء في الإصحاح التاسع عشر من سفر التکوين الذي يُحکي فيه « قصة لوط » مع ابنتيه في الجبل ، وکيف أن احتالا عليه ؛ إذ قالت الکبيرة لأختها الصغيرة : ( أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا ... هلمي نسقي أبانا خمراً ، ونضطجع معه ، فنحيي من أبينا نسلاً ، فسقتا أباهما خمراً في تلک الليلة ، واضطجعت معه کبيرة ، وفي الليلة الثانية سقتاه خمراً أيضاً ، ودخلت معه الصغيرة ، فحمنا منه ، وولدت البکر أبناً وسمته « موآب » وهو أبو الموآبين ، ولدت الصغيرة أبناً فسمته « بن عمّي » وهو أبو بني عمون اليوم ، (6) وغير ها من الخرافات التي تنسب إلى أولياء الله الذين اصطفاهم على العالمين.
قال السيد الخوئي : ( وليحکم الناظر عقله ، ثم ليقل ما شاء وبعد نقله لمجموعة من قبيل هذا النص قال : هذه أمثلة يسيرة في کتب العهدين الرائجة من سخافات وخرافات ، وأضاليل وأباطيل لا تلتئم مع البرهان ، ولا تتمشى مع المنطق الصحيح ، وضعناها أمام القارئ ، ليمعن النظر فيها ، وليحکم عقله ووجدانه ... إلى أن قال : وهل يمکن أن ننسب هذه الکتاباب السخيفة إلى الوحي السماء وهي التي لوثت قداسة الأنبياء بما ذکرناه وبما لم نذکره ). (7)
نعم لقد ذکرت في التوراة بعض النصوص غير الصريحة في دلالتها على الحساب الأخروي ، کما ظهر ذلک من خلال المحاورات التي جريت بين بعض علماء اليهود مع بعض أتباع فرقة الصدوقيين من اليهود الذين لا يؤمنون بالحساب الأخروي على العکس من فرقة الفريسيين ، وقد برر علماء اليهود غير الصدوقيين على أن هذه النصوص وإن لم تکن ظاهرة عليه ، ولکن هناک من يستطيع فهمها کما جاء هذا في التلمود ، حيث قال علماؤهم فيه : ( لا يوجد قسم من التوراة الکتبية غير دال على الاعتقاد بقيامة الأموات ، ولکن لا صلاحية لنا أن نفسرها بهذا المعنى ) ، (8) ثم أنهم نقلوا بعض نصوص التوراة التي تشير إلى هذا الأمر ، کما جاء في سفر اشعيا : « تحيا أمواتک ، وتقوم الجثث ، استيقظوا ، ترنموا يا سکان التراب ، لأن طلک طل أعشاب ، والأرض تسقط الأخيلة » ، (9) وجاء في مزامير داود : « إنما الله يفدي نفسي من يد الهاوية لأنه يأخذني » ، (10) وأيضاً : « لأنک لم تترک نفسي في الهاوية لن تدع تقيک يرى على فساد ، فعرفني سبيل الحياة ، أمامک شبع وسرور في يمينک نعم إلى الأبد » ، (11) وغيرها من الأسفار الأخرى.
ولکن قد ناقش الصدوقيون في دلالة هذه النصوص على البعث الأخروي ، ولم يقبلوا بتلک التأويلات والاستدلالات التي قام بها مخالفوهم في هذه المسألة.
ولو رجعنا إلى علماء اليهود ومفکريهم لوجدناهم يقرون بالبعث والقيامة ، کما جاء ذلک على لسان سعد الفيومي : ( إن إحياء الموتى الذي عرفنا ربنا أنه يکون في دار الآخرة للمجازاة ، فذلک مما أمتنا مجمعة عليه ... إلى أن قال : لأن المقصود من جميع المخلوقين هو الإنسان ، بسبب تشريفه بالطاعة وثمراتها الحياة في دار الجزاء ). (12)
المعاد في التصور المسيحي
المعاد في التصور المسيحي أظهر مما هو عليه في الديانة اليهودية التي مرّ الکلام عنها في البحث السابق ؛ لأنه وردت نصوص صريحة في الأناجيل الأربعة المعروفة وهي : إنجيل متى ، وإنجيل مرقس ، وإنجيل يوحنا ، وإنجيل برنابا ، ورسائل بولص إلى الکنائس المختلفة في ذلک الوقت ، وبالخصوص رسالة « کورنثوس الأولى » ، لا تقبل الشک والترديد في دلالتها على البعث والقيامة في اليوم الآخر ، ويعبر عن هذه الأناجيل بالعهد الجديد ، ولکن لا يعني أن ما جاء فيها يکون بدرجة ما جاء في القرآن الکريم ، من الوضوح وذکر جميع خصوصياتها وکيفيتها ، وإنما ما جاء فيها يتفق بعضه مع التصور الإسلامي عنها ، فإن دلَّ هذا على شيء فإنمّا يدل على عدم مد يد التغيير والتحريف بالدرجة التي حصلت للتوراة ، وإن لم تخلُ من وقوعه في بعضها ، خصوصا بما جاء في مسألة رفع عيسى عليه السلام.
وقد لخص لنا الدکتور محمد الصادقي ما في هذه الأناجيل حول القيامة وأحوالها ، في کتابه عقائدنا ، بالشکل التالي :
قال : (هذا کدينونة جهنم ( متي 32 : 12 ) ، والنار الأبدية ( متي 41 : 25 ) ، ( متي 8 : 18 ) ، والعذاب أبدي ( متي 32 : 12 ) ، والهلاک الأبدي ( 2 تسالونيکى 9 : 1 ) ، ونار لا تطفأ ( متى 3 : 12 ) ، ( مرقس 9 : 42 ) ، وجهنم حيث الدود لا يموت والنار لا تطفأ (مرقس 9 : 46 ) ، وإن دخان عذابهم يصعد إلى دهر الدهور ( رؤيا يوحنا 11 : 14 ، 3 : 19 ) ، انظر رؤيا يوحنا ( 10 : 20 ) ، وقيامة الدنيوية والحياة ( يوحنا 28 : 5 ، 29 ) ، العالم الآتي ( متى 27 : 16 ) ، واليوم الآخر ( يوحنا 29 : 6 ، 40 ، 54 ) ، وقيام الأموات ( أتس 16 : 4 ، 17) ، وفي انقضاء العالم يخرج الملائکة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار ويطرحونهم في أتون النار ( متى 49 : 13 ، 50 ) ، وإن الصالحين أصحاب اليمين يرثون الملکوت المعدّ لهم منذ تأسيس العالم ، وأصحاب الشمال الملاعين يذهبون إلى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائکته ( متى 34 : 25 ، 41 ) ، ولا تضطرب قلوبکم وأنتم مؤمنون بالله فآمنوا بي وفي أبي منازل کثيرة وإلاّ کنت قلت لکم أنا ماض لا عدّ لکم مکاناً ( يوحنا 1 : 14 ، 3 ـ 1 ) ، والعصاة يمضون ويطرحون في جهنم النار التي لا تطفأ حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ ( مرقس 49 ـ 43 : 9 ) ، أن جسدهم يلقي في جهنم أتون النار الأبدية ( متى 30 ـ 29 : 5 ، 28 : 18 ) ، و ... ثم قال : إنني بعد التصفح التام في الأناجيل الأربعة لم أجد تصريحات بالنسبة للمعاد إلا هذه ). (13)
في بيان حقيقة النفس الإنسانية
يعد البحث عن معرفة کنه وحقيقة الروح الإنسانية من أصعب البحوث التي حيرت عقول وأفکار الباحثين عن إدراک حقيقتها وذاتها ، فقد قال المولى محمد صالح المازندراني في هذا الأمر : ( وقد تحير العقلاء في حقيقته ، واعتراف کثير منهم بالعجز عن معرفته حتى قال بعض الأکابر : إن قول أمير المؤمنين عليه السلام : « من عرف نفسه فقد عرف ربه » ، (14) معناه أنه کما لا يمکن التوصل إلى معرفة النفس أعني الروح كذلك لا يمكن التوصل إلى معرفة الرب ، وقوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ، مما يعضد ذلک ، وحمل الروح هنا على ما هو مبدأ التأثير والحرکة والحياة ، سواء کان مجرداً عن الکثافة الجسمانية ، أو منطبعاً في مادة جسمانية يشمل الأقسام الخمسة ... ). (15)
وقد نقل السيد نعمة الله الجزائري قولهم في حقيقة النفس ، قائلاً : ( قالوا : إنها معلومة الوجود مجهولة الکيفية ، فکما أن کيفية الرب غير مدرکة لنا لتعالى حده ، کذلک کيفيتها غير معلومة لنا لتدانى حدها ، فعلى هذا معنى قوله : « من عرف نفسه فقد عرف ربه » من باب تعليق المحال على المحال ). (16)
وقد نفهم من قوله تعالى في جواب من سأل الرسول الأکرم صلی الله عليه وآله وسلم عن معرفة حقيقة الروح ، حيث جاء فيه : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ، من أنه کان جواباً لهم ، ولکن مدارکهم العقلية عجزت عن فهم هذا الجواب ، فقد جاء في ميزان الحکمة عن تفسير الميزان : ( فأفاد أن الروح من سنخ أمره ثم عرف الأمر في قوله تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، فأفاد أن الروح من الملکوت ، وأنهما کلمة « کن » ثم عرف الأمر بتوصيفه بوصف آخر بقوله : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) ، التعبير بقوله « کلمح البصر » يعطي أن الأمر الذي هو کلمة « کن » موجود دفعي الوجود غير تدريجي ، فهو يوجد من اشتراط وجوده وتقيده بزمان أو مکان ، ومن هنا يتبين أنّ الأمر ـ ومنه الروح ـ شيء غير جسماني ولا مادي ، فإن الموجودات المادية الجسمانية من أحکامها العامة أنها تدريجية الوجود مقيدة بالزمان والمکان ، فالروح التي للإنسان ليس بمادية جسمانية إن کان لها تعلق بها. (17)
وأما من حيث التجرد وعدمه ، فقد ذهب البعض إلى أن النفس مادية جسمانية کما عليه بعض المتکلمين وأکثر المحدثين ، کما سيأتي نقل أقوال بعضهم ، في الوقت الذي يسلمون ببقائها وعدم فنائها وانعدامها ، إلا من شذ في هذا الأمر ، وذهب الفلاسفة والحکماء وبعض المفسرين إلى القول بتجردها عن المادة ، في الوقت الذي يکون فعلها معها ، من حيث التدبير والتصرف في البدن في حال تعلقها به ، وأما مسألة بقائها فقد قام اتفاقهم عليه من دون استثناء ، وإن کانوا يختلفون في بداية نشأتها ووجودها ، فالبعض ذهب إلى أنه جسماني ، والآخر أنه روحاني ، وکيف کان فالأمر في بيان ما هي حقيقتها الجوهرية ، وإليک أقوالهم في المسألة :
القائلون بجسمانيتها من المحدثين
نقل السيد نعمة الله الجزائري قولاً عن الشيخ المفيد قائلاً فيه : ( أقول : وقد نقل عن الشيخ المفيد ( أنه قال برهة من الزمان بتجرد النفس ، ثم مرجع وقال :إنه لا مجرد الوجود إلا الله ). ثم قال : ( وأما قوله طاب ثراه : إن الذي أشارت إليه الکتب والأخبار والأدلة العقلية هو تجرد النفس ، فلا يخفى ما فيه ؛ وذلک أن الکتب والأخبار مشحونة باتصاف النفس بصفات المادية ، کالصعود والنزول ، والعذاب الحسي ، وکذا النعيم ، وکاتصافها بالدخول والخروج وإلى غير ذلک من صفات المادية ، والحمل على المجاز بإرادة الجسم بعيد ).
ويمکن أن يرد على کلام السيد نعمة الله الجزائري بأنه لا يخلو من المناقشة ، لماذا ؟ لأن الذي يراجع کتب الشيخ المفيد لم يجد ما نسب إليه من القول بعدم تجرد النفس ثابتاً ، بل قد يجد ما هو خلاف هذا تماماً ، کما سيأتي بعد قليل من نقل کلامه عليه السلام مع القائلين بتجردها ، فالنسبة غير ثابتة وغير صحيحة ، والنقل عنه ليس بصحيح ، لما قلنا إنه يقول بتجردها.
وإما صاحب البحار فقد قال : ( ولکن تجرد النفس لم يثبت لنا من الأخبار ، بل الظاهر منها ماديتها ، کما سنبين فيما بعد إن شاء الله ). (18)
وقد نقل عنه إنکاره لتجرد النفس الإنسانية صاحب شرح أصول الکافي ، قائلاً : ( وينکر العلامة المجلسي تجرد النفس ، بل تجرد شيء غير الواجب الوجد ، ولکن جماً غفيراً من العامة والخاصة صرحوا بتجرد النفس ... ). (19)
وکذلک ذهب بعض متکلمي السنة کالنظام إلى القول بجسمانية ومادية النفس ، حيث جاء فيما قال : ( وهو جسم لطيف داخل في البدن ، سار في أعضائه وإذا قطع من عضو تقلص ما فيه إلى باقي ذلک الجسم اللطيف ، وإذا قطع بحيث انقطع الجسم مات الإنسان ). (20)
أقوال بعض المفسرين
جاء في تفسير البيضاوي لقوله تعالى : ( وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ ) ، أنّه قال : ( وفيها دلالة واضحة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن وتبقى بعد الموت دراکة ، وعليه جمهور الصحابة ... ). (21)
وقد جاء في تفسير الميزان لهذه الآية الشريفة ، قوله : ( ويتبين بالتدبر في الآية وسائر الآيات التي ذکرناها حقيقة أخرى أوسع من ذلک ، وهي تجرد النفس بمعنى کونها أمراً وراء البدن ، وحکمها غير حکم البدن وسائر الترکيبات الجسمية لها ، نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور والإرادة وسائر الصفات الادراکية ، والتدبر في الآيات السابقة الذکر يجلي هذا المعنى ، فإنها تفيد أن الإنسان بشخصه ليس بالبدن ، لا يموت بموت البدن ولا يفني بفنائه وانحلال ترکيبه وتبدد أجزائه ، وأنه يبقي بعد فناء البدن في عيش هنيء دائم ، ونعيم مقيم ، أو شقاء لازم وعذاب أليم ).
ثم بيّن السيد العلامة في موضع آخر من تفسيره الميزان ، حقيقة أن التشکيک بتجرد النفس ناشئ من عدم التأمل والإمعان في البراهين العقلية المذکورة ، فقال : ( وهنا إشکالات أوردها على تجرد النفس مذکورة في الکتب الفلسفية والکلامية ، غير أن جميعها ناشئة من عدم التأمل والإمعان فيما مرّ من البرهان وعدم التثبت في تعقل الغرض منه ؛ ولذلک أضربنا عن إيرادها ، والکلام عليها ، فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانها ، والله الهادي ). (22)
متکلمي الإسلام
إن الذي يراجع الکتب الکلامية لجميع المدارس والمذاهب الإسلامية ، فإنّه لا يجد اتفاقاً بينهم في مسألة تجرد النفس الإنسانية وعدمها ، فقد ذهب البعض إلى تجردها وبقائها بعد الموت ، والبعض الآخر ذهب إلى عدم ذلک وقال بجسمانيتها ، ولکن لا بتلک الکثافة التي عليها الجسم العنصري ، بل جسمها لطيف بالشکل الذي يساعد على بقائها بعد الموت ، شأنها شأن التدبير والتصرف بالبدن ، وفيما يلي نقل بعض تلک الأقوال :
أ) بعض القائلين بجسمانيتها :
اشتهر النقل عن النظام أنه يقول بمادية الروح وعدم تجردها ، فقد جاء في جملة ما نقل عنه ، أنه يقول : ( أنه جزء لطيف داخل البدن سار في أعضائه ، فإذا قطع منه عضو تقلص ذلک اللطيف ، فإذا قطع اللطيف معه مات الإنسان ... ). (23)
ومن جملة ما نُقِلَ عنه هشام بن الحکم ، بأنّه يقول: ( وهو جسم لطيف يختص بالقلب ، وسماه نوراً ، وأن الجسد موات ، وأن الروح هو الحي الفعال المدرک ) ، وقد نُقِلَ عن ابن الإخشيد ، بأنّه ذهب إلى : ( أنّه جسم منبث في الجملة الظاهرة ). (24)
أمّا ما ذهب إليه الأمام الجويني ، أنه قال : ( إن الأرواح أجسام لطيفة مشابکة للأجسام المحسوسة ، أجرى الله العادة باستمرار حياة الأجسام ما استمر مشابکتها لها ، فإذا فارقت يعقب الموت الحياة في استمرار العادة ، ثم الروح يعرج به ، ويرفع في حواصل طيور خضر إلى الجنة ، ويهبط به إلى سحيق من الکفرة ، کما وردت به الآثار ، والحياة عرض تحيا به الجواهر والروح يحيا بالحياة أيضاً ، إن قامت به الحياة ، فهذا قولنا في الروح ). (25)
أقول : وقد رُدَّ هذا الکلام بالأدلة العقلية والنقلية ، فقد روى عن الصادقين في ردِّ هذه الرواية العامية التي تناقلتها کتب العامة ، أنهم قالوا في ردها : ( إذا فارقت أرواح المؤمنين أجسادهم اسکنها الله في أجسادهم التي فارقوها فينعم في جنته ، أنکروا ما ادعته العامة من أنها تسکن في حواصل الطيور الخضر ، قائلين : المؤمن أکرم على الله من ذلک ). (26)
ب ) بعض القائلين بتجردها : ورد عن الشيخ المفيد في کتابيه أوائل المقالات ، وأجوبة المسائل السروية ، أنه قال فيهما : ( ... ولنا على المذهب الذي وصفناه أدلة عقلية لا يطعن المخالف فيها ، ونظائرها لما ذکر من الأدلة السمعية ). ويمکن أن يقال أنه أراد في کلامه هذا أن يشير إلى ما ذهب إليه في کتاب أوائل المقالات ، إذ أنه اختار ما ذهب إليه معمر المعتزلي ، وبني نوبخت من الشيعة ، فقد قال فيه : ( وقولي فيه قول معمر وبني نوبخت من الشيعة ) ، (27) وکان قول معمر کما نقل عنه هو : ( قال : هو عين من الأعيان لا يجوز عليه الانتقال ، ولا يجوز له محل ولا مکان ، يدبر هذا العالم ويحرکه ولا يجوز إدراکه ورؤيته ). (28)
أقوال بعض الفلاسفة
أ) فلاسفة ما قبل الإسلام : إن الطابع السائد على کتاباتهم هو الطابع الرمزي الذي لا يمکن فهمه من قبل الجميع ، وإلاّ فإن حمل کلماتهم على ظاهرها لا يتناسب مع ما لهم من مقام علمي وفکري ، إذا لا يمکن عدّ مثل هؤلاء المفکرين الکبار الذين خلَّد أسماءهم التاريخ بهذا المستوى من التفکير الظاهري البسيط ، ولکن مع إمکان الحمل على غير الظاهر منها من باب صون کلام الملة عن اللغوية ، کما فعل بعض الحکماء والفلاسفة المتأخرين ک « ملا صدرا » وغيره ، وعليه فإن أساطين الفلسفة السبعة ـ الحکماء السبعة الأوائل ـ قد تکلموا في النفس من حيث النشأة والبقاء ، فقد عدّ طاليس المالطي النفس عبارة عن جسم لا يصير إلى الفناء والبدن جرم يصير على الفناء ، وهي تمثل الصفو من العنصر بينما البدن يمثل الکدر منه ، وفي النشأة الأخرى الجسم يظهر والجرم يبطل ويزول ، وقد حمل الإمام الخميني کلامه في الجسم على الجسم المثالي من قرينة قوله : ( إنه باطن الجرم ، وأنه لطيف وباقي ). (29)
وأما رأي انکسيمانس المالطي (30) يعتبر أن النفس مصدر جميع هذه الآثار الحياتية ، وأن الفساد لا يطرأ عليها ، وإنما الفساد يکون للجزء الثقيل الذي يکون بمثابة القشر للب ، وکل شخص تعرض عنه ، فإنها تذهب إلى الأعلى وهو عالم لطيف جداً وسروره دائمي ، بينما يرى الفيلسوف الکبير انباذقلس المعاصر لنبي الله داود ، (31) أن کل نفس سافلة قشر لنفس عالية ، فالنامية قشر البهيمية ، وهي قشر الناطقة ، وهي قشر العقل ، وبواسطة لباب النفس ترجع إلى عالمها ، والنفوس الجزئية من أجزاء النفس الکلية ، والجزئية جاءت من العالم العلوي وإليه ترجع.
وأما فيثاقورس فقد اشتهر عنه أنه يقول : ( إن الإنسان عالم صغير والعالم إنسان کبير ، وإن النفس قد أبدعت قبل الاتصال بالبدن من تأليفات أولية ، فإذا هذب الخلق على ما يناسب الفطره وتبردت من المتعلقات الخارجية فإنها ستتصل بعالمها الأصلي ... على هيئة أجمل وأکمل من الأولى ). (32)
وأما فلاسفة اليونان ، کسقراط وأفلاطون وأرسطو ، فهم أيضا يذهبون إلى أن النفس موجود مجرد وجدت قبل الأبدان بنحو من الوجود ، وغرضها من الاتصال بالبدن على ما ذهب إليه سقراط هو الاستکمال ، وببطلان الأبدان ترجع إلى عالمها الکلي ، بينما يري أفلاطون أن سبب ارتباطها بالأبدان هو لذنب قد ارتکبته فأدى بها إلى الهبوط ، فلأجل تحصيل حريتها وتجردها فعليها أن تقطع علاقتها بمتعلقات البدن حتى تعود إلى عالمها النوراني الکلي السابق ، بينما لا يرى أرسطو ما يراه سقراط وأفلاطون (33) من قدم النفس وبقائها ، وإنما يراها حادثة مع حدوث البدن ، وتفسد بفساده ما لم تصل إلى مرتبتها العقلية ، وعندئذ تتصل بالروحانيين الملائکة المقربين ، وتکون اللذائذ والابتهاجات لها أکمل ، وعلى خلافه النقوس الخبيثة.
ب) فلاسفة الإسلام :
من الجدير بالذکر أن فلاسفة الإسلام بمختلف مذاهبهم ومدارسهم يذهبون جميعاً إلى القول بتجرد النفس وبقائها بعد حصول الموت ، مع تفاوت في بيان ما لهذه النفس من علاقة مع البدن ، فقد ذهب الشيخ الرئيس إلى القول : ( بأن النفس لا تفسد بفساد البدن أصلاً ؛ أما أنها لا تموت بموت البدن ؛ فلأن کل شيء يفسد بفساد شيء آخر ، فهو متعلق به نوعاً من التعلق ... ) ، (34) باعتبار أن علاقتها مع البدن ، علاقة تأثير وتأثر ، کعلاقة الرباني بالسفينة ، فبخراب السفينة وفسادها يبقى الرباني ، لأن النفس بنظره کمال أولي لجسم إلى ، وأنها حادثة بحدوثه ، ليس بينها وبينه علاقة تعلق أبداً ومطلقاً ، وإنما يصح لها الانفراد بقوام ذاتها ، فقد قال في کتاب الإشارات : ( إنّ النفس موضوع الصور المعقولة ، فإذاً لا تکون قائمة ومنطبعة في الجسم ، بل الجسم آلة لها ، فإذا لم يکن الجسم آلة لها بعد الموت ، فذلک لا يضر بحالها ، بل تکون باقية ، بالاستفادة من الجواهر الباقية ). (35)
وأمّا شيخ الإشراق فأنه يقول : ( الأنوار الاسبهدية ، يعني النفوس المجردة ، عندما تحصل لها ملکة الاتصال بعالم النور المحض ، وعند فساد الجسد فإنها تنجذب إلى ينبوع الحياة ، وتخلص من هذا العالم ، وتصير إلى عالم النور المحض عالم القدس ) بينما يقول في النفوس المتوسطة : ( وأهل السعادة من المتوسطين وأهل الزهد ، يحصل لهم التخلص وينتقلون إلى عالم المثل المعلقة ). (63)
وأمّا مؤسس مدرسة الحکمة المتعالية الحکيم صدرالمتألهين محمد بن إبراهيم الشيرازي ، فإنه يختلف عن الشيخ الرئيس بقوله بتجرد النفس بجميع قواها الخيالية والوهمية التي لم يثبت ذلک عند الشيخ الرئيس ابن سينا ، کما أنه يختلف معه في بداية نشوء النفس ، إذ أن الشيخ يراه روحانياً ، وصدر الدين يراه جسمانياً ، کما سيأتي بيانه في محله ، ولکن المهم أن ملاصدرا لا يرى أن الفساد ممکن أن يطرأ على النفس أو على أي قوى من قواها المجردة ، فقال : ( فإذا انقطعت العلاقة بين النفس والبدن ، وزال هذا الشوب ، صارت المعقولات مشاهدة ، والشعور بها حضوراً ، والعالم عيناً ، والإدراک رؤية عقلية ، فکان الالتذاذ بحياتنا العقلية أتم أفضل من کل خير وسعادة ).
وعليه فإن الفلاسفة لا يذهبون إلى مادية النفس وانعدامها ، کما کان عليه بعض المتکلمين وعلماء التجربة والأطباء وبعض المحدثين کما مرّ بيانه قبل ذلک.
اختلاف خصائص عالم الدنيا عن عالم الآخرة
من الطبيعي أن يکون هناک اختلاف جذري بين عالم الدنيا وعالم الآخرة في الوقت الذي يکون فيه عالم الدنيا مزرعة ومقدمة لعالم الآخرة ، ونحن ومن خلال هذه المسألة نريد أن نسلط الضوء على أبرز موارد الاختلاف بينهما ، حتى تتضح لنا بعد ذلک الصورة التي تحکى لنا کيفية عود الإنسان في النشأة الأخرى ، ويمکننا من خلال تلاوة آيات الذکر الحکيم أن ندرک مدى هذا التفاوت الحاصل بينهما ، فقد جاء في قوله تعالى : ( إِنَّمَا هَٰذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) وقوله : ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ، وقوله : ( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ ) ، وفي الحديث الشريف ورد قوله ( « الدُّنيَا مَزرَعَةُ الآخِرَةِ » ، وغيرها من الآيات الشريفة ، ويمکن أن نفهم من هذه النصوص الشريفة أن عالم الدنيا ممر وطريق لدار هي مقر ومستقر ، وطبيعي أن الممر يختلف في قوانينه وخصائصه عن دار المقر والمستقر ، فعالم الدنيا مطلوب بالعرض ولغيره ؛ لوجوب عدم بقائه ودوامه ، وکما عبر عنها المعصوم : أنها مزرعة الآخرة ، فالعمل هنا والجني هناک ، فالإنسان يجني ويجمع ما يزرع ، فإن کان الزرع طيباً فإنه يجني طيباً ، وإن کان نکداً فإنه يجني نکداً ، وهو بالخيار ، فهو المسؤول عن ذلک کله ، ( فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) ، ولقوله تعالى : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ )
وقد لخص ملا صدرا هذه الفوارق بينهما في ضمن ست نقاط أساسية ، وهي عبارة عن نتائج لأبحاث عقلية قام بها ، وفيما يلي إليک بيانها :
1. إنّ کل جسد في عالم الآخرة ذو روح ، بل حيّ بالذات ، ولا يتصور هناک بدن لا حياة له ، بخلاف الدنيا ، فإن أجسادها غير ذات حياة وشعور ، والذي فيه حياة ، فإنّ حياته عارضة له زائدة عليه.
2. إنّ أجساد هذا العالم « الدنيا » قابلة لنفوسها على سبيل الاستعداد ، ونفوس الآخرة فاعلة لأبدانها على وجه الإيجاب ، وفي الآخرة يتنزل الأمر من النفوس على الأبدان.
3. إنّ القوة ها هنا مقدمة على الفعل زماناً ، والفعل مقدم عليها ذاتاً ووجوداً.
4. إنّ الفعل ها هنا أشرف من القوة ؛ لأنه غاية لها ، وهناک القوة أشرف من الفعل لأنها فاعلة له.
5. إنّ الأبدان في الآخرة وأجرامها غير متناهية على حسب أعداد التصورات للنفوس وادراکاتها ؛ لأن براهين تناهي الأبعاد غير جارية فيها ، بل في جهات وأحياز ماديين ، وليس فيها تزاحم وتضايق ، ولا بعضها من بعض في جهة ولا داخلة ، ولکل إنسان من سعيد وشقي عالم تام برأسه أعظم من هذا العالم ، لا ينتظم مع عالم آخر في سلک واحد ، ولکلٍّ من أهل السعادة ما يريده من المسلک بأي فسحة يريدها ، فالعوالم هناک بلا نهايةٌ کلٌّ منها ( كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ) ، بلا مزاحمة شريک وسهيم.
6. إن الأجساد الأخروية وعظامها من الجنان والأنهار والغرفات والبيوت والعبيد والغلمان وغيرها موجودة بوجود واحد ، وهو وجود الإنسان الواحد من أهل السعادة ؛ لأنه محيط بها تأييداً من الله نزلاً من غفور رحيم ، وليس کذلک حال الشقي الجهنمي بالنسبة إلى ما يصل إليه من النيران والأغلال والسلاسل الحيّات وغيرها ؛ لأنها محيطة به کما قال تعالى : ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) ، وقوله : ( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ، إنّ في هذا لبلاغاً لقوم عابدين ، انتهى کلامه ).
وعليه فمن خلال ما ذکره صدر المتألهين في جملة هذه الفروق ، يتضح لنا أن عالم الدنيا عالم آخر غير عالم الآخرة ، له قوانينه الخاصة به ، يختلف تماماً عن قوانين وخصائص عالم الآخرة ، فالدنيا تختص بظواهر الأشياء ، والآخرة تعد انکشافاً لبواطن هذه الظواهر ، کما قال تعالى : ( فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ، فالدنيا دار فناء والآخرة دار بقاء.
المصادر :
1- السيد هاشم الهاشمي ، مقالة في بحث الأديان والمذاهب ، ص 20.
2- الشيخ صديق حسن خان ، المنار ، تحقيق د. أحمد حجازي السقا ، ص 6
3- التوراة السومرية ، سفر تثنية الإشتراع ص 38 ـ 43 ، الناقل د. فرج الله في کتابه اليوم الآخر ، ص 145.
4- د. حسن ظاظا ، الفکر اليهودي الإسرائيلي أطواره ومذاهبه ، ص 156 ، 157.
5- حسين توفيقي ، انتظار مسيحا در آينه يهود ، ص 94.
6- سفر التکوين ، الإصحاح 19.
7- أبو القاسم الخوئي ، البيان في تفسير القرآن ، ص 50 ـ 55.
8- راب دکتر آكهن ، گنجينه اي از تلمود يهوشوع ، ص 363.
9- سفر اشعيا ، 19 ، 26.
10- مزامير داود ، 4 ، 9 ، 15.
11- سفر اشعيا ، 14 : 12.
12- سعد الفيومي ، کتاب الأمانات والاعتقادات ، ص 211.
13- محمد الصادقي ، عقائدنا ( بحوث مقارنة بصورة الحوار بين القرآن والتوراة والإنجيل ) ، ص 248 ، 249.
14- بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 91 ؛ ج 66 ، ص 293 ؛ ج 6 ، ص 251 ؛ نعمة الله الجزائري ، نور البراهين ، ص 93 ؛ الحر العاملي ، الجواهر السنية ، ص 116 ؛ ابن أبي جمهور الاحسائي ، عوالي اللئالي ، ج 4 ، ص 102.
15- محمد صالح المازندراني ، شرح أصول الکافي ، ص 118.
16- نعمة الله الجزائري ، نور البراهين ، ج 2 ص 402.
17- ميزان الحکمة ، ج 4 ، ص 3323 ؛ محمد حسين الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ، ج 1 ، ص 35.
18- بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 103
19- شرح أصول الکافي ، ج 4 ، ص 117
20- الشيخ الطريحي ، مجمع البحرين ج 1 ، ص 121.
21- شرح أصول الکافي ، ج 6 ، ص 71.
22- الميزان في تفسير القرآن ، ج 1 ، ص 350.
23- الشيخ عبدالله نعمة ، هشام بن الحکم ، ص 186.
24- بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 94.
25- إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملک الجويني ، الإرشاد ، ص 318.
26- بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 229.
27- الشيخ المفيد ، المسائل السروية ، ص 61 ؛ الشيخ المفيد ، أوائل المقالات ، ص 184.
28- بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 95.
29- فروغ السادت رحيم پور ، معاد از ديدگاه امام خميني ، ص 26.
30- عبد الکريم الشهرستاني ، المحلل والنحل ، ج 2 ، ب 2 ، الفصل الأول ، ص 374 ـ 378.
31- المصدر السابق ، ص 380 ـ 388.
32- المصدر السابق ، ج 2 ، ب 2 ، الفصل الأول ، الحکماء السبعة ، ص 407 ـ 414.
33- فردريک کابلستون ، تاريخ فلسفة يونان وروم ، ترجمة سيد جلال الدين مجتبوى ، ج 1 ، ص 244 ، 245.
34- الشيخ الرئيس ابن سينا ، النجاة ، ص 189.
35- الشيخ الرئيس ابن سينا ، الإشارات والتنبيهات ، النمط السابع ، ج 3 ، ص 264.
36- شهاب الدين السهروردي ، حکمة الإشراق ، المقالة الخامسة في المعاد والنبوات ، ص 366 ـ 374.